حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 قراءة فلسفية للأزمة البيئية النظرة الإيكولوجية إلى العالم(2/3

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد
فريــق العــمـل
فريــق العــمـل
محمد


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 465
معدل التفوق : 1251
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 15/12/2011

قراءة فلسفية للأزمة البيئية النظرة الإيكولوجية إلى العالم(2/3 Empty
24012014
مُساهمةقراءة فلسفية للأزمة البيئية النظرة الإيكولوجية إلى العالم(2/3



قراءة فلسفية للأزمة البيئية النظرة الإيكولوجية إلى العالم(2/3 Arton5687-23dc9
الإنسان والطبيعة والعالم
بعد أن توضّحت الطبيعة باعتبارها منظومات إيكولوجية متعاششة، أي منظومات تعدّ العلاقات المحدّد الأساسيّ لها، سوف ننتقل للتفكير في العلاقة بين الإنسان والطبيعة. وقبل المضيّ في ذلك، علينا أن نحدّد الدرب الذي سوف نسير عليه .
لقد اعتمدنا العلم، علم الإيكولوجيا وعلم المنظومات في النظر إلى الطبيعة، فهل نستمرّ على هذا الدرب، أي ندرس الإنسان بواسطة العلم ومن ثمّ ننتقل لدراسة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، أم نختار درباً آخر؟
العلم، كما يقول هيدجر Heidegger، لا يفكّر، فماهيته تكمن في البحث وليس في التفكير.1 ويتأسّس كلّ علم على تصميم لمجال محدّد ويكون مُلْزَماً بالتخصّص باعتباره ضرورة جوهريّة للعلم بما هو بحث.2 هذا يعني أنّ النظر في العلاقة بين الإنسان والطبيعة اعتماداً على البحث العلميّ يستلزم البحث في مجال الطبيعة، كما يفعل علم الإيكولوجيا مثلاً، ثمّ البحث في الإنسان، كما تفعل العلوم والدراسات الإنسانية التي “تقتطع” جوانب من الإنسان وتنكبّ عليها، ومن ثمّ إقامة جسور بين المجالين، كما وجدناها في الدراسات الإيكولوجية – الإنسانية التي استعرضنا أمثلة عنها في الفصل السابق. لكننا إذا اتبعنا هذا الدرب سوف نظل أمام بحوث جزئية، أي أمام اختزال للعلاقة أو تفتيت لها بدلاً من التفكير فيها. فهذه الدراسات لا تتناول، بل لا تستطيع أن تتناول، كلية الإنسان، بما هو موجود، في علاقته بالطبيعة. وبالتالي فإنّ العبور على أيّ جسر من الجسور بين المجالين سوف يؤدّي بنا إلى منطقة على الضفّة الأخرى ليست هي ذات المنطقة التي يؤدّي إليها جسر آخر. فما السبيل إلى العبور إلى منطقة محدّدة على الضفة الأخرى، منطقة حيث يتفتح فهم فلسفي للعلاقة بين الإنسان والطبيعة؟
كيف نعبُر من العلم إلى الفكر ؟
يرى هيدجر أنّ “علاقة العلم بالفكر لا تكون أصيلة وخصبة إلا إذا صارت الهوّة التي تفصل العلوم عن الفكر واضحة، وتبيّن لنا أنّه ليس بوسعنا أن نقيم قنطرة عليها. ليس هناك قنطرة تقود من العلوم إلى الفكر، ليس هناك إلا الطفرة، وليست الضفّة الأخرى هي فقط ما نعثر عليه حيث تحملنا هذه الطفرة، بل هي منطقة جديدة بكاملها.”3 تبدو هذه الهوّة مسوغة طالما أننا “نتعلّم التفكير بقدر ما نوجّه اهتمامنا نحو ما هو كائن من أجل العناية به.”4 أي أنّ التفكير لا يحصل بمعزل عن الاهتمام والعناية بموضوع التفكير، وهذا ما لا يتّصف به العلم بما هو بحث، بحثٌ موضوعيّ يتّسم بالصرامة والبرود. كيف إذن نعبر هذه الهوّة؟ كيف نَطْفُر من العلم إلى الفكر؟
نحن أمام لحظة اختيار، اختيار درب، لا بل قفزة، كي نَعْبُر. وسنتّخذ نقطة انطلاق لنا التساؤل حول الطابع الأنطولوجي للعلاقة بين الإنسان والطبيعة. نحن بذلك نطرح سؤالاً أساسياً، أي سؤالاً فلسفياً، ولكن قبل ذلك سوف نسأل أيضاً هل للعلاقات بما هي كذلك طابع أنطولوجي ؟
تحمل العلاقة معاني عديدة في الفكر الفلسفي: ثمّة المعنى العامّ بما هي ارتباط بين موضوعين أو أكثر من موضوعات الفكر ويدركها العقل بفعل واحد لا ينقسم، كعلاقة التشابه أو التباين أو المعيّة أو العلّية أو الغائية أو التضايف. وثمّة المعنى الخاصّ للعلاقة وهو التناسب بين الأشياء أو المقياس المشترك بينها .5
أمّا العلاقة بمعنى الإضافة فهي إحدى المقولات عند أرسطو وكانط، واللافت في هذا المعنى أنّ الإضافة/العلاقة تلحق بجميع المقولات الأخرى، فهي تعرض للجوهر أو الكمّ أو الكيف أو الأين أو الزمان أو الوضع أو الفعل أو الانفعال .6
وللعلاقة في المنطق الرياضيّ ونظرية المجموعات أهمّية خاصّة فهي تُصنّف إلى انعكاسية وتناظرية ومتعدّية ودالّية ... الخ.7 وثمّة أيضاً علاقات داخلية وخارجية تتبع التمييز بين الخاصيات الضرورية والعرضية .8
والعلاقة/الإضافة إذ تلحق بالمقولات الأخرى فذلك يتمّ من خلال الرابطة بين الموضوع والمحمول المعبّر عنها بفعل الكينونة أو الوجود (is).9
لنلاحظ ممّا سبق أنّ الطابع المعرفي للعلاقة هو الأبرز، في حين أنّنا قليلاً ما نلتقي بالطابع الأنطولوجي. في هذا الإطار سيكون حدسنا هو التالي :
إنّ الشيء/ الكائن/الموجود هو جملة علاقات، فليس ثمّة شيء في عزلة “أنطولوجية”. وإنّ كون الشيء هو نشوء للعلاقات، والفساد، كمقابل للكون، هو انحلال أو اختفاء أو تلاشي للعلاقات. إن وجود الموجود، على الصعيد الأنطولوجي، هو وجود للعلاقات. فهل يعني ذلك أننا أمام سديم أو شبكة غامضة من العلاقات تختفي معها الأشياء (الموجودات، الهويات، الذوات)؟ سوف تختفي الأشياء كما عهدنا أن نعرفها، أي كهويات أو ذوات أو جواهر متقوِّمة بذاتها، وبدلاً من ذلك سوف تتقوم بالعلاقات. وسوف تتحدّد الهويات بأنّ العلاقات مقوم ضروريّ لها، بما يعني أنّ الهويات الأخرى محدِّدِة لهويّة الذات. وبالتالي فإنّ العلاقة كما نفهمها هي بنيان أساسيّ لوجود الموجودات، بما يعني أنّ كلّ موجود هو موجود بالاشتراك أو موجود – في – علاقة .
من هذه النقطة سوف نبدأ عبورنا نحو فهم العلاقة بين الإنسان، بما هو موجود، والطبيعة. أي أننا سوف نفكر في أنطولوجيا العلاقة بين الموجود البشري والطبيعة. وبما أن العالم هو الأفق الذي تنتسج فيه علاقة الموجود البشري بالموجودات الأخرى، والطبيعة من ضمنها، لذلك سوف يكون الوجود – في – العالم Being –in – the - world، مدخلنا إلى هذا التفكير .
* الإحالة الأداتية والإحالة الإيكولوجية
إن التأمل في علاقة الإنسان كموجود بالطبيعة تستلزم أولاً تحديد الخاصية الأساسية للوجود البشري التي يتميز أنطولوجيا عن أنواع الوجود الأخرى كالنبات والحيوان والجماد .
يذهب جون ماكوري John Macqaurrie في دراسته للمذاهب والأفكار الوجودية إلى أن إحدى الخصائص الأساسية للوجود البشري تتمثل في أن الوجود البشري يتسم بالظهور إلى الخارج أو الانبثاق. فإذا كانت كل الموجودات موجودة، بمعنى أنها ظهرت من لاشيء، إلا أن الإنسان يوجد بمعنى أبعد من ذلك هو أنه، من بين جميع الموجودات التي يمكن أن نلاحظها على سطح الأرض، هو الوحيد الذي يظهر، لا بوصفه كائناً فحسب، بل يستمد كينونته من أنه يدرك عن وعي من هو أو ما هو، ومن سيكون أو ماذا سيكون. وهذا يعني أن الإنسان يظل على الدوام يظهر أو ينبثق بالقياس إلى ما هو فيه في أية لحظة بعينها. وهذا يؤكد على الصفة الدينامية للوجود البشري المتمثلة في الحركة المستمرة للإنسان التي يجاوز من خلالها الحالة التي يكون عليها.10
إذن، على هذه الخاصية استند التجاوز أو العلو الذي قام به الإنسان، ألا وهو الخروج عن حال الطبيعة والانجذاب نحو أحوال أخرى ظلت تتعاقب عبر الزمن، حتى أنه يمكننا القول مع ياسبرز Jaspers : “ليس هناك وجود بشري بمعزل عن العلوّ”11. ولعلّنا نستنتج من ذلك أنّ الانفصال عن الطبيعة بمعنى الخروج عن حال الوجود الطبيعيّ، هو ضرورة وجودية لا رادّ لها .
ولكن، بخروجه عن حال الطبيعة، إلى أين يتجه الإنسان؟ إنه يتجه كي يقيم في عالم، والأحوال المتعاقبة التي يتحرك إليها الإنسان ليست سوى عوالم متتالية ترافق انبثاقاته وعُلوّاته لأنّ “الوجود – في- العالم حالة أساسية للوجود البشري قبلية بالضرورة ... كما أنه التعبير الوجوديّ عن وجود الموجود البشري الذي يعد وجوده – في – العالم حالته الضرورية .”12
ما هو، إذن، الوجود – في – العالم ؟ يوضّح هيدجر هذا المصطلح بأن يفرّقه أوّلاً عن نمط الوجود الذي يحوزه موجود ما عندما يكون “في” شيء آخر، مثلاً، وجود الماء “في” الكأس أو الثوب “في” الخزانة. إن حرف الجر “في” يشير إلى علاقة احتواء حيزي بين شيئين يمتدان “في” مكان وذلك بالنظر إلى موقعهما في المكان. فالموجودات التي يمكن وصف وجودها “في” شيء آخر بهذه الطريقة لها النمط ذاته من الوجود الذي يسميه هيدجر الوجود الحاضر أمامنا Present – at – hand ، وهي أشياء تحدث ضمن العالم within the world ويختلف وجودها عن خاصية الوجود – في being-in المعتبرة خاصية وجودية للموجود البشري. أي أننا يجب ألا نفكر بالموجود البشري كوجود حاضر لشيء ما عينيّ، كالجسم البشري، “في” موجود حاضر آخر. ويتوضح معنى الوجود- في من خلال تحليل هيدجر لحرف الجر “فيin” الذي يشتق من كلمة innan التي تحمل معنى يقيم ويتوطن ويسكن. كما أنّ اللاحقة an تشير إلى : إنني معتاد على، إنني على ألفة بـ، إنني أعتني بـ، وهذا يتطلّب أنّي “أنا بجانب”، “أنا أقيم بجانب”، ويعبّر هيدجر عن هذه الدلالات بمصطلح “الوجود بجانب” العالم “being alongside” the world بمعنى الانخراط في العالم كحالة وجودية تتأسّس على الوجود- في.13
ليست الجانبية هنا من قبيل المحاذاة التي توجد عليها الموجودات الحاضرة معاً، وبالتالي ليس ثمّة جانبية لموجود بشري مع موجود آخر هو العالم. فعندما نقول عن شيئين حاضرين معاً إنهما بجانب بعضهما بعضاً فإننا نقول، مثلاً، إن الطاولة على مقربة من الباب وإن الكرسي “تلامس” الجدار. فهذه المقربة أو الملامسة تعني أن ثمّة فراغاً بينهما، أمّا من حيث المبدأ فإنّ الكرسيّ لن تلامس الجدار أبداً حتى لو أنّ الفراغ انعدم بينهما وأصبح صفراً. ولكن لماذا؟ لأنه كي تلامس الكرسي الجدار فإن ذلك يفترض مسبقاً أن الجدار هو نوع من الأشياء ستكون لأجله الكرسي قابلة للمواجهة. وبذلك فإن الموجود الحاضر ضمن العالم يمكن أن يُلمس من قبل موجود آخر فقط إذا كان الموجود الآخر بطبيعته له نمط الوجود الذي ندعوه الوجود – في، أي فقط إذا كان مع وجوده- هناك Being-there يتكشّف له مسبقاً شيء كالعالم بحيث أنّ موجوداً آخر من خارج ذلك العالم يمكن أن يُظهر نفسه في الملامسة، وبالتالي يصبح سهل المنال في وجوده الحاضر. عندما يكون ثمّة موجودان حاضران ضمن العالم، وإضافة إلى ذلك لا يتمتّعان بصفة العالمية، فلا يمكن أن يتلامسا أبداً، ولا يمكن لأيّ منهما أن يكون بجانب الآخر.14
ولكن ما هي الموجودات ضمن العالم التي يمكن للموجود البشري أن “يلامسها”، أي يواجهها أو يلتقي بها، باعتباره يملك خاصية الوجود – في - العالم؟
هناك أولاً البيئة الطبيعية، أي أشياء الطبيعة كالجبال والأنهار والموارد الطبيعية والحيوان والنبات والمنظومات الإيكولوجية...الخ، وهي كما ذكرنا، تتمتع بنمط الوجود الذي يدعوه هيدجر الوجود الحاضر أمامنا. كذلك هناك التجهيزات ( الأدوات ) equipment ، من الإبرة والمطرقة إلى محطات الطاقة ووسائل المواصلات وسائر الآلات والأعتدة التي يتعامل بها الإنسان. ويدعو هيدجر نمط الوجود الذي تكون عليه هذه التجهيزات بأنه الوجود – في - متناول اليد present – to – hand .هذه التجهيزات لا تتصف بأنها حاضرة وحسب، كسابقتها، بل بأنها موجودة لأجل in – order to، أي أنها تتصف بطابع الإحالة reference، وهذه الإحالة مزدوجة. فهي تحيل إلى بعضها بعضاً وتشكل نسقاً من التجهيزات، كما أنها تحيل في النهاية إلى الموجود البشري لأنه هو الذي يجعلها في متناول اليد. وهذا يحصل لأن الانشغال بالتجهيزات ميل أنطولوجي لدى الموجود البشري في وجوده اليومي – في- العالم.15 وبالتالي فالتجهيزات هي البيئة المصطنعة artificial environment التي يشكّلها الإنسان ويرتّبها وينظّمها ويلبّي من خلالها احتياجاته.
إذن ثمّة البيئة الطبيعية (بما هي موجود حاضر) والبيئة المصطنعة(بما هي موجود في المتناول) كموجودات ضمن العالم، وثمّة الموجود البشريّ الذي من خلال خاصية الوجود – في يلتقي ويواجه هذه الموجودات بجانب العالم، وبالتالي يقيم ويتوطّن ويسكن وينشغل ويعتني ويتآلف معها.
ولكن، بما أنه “فقط بواسطة شيء ما حاضر أمامنا يوجد ثمّة أيّ شيء في متناول اليد، ينجم عن ذلك التسليم بأنّ الوجود في متناول اليد يتأسس أنطولوجياً على الوجود الحاضر أمامنا”16 ، أي أنّ البيئة الاصطناعية تتأسّس أنطولوجياً على البيئة الطبيعية، وهنا، في هذه العَطْفة من تحليلنا ينبثق لدينا السؤال التالي: ما هو الدافع أو الميل الأنطولوجي الذي يجعل الموجود البشري يحوّل الموجودات الحاضرة أمامه إلى موجودات في متناول يده؟
قلنا إنّ الوجود – في، كخاصية للموجود البشري، لا تعني الاحتواء المكاني الحيّزي الذي تكون عليه الأشياء الموجودة ضمن العالم في علاقة أحدها بالآخر، لكنّ هذا لا يعني أن الموجود البشري لا يمتلك أي نوع من المكانية، بل له وجود في مكان خاص به إلاّ أنّ ذلك ممكنٌ فقط على أساس الوجود – في – العالم.17 وهذا يعني أن نسبة المكانية إلى الموجود البشري يجب تصوّرها بواسطة نمط الوجود الذي يمتلكه هذا الموجود. فهو ليس موجوداً حاضراً، أي ليس مجرد كائن حيّ في البيئة الطبيعية، وبالتالي فإنّ مكانيته لا تعني أنّه مثل أيّ شيء يحدث في موضع معيّن من فراغ العالم. كما أنّه، من جهة أخرى، ليس موجوداً في متناول اليد، أي ليس أداة أو تجهيزاً، في مكان ما. فهذان النمطان للمكانية ينتميان إلى الموجودات التي يواجهها الإنسان ضمن العالم. إنّ مكانيته تتجلّى في أنّ وجوده – في - العالم يحمل معه الانشغال والألفة للأشياء المواجَهة ضمن العالم. وتتجلى هذه المكانية في صفتين أساسيتين هما نزع الانفصالية de-severance والتوجّهية directionality.18
ونوضّح خاصية الوجود – في أكثر بالقول إنّ مكانية الموجود البشري لا تتحدّد من خلال موضع فراغيّ ثلاثيّ الأبعاد يحتويه على سبيل الامتداد ويمكّننا من تحديد إحداثياته كما نحدّد إحداثيات أيّ حجر بالنسبة إلى المكان المحيط به، فهذا المعنى لا يستغرق خاصية الوجود- في الّتي تحمل معاني الإقامة والسكن والانشغال والألفة. إنّ مكانية الموجود البشريّ أقرب ما تكون إلى وجود الإنسان في منزله، الذي لا ينحصر في الإيواء الجسميّ بل يشمل مجمل العلاقات التي تنشأ من خلال التواصل مع موجودات هذا البيت .
إنّ نزع الانفصالية، كضرب من الوجود الذي للموجود البشريّ من حيث وجوده – في - العالم، لا يعني تطبيقه على شيء من قبيل المسافة. إنّه يمثل حالة أساسية، حالة من الفعالية والنشاط، لوجود الموجود البشري. يشير نزع الانفصالية إلى جعل البُعد يختفي، أي جعل بُعديّة شيء ما تختفي بإحضاره قربنا. وذلك لأنّ الموجود البشريّ نازع (أي أنّه يلغي) للانفصالية على نحو ضروريّ: فهو يعمل على جعل أيّ موجود يواجهه أو يلتقي به، قريباً منه. ولكن لماذا يحدث ذلك؟ يجيبنا هيدجر بأنّ لدى الموجود البشري ميل وجوديّ نحو التقرّب. إنّ نزع الانفصال هو تقريب، أي جعلُ شيء ما، مثلا موجود حاضر أمامنا، على مقربة، وذلك بمعنى تدبّره ووضعه في حال الجاهزية وفي متناول اليد. فمثلاً، إنّ اكتشاف الموجودات بأسلوب معرفيّ مجرّد له خاصّية التقريب، كما أنّ الأساليب التي نسرّع بها الأشياء، بواسطة وسائل الاتصالات المتنوّعة، تدفعنا نحو قهر البعد (أي التقريب). وباختصار إنّ ما هو قريب ليس ذاك الذي على مسافة أقلّ، بل الأكثر مدعاة للانشغال أو الاهتمام به من خلال مدى انخراطه في عالم الموجود البشريّ، لأنّ مكانية الموجود البشريّ تعني أنه ليس “هنا” بل “هناك” في بيئة محيطة، أي في عالم .19
إنّ نزع الانفصالية، أو تقريب الموجودات، بما هو ميل أنطولوجي للموجود البشري، لا يحصل إلاّ مترافقاً مع التوجّهية باعتبارها ميلاً أنطولوجياً آخر. فالانشغال أو الاهتمام هو الذي يقود نزع الانفصالية ويعطي لها اتجاهاً. فكلّ تقريب يتخذ مسبقاً اتجاهاً نحو منطقة أو جوار يوضع فيه الشيء المقرَّب ويرتّب وينظّم. فالتوجّهية تعني أنه لا بدّ أن يكون لدى الموجود البشريّ سياق للتجهيزات ضمن العالم، لأنّ التوجّهية تصنعها ذاتٌ في العالم وهي، أي التوجهية، ليست، كما رأى كانط، مبدأ ذاتياً قبلياً. كما أنّ التوجهية ليست مجرّد ذهاب إلى اليمين أو اليسار أو فوق أو تحت أو شمال أو جنوب كما نفهم أحياناً من لفظة التوجّه. ويمضي هيدجر في توضيح المقصود بذلك من خلال مثال عن قفازات الحرفيّ وأدواته. إنّ القفازات تشارك يدي الحرفي مكانيتها في أنّها يمينية أو يسارية، وبالتالي فالانشغال أو الاهتمام يتوجّه بالتجهيز، أي القفازات، كي يوافق ويتلاءم مع كون اليد هي اليمين أو اليسار. أمّا أدوات الحرفي، كالمطرقة، فلا تشاركه هذا الضرب من المكانية، وبالتالي فإنّ توجّهيتها تتعلّق بانشغال الإنسان بها، فلا توجد مطرقة يمينية وأخرى يسارية بل مطرقة تتوجّه نحو ما جعلها الانشغال لأجله.20
لنقدّم مما سبق خُطاطة أنطولوجية لعلاقة الإنسان بالطبيعة. فعلى أساس الوجود – في - العالم بما هو اهتمام أو انشغال، يواجه الإنسان أشياء الطبيعة، أي البيئة الطبيعية ومكوّناتها، ويلتقي بها بجانب العالم كما هي: موجودات حاضرة أمامه، خام أو بِكْر. وتدفعه ميوله الأنطولوجية المستندة إلى مكانيته إلى تقريب هذه الموجودات وضمّها إلى عالمه وجعلها في متناول يده وتحويلها إلى بيئة مصطنعة، أي جعلها تجهيزات وأدوات وفق توجّه معيّن تشكّل بموجبه نسقاً مترابطاً كلياً يحيط به ويحقّق احتياجاته بواسطته.
نستخلص ممّا أوردناه أنّ الطبيعة، التي يشكّل الإنسان جزءاً منها بما هو كائن حيّ، تصبح مكوّناً من مكوّنات عالمه بما هو موجود صفته الأساسية هي الوجود– في - العالم .
ولكن، كما رأينا، فإنّ التجهيزات تحيل إلى الإنسان باعتبارها وجوداً – لأجل being-in- order to ، أمّا الطبيعة فلا تتّصف قبلياً بمثل هذه الإحالة، بل هي مجرّد موجود يلتقي به الموجود البشريذ بجانب العالم. فالشجرة المزروعة في شارع ضمن المدينة، وهي موجود طبيعيّ، تحيل إلى الإنسان لأنها تنتمي إلى نسق تجهيزاته، أمّا الشجرة في الغابة فلا تتّصف بهذه الإحالة، بل تحيل إلى المنظومة الإيكولوجية التي تضمّها مع كائنات أخرى وفق العلاقات الخاصّة لهذه المنظومة. سوف نطلق على نمط الإحالة السائد في البيئة الطبيعية مصطلح الإحالة الإيكولوجية كمقابل لنمط الإحالة الأداتية الذي تتصف به التجهيزات أو البيئة المصطنعة.
ما نريد الوصول إليه هنا هو القول بأنّ الطبيعة، أنطولوجياً، لا توجد لأجل الإنسان، وبالتالي فهي ليست مرصودة لخدمته بل هو الذي يجعلها تنتقل من وضع الإحالة الإيكولوجية إلى وضع الإحالة الأداتية الذي تتسم بها تجهيزاته .
ولعلنا نوضّح أنّنا نقصد بالإحالة الإيكولوجية نمط واتّجاه العلاقات والارتباطات التي تشبّك أيّ كائن حيّ أو كيان مادّيّ موجود في منظومة إيكولوجية. ويمكن التحدّث عن الإحالة الإيكولوجية بأكثر من معنى. هناك أوّلاً إحالة الكائنات الحيّة في البيئة الطبيعية إلى بعضها بعضاً بمعنى أنّها توجد لأجل بعضها بعضاً، والثاني إحالة المنظومات الإيكولوجية إلى بعضها بعضاً، وإحالتها جميعاً إلى الأرض بما هي المنظومة الشاملة والمكان الذي تطوّرت فيه الحياة. هذا يعني أنّه ليس ثمّة مركز يستقطب العلاقات الإيكولوجية نحوه، بل اتّجاه عامّ غرضه استدامة المنظومة الإيكولوجية. يعني هذا أنّ الإحالة الإيكولوجية شرط لاستدامة هذه المنظومات. في المقابل، وكما رأينا في تحليلات هيدجر، تتّصف الإحالة الأداتية بأنها تتمركز حول الإنسان بما أنّ التجهيزات/الأدوات هي وجود – لأجل الإنسان.
عند هذه العطفة الجديدة ينبثق سؤال جديد: هل نَقْل الموجودات الطبيعية وتحويلها من نمط الإحالة الإيكولوجية إلى نمط الإحالة الأداتية هو بالضرورة سيرورة غير إيكولوجية؟ وبتعبير آخر، هل الوجود – في – العالم هو بالضرورة يتناقض مع “الوجود في الطبيعة”؟ ثمّة العالم، عالم الموجود البشريّ، وعالم الطبيعة. الأوّل يسود فيه نمط الإحالة الأداتية، والثاني نمط الإحالة الإيكولوجية. الثاني سابق والأوّل لاحق ويتأسّس على الثاني ولا وجود له بدونه. إذن، وباعتبار هذه العلاقات، أيّ فحوى للحديث عن اغتراب الإنسان عن الطبيعة.
* الاغتراب بين الإنسان والطبيعة
ينظر إريك فروم Erich Fromm إلى الاغتراب عن الطبيعة بطرق ثلاث. أوّلاً الاغتراب بمعنى الانفصال الذي يصاحب ظهور وعي الذات وبالتالي الابتعاد عن الانغماس المباشر في الطبيعة بحيث تصبح هذه مفارقة وغريبة عن الإنسان. وينجم ذلك عن التناقض الكامن في وجود الإنسان بين كونه جزءاً من الطبيعة وقدرته على تجاوزها بامتلاكه ناصية العقل ووعي الذات. ويسمّي فروم خروج الإنسان عن حال الوحدة مع العالم الطبيعي عملية التفرّد التي تؤدّي إلى فقدان التناسق مع الطبيعة، هذا التناسق الذي يميّز الوجود الحيواني. وبهذا المعنى فإنّ اغتراب الإنسان عن الطبيعة حتميّ ولا مناص منه لأنه يصاحب منطق الإنسان بصورة تلقائية.21
ويشير فروم، ثانيا، إلى الاغتراب بما هو انفصال عن الطبيعة يصاحب سيطرة الإنسان عليها باختراع الأدوات التي تجعله يفصل ذاته عنها أكثر فأكثر. وبالتالي فالإنسان اللامغترب هو الإنسان الذي لا يسود الطبيعة ولكنه يتّحد بها. وسيبدو أن الاغتراب بهذا المعنى ليس حتمياً أو لا مفرّ منه بل يمكن التغلب عليه، وفق رأي فروم، من خلال العمل المنتج الذي يربط الإنسان بالطبيعة، ومن خلال الإدراك الصحيح للعالم عن طريق العقل الذي يكفل ارتباطاً نشطاً وخلاقاً.22
ثالثا، ينظر فروم إلى اغتراب الإنسان عن الطبيعة بمعنى الانفصال المتضمّن في عدم القدرة على ربط ذات المرء بالطبيعة بصورة كلية. وثمّة معنى للاغتراب لا ينشأ عن الانفصال عن الطبيعة، وإنما من انعدام الانفصال عنها وذلك إذا ما حاول الإنسان الاستغراق في الطبيعة أو الرجوع إلى نمط قبل – إنسانيّ في وجوده وبالتالي النكوص إلى مجال الحيوانية: ففي مثل هذه الحالة سيفقد الإنسان وعيه الذاتي ولن يمكن وصفه بأنه ذات حقيقية ويتحوّل الاندماج بالطبيعة إلى اغتراب الإنسان عن ذاته.23
لكنّ الاغتراب، سواء بمعنى الانفصال أو الاندماج، لا يصلح برأينا لوصف العلاقة الأنطولوجية بين الإنسان والطبيعة. لنلاحظ أوّلاً أنّ الانفصال الذي يرافق العقل ووعي الذات يرتبط بامتلاك الإنسان لبعد التجاوز أو التعالي، وهذا البعد بدوره مرتبط بالوجود – في – العالم، وبالتالي بالميل الأنطولوجي لنزع انفصالية الموجودات التي يلتقي بها الموجود البشري وتقريبها وضمّها إلى عالمه. أمّا الانفصال الذي يصاحب سيطرة الإنسان على الطبيعة باختراع الأدوات فهو أيضاً لا يتمّ إلاّ باكتشاف الطبيعة ومعرفتها، وهذا هو نمط من أنماط تقريب الطبيعة، كما مرّ معنا. أمّا الانفصال بمعنى عدم القدرة على ربط الذات بالطبيعة بصورة كلية فهو يغفل أنّ الذات تمتلك أبعاداً إضافية “غير طبيعية” ناجمة عن وجود الموجود البشري المتميّز بالانفتاح على العلوّ والتجاوز. وبالتالي فإنّ الموجود البشري هو في الطريق دوما نحو اكتساب أبعاد جديدة باستمرار.
يتوضّح لنا مما سبق أنّ العلاقة بين الإنسان والطبيعة هي بمثابة شرط أنطولوجي لا مفرّ منه ولا يتيح أيّ معنى للحديث عن الاغتراب بمعنى الانفصال بين الطرفين. فالإنسان بما هو كائن حيّ خاضع للشرط الإيكولوجي الذي يتمثّل في الإحالة الإيكولوجية إلى الحياة والأرض. وكذلك فإنّ الإنسان، بما هو موجود، يؤسّس عالمه على عالم الطبيعة مما يعني أنّ الطبيعة وأشياءها ليست مجرّد موجود ضمن العالم يمكن تجنّبه أو الابتعاد عنه، بل هي أساس مكوِّن وضروريّ لهذا العالم. لذلك، من الأفضل برأينا الحديث عن الاغتراب بين الإنسان والطبيعة بما هو خلل يلحق بالعلاقة بينهما أكثر ممّا هو ابتعاد أو انفصال بينهما.
ينجم هذا الخلل عن الإخفاق في إقامة علاقة سليمة نظراً لتبنّي موقف استغلاليّ خالص ينظر إلى العالم الطبيعي بما هو مجرّد مصدر أو مورد للمواد الخام. لكن إذا كان العالم الطبيعيّ يقدّم هذه الموارد التي تسهم من خلال تحويلها، أي من خلال العمل، في تحقيق الفرد لذاته على الصعيد الشخصيّ، فإنّ المقصود هنا بالإخفاق هو أنّ العلاقة السليمة هي تلك التي لا يُنظر في إطارها على هذا النحو فحسب، لأنّ ذلك يعني إخفاقاً في تقدير الصفات الجوهرية والجمالية للأشياء الطبيعية في وضعها الأوليّ، وثانياً إخفاقاً في إدراك أنّ الإنسان جزء من الطبيعة وهو يخضع لقوانينها ممّا يقوده إلى الفشل في تنمية الشعور بالوحدة معها.24
ولعلنا نحدّد مفهوم سلامة العلاقة بشكل أوضح. قلنا إنّ عالم الطبيعة هو أساس ينهض عليه مبنى هو عالم الإنسان، وبالتالي فإنّ أوّل معنى لسلامة العلاقة، لا بل لوجودها، يتطلّب سلامة الأساس. لكنّ هذا الأساس، أي الطبيعة، ليست مجموعة أو ركاماً من الأشياء المتجاورة المرصوفة بجانب بعضها بعضاً، بل هو نظام أو شبكة من العلاقات تتّصف كما أسلفنا بنمط من الإحالة دعوناه نمط الإحالة الإيكولوجية. أي أنّ السلامة تقتضي عدم تخريب أو تمزيق هذه الشبكة من العلاقات. وهذا يعني أنّ السلامة تتحدّد بالانسجام والتوافق بين نمط الإحالة السائد في العالم، أي الإحالة الأداتية، ونمط الإحالة الإيكولوجية. أي أننا نعطي لمفهوم سلامة العلاقة بين الإنسان والطبيعة معنى التوافق والانسجام ونؤسّس هذا المعنى أنطولوجيا ليصبح الاغتراب هو من قبيل عدم التوافق وعدم الانسجام بين نمطي الإحالة الإيكولوجية والأداتية. فكيف السبيل إلى تحقيق التوافق والانسجام؟ إنّ الإجابة على هذا السؤال تتطلّب معرفة بِمَ وكيف يبني الإنسان تجهيزاته، أي بيئته المصطنعة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

قراءة فلسفية للأزمة البيئية النظرة الإيكولوجية إلى العالم(2/3 :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

قراءة فلسفية للأزمة البيئية النظرة الإيكولوجية إلى العالم(2/3

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: