“هناك صيرورات امرأة تختلف عن النّساء وعن ماضيهنّ ومستقبلهنّ، ينبغي على النّساء الانخراط فيها حتّى يتسنى لهنّ الخروج من ماضيهنّ ومن مستقبلهنّ أي من تاريخهنّ.”جيل دولوز“
إذا علمنا أنّ تاريخ ميلاد مونتاني هو 1533م بينما تاريخ ازدياد ماري هو 1565م، سهل علينا عبر عمليّة طرح بسيطة، أن نستنتج أنّ صاحب المحاولات يَكبُر صاحبة”المساواة بين النّساء والرّجال“بثلاثة عقود من الزّمن أو يزيد (32سنة). والواقع أنّ هذا الفرق الشّاسع في السّن هو ما يُعكِّر علينا صفو مسعانا الرامي إلى فهم نوعيّة العلاقة الّتي كانت تجمع الاثنين ويدفعنا إلى طرح عدّة تساؤلات من قبيل: هل كانت هذه العلاقة محض فكريّة؟ أم أنّها بالأحرى ،أكثر من ذلك، علاقة غرام وعشق؟ أليست من جهة أخرى علاقة أبويّة، كما ادعى الاثنان معا؟ أم تراها علاقة شبقيّة متسامية؟
كلّها في الحقيقة أسئلة مشروعة، وتستحق المناقشة والتحليل، تيسيرا لفكّ لغز صداقة جمعت بين الاثنين لما يناهز أربع سنوات، وأسالت الكثير من المداد. تعود تفاصيل هذه القصّة العجيبة إلى سنة 1583م بالضبط، حينما اكتشفت ماري الطبعة الأولى من”المحاولات“وهي فتاة لم تتجاوز بعد سنّ الثامنة عشر. و لمَّا تأثرتْ بالعمل، عمَلتْ خمس سنوات بعدئذ، بمناسبة سفرها إلى باريس عام 1588م بمعيّة أمّها،على بعث رسالة إلى مونتاني تطلب فيها ملاقاته.
وهو ما تمّ بالفعل، في اليوم الموالي، لِتُشَرَّع أبوابُ هذه العلاقة على طول ومنذئذ، حيث سيعمل مونتاني في الشهور المقبلة على زيارتها عدّة مرّات والإقامة عندها لمدّة تتراوح ما بين يومين إلى أسبوع، بقصر غورناي. صحيح أنّهما كانا يقرآن سويا”بلوتارك“وربّما كانا أشدّ انشغالا أكثر من شيء آخر بـ”سينيكا“و”هوراس“، وأكثر انهماكا في نقاش أفكار لوقراتوس وروائع أوفيد؛ هذا فضلا عن امكانيّة انخراطهما سويًّا في حوار مسترسل حول كلّ ما كتباه. ليس هذا فحسب، بل من الأكيد كذلك، أنّ ماري أثناء جولاتها بصحبة الفيلسوف، قد لا يفوتها أن تحكي له عن تفاصيل قصّتها المنشورة سنة 1581م بعنوان :”فضاء تَجَوُّل السيّد مونتاني“والّتي كتبَتْها وهي متأثرة بعمل آخرلـ”Claude deTaillemont “.لكن كلّ ذلك، لن يُبَدِّد حَيْرتنا السالفة الذكر، ولن يُثْنِيَنَا عن التّساؤل، مرّة أخرى، عن طبيعة هذه العلاقة وما تكوّنه؟ إذ ما الّذي كانا يفعلانه خارج حكايات الأدب؟ وما الّذي كانا يتبادلانِه عند الغسق، وعلى طول ليال بأكملها؟ وهل علينا أن نُصَدِّق كلام مونتاني نفسه، عندما يكتب:”أُحِبُّها أكثر من حُبّ أبوي“؟ فنسلّم بأنّ العلاقة تنأى عن كلّ لبس وهي مجرّد علاقة أسريّة: علاقة تنمّ عن حبّ كبير يُكِنُّه، أب لبنته.
لكن، إذا كان الأمر كذلك، بالفعل، فكيف لنا أن نستسيغ من ناحية أخرى ما يورده عنها في موضع آخر حيث يقول:”لم يَعُد يتبدى لي سواها في العالم“؟ وكيف لنا أن نهضم دونما عسر، كلّ ما نلفيه لديه أيضا من عواطف جياشة تشي بقمّة تأثره بها وكذا شدّة حُبِّها له هي الأخرى وعِشْقِها للرّجل على مدار سنوات؟ هذا ناهيك طبعا، عن تمجيده لنزوعها الفكري وكفاءتها في المجال الأدبي. لكنّنا من جهة أخرى، قد نُجْحف في حقّ مونتاني، إذا ما تَسَتَّرْنا عن علاقاته المتعدّدة بالنّساء. فهو في هذا الشّأن أشبه ما يكون بـ”كازانوفا“، حتّى أنّ العديد منهنّ، قد حظينّ بالثناء من صاحب المحاولات، خلافا للرّجال. هكذا يتبدى أنّ الزواج لم يَكُن ليَحُدَّ كُلِّيًّا من حريّة مونتاني، الّذي كثيرا ما أجهر بنزوعاته المتعويّة وأفصح عن ميولاته الجنسيّة. فهو بدل أن ينظر إلى المتعة كمفهوم مجرّد، يعيشها كواقعة ملموسة. آيتنا في ذلك حديثه عن”لذّة القُبَل المتبقية في الشوارب“، ووصفه الرّائع لتلك المتعة الّتي قد نَتَحَصَّل عليها فقط من خلال مداعبتنا لامرأة مُعَيَّنة، حالما تَخُونُنا قوى الجسد.
وبقدر ما كان مونتاني في هذا السياق، أبيقوري النّزعة، بقدر ما كان على نحو جمالي، يكتفي بابتكار المتعة انسجاما مع مقتضيات الضرورة. هذا ما يتّضح جليًّا، حالما نعلم أنّ الرّجل هو من أدرك باكرا، بأنّ ليس عليه كحكيم أن يسعى إلّا إلى إشباع رغباته الضروريّة والطبيعيّة، بل حتّى هذه الأخيرة يلزمه أن يُدقّق في طريقة إتيانها والتّعامل معها، وذلك نيلا للأتراكسيا وحفاظا على طمأنينته. على هذا النحو، يتبدى لنا أنّ هذه التصريحات المتواترة في المحاولات، تصريحات تنمّ بالفعل، عن علاقة عشق ثابتة تربطه بماري، سيّما وأنّه ليس بوسع رجل عاشق للحياة من طراز مونتاني، أن يصمد أمام جمال امرأة فريدة من نوع ماري. ويكفينا هنا، أن نعلم أنّ هذه المرأة العازبة، لم تكن امرأة عادية بالمرّة، بل ما فتئت تُشكِّل استثناء في تاريخ النّساء؛ إذ عملتْ منذ زمن بعيد، وبعد أن تَعَلَّمَت اللاتينية فالإغريقيّة، على ترجمة”فرجيل“و”أوفيد“،”ساليست“و”تاسيت“من اللاتينيّة؛ مثلما كَتَبَت أشعارا وأبدَعَت قصائد سواء عن قططها(DonzelleوMinette) أوعن”جان دارك“و”ليونور“(بنت مونتاني).
كما أنّ لها مراسلات كثيرة مع العديد من الشخصيات المشهورة من قبيل Juste Lipse وFrançois de sales وMarie de Médicis وRichilieu؛ وتعاطت السياسة في وقت كانت فيه هذه الأخيرة شأنا رجاليًّا، ممنوعا عن النّساء. الحاصل أنّ هذه المرأة الّتي أحْيَتِ العشق في الفيلسوف من جديد، وجَعلَتْهُ يتبنّى تصورات جديدة سواء لبناء المتعة أو للتّعامل مع الجسد؛ امرأة غريبة الأطوار ظلّت طيلة حياتها عديدة الاهتمامات، وذات مواقف حاسمة. فهي دينيًّا، لم تَكُن في يوم من الأيّام ملحدة بل مرارا ما عبَّرَت عن إيمانها الكاثوليكي، وناضَلَت من أجل الطّهارة والزّهد. لقد كان الإيمان بالله بحسبها، يستدعي أمرين: اعتناق الدّين القديم من ناحية ونشدان العدل في الحياة من ناحية ثانية. وهي بذلك إنّما تكاد لا تحيد قيد أنملة عن تصوّر أستاذها مونتاني الّذي يرى بدوره أنّ اعتناق الدّين ، يُمْكننا أن نختزله في تَحَلِّينا بفضيلتَيْ العدل والإحسان. لكن يبقى المدهش هاهنا إنّما هو كون هذه السيّدة المؤمنة هي نفسها الّتي تَعْقِد في بيتها بباريس ندوات يَحْضُرها ثلّة من رواد التحرُّر، الفرنسيين من قبيل”تيوفيل دو فيو“الّذي اعتُقِل جرّاء أشعاره الداعرة و”غابرييل نودي“الطبيب المُنَظِّر الشهير بأطروحته في قلب نظام الحكم ومؤسّس مكتبة”مازارين“، والّذي كان أيضا عضوا نشيطا ضمن الجماعة الرباعيّة الّتي تَبَنَّت التفسير العقلاني للإنجيل وراحَت تَنتقد المعجزات.وهي الجماعة الّتي تضمّ كذلك”غاساندي“و”لاموت لو فايير“صديق ماري بامتياز الّذي وَرَث عنها مكتبة مونتاني عام 1644. في ظلّ أجواء عصر مضطرب، إذن كان لازما على صاحب المحاولات، أن يقتفي آثار التَّقَنُّع، مكتفيا بِنَعتِ ماري بـ”ابنته بالتبني“وذلك ليس فحسب مخافة افتضاح أمرهما وانكشاف علاقتهما الجنسيّة للعموم، بل أيضا حفاظا على وضعه الأسري (كان مونتاني رجلا متزوجا وله أبناء). ولمن لا يعرف الرّجل حقّ المعرفة نقول بأنّ مونتاني كان إنسانا متحرّرا أخلاقيًّا؛ ممّا كان يفرض عليه التزام الكتمان ونهج السريّة في كلّ ما يقوم به في حياته الخاصّة. وهذا ما يؤكّده هو نفسه عندما يقول بأنّ الزواج الناجح هو زواج”يَلزم أن يكون فيه الزّوج أصمّ والزوجة عمياء“. معنى ذلك أنّ استمرار ميثاق الزوجيّة ليس يتوقف على الوفاء أو ما إليه من استقامة أخلاقيّة أكثر ممّا يتوقّف على صبر كلّ طرف على ما يأتيه الطرف الآخر من زلات. على الزوجة إذن أن لا تُدقِّق في تفاصيل زوجها مثلما على هذا الأخير أن لا يكترث بدوره لأقوالها ومعاتباتها له، حالما تنهال عليه بها من كلّ حدب وصوب. هذا من جهة أمّا من جهة أخرى، فلنا أن نَعْلَم بأنّ مونتاني هو من تعاطى الدّعارة منذ ريعان شبابه، حيث كان يزور الماخور أينما حلّ و ارتحل. وهذا لعمري لأمر بديهي، لأنّ الرّجل كان يتمتّع بقوّة جنسيّة كبيرة، حدّ اعترافه بأنّه مَنْ حَطّم أرقاما قياسيّة في مضاجعة النّساء، تُقدَّربـ”ستّ“مرّات أو غارات بتعبيره”six assauts “.لكن هل يكون هذا سببا، فيما لحقه من عجز جنسي ما أن بلغ الخمسين؟ ربّما.
إلّا أنّ حصافة الرّجل إن لم أقل حكمته، جعلته كما أسلفنا يتغلّب على كلّ الصعاب، مبتكرا لذاته أسلوبا خاصّا .وهو الأسلوب الذي به يستطيع المبدع أن يحيا رغم إكراهات الوجود وانكسارات الجسد، مُحوِّلا المرض صحّة والوهن قوّة، والحزن فرحا. نَلمس حضور هذا المنظور عند مونتاني، بحدّة، حيث لا ينفكّ يُشير في مواضع أخرى من كتابه بأنّه”على المرء أن يجعل من الضرورة فضيلة“. للشذرة دلالات عدّة أكيد، لكن في حالتنا هاته، ما يجب علينا استيعابه إنّما هو أنّ على الإنسان أن يتعامل وفق إمكاناته الفيزيولوجية، وأن يقتنص المتعة بحسب قدراته الجسديّة ليس إلّا. إنّ عليه أن يكتفي بمداعبة النّساء مثلما أسلفنا، حتّى عندما تخونه قواه الجسميّة ويغدو عاجزا عن إتيان رغبته الجنسيّة كما في عزّ الشباب. كلّ هذا نقرأه في المحاولات صحيح،إلّا أنّ الجرأة تمضي بالفيلسوف بعيدا، حدّ بوحه بكلّ ما يعمل الآخرون على التّستر عليه، من قبيل اعترافه للقارئ بقضيبه القصير، كما بوجود تشوُّه هائل في موضع مّا من جسده. هذا ناهيك عن مرض الحصاة (في المثانة) الّذي ظلّ يلازمه طيلة أربعة عشر عاما، واضطره من فرط المعاناة إلى التفكير في الانتحار. الحقّ أنّ مونتاني، بقدر ما كان يتكلّم باسم الأنا، خلافا لباقي الكُتَّاب، بقدر ما كان يُصِرُّ على وصف ذاته دونما عُقَد بالرّغم من كلّ العاهات الّتي أصابته. وهي عاهات عرف الحكيم كيف يتعامل معها، بل ويتغلب عليها لتضحى بالتّالي نقط قوّة بدل أن تبقى نقط ضعف. هكذا جاءت اعترافاته الحميميّة ممزوجة بمعاناته الفيزيولوجيّة وتشابكت تصريحاته الجسديّة بتصوّراته الطبيّة مثلما اختلطت طقوسه الغذائيّة بعاداته الرياضيّة وسلوكياته الجنسيّة، لتمنحنا بالتّالي ، إنسانا شامخا واستثنائيًّا يستأهل أن نُشير عليه بالأصبع تماما مثلما فعل نابوليون ذات مرّة مع الشاعر الألماني العظيم غوته قائلا :”هو ذا الإنسان“Voilà un homme”.
الحقّ أنّ كلّ هذا وغيره، هو ما جعل روّاد الأدب الفرنسي، يعتبرون “المحاولات” وثيقة استثنائيّة في تاريخ الأفكار. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لمونتاني، فخليلته ماري تكاد لا تحيد عن مرتبته قيد أنملة، سيّما إذا علمنا أنّها من الكاتبات الأكثر شهرة في نهاية عصر النهضة، وأوّل ممثلة لتيّار النزعة النسويّة العقلانيّة والمعاصرة؛ على اعتبار أنّها لم تَكْتَفِ بالصمود أمام الخطاب الذّكوري السائد حينئذ بل عَملتْ جاهدة على مواجهته بكلّ ما كانت تملك من إمكانيات، سواء عبر التأليف فكرا وفلسفة أو عبر الإبداع شعرا وترجمة. وبوسعنا بالمناسبة أن نعتبر، روايتها السالفة الذكر، والّتي كتَبَتْها وهي ما تزال شابّة، ليس فحسب، نقطة انطلاق مشروعها الفيلولوجي السياسي، بل بداية تباشير تصوّراتها الفلسفيّة والأخلاقيّة، الّتي تكلّلت بصدور أهمّ كتاب لها بعنوان:“المساواة بين الرّجال والنّساء” عام 1622م.
أمّا أهميّة هذا الكتاب، فتتجلى، بحسبنا في عاملين اثنين: وإذا كان العامل الأوّل يعود إلى كون المؤلفة امرأة لا رجل(المرأة ممنوع عليها أن تلج مجال الفكر في هذا العصر، لأنّه مجال ذكوري بامتياز) فالثّاني يعود إلى مضمون الكتاب ذاته، الّذي غلب عليه الطّابع النّقدي، وجاء مُفكِّكا للخطاب الذّكوري المُهَيْمِن ومُفنِّدا لأسُس الدوكسا والآراء السائدة وفاضحا للمؤسّسات الّتي تعمل على ترسيخ تبعيّة النّساء. وللذكرى نؤكّد على أنّ هذه السيّدة قد عانت الويلات، وأدت الفاتورة غالية، جرّاء جرأتها الفكريّة هاته؛ فكان أن تعرّضت، للتجديف، والإهانة سواء كامرأة أو كمبدعة اقتحمت مجالا أغرب ما يكون عن نساء عصرها. ولئن بادرت إلى طرح إشكاليّة المرأة في إطار فلسفة الطبيعة؛ فهي في هذا الباب تكاد لا تحيد عن تصوّر مونتاني الّذي كان يرى أنّ التفاوت بين النّساء والرّجال ليس تفاوتا من حيث الطبيعة أكثر ممّا هو تفاوت من حيث الدرجة. ممّا يعني أنّ الفروقات بين الجنسين إنّما هي بالأساس، فروقات مُصْطَنعة، وتعود أوّل ما تعود إلى عوامل عدّة بدءا من التربية والثّقافة حتّى السياسة والإيديولوجيا مرورا بالاقتصاد والاجتماع، الجغرافيا والمناخ. والحال أنّ ماري دو غورناي، لم تكن تروم في الحقيقة التوكيد على سمو النّساء عن الرّجال، أكثر ما كان قصدها هو مساءلة بداهة التمثّل الثّنائي للجنسين.
إذ يلزمنا بحسبها، أن نحدّد بداية، ما الّذي في الطبيعة ينحدر من الكمال وما الّذي ينحدر من النقصان؟ وذلك حتّى نعرف ما إذا كان الرّجل هو مَنْ يتفوّق طبيعيًّا على المرأة أو العكس. من أجل ذلك كان لـ“ماري” السّبق في مساءلة كلّ المُسلَّمات القَبْلية، الرائجة في عهدها، والّتي أفضت بمجتمع بأكمله إلى مَوْضعة المرأة في أسفل السُّلَّم، بالمقارنة مع الرّجل. ذلك أنّ دونية المرأة إن كانت تدلّ على شيء فإنّما تدلّ بنظر “ماري” على أنّنا نحتكم إلى سُلَّم تراتبي للكائنات ونَتبيّن تمثّلا عموديًّا للعالم. تَمثُّل يجعلنا نُشَبِّه المرأة بالحيوان بينما نلجأ إلى سبغ القداسة على الرّجل. وتجدر بنا الإشارة هنا إلى التّصريح بأنّ هذه الفكرة تعود في الأصل إلى ما كتبه مونتاني في “مدح ريمون سيبون”(II،12) حيث يرفض في سياق نزعة ارتيابيّة القبول بكلّ أطروحة تزعم انتظام الكون وفق تراتبيّة دافع عنها اللاّهوتي Catalon .ذلك أنّ القول بتراتبيّة مّا في الطبيعة، هو ما يعني أنّنا على دراية تامّة بالحدود الّتي نقارنها. هذا في الوقت الّذي لسنا نعرف فيه حقًّا لا ما تكوّنه الحيوانات ولا ما يكوّنه الإنسان ولا ما يكونه الله.
يتبدى إذن ألّا وجود لمبرر يستطيع أن يجعلنا ننساق بكلّ أريحيّة وراء فرضيّة مؤداها أنّ الجنس البشري يحتلّ مرتبة وسطى ما بين الحيوان والله. وكل ما هنالك، إنّما هو مجرّد تخمينات ، جعلت الإنسان يخال أنّه أرقى من باقي المخلوقات ويعتقد بأنّ العالم كلّه قد سُخِّر له. وفي ارتباط بهذا المنظور، يتّضح أنّ النزعة الثنائيّة التراتبيّة للجنسين، نزعة تكاد لا تقوم بحسب ماري، على أي منطق موضوعي ولا على أي نظام طبيعي. بل كلّ ما في الأمر، بحسب هذه المنافحة عن النّساء، إنّما هو أنّ قضية كراهيّة المرأة قضية تقوم على أحكام جاهزة وفرضيات مسبقة نتاج سوء استخدام العقل. ممّا جعلها تدعو إلى تغليب المنظور النسبي للأجناس على نظيره ذي النزعة الجوهرانيّة. ذلك أنّ المنظور النسبي يجعل التميُّز إنْ كان قائما على الكفاءة والمهارة، ليس إلّا. أمّا الكفاءة فهي كما نعلم قابلة للتّطور وليست طبيعيّة في شيء. إنّها محكومة بالشروط الاجتماعيّة والظروف التاريخيّة والسياسيّة القابلة بدورها للتّغير لذلك تغدو التربية قضيّة جوهريّة بحسب ماري؛ مادام أنّ النضال من أجل المساواة ينبغي أن يبتدئ بالمساواة في حقّ نيل المعرفة أسوة بالرّجال. ذلك أنّ الفرق بين إنسان وآخر، قد يكون أكبر من الفرق الكامن بين إنسان وحيوان، مثلما أنّ الفرق مابين الرّجال والنّساء هو نفسه الفرق الكامن ما بين النّساء بعضهنّ البعض.
على هذا النحو يتبدى أنّ ماري كان لها السّبق، كما أسلفنا، في فضح كلّ الخرافات والترّهات الّتي يا ما روجت لهذه التفاوتات الكبيرة ما بين الجنسين حتّى قبل ظهور الاكتشافات السوسيولوجيّة، والنظريات الأنتربولوجية وبزوغ ثقافة الأنوار(لقد عاصرت ماري ديكارت، لكنّها كانت أكثر تقدّما منه على مستوى الطروحات بحيث أنّ ديكارت كان يرى خلافا لها أنّ الفرق بين الإنسان والحيوان إنّما هو فرق في الطبيعة أكثر منه في الدرجة) مؤكدة على أنّ هذه الفروقات إنّما هي نتاج التربية الّتي تَلقَّيْناها والوسط الّذي عِشْنَ فيه والأوطان الّتي تَرَعْرَعْنَا فيها. لعلّ مشروع ماري بالرّغم من تأثره الواضح بمونتاني، مشروع ينطوي على نظرة نسويّة ثاقبة، للمجتمع الأرستقراطي الّذي عاشت فيه.
هكذا استطاعت هذه المرأة الّتي أبدعت في الرواية والترجمة والشعر أن تنشر معظم كتاباتها على نحو متفرّق على ثلاث دفوعات إبان حياتها، الأولى عام 1626 والثانية عام 1634 والثالثة عام 1641؛ لتجمع هذه الأعمال في مجلّد يفوق ألف صفحة بعنوان: “ظِلُّ السيّدة دو غورناي”. وهو العمل الّذي ظلّ مجهولا كليًّا حتّى ق.20، وبالضبط مع صعود حركة نسويّة، استعادت معها ماري مكانتها ضمن كُتَّاب المرحلة الماضية. وللعلم فأوّل طبعة لأعمالها الكاملة لم يكتب لها أن تظهر لأوّل مرّة في العصر الحالي إلّا سنة 1997 عند “رودوبي”.أمّا الكتاب الثاني من نفس الطبعة فلم يظهر إلّا عام 2002.