يعرف الجميع مقولة "الغالب يكتب التاريخ" لكنّ القليلين لديهم المعرفة الكافية والأدوات النظرية المناسبة لتمييز "تاريخ الغالب" فيما يقرؤون. التاريخ ليس علماً بل هو صنف أدبيّ من أقدم أصناف الأدب (1). فالكتابة نشأت كتدوين لمعاملات ماضية وما تبعها من صادرات وواردات إلى خزينة الملك أو المعبد، أي ما نسمّيه الآن المحاسبة أو الدفاتر. هذه السجلات هي في الحقيقة أقدم التواريخ. ثم تحوّل التسجيل إلى تدوين معاملات من نوع آخر أكثر رمزية كتاريخ الملوك وحروبهم وانتصاراتهم وعناية الآلهة بهم أو عنايتهم بالآلهة. والصادرات والواردات هنا رساميل رمزية. فأيّ انتصار هو زيادة في رأسمال سلطان الملك في أذهان الناس وهزيمته نقصان في هذا الرأسمال. وهنا تكون كتابة الغالب للتاريخ صنفاً من تزوير الدفاترالحسابية. وهذه النظرة الرأسمالية للتاريخ ليست بالغريبة عنّا لأنّها عماد الإسلام. فالله، عن طريق ملائكته الكاتبين الحافظين (2)، صاحب أكثر الدفاتر دقّة وأمانة (3). فهو إذاً أفضل "ماسك للدفاتر الحسابية" وأكثر المؤرّخين أمانة. فلا عجب إذاً أن يكون "ربّ العالمين" (أي "سيّد الزمان")، لأنّه لا تأريخ بلا زمن متحرّك أبداً.
والمؤرّخ الأمين والمحظوظ يضع نفسه خارج لعبة تزوير الدفاتر، إن أمكن، بأن يمعن النظر في الصادرات والواردات المشبوهة، التي لا تعكس حركة حقيقية للرساميل الرمزية. فمثلاً عندما ننظر إلى تاريخ الإسلام كما نعرفه اليوم نرى أنّ أهل السنّة يراكمون الانتصارات (أي رساميل السلطة) باطّراد دون أن يخسروا معركة واحدة (4). وكلّنا يعلم أنّ حركة سوق الرساميل عشوائية كالطقس، ممّا يجعل الربح المستمر حدثاً طارئاً صغير احتمال الحدوث. ويصغر احتماله مع كلّ انتصار جديد يعقب آخرين. فنحن نعرف أنّ احتمال الحصول على الصورة (مقابل النقش أو الكتابة) في رمي قطعة النقود مرتين متتاليتين هو الربع، وثلاث مرات متتالية هو الثمن وخمس مرات متتالية هو جزء من اثنين وثلاثين جزءاً، وهكذا يقترب الاحتمال من الصفر كلما زدنا "انتصاراً" متتالياً "لانتصاراتنا" المتمثّلة بالصورة هنا. لكنّ هذا التاريخ "المفبرك" ضروري لرسم صورة للمذهب المنتصر وكأنّه "الصراط المستقيم" (أي الأرثوذوكسية)، ولفرقته وكأنها "الفرقة الناجية"، ولأفكاره وكأنّها أفكار المؤسس ذاتها، أي هي بالتالي ما أراده الإله من إرسال مبعوثه إلى البشرية. وتصبح الصورة المعاكسة، أي الخسارة المستمرّة، تاريخاً مفبركاً أيضاً. والصورة المعاكسة قد تكون تاريخ التشيّع المستضعف أبداً أو التصوّف المستهدف أبداً. وبهذه النظرة الناقدة تصبح المعارك المذهبية الراهنة، من اتّهام السنّة للشيعة بالهرطقة ومن اتّهام الشّيعة للسنّة بالاستكبار، مهزلة مضحكة في الفبركة التاريخية العنيدة.
وهنا لن أشغل بالي إلا بتفكيك تاريخ "انتصارات" أهل السنّة ومذهبهم. والحال في الحقيقة أكثر تعقيدا من مسيرة منتصرة تتخلّلها بعض المطبّات والعقبات التي لا تلبث أن تزول. أولاً، إنّ تاريخ المذهب الواحد المتماسك الذي نقل بأمانة رسالة المؤسّس ما هو إلا تواريخ لفرق متعدّدة ومتنافسة ولسيرورات متوازية أو متعاقبة قضى بعضها على الآخر أو امتصّه وانتحل تاريخه. والحقيقة هي أنّ الإسلام لم يكن يوماً إسلاماً واحداً وإنما "إسلامات" تختلف حسب المكان والزمان. ثانياً، انتصارات اليوم تُسقِط حاضرها الباهر على التاريخ الماضي فتحوّله إلى مسيرة نضالية طويلة ذات نتيجة حتمية، لأسلاف وأجداد وهميين في انتمائهم إلى المذهب المنتصر اليوم. ثالثاً، المذهب المنتصر اليوم والمدّعي الأغلبية لم يكن إلا قزماً وأقليّة بالأمس، كاد أن ينقرض من التاريخ لولا أن تبنّاه سلطان يحلم ببناء إمبراطورية جديدة ويريد مذهباً محافظاً مؤسساتياً قادراً على أن يتحوّل بسرعة ونجاح إلى مؤسسة ملكية لتأطير المجتمع وإضفاء الشرعية على الإمبراطورية الجديدة. ولنأخذ أمثلة على عوامل التعقيد السابقة الذكر. المثال الأوّل سيكون تاريخ حركة تدوين الحديث وارتباطها بالفقه كأساسين لمذهب أهل السنّة. والمثال الثاني هو تاريخ المنافسة الشيعية والصوفية التي كادت أن تقضي تماماً على المذهب السنّي. وكلّ من هذين المثالين يحتوي على واحد أو أكثر من العوامل سابقة الذكر.
ولا بدّ من التنويه هنا أنّ التسمية، أي "المذهب السنّيّ"، جاءت متأخّرة وذلك لأن المذهب ذاته استهلك عدة قرون ليأخذ شكله الحالي. ويطابق علماء السنة اليوم بين تسميات "أهل الحديث" و"أهل السنة" "وأهل الجماعة" رغم أنّ هذه التسميات دلّت على سيرورات مختلفة امتصّها المذهب السنّيّ عند بدء وضوح معالمه في القرن الرابع الهجري (5). وهنا تجدر المقارنة مع المسيحية التي بدأت تظهر معالم مذاهبها "المنتصرة" (أي الأورثوذوكسية الكاثوليكية) خلال القرن الرابع الميلادي. فحريّ بنا أن نبدأ بتاريخ أهل الحديث، وأفضّل أن أسميها حركة أهل الحديث لأنها فعلاً أخذت شكل حركة اجتماعية.
"الحديث" في رأيي دالة على خبر ذي صبغة دينية في الأغلب، ولاحقاً اقتصرت الدلالة على أقوال منسوبة إلى محمد (6). والحديث يشبه القصص بكونه خبراً مرتبطاً بالدين الناشىء، لكن يختلف عنها بكونه يصف حقيقة تاريخية مزعومة. فالقصص حكايات وعظية مختلقة عن شخصيات التوراة (أي "أساطير الأولين") تزيد إلى هيكل القصة التوراتية عناصر درامية ضرورية لعملية الإلقاء الشفوي من شعر وحوار وأحداث. وقد كان المستمعون يعرفون أنّ تفاصيل هذه القصص مختلقة، لكنّ استعدادهم لتلقي الموعظة وشوقهم إلى الدراما التاريخية كان يجعلهم يتغاضون عن المبالغات والزيادات. وللأسف فقد دخل بعض هذه القصص في الأقوال المنسوبة إلى محمد والتي سميت لاحقاً بالأحاديث. أما الخبر فهو عامّ وينطوي تحته الحديث كصنف جزئي. الخبر قد يكون عن سهرة عربدة أو نسيب شاعر، لكنّ الحديث أكثر جدية ويحتوي على موعظة أخلاقية أو درس مفيد للسامعين. والحديث لا يكون إلا عن المستجدّات لأنّ الفعل "أحدث" يعني "أتى بجديد"، والحديث هو خبر الواقعة الجديدة. وهذه الأفعال أي القصّ والإخبار والتحديث ليست بالضرورة أعمالاً مأجورة وإن كانت كذلك في أحيان كثيرة. وهي ليست مهناً اختصاصية وإنما ممارسة تليق بالمناسبة والمتكلم والمستمعين والموضوع.
أمّا متى اقتصرت كلمة الحديث على أقوال وأفعال منسوبة إلى محمّد فهذا لا يمكن تحديده بدقة لكون العملية سيرورة تغيُّرٍ استمرّت عشرات السنين. لكني أعتقد أن هذه المطابقة بدأت أواخر القرن الأوّل الهجري (مع بداية شيوع الإسناد) واستمرّت إلى النصف الثاني من القرن الثاني حيث انفصل أهل الحديث عن القصاصين والإخباريين وحلت العداوة بينهم (7). إنّ عمليات توليف أيّ حديث ونقله ونشره وإسناده سارت بالتوازي مع بعضها البعض. ومن الصعب تحديد بداية كلّ عملية بالنسبة إلى حديث ما، لكن من الممكن حصرها في فترة زمنية لا تتجاوز الخمسين سنة. وبعد حركة التدوين التي بدأت في منتصف القرن الثاني الهجري بدأت عملية نخل هذه الأقوال وانتقاء ما يصلح (بمعايير مختلفة) أن يُنسب إلى محمد. إنّ انتقاء خبر أو مقولة لتصبح حديثاً بالمعنى الجديد اعتمد على المعنى وأهميته بالنسبة للشخص المنتقي أو الجماعة المنقية. ولهذا فإننا نجد أحاديث متناقضة تحويها مصنفات الحديث المختلفة التي بدأت تظهر في أواخر القرن الثاني واستمرت بالظهور إلى بدايات الرابع الهجري. هذه المصنفات هي العلامة الفارقة للمرحلة الرابعة (أي بعد نشوء الخبر، تحوّله إلى حديث نبوي، ثم تدوينه)، التي معها بدأت مرحلة تعليم الحديث فأصبح "طالب العلم" يكتب سماعاته المختلفة في رحلته ثم يصنفها (حسب الإسناد أو الموضوع أو درجة الوثوق)، فاختلطت الأحاديث القادمة من منشأ واحد.
وفي مرحلة التصنيف تمّ نخل الأحاديث بمعيار الوثوق في أمانة الراوي وحسن روايته. وكانت هذه مرحلة مهمة حيث أضفت مزيداً من القدسية والشرعية على الأخبار والأقوال التي نسبت إلى محمد وسُمّيت بالأحاديث النبوية. هذا النخل قام به أهل علم الرجال والجرح والتعديل وهو وليد بدايات القرن الثالث الهجري. هنا كان لا بدّ من كتابة تاريخ للحديث، فكانت التراجم هي الصنف الأدبي الأمثل، لأنهم في الحقيقة لم يكتبوا تاريخ تطور الأخبار إلى أحاديث (فهم اعتقدوا أنّ الأحاديث أتت كلها من محمد) وإنما كتبوا تاريخ ما تصوّروا أنه نقل لهذه الأحاديث. أي أنّ تاريخ الحديث ممثلاً بكتب التراجم ليس إلا تاريخاً للمحدثين ومُعيناً على الجرح والتعديل. وهنا تحوّل التاريخ الإسلاميّ الأوّل إلى مجرّد تاريخ نقل وتدوين ونخل وتصنيف وتوثيق للأقوال المنسوبة إلى محمد. لقد امتصّ أهل الحديث في القرن الثالث الهجري تواريخ كل من سبقهم (8). وإذا نظرنا في كتب التراجم القديمة مثل طبقات ابن سعد وجدنا أن القصّاص (كجبير بن مطعم وحميد الطويل) أصبحوا أجداداً للمحدثين، بعد أن تابوا طبعاً عن القصّ لما فيه من مبالغة واختلاق للأحداث والسياق الروائيّ. ثم نجد أيضاً أنّ القضاة الأوائل (كشريح القاضي) أدخِلوا أيضاً في عداد المحدثين، وكذلك أهل الحكم والحكمة (كمعاوية ابن أبي سفيان ومروان بن الحكم وعمر بن عبد العزيز) والزهّاد (كالحسن البصري وأيوب السختياني) وأهل البيت (كمحمد بن الحنفية وعلي زين العابدين وجعفر الصادق دون ذكر ألقابهم وإمامتهم طبعاً) وغيرهم من مشاهير التاريخ الإسلامي من شيوخ قبائل وشهداء اضطهاد ومجاهدين وأهل إفتاء وأصحاب رأي. ولا ننسى هنا الصحابة وأبناءهم ومواليهم الذين تحوّلوا إلى معلّمين أمناء لتراث المعلّم الأوّل. وما الصيغة الحديثية (جاء رجل ... وسأل أحدهم) إلا أساليب تعليمية، لا نزال نستخدمها، نبعت من تصوّرنا لمحمد كمعلم ولأجيال المسلمين الأتقياء بعده، أي ناقلين ومعلمين أمناء لتعاليم المعلم الأول الملهم والمعصوم عن الخطأ. وهكذا تحوّل تاريخ الإسلام بتنوعه إلى تاريخ لأهل الحديث الذين ظهروا في القرن الثالث. طبعاً الشيعة أيضاً كانوا جزءاً من حركة أهل الحديث لكنّ ارتباط أهل الحديث بأهل السنة جعلهم ينخلون الأحاديث حسب معاييرهم واستبدلوا في ما انتقوه سلاسل الإسناد بسلاسل الأئمة وتلاميذهم فاقتصر العلم على حلقات يتوسّطها أهل البيت الذي توارثوا الإمامة والمعرفة، حسب تعاليم الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق في القرن الثاني.
إن تاريخ الدين الإسلامي الذي يدرسه غالبية المسلمين هذه الأيام يبدأ مع سيرة المؤسس المدعّمة بكثير من الآيات وتفسيرها وأسباب نزولها والأحاديث وأسباب حدوثها (ويعتقد البعض أنها منزلة أيضاً بالإلهام وليس بالوحي، وهنا أساس أيديولوجية العصمة النبوية). ثم ينبسط أمامنا تاريخ القرنين الأولين كنقل دؤوب ثمّ تدوين أمين للأحاديث النبوية مدعّمة بسلاسل لا تنفك تستطيل من الأسانيد لتشهد على أمانة النقل. لكن بعض العثرات في الطريق تعطي القصة نفحة درامية تؤكد حتمية انتصار الحقّ وزهوق الباطل "فالضدّ يظهر حسنه الضدّ". هذه العثرات تتمثّل بالشيوع المزعوم للأحاديث الموضوعة أو الضعيفة، لكن أنصار المذهب الحقّ يتصدّون لها بسيوف قاطعة "تجرح وتعدّل" هي سيوف "علم الرجال." والبطل الأسطوري لهذه الملحمة يظهر في القرن الثالث الهجري لينخل بدقةِ علمِ الرجال ستمائة ألف حديث وليستخرج جواهر "الأحاديث الصحيحة" التي سرعان ما تصبح ثاني الكتب الإسلامية المقدسة، والقرآن أولها. طبعاً البخاري يأتي صبيحة انتصار ابن حنبل وصديقه إنكيدو (أقصد يحيى بن معين) على الوحش هُمبابا (أي ابن أبي دؤاد القاضي المعتزلي) في معركة أسطورية دامت، على زعمهم، أكثر من خمسة عشر عاماً تعرّض خلالها البطل الصامد للسجن والجلد والتعذيب، على حدّ زعمهم أيضاً. (9)
وتدور أحداث ملحمة التدوين والتطهير بالتوازي مع معارك أخرى في ساحة الفقه، أبطالها أسطوريون أيضاً كالشافعي ومالك وأبو حنيفة وابن حنبل الذين أسسوا، على حد زعم أتباعهم اللاحقين، صروحاً شامخة للفقه وأصول التشريع دفع أجيالاً من أتباعهم للإنتساب إليهم كما ينتسب الإبن إلى الأب والفرد إلى القبيلة.
طبعاً نحن ننظر إلى هؤلاء الأربعة كرموز لأهل السنة، أي الذين اتخذوا الحديث المنسوب لمحمد أساساً للتشريع ووضعوا أصولاً لاستنباط التشريع من الحديث (كالقياس المنسوب استخدامه إلى الشافعي) ، حين لا يجدون ضالتهم في القرآن. لكن أهل السنة لم يكونوا بالضرورة أهل حديث. فالسنة لم تكن "سنّة محمد" بل كانت "السنّة" أي العرف. وكما تحوّل الحديث إلى حديث محمد، تحوّلت السنّة إلى سنّة محمد وأصحابه. وهكذا يتماهى أهل السنّة مع أهل الحديث مع الأجيال الأولى من المسلمين ليصبحوا كلهم محدثين حاكمين بالسنة المحمدية في عملية "مثيرة" لإعادة كتابة التاريخ. وهكذا يبدأ التشريع مع محمد ويستمرّ، كنقل الأحاديث، طيلة قرنين من الزمن على أيدي عمالقة في استنباط الأحكام من النصوص كالصحابة والتابعين وأتباع التابعين. ويصبح أبطال نقل الحديث أيضاً أبطال التشريع، لأنه لا تشريع دون الحديث كما يقول لنا التاريخ ذاته. وهكذا تتحوّل الأسطورتان إلى أسطورة واحدة هي حكاية دين رسالته تشريع إلهي يحكم كل دقائق الحياة البشرية كطريق قويم (وهو المعنى الحرفي للشريعة) إلى الخلاص الدنيوي والأخروي. والمضحك في الأمر أنّ أبا حنيفة كان من أصحاب الرأي (أي الإعتماد على العقل بدل النصوص) وكان أتباعه وتلامذته من مشجّعي المحنة التي بدأها المأمون لتقاربهم الفكري مع المعتزلة. وكذلك تعرّض الطبري الفقيه الحقيقي وصاحب التفسير والتاريخ لمضايقات الحنابلة البغداديين من القبضايات (مفردها قبضاي أي بلطجي) ومشايخ الأحياء (رمي بالحجارة وتهديد بالقتل) لأنه نفى التفقّه عن ابن حنبل (وهذا صحيح) وقصر أثره على الاشتغال بالحديث لا غير(10). فكيف أصبح أبو حنيفة من أهل السنّة وأصبح ابن حنبل صاحب مذهب فقهي؟
وهكذا تحوّل الإسلام من دين أساسه التوحيد ومحاربة الشرك إلى دين أساسه التشريع وتقسيم الأعمال والأشياء وحتى النيات إلى حلال وحرام. لكنّ هل كان من الحتميّ أن يصبح الإسلام شريعةً (بالإضافة إلى التوحيد والشعائر والعبادات)؟ اليهودية شريعة لكن مسيحية بولص الرسول نبذت الشريعة اليهودية (11) فحدّت (عن دون قصد) من تضخم التشريع المتحكم بكل صغيرة وكبيرة في حياة الناس الفردية والجماعية، أي ذات الإنسان ثم المجتمع والدولة وكلّ مؤسّساتهما. وللمسيحية حديث آخر إذ حوّلتها الكنائس الكبرى إلى مؤسّسات عملاقة تداخلت مع الدولة والمجتمع وأصبحت أداة تشريع وتسلط أيضاً. في الحقيقة فإنّ مسار الديانات الشرق- أوسطية كان باتجاه التشريع حيث يعطي الإله الشريعة للملك الذي يختاره بنفسه كما كان الحال مع مردوخ وحمّورابي، ثم آشور وملوكه الذين بنوا إمبراطوريتهم باسمه، ثم أهورامزدا ورسوله زرادشت وملوك الأخمينيين، ثم يهوه وشعبه المختار وملوكه المصطفين. لكن لنعد الآن إلى الموضوع الأصلي، وهو تاريخ انتصارات المذهب السني. وهنا لا بدّ من الاعتذار عن ما قد يبدو تهكماً، فليس هو بذلك، لأنّ أيّ عمل تفكيكيّ هو عمل تحطيميّ للدفاتر المفبركة التي تصبح بالفعل أساطير لا يمكن الكلام عن شخصياتها إلا بلغة الأسطورة. ولا يجب أن تُفهم الأسطورة كعملية كذب متعمّدة لأنّ الأسطرة جزء من الطبيعة البشرية وهي حصيلة صراع الجماعات والأفكار للفوز بالسلطة وبالتالي كتابة التاريخ.
ومسيرة الانتصارات على المهرطقين استمرّت لقرون طويلة وصورها التاريخ السنّي على أنها صراعات بين "أهل السنة والجماعة" (وكأنّهم كانوا الأغلبية العددية) وبين "أقليات" مذهبية مغالية في فكرها وخارجة عن "دين الوسط" الذي هو "الإسلام الحقّ". وكل انتصار يحصل كان نتيجة لتحالف مقدّس بين سلطة ضاربة، لكن مؤمنة، وبين علماء أصبحوا قضاة ومفتيين ومستشارين للسلطان وأساتذة في المدارس التي أنشأها السلطان (وهم ما درج التراث على تسميتهم بالخاصة أي بطانة السلطان وأهل السلطة والنفوذ). فنرى تارة انتصاراً على الجهمية والمرجئة والقدرية والزنادقة (بتحالف مع الخليفة العباسي المهدي وابنه الرشيد) ثم على المعتزلة (بتحالف مع الخليفة المتوكل)، وتارة انتصاراً على التشيّع البويهي ثم القرمطي وبعده الفاطمي (بتحالف مع السلاجقة والمدارس النظامية ثم الأيوبيين)، وانتصاراً بالتوازي على الفلاسفة (بتحالف مع أمراء متعدّدين وحتى فتوّات الحنابلة البغداديين)،. ونرى هنا أيضاً جهاداً على الصليبيين نشرته دور الحديث في الشام التي أنشأها القائد "المؤمن" نور الدين زنكي وتولاها ابن عساكر، ونرى هناك انتصاراً على غلاة العلويين والدروز والصوفية المغالية التاركة للشريعة والناهلة من معين العرفان الذي لا يعرف احد كنهه (بتحالف مع المماليك والعثمانيين الأوائل). وأخيراً نرى انتصاراً على صوفية المزارات وتشيّع الصفويين (بتحالف بين العثمانيين الخلفاء والقاضي-زاده-لية في القرن السابع عشر). لكن الانتصار الأكبر والأخير هو للسلفية الأصولية المجاهدة على الحداثة الغربية وجاهلية القرن العشرين، بتحالف مع عروش النفط وجيوش المجاهدين العالميين، وسكوت كثير من الأنظمة العربية التي ترى في ترك السلفية السِّلمية (أي سلفية المؤسسات كالأزهر والإخوان المسلمين) تصول وتجول إضفاءً لشرعية مفقودة عليها؛ اعتقاداً بأن هذه السلفية قطّ صغير تقدر أن تقلّم أظافره حين تريد حتى لا يخدشهاً يوماً.
ومن الملفت للنظر أنّ الكثيرين يعتقدون الآن أنّ الخلافاء الراشدين وخلفاء بني أمية وبني العباس كانوا "سنّيين"، مع أنّ المذهب السنّي (كاعتماد على الحديث المسمى بالسنة النبوية أساساً للتشريع الذي أضحى الميزة الأساسية للدين الجديد) ظهر في القرن الثالث الهجري. وقد بيّنا مسيرة الحديث والسنّة والفقه، فكيف يكون أيّ خليفة سنّياً قبل ظهور الذهب السني كما عرّفناه للتو. والحقيقة أنّ أوّل خليفة أبدى تحيزاً طفيفاً لأهل الحديث (فقط) هو العباسي المتوكّل الذي أنهى المحنة بعد عدّة سنوات من تولّيه الحكم. ولا يخفى على القارئ أن خلافة بني العباس بعد المتوكّل كانت إسمية لا تتعدّى حدود العراق وحتى حدود القصر في كثير من الأحيان (مع استعادة قصيرة لقوتهم في أواخر الثالث الهجري).
وماذا عن الزعم بأنّ أغلبية المسلمين كانوا ولا يزالون سنّيين. في الحقيقة اقتصر انتشار الإسلام لفترة طويلة على الحواضر التى أسسها أو سكنها الفاتحون ومواليهم (أي عبيدهم من أسرى الفتوحات وجنودهم وأتباعهم وكتبتهم). وحتى عندما دخل أهل البلدان المفتوحة في الإسلام اقتصر الانتشار على المدن الكبرى، وكان انتشاره بين الفلاحين، وهم الغالبية، من أهل البلدان الأصليين بطيئاً. وحتى بدايات القرن العشرين كانت نسبة المسيحيين واليهود في بلاد الشام ومصر أكبر بكثير مما هي الآن، وما انكماشها إلا نتيجة الهجرة إلى الأمريكيتين وإسرائيل والانفجار السكاني الذي شهده النصف الثاني من القرن العشرين والذي جعل من المسلمين السنيين أغلبية ساحقة في هذه البلدان. أما أهل المناطق النائية والجبلية في اليمن وعمان وشمال إيران والمغرب فقد آثروا دخول الإسلام من خلال الأفكار الخارجية والشيعية التي ابتعدت عن مراكز السلطة، وذلك ليس لتفضيل الناس والخلفاء لأهل السنة وإنما لمحاربة السلطات لكليهما باعتبارهما مذهبين سياسيين ودينيين معاً. وهذه السلطات لم تحارب الخوارج والشيعة (بأنواعهم) لأنها فضلت أهل السنّة (فلم يكن هناك مذهب سنّي) بل لأنّ الخوارج والشيعة طرحوا بديلاً للحكام بينما قبلت أغلبية المسلمين بالأمر الواقع. وكان أول اعتماد الخلفاء العباسيين على أهل السنة لمواجهة الشيعة خلال حكم الأمراء البويهيين الشيعة. ثم جاء السلاجقة بعدهم لينصروا أهل السنة لحقدهم على الفاطميين الذين أخذوا بغداد لفترة قصيرة قبل دخول السلاجقة إليها. ولا ننسى هنا الانتشار الواسع خلال هذه الحقبة (أي قبل الاجتياح المغولي) للأفكار الفاطمية والإسماعيلية بشكل عامّ (القرامطة، الحشاشين، والدروز) والشيعية (الجعفرية والزيدية والعلوية).
ابتداءً من القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) كان انتشار الإسلام الأكبر بين الأتراك وهؤلاء دخلوه عن طريق المتصوفين والتجار. وكذلك حققت الطرق الصوفية انتشاراً واسعاً بين المسلمين حتى أصبحت الصوفية بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر الميلاديين مرادفاً للإسلام، وأصبح كلّ علماء المسلمين من سنة وشيعة وغيرهم من أصحاب الخرق. وحتى زعيم الحنابلة في دمشق وملهمهم في القرن الرابع عشر والآن، أي ابن تيمية، تعرض للسجن لأنه قال ببطلان مزاعم الصوفية. وإن كانت صوفية المدن تعترف بالشريعة والشعائر مع احترام شديد لعليّ (الصوفي الأول) وآل البيت، فإن صوفية القرى والجبال والقادمين الجدد (أي الأتراك) لم تكن تعترف إلا بمنهج صاحب الطريقة وتعاليمه وتخرج أحياناً عن التعريف السني للإسلام كما عند البكداشيين والعلويين في الأناضول (12)، وأتباع الشيخ بدر الدين في البلقان (13)، والصفويين في جبال آذربيجان وأتباعم من الكيزيلباشية(14). ويبدو لي أن الصوفية كانت ستنتصر في القرن السادس عشر لولا تحوّل الصفويين إلى التشيع الجعفري وانقلابهم على الطرق الصوفية (15) ولولا تخوّف العثمانيين من المدّ الصفويّ في الأناضول وتقاربهم مع حركة محمد أفندي قاضي زاده المعادية للصوفية (السابع عشر الميلادي)(16). وما الوهابية إلا امتداد لهذا الانقضاض على الصوفية.
ومع العثمانيين أصبح المذهب السني الدين الرسمي للدولة التي أطّرته ضمن مؤسسات الإفتاء والقضاء والأوقاف والإمامة والخطابة. ومنذ الفترة المملوكية سار علماء أهل السنة في طريق الاندماج مع الدولة حيث تقاربت المدارس الفقهية الأربع المعروفة إلى درجة المطابقة وتحالف علماء تشريع القياس والاستحسان مع كثير من السلطات الحاكمة التي تتابعت على المنطقة العربية والإسلامية. وفي بعض المناطق التي أسلم فيها الحاكم قبل شعبه كما الحال في مملكة مالي الإفريقية (القرن الرابع عشر الميلادي) جلب الحاكم علماء المذهب السني ليكونوا عوناً له على إنشاء إمبراطوريته وأسلمة شعبه وتنظيمه ضمن مؤسسات المذهب السني الجاهزة من قضاة ومفتين ومدرسين وعلماء ومبشرين وخطباء ومؤذّنين ومقرئين(17). وهنا لم يكن الخيار اقتناعاً "فطريا"ً بتماهي المذهب السني مع "الإسلام الحقيقي" (على افتراض وجوده)، وإنما تقليداً لجيرانه الشماليين في المغرب الذين سبقوه في بناء عدة إمبراطوريات متسلّطة كالمرابطين والموحّدين. ولا يختلف الإسلام السني في هذا التاريخ عن غيره من الأديان الحالية التي تزعم امتلاكها للحقيقة المطلقة وتفرض قانونها بدعوى الأغلبية.