حسين فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 473 معدل التفوق : 1303 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 18/12/2011
| | خواطر حول التاريخ المقدّس (2/2) | |
في تعليق على مقالي السابق قال المعلّق، آسفا، بأنّني لست مؤرّخا بالمهنة. لا ضير، فأنا فعلا لست بمؤرّخ ولا أزعم ذلك. لكنني أقرأ كتب التاريخ وتستهويني الأحداث والأعمال التي صنعها الإنسان، وبحكم مادّة اختصاصي، أعني الفلسفة، فإنّني أميل إلى التواريخ القديمة، تواريخ اليونان والرومان التي تكاد تغيب فيها الخوارق والأنبياء، وتعرض الأحداث بشيء من التجرّد والموضوعية. وبعد، فلكلّ ذي عقل القدرة على التمعّن في كتابات المؤرّخين وسبرها على محكّ العقل وتقييمها من جهة إيفائها بالغرض العلمي وبمطلب الحقيقة أو إخلالها بهما. فكما أنّ المطلوب من العالم المنكبّ على دراسة الطبيعة أن ينزع عنه عواطفه وأهواءه كي ينتج عملا علميا موضوعيا، فكذلك المؤرخ مرغوب منه أن يَروي الأحداث حسب شروط منهجية معيّنة، وأن لا يترك للعوامل الذاتية الفرصة كي تشرّط عمله وتنتقص من موضوعيته. وأرى أنّ تحذير المؤرخ اليوناني بوليبيوس بخصوص هذه المسألة هو تحذير صائب وصالح لكلّ زمان ومكان. ففي معرض حديثه عن المخاطر التي تحدق بعمل المؤرخ، وخصوصا خطر التعاطف مع الوطن أو الأقرباء، قال: «أنا أسلّم بأنّ المؤرخين يجب أن يتعاطفوا مع أوطانهم، ولكني لا أسلّم بأن يَحيكوا حولها أقوالا مناقضة لحقيقة الأحداث الواقعية. عديدة بحدّ ذاتها هي الأخطاء التي يقع فيها المؤرّخون بسبب الجهل، والتي من الصعب تفاديها نظرا لمحدودية الطبيعة الإنسانية؛ لكن إن كتبنا بمحض اختيارنا أشياء كاذبة إمّا لصالح الوطن والأصدقاء، أو لامتنان شخص ما، فما الفارق بيننا وبين أولئك الحرفيّين الذين يعتاشون بتلك الأكاذيب؟ هؤلاء فعلا، بما أنهم يقيسون كل شيء بحسب الربح، يُزيلون كل سلطة لمؤلفاتهم، هكذا هي أيضا حال رجال الدولة الذين بدافع من الحقد أو الصداقة، غالبا ما يقعون في نفس التحيز(1)». النصيحة التي يسديها بوليبيوس سواء للقارئ أو للمؤرخ هي أنه « ينبغي على القرّاء بعناية اكتشاف هذا التحيّز وعلى المؤرخين تفاديه(2)». وفي موضع آخر يؤكد هذه الفكرة، ويدافع عن حرية الرأي وعن الموضوعية التاريخية حتى وإن جرحت المستمعين أو ذهبت ضدّ قناعاتهم المسبقة: «أنا أعتقد أنّ الصديق الحق للعلماء لا يمكن أن يكون أبدا ذلك الشخص الذي يخشى أن يتكلّم بحرية (φοβουμενον τους μετα παρρησιας λογους)، ولا مواطنا صالحا ذلك الذي يتجاهل الحقيقة لأنها قد تسيء إلى البعض من معاصريه. ولا ينبغي أن نعتقد بمؤرخ براغماتي يجعل الحقيقة في خدمة مصالح أخرى. كما أن التاريخ يتوجّه إلى عدد أكبر من الناس، في حين أن الخطابات تُلقى بحسب المناسبات الراهنة، كذلك يجب على المؤرخ أن يأخذ بعين الاعتبار الحقيقة، وعلى القرّاء أن يرحّبوا بهذا الاختيار(3)». كاتب هذه السطور حاول، في مباشرته كتابات المؤرخ جعيّط، العمل بنصائح بوليبيوس من عدم خشية التكلّم بحرية، وعدم تجاهل الحقيقة التي ربما قد تسيء للبعض. وأرى أن جعيّط لا يعارض هذا المنهج، بل إنّه يزكّيه مبدئيا، وربما يضيف له شيئا آخر أكثر عمقا وطرافة. فالمنهج الذي حكم أعماله يصفه هو نفسه بهذه العبارات: « لقد حاولتُ من جهتي أن أمارس تاريخا تفهّميّا إلى حدّ بعيد، وأن أغوص حتى قلب المُناخ الذهني والعقلي للعصر، وأن أسعى لفهم كيفية تفكير أهله، وما كانت عليه أصنافهم ومقولاتهم وقيمهم، وحتى أني حاولتُ الكلام بلغتهم(4)». لم يكتف بالشمولية وبالغوص في أجمة المعطيات لتصنيفها وتحليلها بدقة، بل إنه أراد أيضا، حسب قوله، أن يروي الأحداث، أن يُخبر، ويكتنه أعمال الرجال الذين صنعوا الأحداث. وقد أدّت به هذه العملية إلى النتيجة التالية: « توصّلتُ في نهاية المطاف إلى أن أعيش مع هؤلاء الناس وهاته الأحداث(5)». ولا يخفي المؤرخ جعيط المعضلات التي تواجهه في بحوثه هذه خصوصا وأن كتابة التاريخ قد تضع المؤرخ في مفارقة عسيرة (تحدّث عنها بوليبيوس) قد تعوق إلى حدّ ما بلوغ التجرّد والموضوعية، وذلك بسبب انتمائه المزدوج للحضارة الإسلامية من جهة، والحداثة “الصحيحة” من جهة أخرى. لكنّ انتماءه لهذين البعدين لم يمنعاه من اتخاذ موقف نقديّ تجاههما، فهو لم يتقبّل التقليد التراثيّ حرفيا، ووجد نفسه، بالتالي، مُرغما على النزول في صراع ضدّ «الرؤية التقليدية للأمور وضدّ حداثة تبسيطية». ولذلك فإنّ تجربته في كتابة التاريخ، وخصوصا تاريخ المرحلة التأسيسية للإسلام، لم تجعله يضحّي بالعنصر المعرفيّ حتى وإن اخترق التعاطف مع موضوعه كيانه الشخصي. يقول: «لقد ساعدني التاريخ الصحيح والقويم، في هذا المشروع الصعب حين جعلني أقيم مع هذه المرحلة التأسيسية للهوية الإسلامية، علاقة معرفية يخترقها التعاطف والتوادد في أعماقها، حيث يتمازج المعرفي والمعاش، العلم والحياة. إن إحياء جانب من التاريخ الإسلامي في حقيقته وكثافته إنما هو جزء من مسيرتي الوجودية الطويلة(6)». ومن المتوقع أن يترك جعيّط الحكم النهائي بخصوص مدى صحة تعبيره عن الوقائع وإيضاح المسائل، وهل أنه تسلّح بالحكم السديد، إلى القارئ. ونحن بدورنا في هذا البحث، سنحاول تطبيق هذه النصيحة ونستثمر إيجابا حثه القارئ على النظر والحكم بعين ناقدة(7). 1- تفعيل المنهج: يجب على المثقّف عموما والفيلسوف على وجه الخصوص، أن لا يُمجّد أحدا من المفكّرين أو يُزكّيه، ولا ينبغي عليه ما قبليا أن يُعلي من شأن أيّ مفكّر على أساس الشهرة أو الصداقة أو ما شابه ذلك. بل من واجبه طلب الموضوعية والتمسك بمطلب الحقيقة بإظهار ما يمكن الاعتداد به في أقواله وما يمكن أن يُطابق المنهج العلمي الصحيح وطرح ما هو خاطئ ومُجانب للصواب. وكاتب هذه السطور يرى أنّ غضّ الطرف عن المعضلات والأخطاء والتناقضات، ثمّ المصادقة على أطروحات مفكّر ما بسبب شهرته أو سلطته، مخالفة للمنهج الفكري القويم. الفلسفة تعلّمنا التملّص من وطأة الأحكام المسبقة وتشجّعنا على الانعتاق من أسر السّلطات الروحية. ومَن يرغب في رؤية الجانب الإيجابيّ من تاريخ جعيّط فعليه بالإطلاع على كتاباته دون روح نقدية، أو قراءة المراجعات المزكية التي كُتبت حول أعماله. لكنّ كاتب هذه السطور يفضّل، قدر الإمكان، التفكير المُعضلي النقدي ويَبغي، بحسب الطاقة، إظهار مواطن الضعف والخلل لكي تكون عبرة ولكي يتفاداها من يجيء بعدنا. لقد شدّت انتباهي بعض العبارات والأفكار، من أعمال جعيّط التاريخية، التي توري عن قناعات دينية مسبقة وهموم إيديولوجية تبريرية. فقراءته للتاريخ الإسلامي، في حقبته الأكثر حرجا، لم تَخل من تحيّزات ومن إسقاطات متجاوزة لزمانها، وذلك لقراءتها الحاضر بالماضي والتفتيش المُضني عن التوازي بين الوقائع التي تبعد عن بعضها البعض بعدا سحيقا؛ علاوة على ذلك فإن بعض صفحاته لا تخلو، كما اعتدنا عليه عند كل التيارات الإسلامية المعاصرة، من النقد اللاذع للمستشرقين ولآرائهم والتهجّم على أشخاصهم، فقط لأن نتائج دراساتهم لا تتماشى مع قناعاته الدينية وتتضارب مع توجّهاته الإيديولوجية. ربما هناك تضارب بين القصدية المنهجية والخلفية العقدية، ذلك أنّ الرجل يصرّح بأنّ تاريخه مغاير لما هي عليه التواريخ الإسلاميّة القديمة، يعني عدم خضوعه لضغط العامل الإيديولوجي الديني، إلاّ أنه منذ الوهلة الأولى يتماشى مَعها سواء من حيث استخدام المصطلحات أو التوجّه الروحي. في كتابه “الفتنة”، تصدمنا منذ البداية كيفية تبريره لتسمية عصر ما قبل الإسلام بـالجاهلية. لأنّ نعت حقبة تاريخية في مجتمع ما بأنّها جاهلية، هو شيء يدخل في إطار حُكم القيمة ولا علاقة له بالتاريخ الوقائعي الذي لا يُعنى بالألقاب ولا بتبريرها. وواضح أنّ جعيّط انجرّ مع هذه التسمية ووجد نفسه، كمؤرّخ، في موقع دفاع لتبرير تسميته التحقيريّة لتلك الفترة التاريخية كما اعتِيد عليه في كلّ الروايات الإسلامية. وهذه التقنية في التسمية معروفة ومعتادة في التواريخ المقدّسة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، لأنّ كلّ جديد ينحو إلى الحطّ ممّا سبقه ويصبو إلى التقليل من شأنه، وجعله مرحلة تهيّئ لما سيأتي بعدها والذي دائما يكون أفضل وأرقى: « فالقرن السادس هو عصر الجاهلية كما حدّدها القرآن، أي عصر العنف والجهل الذي سبق الإسلام [...] وممّا لا شك فيه أنّ الظاهرة المكيّة يتعين اعتبارها، في ضوء ما سيجري لاحقا، كأنها الظاهرة الأولى، لأنها الأكثر امتلاء بالمستقبل(8)». أرى أن هذا التوجه، الذي لا يخرج به عن مسار التواريخ الإسلامية السابقة وهذه الرؤية الدينية القيميّة، في الأساس، التي يتشبث بها جعيّط، تتنافى مع روح الموضوعية التاريخية. كل المؤرخين الغربيين والمستشرقين المحدثين تريّثوا في تسمية حقبة ما قبل الإسلام بالجاهلية، وبعضهم رفضها لما تحمله من فكرة مسبقة قد تحجب رؤية الوقائع التاريخية وتمنع من فهمها والمسك بعللها. وقد عمد المستشرقون إلى إبعاد تلك المقولة لتفادي إدخال الاعتبارات الدينية القيميّة في مجال التاريخ. وجدير بالذكر أنّ العرب في فترة تاريخية لاحقة نقضوا بأنفسهم الرأي الذي يعتبر فترة ما قبل الإسلام موسومة بالجاهلية والوحشية، كما وصفها جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي قائلا: «كنّا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منا الضعيف(9)». لكن حينما تغيّرت موازين القوى وأصبح العرب أسياد إمبراطورية مترامية الأطراف، وبدأت تحتك القوميات بعضها ببعض، وكل واحدة منها تمجّد تاريخها ومآثرها، دخل العرب هم أيضا في دوامة المماحكة الجدالية والإطراء للنفس، ونسوا مساوئ الجاهلية، بل أعلوا من شأن حياة البداوة العربية وصفائها وفضائلها وقيمها العالية. وقد تتملّكنا الدّهشة حينما نعثر في كتابات جعيّط نفسه على نزعة من هذا القبيل تتضارب تماما مع أقواله السابقة. في كتابه “الشخصيّة العربية الإسلامية والمصير العربي” يقول، واصفا الحقبة التاريخية التي سبقت الرّسالة وبالأخصّ أهل قريش بأنهم: «كانوا عربا أصيلين لكنهم كانوا أكثر وعيا وأكثر ذكاء وأكثر إنسانية من الجموع البدوية. كانت لهم قدرات أخلاقية وفكرية استثنائية [...] إن هذه المزايا القرشية ـ التي كانت تعوز جيرانهم وحلفاءهم من خزاعة ـ يظهر أنها كانت العقل والاعتدال وروح المبادرة وحسّ الاجتماعية... لكن القرشيّين لم ينفصلوا عن بقية العرب الذين وضعوا الحِلم في أعلى درجة من درجات الفضائل، يعني السيطرة على النفس والحياء والتضامن القبلي الذي كان أخوّة وصداقة(10)». هكذا كان العرب قبل الإسلام وتلك هي فضائلهم الكبرى. لا ندري من نُصدّق، جعفر بن أبي طالب أم المؤرخ الحديث هشام جعيّط، أم قتادة أحد التابعين وقد قال في تفسيره للآية: ﴿ وكُنتُم على شَفا حُفرة من النار فأنقذكُم منها﴾ «كان هذا الحيّ من العرب، أذلّ الناس ذلاّ، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مَعكُومين على رأس حُجْر بين الأسَدَين: فارس والروم. لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يُحسدون عليه. من عاش منهم عاش شقيّا ومن مات رُدّى في النار! يؤكلون؛ ولا يأكلون! والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض، كانوا فيها أصغر حظا، وأدقّ فيها شأنا منهم(11)». لكن إن تمسّكنا بأقوال جعيط الثانية التي وصف فيها القرشيين بتلك الفضائل الرّاقية الاستثنائية، فإنه لن يبقى من الجاهلية شيء يذكر، وحتى مشروعية الرسالة تفقد معناها لأنه يصبح من العسير تصوّر أناس بمثل هذه الخصال في حاجة لكي يأتيهم رسول من الله ويُعلّمهم مكارم الأخلاق. المستشرقون الجدّيون، على عكس كلّ المؤرّخين العرب، لا همّ ديني لهم ولا منافحة تبريرية تدفعهم في بحوثهم وتشرّطها بالكامل، وإنما كلّ ما يدافعون عنه هو نقض الإدعاءات بأنّ الفترة السابقة للإسلام هي فترة التوحّش والحرب، وأن حالة البداوة لا معايير لها وخالية من القيم الإنسانية. وإذا أخِذ بهذه الأطروحة، كما بيّنتُ أعلاه، فإن التاريخ الإسلامي المقدّس يُصبح في موقف دفاعي لتبرير قيام الإسلام في وسطٍ اجتماعي له درجة عالية من التنظيم والعقلنة. البعض من المؤرخين الغربيين ذهبوا إلى مدى أبعد وشكّوا في إمكانية أن تكون مكّة مركزا من مراكز التجارة في تلك الحقبة، لأنه لا يمكن، من وجهة نظر طوبولوجية جغرافية، لمكان صحراوي قاحل لا يوفّر أيّ مرفإ حيويّ أن يكون مَحَطّا لتيار مستمرّ من القوافل التجارية. لكنّ المؤرخ التونسي يَفقد رصانته حينما يطّلع على مثل هذه التحليلات ويقسو على المستشرقة كرون (Crone) لأنها اعتمدت، في كتابها “التجارة المكية”، تلك الأطروحات وبرهنت عليها بمجموعة من الاستشهادات والنصوص الدقيقة الصلبة والمربكة حقا. التاريخ ومساره لا بدّ، في نظر من يرفض تلك الأطروحات، أن يسير في الاتجاه الذي رسمته التواريخ والسير القديمة وإلا، إذا اعتُرف بحقائق مغايرة، فإنّ كلّ البناء سيهوي على نفسه وسينكَسِر مجرى الأحداث التي رُسِمت منذ العهود الإسلامية الأولى. لم يُقدّم جعيّط أي مبرّر واقعي يجعل من مكة منبع الإسلام، ولكنه اكتفى بالقول: «إن أهمّية مكة تنبع من كونها مدعوّة لتنظيم وتدبير القوى الجديدة للعروبة البدوية...بشكل لم يحدث أبدا من قبل(12)»، على أي أساس بنى أطروحته هذه؟ مكة مدعوّة من طرف من؟ جعيط لا يُعلمنا بشيء، لأنه اكتفى بسرد “الأحداث” كما روتها التواريخ القديمة. الكاتبة كرون جمعت معطيات تاريخية عديدة وشهادات كتّاب قدامى، ـ من الصعب جدّا لأيّ دارس عربي الإطلاع عليها مباشرة في لغتها الأصلية ـ ممن عاينوا الأحداث، أو عرض لهم أن تناولوا وقائع لها علاقة بما كان يحدث في تلك الفترة التاريخية، تقلب رأسا على عقب ما تعوّدنا عليه في التواريخ الإسلامية. لو أنّ الاكتشافات الأثرية تدعم مستقبلا أطروحة الكاتبة، فلن يبقى شيء يذكر من التاريخ الإسلامي، المقدّس منه والدنيويّ. لهذا فإن عمل الكاتبة خطير إلى أبعد الحدود ومحرج لكلّ مثقف محافظ ذرأ نفسه للدفاع عن الدين، علاوة على أنّ عملا من هذا القبيل وأعمالا أخرى للمستشرقين، ربما لا علم للقارئ العربي بها لأنها لم تُترجَم، ولا هي دَخلت مَكتبات الدول العربية والإسلامية، قد تؤدي إلى مراجعة عميقة وجذرية لمعتقداته، وقد تفسخ قرونا عديدة من التواريخ الإسلامية المملوءة خيالا وكذبا وتناقضا: وهذا ما لا يرضاه أيّ دارس مؤمن حتى وإن كان بالقصد وصوريا ذا توجّه علماني أو ممّن جعل من الموضوعية منهجه ومعياره، مثلما هو الشأن بالنسبة للمؤرخ هشام جعيّط. ولذلك فإننا لا نعجب من تلك القسوة اللفظية المرعبة التي يستعملها في حق المستشرقين عامة والكاتبة كرون خاصة. ورغم ذلك، فإنّ عمل الكاتبة وبحوثها العميقة ونبشها للشواهد التاريخية القديمة والنتائج العلمية التي توصلت إليها جديرة بالثناء والتقدير من طرف رجل العلم المتجرّد من أحكامه المسبقة؛ رجل العلم الذي يملك العقل لا الإيمان. والكاتبة نفسها تؤكّد على هذه النقطة في أحد أعمالها مع مايكل كوك، وتقول صراحة بأن عملها هو عمل كافرة يتوجّه إلى كفار أو بعبارة أخرى ـ تفاديا لمصطلح كافر الذي يحمل شحنة تحقيرية ومزرية في القاموس العربي الإسلامي ـ، هو عمل كُتب من طرف شخص بلا دين لأناس لا دين لهم(13). ويبدو أن معاداة المستشرقين، هي عادة مُستفحلة عند الكثير من المثقفين العرب، مثل محمد أركون أو جمهرة الإسلاميين على بكرة أبيهم. لكن في الوقت الذي نَتفهّم فيه هؤلاء الأخيرين لأنهم متديّنون ولا يقبلون إطلاقا أن تُمحى مقدساتهم، فإننا لا نفهم هذا التعنّت والانغلاق من طرف مفكرينا العلمانيين وذلك عندما تَمَسّ إحدى أسس معتقداتهم الدينية التي شبّوا عليها منذ نعومة أظافرهم؛ إذا مست بالأخص شخصية محمد والقرآن، جميعهم، باستثناء واحد أو اثنين نشازا، جميعهم، العلمانيّ والمتدين على حدّ سواء، يفقدون رصانتهم ويتناسون شروط الموضوعية العلمية ويتنكّرون للعقل، ويتيهون في متاهات السباب والشتم. لم يحدث ولو مرة واحدة، بجدية وحزم، أن أقدم مفكّر عربي على دراسة السيرة والنص القرآني بروح نقدية بحتة خالصة للعلم؛ لا نجد عندهم إلاّ تمجيدا ومنافحة وانغلاقا مطبقا ضدّ تقنيات التأويل الحديثة والفيلولوجيا والنقد التاريخي. على العكس من ذلك فإن العلماء في الغرب أقدَموا، منذ قرنين من الزمن، على دراسة الكتاب المقدس (العهد القديم والإنجيل) دراسة نقدية مفصّلة وأخضعوه لتحليل فيلولوجي صارم ـ بعد التمكّن من اللغات السامية وإتقانها ـ يخلو من أيّ همّ دينيّ دفاعيّ. فالغاية التي كانت تحرّكهم هي اكتشاف الحقيقة وإعطاء تفسير موضوعي يقبله العقل للنصوص التي بين أيدينا، والتي اعتُبرت دائما من طرف السّلط الدينية اليهودية والمسيحية كلمة الله الخالدة، واكتشاف الجانب التاريخي لشخصيات العهد القديم وأنبيائه الذين صوّروا على شكل أسطوري خارج إطار الزمان. وفي عهد قريب منّا، أقدم مؤسّس التحليل النفسي فرويد، رغم يهوديته، على دراسة التوحيد اليهودي ومؤسّسه موسى بروح علمية نقدية خالية من أيّ همّ إيمانيّ. لقد حطّم كلّ الأساطير التي بُنيت عليها الديانة اليهودية، والخرافات التي حيكت حول مؤسّسها موسى (في الحقيقة هذا العمل بدأ قبل فرويد بسنوات عديدة في العالم الألماني وخصوصا على يد العالم القدير يوليوس فيلهاوزن “J. Wellhausen”): إذ أنّ الشواهد التاريخية والحفريات وعلم اللغات الساميّة والفيلولوجيا تُبيّن أنّ موسى كاسم علم، لا ينتمي أبدا إلى العالم العبريّ، بل إلى العالم المصري القديم مثلما تشهد بذلك أسماء بعض الفراعنة وأشهرهم رمسيس؛ وبأنّ الرجل موسى هو أحد أتباع الإصلاح الديني الذي أحدثه الفرعون إخناتون؛ وأنّ التوحيد اللاهوتي كان نتيجة لتوحيد المملكة واتساعها لتحتضن عناصر آسيوية وفينيقية وليبية، أي أنها كانت انعكاسا لشروط سياسية تاريخية محددة؛ وبأنه من المحتمل أنّ القبائل العبرية اغتالت مؤسّس هذا الدين وتبنّت ديانة يهوه، إله البركان والحرب في كنعان، ثم وقع الدّمج في مرحلة تالية بين يهوه وأتون؛ وأخيرا فإنّ عُقدة الذنب على مقتل مؤسّس التوحيد هي إحدى العلل السيكولوجية المحرّكة لفكرة المخلّص التي تميّزت بها اليهودية والتي ورثتها المسيحية والإسلام. لم يبق هناك من اليهودية، كما اعتدنا عليها في التواريخ المقدسة، شيء يذكر؛ اضمحلّت هالة القدسية على النبي موسى، مخلص الشعب العبري من الأسر والعبودية، التي روّجتها الميثولوجيا الدينية والتوحيدية بما في ذلك الإسلام، وقُذف بفكرة الشعب المختار في عداد الأساطير، وهذا كلّه على يد أحد أبنائها. أما فيما يخص المسيحية وشخصية المسيح والإنجيل، فإنّ جهود العلماء توصلت إلى نتائج ذات مستوى علميّ راق رغم التصدي اللاهوتي العنيف لها. لقد أُخضِع التاريخ المسيحي والنصوص الإنجيلية إلى نقد مفصّل، من طرف رجال ذوي كفاءات علمية عالية، نقد قوّض من الأساس كل البناء اللاهوتي والقواعد الأسطورية التي أسست عليها العقيدة المسيحية والتي صمدت لمدة قرون أمام تقلّبات التاريخ. لقد برهنوا على أن المسيحية ليست إلا أحد نتاجات رغبة الخلاص اليهودية، وأن المسيح (هذا إن وجد فعلا) هو من أبناء العالم التوحيدي اليهودي، وأنّ التطور اللاحق الذي أبعد المسيحية عن منبعها الأمّ، اليهودية، كان تطوّرا له منطق خاص لأنّ فيه استعارات متأتية من معتقدات دينية كانت سائدة في ذلك العهد في الإمبراطورية الرومانية. ولم يستطع العلماء الوصول إلى هذه النتائج إلاّ لأنهم تخلّصوا من أسر المعجزات والخوارق والتدخل المباشر للإله في مجرى التاريخ، وهي المعتقدات المؤسِّسة في الملل الثلاث. الدراسات النقدية محكومة بمسلّمة مبدئية وهي إعطاء الصدارة للحدث، للوثيقة التاريخية، ولا دخل للإله في مجرى الأحداث الطبيعية. إرناست رينان يُصرّح بأنّ جوهر النقد يتمثل في نفي أيّ شكل من أشكال الخوارق. وفي تقديمه لحياة يسوع يقول بأنه بالنسبة للمؤرخ لا مجال للخوارق وإلاّ فإنّ كل البناء النقدي يهوي على نفسه، لا بل إنّ نفي المعجزات أي تدخل الله في التاريخ أصبح معتقد كل ذهن متعلّم. هارناك هو أيضا اعترف بأنه لا جدال في أن كل ما يحدث في المكان والزمان يخضع للقوانين العامة للحركة وبالتالي فإن المعجزات، إذا اعتبرت كخرق للنظام الطبيعي، ليست ممكنة. لوازي قال بأن فكرة التدخّل الخارق الله، بالمعنى الكلاسيكي للمعجزة، هو فلسفيا لا يمكن تصوّره. رايناخ على أساس هذه المسلمة يرى أن النقد التاريخي له واجب مطلق في نفي تاريخية مقاطع الإنجيل التي تصوّر يسوع المسيح وكأنه حقق في شخصه إحدى نبوءات العهد القديم(14). أما الدراسات الإسلامية فهي حقا في حالة يرثى لها وبقيت تدور في حلقة مفرغة؛ لا أحد من دارسينا ومؤرخينا المعاصرين أقدم على نقد علميّ للقرآن وللسيرة، وآخر كتاب في هذا الشأن للفيلسوف الجابري هو مخيّب للآمال على جميع الجهات، إنه عبث لا أكثر ولا أقلّ. الدراسة النقدية العلمية تكفّل بها علماء الغرب بنفس تلك الروح التي حكمت دراساتهم للأديان الأخرى: كُتبها المقدسة ورجالها ومؤسسيها. وهي روح (أركّز على ذلك) مخالفة إن لم تكن مناقضة للهمّ الديني وللإيمان الأعمى: غايتها اكتناه الحقيقة وتعرية مزاعم المتدينين الذين يريدون الإبقاء على الأشياء كما هي، وذلك ببثّ الجهل والعماء في قلوب الناس غير متوانين عن ابتداع الأساطير واختلاق الأكاذيب ومزج الخيال بالواقع. إن كُتّاب السيرة والمُحَدّثين القدامى هم المسؤولون عن العتمة والغموض والإلتباس الذي يلفّ أحداث التاريخ الإسلامي الأول: تكفي تناقضاتهم الصارخة واختلافاتهم الجلية كي تخلع عنهم المصداقية وتنزع أثر الصدق عن أغلب أقوالهم. إنهم يقولون الشيء ونقيضه، يؤكّدون الفكرة في موضع وينفونها في آخر، يُقوّلون محمّدا أشياء وينقضونها بأشياء أخرى(15). إنّه وضع يؤدّي حقا إلى اليأس والإحباط والكآبة الذهنية، ونتيجته النظرية هي تدمير العقل ومحو التفكير النقدي، أمّا نتائجه العملية فلا تقلّ سلبيّة لأنها تُربِّي الناس على الكذب والمراوغة واختلاق الأقوال الخيالية ثمّ نقضها دون حرج، وفي نهاية المطاف لا نحصل إلا على الجهل والعنف وإرادة كَسر من يعارض الخرافة وينقضها ومن يُعمل عقله بجدّ وحزم. 2 - التاريخ والإيمان: بخصوص السيرة النبوية وتاريخ ما قبل الإسلام لدينا جبهتان متقابلتان أشدّ ما يكون التقابل، جبهة المؤمنين وأتباعهم، منذ بداية التأريخ الإسلامي إلى يومنا هذا، وهي جبهة تمزج التاريخ الدنيوي بالمقدس وتلفّ الأحداث بلحاف المعجزات والخوارق، يَختفي فيها كلّ مدلول دنيويّ واقعيّ. وحتى إن أقلعت نسبيّا، كما هو الشأن في التواريخ الحديثة، عن إيراد الأساطير بلغة فجّة فإنها تُنظّمها وتُقننها في لغة حديثة لكن تترك محتواها ثابتا كما هو. أما الجبهة المقابلة فهي جبهة المستشرقين؛ أناس بلا دين، أو على الأقل، إن كان لهم دين فهو مُعلن عنه، لأن جلّ الدارسين الغربيين لا يتشبّثون مرضيا بمعتقداتهم وهم على وعي بأن أعمالهم مُراقبة من طرف مستشرقين آخرين قادرين على كشف الزيف والأغراض المبيتة، ونقض ما يستحقّ النقض من أطروحاتهم وتحاليلهم. مكسيم رودنسون رجل بلا دين وقد صرّح بذلك في مقدمة كتابه عن محمد، وآخرون عديدون أمثاله. أما منتغمري واط، فإنه رغم اعترافه بأنّ مسيحيّته تمنعه من الاعتقاد في نبوة محمد فإنّ عمله لم يتأثر بمعتقداته تلك، وجعيّط نفسه يشهد بذلك ويشيد أكثر من مرة بأعماله. والمثقف العربي الذي اختلطت السيرة المقدّسة بلحمه ودمه منذ صباه، كما تناقلتها كتب التاريخ الإسلامية، يُصدَم حينما يَطّلع لأوّل مرّة على تلك التواريخ الغربية، لأنّ ذهنه، الذي رُبِّي على التمجيد والتلفيق، لا يقدر على تحمّل الحقائق التي تُبسط أمامه؛ وتنتابه الحيرة ويتمكّن منه اليأس. رجال صُوّروا على شكل أنصاف آلهة يَكتشف بغتة أنهم كانوا أمثالنا أو أقلّ منّا فضيلة؛ قِيَم وتصرّفات حياتية متضاربة مع قيَمنا ومقتضيات روح عصرنا، ومتنافية حتى مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان بل في تضارب مع مقوّمات كرامته كإنسان؛ أخلاق لا فضيلة فيها بل هي متقلّبة مع الظروف وخاضعة لمبدأ الغاية تبرّر الوسيلة. كلّ هذه السير السّلبية، بمنظور معاصر، تُوضع أمامه في عرائها وكأنها أشياء جديدة، ومن هنا تأتي في كثير من الأحيان إرادة التبرير والإعراض عن الحقائق وتغطيتها والتعسّف في الحكم على من كشف اللثام عنها وأظهرها. والمؤرخون العرب، أغلبهم، إن تطرّقوا للسيرة فإنهم لا يساعدون الناس على اكتساب نظرة نقدية، بل الغالب عليهم هو نقض ما جاء في أعمال المستشرقين وتبرير ساحة السيرة والتاريخ الإسلامي ممّا أورده الدارسون وأثبتوه في بحوثهم. أن تكون التواريخ الإسلامية القديمة مسكونة بالهاجس اللاهوتيّ التبريريّ، فهذا أمر طبيعيّ ومرتقب في زمن لم يتخلّص فيه الإنسان كلّيا من أسر الأسطورة والدين. فكما أنّ التواريخ المسيحية عمدت إلى تمثّل مسار الزمن على أنّه مسار خطّيّ ذو نقطة بداية ونقطة نهاية وبينهما تهيئة للبشارة العظمى، فإنّ التاريخ الإسلامي لم يشذّ عن هذه القاعدة التي هي عماد التاريخ في أيّ نظرة لاهوتية خلاصية للزمن. لكنّ المؤرخ الحديث، صاحب العقل النقدي، لا ينبغي عليه بأيّ حال من الأحوال أن ينساق وراءها، وليس من واجبه أن يعيد إنتاج تلك النظرة الخلاصية المنافية لمعنى التاريخ الوضعيّ. لكن، إن لم أخطئ، والقارئ يصحّحني إن كنت على خطأ، هناك عند جعيّط حضور لمقولات لاهوتية إسلامية ذات منحى أشعريّ، يُعرَض على أساسها تاريخ الأديان مُكتظّا بالمعجزات وبأنبياء خارج إطار المعايير الإنسانية، لأنهم أرفع منه مرتبة ومتعالون على حتميات التاريخ: « لم يولد محمد في المدار الهندوسي، بل ولد في المنطقة الرومانية ـ السامية المطبوعة بالتراث التوحيديّ، بخط معين من هذا التراث، متحرّك بمنطق داخلي كان يصنعه منذ ألوف السنين. تفصله ستّة قرون على المسيح، كما كانت ألف سنة تفصل المسيح عن موسى. إنّ مؤسسا دينيا يريد أن يكون عموما مصلحا داخل تراث ديني، لكنه يكون مجبرا، بالرفض، على تأسيس دين جديد، وهو لا يولد في كل قرن، لأن الأمر يتعلق حقا بشخص خارج عن الإنسانية العادية ويساهم بدوره وبكيفية مباشرة جدا في بناء الإنسانية (16)». لا تغيب عن الموضوع نظرية ختم الوحي وما تحمله من نتائج خطيرة سواء على المستوى النظري أو العملي وما تختزنه من تعاليم لاهوتية ونفحات إصلاحية. وهو يستشهد بقولة للشاعر الفيلسوف محمد إقبال، قولة يُكذبها التاريخ الإسلامي والواقع العيني جملة وتفصيلا: «فبَعد محمد لا دين عالمي، وبالطريقة ذاتها وَجد فيه التراث التوحيدي خاتم الأنبياء حقا، كما جاء في القرآن، وهذا معناه أن كل وحي قد انقطع بعد محمد، وأن صلة الله بالإنسان قد اكتملت، وأن دين إسلام الإنسان لله قد دشن عصر نهاية الحوار بين السماء والأرض، أو حتى كما كان يقول إقبال إنه افتتح عصر نهاية وصاية الإلهي على البشري، وبالتالي انعتاق الإنسان (17) ». كما أنّ المسيحيّين قالوا بأنّه بعد المسيح لا دين عالمي، وبأنّ علاقة السماء بالأرض قد انتهت وقضي الأمر إثر مجيء المخلّص، فإنّ أيّ مسلم لا يمكن له إلاّ أن ينسج على ما قاله المسيحيون، أي الإدعاء بأنّه لا دين عالمي بعد الإسلام وانقضت حركة التاريخ الخلاصي واستقلّ الإنسان بنفسه عن سلطة السماء. وقد سقط في هذا النوع من الهذيان كثير من المفكرين والفلاسفة ولم ينج منهم إلاّ القليل. لكن هذه الأطروحة هي في حقيقة الأمر استعارة ممسوخة من فلسفة التنوير: الفلاسفة الماديون قالوا بأن الدين كمجموعة من المعتقدات الأسطورية قد انتهى، وأنّ الفكر المادي الجديد حرّر الإنسان من ربقة الدين وتخلّص نهائيا من وصاية السماء. المتدينون مشهورون بالاختراق والاحتواء، تبنّوا النتيجة ولكنّ المقدمة أرجعوها إلى دينهم، كما فعل بعض المنظّرين إبان الثورة الفرنسية حينما قالوا بأن مبادئ تلك الثورة مشتقّة مباشرة من تعاليم المسيح. إن كلام محمد إقبال هو مجرّد أمنية أسقطت على الواقع، هذا الواقع المتعنت عن الأماني. ولقد ردّد هذه القولة أيضا بشيء من الافتتان مفكر تونسي آخر هو عبد المجيد الشرفي، بل إنّه ذهب في مقدّمته لكتاب محمّد إقبال “تجديد التفكير الديني في الإسلام” إلى أنّه «بلا منازع أحد النصوص (التأسيسية) في الثقافة الإسلامية الحديثة والمعاصرة»، هذا رغم اعترافه بأنّ الرجل ينوي استحداث أكليروس مشرّع في العالم الإسلامي على الشكل الكهنوتي، و«يقبل عدم المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث وغير ذلك من الآراء المتأثرة بمستوى المعرفة في عصره». ومع ذلك فإنّ هذا النص لإقبال يبقى، حسب الشرفي، شامخا لا يتجاوزه الزمن إلاّ في الجزئيات غير الخطيرة. لا أوافقه الرأي، هذا النص التأسيسي، مملوء سطحيات وتنطعات وأسماء علماء عرب وغربيين معروضة هكذا دون روابط منطقية. لم يتعمّق صاحبها ولو في فكرة واحدة، ولم يستنفد موضوعا واحدا بجدية وكفاءة معرفية. إنّ مقولة محمد إقبال لا يقبلها نظريا وعمليّا أيّ مسلم، لأنّ وصية السماء على الأرض مازالت متواصلة إلى حدّ الآن، ومتمكّنة أشد ما يكون عليه التمكن من ذهنية الإنسان المسلم وتُوجّه حياته في شتّى مجالاتها؛ لم ينعتق الإنسان، وبالأخص الإنسان المسلم من سلطة الإله والوحي والدين، بل ازداد سجنه والدليل على ذلك أنّ العديد من المنظّرين، لم ينفلتوا من أسر قيودهم الدينية ومن تمذهبهم وانحيازهم للعقيدة الإسلامية في منحاها السنّي الأشعري. والدليل على ذلك أيضا أنّ المؤرخ جعيط، ومن قبله إقبال، سقط في أحكام قيميّة تَحطّ من شأن الأديان التي سبقت الإسلام، وتجعل من هذا الأخير ذروة ما يمكن أن ترقى إليه الديانات التي تنتمي إلى التراث التوحيدي. وهذا هو لبّ ومغزى التوجه الأسطوري الذي تُركِّز عليه، في كل إنتاجاتها، الأدبيات الإسلامية بجميع مشاربها وبمختلف توجّهاتها: اليهودية لم تكتمل لأنّ رسالتها نزلت لشعب واحد دون الناس، والمسيحية ناقصة لأنها شوّهت الوحدة الإلهية المتعالية وأدخلت فيها مفهوم التعدد والسرّ، اللاهوت المسيحيّ ممزوج بالشرك لأنّ عقيدة التثليث تعني تعدّد الآلهة، وهلم جرّا :« ما هي حصّة الإسلام ومساهمته في التراث التوحيدي؟ وبماذا كانت إنسانية العام 600 في حاجة إلى نبي جديد، تلك الإنسانية التي كانت المسيحية تغطيها في مجالاتها المركزية؟ كان تطور التوحيد، من حيث منطقه الداخليّ، بحاجة إلى تشديد أكبر على التوحيد والتعالي الإلهيين. وهذا لا يعني أنّ هناك رجوعا إلى اليهودية من فوق المسيحية: إذ لا وجود في تطوّر الأديان، لرجوع إلى الوراء. فلم تكن اليهودية ديانة عالمية، وكانت المسيحية، على الرغم مما يقال فيها، قد مست حقا بنقاوة الواحد المتعالي وتنزيهه، في الوقت الذي كانت تبالغ فيه بإدخال عنصر السرّ.(18) ». تلك هي مواصفات الأديان السابقة على الإسلام ونقاط ضعفها، وها هو لبّ الثورة الإسلامية في ميدان اللاهوت والتوحيد، والتي يُمكن أن نحدسها وأن تنبأ، بيُسر، بجدّتها: إنها تجاوز فذّ وفريد من نوعه لكلّ الأديان السابقة، تجاوز يحمل معالم جديدة كامنة فيه منذ البداية في صورة مكتملة ونهائية لم تخضع للتطور وخارجة عن الزمان، خلّفت وراءها خصوصية اليهودية واحتكارها للرسالة الإلهية، وهي أيضا في جوهرها نظرة عقلانية جديدة قضت على الثالوث المسيحي الذي أدخل التعدد في الوحدة ولم يستطع تبريرها فانبرى بالصمت أو بحجاب السرّ: « وكون التنزيل الإسلامي قد حدث في عالم وثني ـ العالم العربي المحلّي ـ الذي لم ينس أبدا اعتقادا قديما في ربّ العوالم وهو الإله أو الله الذي كانت تضاف إليه آلهة أخرى، فإنّه قد دفع القرآن لإدخال الحوار العقلاني والتشديد بشكل واضح على هذا التوحيد. لقد كان منذ البداية، لأنه من غير الصحيح القول إن الشخصية الإلهية راحت تبرز في الوحي ببطء وعلى مراحل: ففي وقت مبكر جدا، كانت حاضرة، بلا سلف ولا خلف، بلا سابق ولاحق؛ كما أن الإسلام طرح وجوده بوصفه ديانة مستقلة منذ البداية تقريبا، كما طرح نفسه بوصفه الدين الحق أيضا. فلم يسبق أن اكتُنِه الإله الواحد مثلما جرى اكتناهه في القرآن، مع أسمائه الحسنى التسع والتسعين، الصفات الأزلية لله الذي أتم تجليه وكشفه للإنسان. فهو ليس فقط إله الحرب أو الرحمة: إنه إله ذو غنى شخصي خارق ينكب القرآن على سبر أغواره. فياله من تطور منذ يهوه! فعلى هذا النحو سيطوّر الإسلام لاحقا، علما كلاميا ذا غنى عظيم بقدر ما كان القرآن يفتح، حقا، آفاقا واسعة أمام معرفة الله. كما أنه يفتح آفاقا أخرى بحكم البنية المباشرة للوحي، كلام الله المباشر، وليس مجرد إلهام واستيحاء. فقد جعل النبي نفسه وعاء سلبيا يتقبل الكلام المتنزل على قلبه: إنه يتلقاه، أي يتلقى بعضا من الله أو الله نفسه، [ وفي الهامش يبين مذهبه كاشفا عن مرجعيّته الكلامية الأشعريّة: " خلافا لما ارتآه المعتزلة في القرن 2 / 8 م.] ... وبالتالي يتلقى الحضور الإلهي. وبهذا نرى أنّ الإسلام ليس مجرد عودة إلى اليهودية، بل هو يأخذ على كاهله موضوعة تجلي الله على الأرض، مع اختلاف عن المسيحية، قوامه أن الله، هنا، قد تجلى في الكلمة، تجسد في الكلام المتعالي (19) ». الجُمل والعبارات المفردة التي سطّرتها في النصّ أعلاه هي مُحرجة وخطيرة جدّا: لأنّ المطلوب من المؤرخ مبدئيا هو الموضوعية في سرد وقائع التاريخ وتمحيص الشهادات السابقة واستقراء الظروف الماديّة التي أنتجت الوقائع وجعلتها ممكنة، ومن الواجب عليه ألاّ يسقط في فخّ الأحكام المسبقة، أو التسرّع في التقسيم الهرميّ التفاضلي للأنظمة الفكرية والإيديولوجية وبالأخص الدينية التي أنتجتها الثقافات المختلفة وألا يتمذهب لدين ضد آخر. إلاّ أنه، من خلال هذه الفقرة وأخر مبثوثة في كتاباته، تتمظهر أمامنا تحكّمات امتزجت بكُتلة من أفكار مسبقة، وتبريرات لاتاريخية، بل لاهوتية للإسلام كما ارتآه ودأب عليه كل مسلم مُنذ صباه. الأحكام السلبية على الأديان الأخرى هي مكوّن جوهري في اللاهوت الدفاعي، لكنّ المؤرخ يمنعه علمه ومنهجه الوضعي واحترامه للحقيقة من تفضيل دين على آخر. لا يمكن له التحزّب لأي منها لأن مرجعه الأوحد هو العقل، وبالعقل يعلم علم اليقين أن الأساطير تتساوى في لاعقلانيتها وبالتالي لا تفاضل جوهري بين المنظومات الدينية. على هذا الأساس، ونظرا لغياب هذه العناصر المنهجية، لا نُجحف إن اعتبرنا هذا الصنف من التفكير إقلاعا مُحرجا عن مهمة المؤرخ المتشبث بنهجه العلمي، ومنعرجا خطيرا من شأنه أن يُفرغ الخطاب التاريخي من موضوعيته المنشودة، وربما يقضي على جديته بالكامل. لست أدري: لمن يكتب المؤلف؟ أو بالتحديد، لمن يُريد إيصال خطابه؟ ألِقرّاء عرب ومسلمين أم لقرّاء غربيين؟ الكتاب كُتب باللغة الفرنسية أوّلا، يعني يتوجه لمجتمع غربي ولمثقفين ذوي مستوى فكري متوسط أو عال، يهود أو نصارى كاثوليك أو بروتستان. لكن الكتاب تُرجم أيضا للعربية، إذن يمكن القول بأنّه يتوجه أيضا لشرائح عريضة من المثقفين العرب اليهود والمسيحيين والمسلمين: الكتاب يخاطب كليهما. كل شريحة من هؤلاء الناس يمكن تجزئتها إلى جزأين متقابلين ومتنافرين: في العالم الغربي والعالم العربي هناك شريحة المؤمنين وشريحة الكافرين. عند اطلاعه على هذه الأطروحة فإنّ المؤمن اليهودي سيعارض كلام المؤرخ وينافح عن دينه ويدافع بشدة عن معتقده، سيُبيّن أن اليهودية لم تكُن هي وتعاليمها وحدة ساكنة ومستقرة عبر العصور بل تجاوزت خصوصيتها منذ عهود قديمة وتخلصت من تشبثها بمقولة الشعب الواحد وتبنّت عوضا عنها مقولة الشمولية. البعض منهم يؤوّل النص التوراتي على أنه كان حاملا منذ البداية لهذه الرسالة: ألاّ تَعتقد إلا في إله واحد، والكلمة العبرية أحد هي تعبير عميق عن ذلك المنحى وتصوير صادق لذلك المفهوم الشمولي. إن الإله يهوه هو إله واحد ولا فرق بينه وبين الله من حيث الصفات والأفعال، والقرآن لا يضيف شيئا جديدا على مفهوم الألوهية. أما المسيحي المؤمن فسيثور على هذا التبسيط المُغرض لدينه وسيرفض هذا التشريح القاسي لمعتقده بكل تشعّباته واختلافاته وثرائه. سيُبين أن مقولات السرّ والغيب والمعجزة هي مكوّن عضوي في كل الأديان ولا ينجو منها أي معتقد لاهوتي بما فيها الإسلام. لا أحد منهم، في نهاية المطاف، يملك استعدادا لتبنّي مقولة أن ديانته هي ديانة غير مكتملة، ناقصة وتستحق التجاوز نحو شكل جديد لتصور الألوهية بصفاء ونقاء كما يزعم المؤرّخ. هذا الأمر محال لأنه يتضارب مع إيمانه ويحطّ من مكانة دينه ويجعل من كامل توجهه الروحي صورة باهتة لنموذج دين مُكتمل ونقيّ بحيث لا دين بعده، خلّف لاهوتهم وتعاليمهم الدينية إلى الوراء بشكل لا رجعة فيه. إن لم تكن هذه الآراء إسقاطا لنظرة دينية متحيّزة ولمذهب معيّن فلست أدري ما تكون بالضبط. أين هو التاريخ وأين البحث الموضوعي والاستشهاد بالنصوص؟ لا شيء من هذا. لا شيء حقا، بل إن الكاتب، كما هو مألوف عند كثير من المفكّرين الإسلاميين، استشهد بالقرآن لتأييد آرائه المناقضة للتاريخ وحتى لكثير من التيارات الفكرية اللاهوتية والفلسفية في الإسلام. لكنّ أقوال جعيّط هي أشدّ وقعا على الفرقة الثانية، أعني الفلاسفة والمفكرين الأحرار، ذلك لأنها لا تحمل ذرة من المعقولية ولا يقوم عليها أيّ برهان مُقنع. أودّ أن أفنّد الأطروحة التي يرددها العديد من المفكرين العرب المحدثين، ومن بينهم جعيّط، من أن تصوّر الإله في القرآن كان تصورا نقيا صافيا خلّف وراءه اليهودية والمسيحية، ليس بإيراد أقوال مستشرق غربي بل بأقوال مفكّر مسلم، أعني الفيلسوف ابن سينا. في معرض حديثه عن المعاد وماهيته من وجهة نظر فلسفية، يتناول ابن سينا، في كتابه “الأضحوية في أمر المعاد”، مسألة الشرع والنص القرآني وكيفية تأويله وتعليل أسباب اشتماله على كلام تشبيهي وخلوّه من اللاهوت العقلاني، يقول: «أما الفرقة الجاعلة المعاد للبدن وحده، فالداعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات [...] أما الشرع فينبغي أن يُعلم فيه قانون واحد وهو أن الشرع والملل الآتية على لسان نبي من الأنبياء يُرام بها خطاب الجمهور كافة. ثم مِن المعلوم الواضح أن التحقيق، الذي ينبغي أن يُرجع إليه في صحة التوحيد ـ من الإقرار بالصانع مُوحَّدا مُقدَّسا عن الكم والكيف والأين والمتى والوضع والتغيّر، حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع أو يكون لها جزء وجودي كمي أو معنوي، ولا يمكن أن تكون خارجة عن العالم أو داخلة فيه، ولا بحيث تصح الإشارة إليه أنه هناك ـ مُمتنع إلقاؤه إلى الجمهور. ولو ألقي على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين الأجلاف، لتسارعوا إلى العناد، واتفقوا أن الإيمان المدعوّ إليه إيمان معدوم أصلا(20)». في الوقت الذي يَعمَد فيه المؤرخ المعاصر إلى وصف الخطاب القرآني بالعقلانية والتشديد، بشكل حازم، على التوحيد كصفة مميزة له من دون الأديان الأخرى، في صورة نقيّة لا مثيل لها ولا سابق، مثبتا قوله بأسمائه التسع والتسعين وصفاته الأزلية ومتجاوزا اللاهوت اليهودي الممثل في شخص الإله يهوه، فإن الفيلسوف ابن سينا الذي سبق الكاتب بألف سنة تقريبا يُقدّم أطروحة تنقض آراءه جملة وتفصيلا: وقد اختار الرجل لبيان رأيه مقولة حساسة وخطيرة ألا وهي البعث والمعاد يوم القيامة. إن البعض من أصحاب الكلام، واعتمادا على نصوص الشرع، القرآن والأحاديث، التي تذكر معاد الأبدان، اعتبروا النفس جسما ما، وعادوا الفلاسفة الذين اعتبروها صورة روحانية مفارقة للمادّة. لكن ابن سينا، للخروج من المأزق الذي يطرحه النصّ القرآني والذي يبدو مدعّما لآراء المتكلّمين، يقدّم قانونا عاما بخصوص كيفية التعامل مع النصوص الدينية: وهو أن الأديان والملل جاءت لتخاطب الجمهور كافة، أي أغلبية الناس التي تحتاج، بحكم عدم امتلاكها للأدوات المعرفية والطاقات الذهنية الضرورية للمسك بمقولات التوحيد التجريدية، إلى تطويعها وتبسيطها بكلام تشبيهي يُقرّب لها تلك المفاهيم المجرّدة. التوراة جاءت كلها تشبيها والقرآن كذلك: «ولهذا ورد التوراة تشبيها كله، ثم لم يرد في القرآن من الإشارة إلى هذا الأمر المهم شيء ولا أتى بصريح ما يحتاج إليه من التوحيد بيان مفصل، بل أتى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر، وبعضه تنزيها مطلقا عاما جدا لا تخصيص ولا تفسير له. وأما أخبار التشبيه فأكثر من أن تحصى، ولكن القوم لا يقبلونها(21)». لا فرق إذن في مسألة التشبيه بين ما جاء في التوراة وما نص عليه القرآن: كلاهما يخضعان لنفس العملية وينتهجان نفس المنهج التعليمي، أي تقريب المفاهيم المجردة إلى وعي الناس عن طريق الأمثال والاستعارة. خطاب الكتب المقدّسة إذن خال تماما من العقلنة وفاقد للتجريد وهذا أمر ضروري لأنه لو ألقيت هذه الأمور على حالها إلى الجمهور «لتسارعوا إلى العناد واتفقوا أن الإيمان المدعو إليه إيمان معدوم أصلا». لا يرقى الخطاب الديني إلى مصاف التنظير العلمي، لا في مجال التوحيد فقط، وهو المجال الأساسي في الأديان الكتابية، بل في ميادين نظرية أخرى، رغم أنّ المؤمنين لا يقبلون بذلك: «ولكن القوم لا يقبلونها. وإذا كان الأمر في التوحيد هكذا، فكيف فيما هو بعده من الأمور الاعتقادية». لقد قوّض ابن سينا مُسبقا كلّ الإدعاءات التي تُفاضل بين النصوص الدينية وتجعل من آخرها زمنيّا، أي القرآن نصّا عقلانيا يُخاطب مدارك الإنسان ويستخدم البرهان. أرى أن المؤرّخ جعيّط، في هذه النقاط، انفصل عن مهمّته ودخل في مماحكة جدالية تشبه إلى حدّ بعيد تلك التي تسود كتابات الإسلاميين وأدبياتهم. | |
|