تحظى الفلسفة البراغماتية اليوم بمكانة مميَّزة في الفكر الفلسفي بعامّة، وفي الفلسفة الأمريكية بخاصّة. ويرجع السبب في ذلك إلى الدور الذي تلعبه الثقافة الأمريكية في جميع أنحاء العالم، وهو دورٌ جعل من أمريكا نموذجاً للحضارة الغربية والتقدم والديمقراطيّة على الرغم من الممارسات القمعيّة، وأشكال الهيمنة التي بدت تتعاظم مع انهيار الاتّحاد السوفييتي.
والبراغماتية الكلاسيكية التي أسّسها "بيرس" و"جيمس" و"ديوي" تتخذ موقفاً من الصدق مفاده أنَّ القضية الصادقة هي تلك التي يساعدنا الاعتقاد بها على حل مشاكلنا. وبهذا فهم يتنكرون لمفهوم "التطابق" في الحقيقة الذي ينظر إلى أن صدق القضايا يتوقف على مدى "مطابقتها" للوقائع.(1)
أما البراغماتية الجديدة والتي وضع رورتي تسميتها، فهي تختلف عن البراغماتية الكلاسيكية بالعديد من المفاهيم التي تطبع فلسفة رورتي، وغيره من البراغماتيين الجدد، بطابعها المميز. وجلُّ هذه المفاهيم تتخذ صيغة سلب المفاهيم القديمة أو نفيها، بما يحمله السلب من مضامين فلسفية عميقة، ويستبدل بها رورتي مفاهيم جديدة لا تعني عكس المفهوم القديم بأداة النفي فحسب، بل تعني رؤية جديدة للأشياء والإنسان والعالم.
فما هي المفاهيم المركزية في فلسفة رورتي؟ وكيف تمكَّنت البراغماتية الجديدة من الاستفادة من المجادلات الفلسفية حول مفهوم الحقيقة؟ وما الدَّور الذي يريد رورتي للفلسفة أن تضطلع به؟
1- النزعة اللاماهوية Anti-essentialism:
يعدُّ مفهوم الماهية من المفاهيم المركزية التي تمحورت حولها مهمة الفلسفة، منذ أفلاطون وحتى العصر الحالي، مهمة اضطلعت بها الفلسفة لتصبح بحثاً في الماهيات وعنها. فهي تبحث عن ماهية الحقيقة، حقيقة الأشياء والإنسان والكون. وهو ما يعني أنَّ للوجود، بصورة عامة، والإنسان، بصورة خاصة، جزأين أحدهما ظاهريٌّ عرضيٌّ متغيرٌ نسبيٌّ وباطلٌ، والآخر، باطنيٌّ جوهريٌّ أو ماهويٌّ ثابتٌ مطلقٌ وحقيقيٌّ.
أما الفلسفة البراغماتية _الكلاسيكية منها والجديدة_ فقد رفضت أن يكون للحقيقة ماهية يتعين علينا البحث عنها. ونظر رورتي إلى فكرة الماهية على أنها من أكبر المغالطات التي روجتها الفلسفة، ومن ثم، فهي وهم يتعين علينا التخلي عنه. ففي كتابه "الفلسفة ومرآة الطبيعة" يدحض الفكرة القائلة إن للإنسان ماهية تعكس العالم المحيط به، بصورة مطابقة لانعكاس الأشياء في المرآة، وهو التصور الذي تشترك به الفلسفات الأفلاطونية والكانطية والوضعية، على حد سواء.(2)
ويفضي الاعتقاد بالماهية لدى دعاتها، في نظر رورتي، إلى ادِّعائهم بأنَّه ثمة ماهية للمعرفة والعقلانية، كما هو الحال بالنسبة للحقيقة. الأمر الذي جعلهم يزعمون القدرة على معرفتها دون غيرهم، وهو ما جعلهم ينظرون لأنفسهم على أنهم المالكون الحصريون للحقيقة، وكل من عداهم أو كل من يخالفهم الرأي هم على خطأ. وهو ما أفضى، في نظر رورتي، إلى أن اتخذت معايير العقلانية والحقيقة عندهم شكل البيروقراطيات والهيمنة. ويعني ذلك أن رورتي قد كان يخشى أن تتحول الفلسفة إلى دين جديد يزعم تفوقه على ميادين الثقافة الأخرى، وهو ما تقوم به الفلسفة التي تدَّعي امتلاك ماهية الحقيقة، والعلم الذي يزعم امتلاك الحقيقة الموضوعية، والدين الذي يدَّعي امتلاك حقيقة إلهية أو فوق بشرية.(3)
وعلى ذلك، فالنزعة اللاماهوية التي يقول بها البراغماتيون عموماً، ورورتي خصوصاً، هي استبعادٌ لمفهوم الماهية عن جميع أنواع الوجود أو المعرفة، وحتى عن الفلسفة ذاتها، ونفيٌ لأن تكون غاية البحث الفلسفي هي البحث في الماهيات أو عنها. ومن ثمَّ، فليس للمعرفة أو اللغة أو الأخلاق أو الإنسان أو الفلسفة أو الوجود بعامة، أي ماهية. بل إن الفيلسوف البراغماتي لا ينصب هدفه على البحث «...عن الحقيقة والمعرفة المطابقة واللغة الكونية الصادقة أو الأساس الصلب، بل هو منهمك في إبداع لغته، ذاته، وحياته.»(4) وعدم اكتراث البراغماتي بمفاهيم كهذه يجعل منه فيلسوفاً ساخراً متهكماً ممن يجعلون منها هدفهم وغايتهم.
ومن ثم، فإن كانت فكرة الماهية التي اتسمت بها الفلسفات الحديثة هي إحدى خصائص الحداثة، فإن اللاماهوية التي تبنَّتها ودافعت عنها فلسفات معاصرة مثل الوجودية والتفكيكية واللاواقعية والبراغماتية عموماً والجديدة منها خصوصاً، هي إحدى سمات ما بعد الحداثة. ذلك أنَّ الحداثة دافعت عن وجود ماهيات وحقائق مطلقة وثابتة، في حين أن فلاسفة ما بعد الحداثة يجمعون على ازدراء مفهوم الماهية وكل ما يترتب عليه.(5)
ومن هنا، فإن ازدراء رورتي لمفهوم الماهية، وقوله بالنزعة اللاماهوية، كان يجسد طموحه في خلق ثقافة منفتحة رأى أنها لن تتحقق ما لم «...يتم نبذ السؤال "هل أعرف الشيء الحقيقي أم مجرد مظهر من مظاهره؟" ونستبدل به السؤال "هل أستعمل الآن أفضل الأوصاف الممكنة للوضع الذي أنا فيه، أم أرصف الأوصاف لأحصل على الأفضل؟"»(6) وهو ما يعني أن رورتي يستبعد وجود حقيقة مطلقة، كما يستبعد الطابع النظري للحقيقة، ويستبدل بهما البحث عن الأفضل بالنسبة لي، في الموقف الراهن، وهو بعد عملي نفعي بامتياز، يجسد موقف البراغماتيين الكلاسيكيين والجدد، على حدٍّ سواء.
2- النزعة اللاتمثيلية Anti-representationalism:
لا تنفصل النزعة اللاتمثيلية، عند البراغماتيين الجدد، بأي حال من الأحوال، عن النزعة اللاماهوية. وهي مفهوم يستخدمه رورتي في مقابل النزعة التمثيلية في مناقشاته، ليصف موقفه وموقف البراغماتيين الجدد من المشكلات التقليدية للإبستمولوجية. وهو يعني به، أن تاريخ الفلسفة، يُظهر لنا، أنَّه ليس ثمة أجوبة نهائية للمشكلات التقليدية المرتبطة "بالمعرفة" و"الحقيقة" والتمثُّل". وبالتالي علينا أن نرفض هذه المفاهيم ونستبعدها، طالما أنَّه ليس ثمة إمكانية لوجودها خارج ذهننا أو لغتنا.(7)
ويشير الموقف اللاتمثيلي عند رورتي، على وجه الدقة، إلى «كل من لا ينظر إلى المعرفة بوصفها امتلاكاً للواقع امتلاكا حقيقياً، وإنما هو مجرد امتلاك لعادات في العمل تستهدف التلاؤم مع الواقع.»(8) وهو ما يعني أن اللاتمثيلية ليست مجرد سلب لفكرة التمثل الحقيقي للواقع من زاوية معرفية أو لغوية، بل هي رؤية جديدة تستهدف التحرر من إشكالية العلاقة بين الذات والموضوع، أو بين المظهر والواقع، كما تستهدف تزويدنا بعادات عملية تمكِّننا من التكيف مع الواقع، والتخلي عن البعد النظري في المعرفة.
ويعترف رورتي بالفضل في تبنِّيه لمفهوم النزعة اللاتمثيلية إلى كلٍّ من كواين وسيللرز اللذين حاول تعميم أفكارهما وتوسيعها. فالأول ينتقد التمييز بين العبارات التحليلية الضرورية والعبارات التركيبية العرضية، ويقول بضرورة التخلي عن مجموعة مفاهيم مثل "مترادف" التي نستحضرها بوصفها تساعدنا على فهم ما يعنيه "تحليلي"، كما ينظر إلى البحث بوصفه إعادة حبكٍ لنسيج معتقداتنا. وسيللرز في نقده لأسطورة "المعطى" التي لعبت دوراً أساسياً في ما بعد تفكيك الديكارتية.(9)
غير أن صاحب النزعة اللاتمثيلية يذهب إلى أنه «لا يمكن لأذهاننا أو لغتنا أن تكون "منفصلة عن الواقع" بأكثر مما تستطيع أجسامنا أن تفعل،....ويتشكك في تفسير وجود قيمة لاصطفاء بعض من مضامين أذهاننا أو لغتنا، والإقرار بأن هذا العنصر أو ذاك، "يتطابق مع البيئة" أو "يمثِّلها" بطريقة يعجز عن القيام بها عنصر آخر.»(10) وفي هذا القول، فإن رورتي يؤيد "ديفيدسون" في قوله: «إن المعتقدات صحيحة أو خاطئة، ولكنها لا تمثل شيئاً. ومن المهم التخلص من التمثلات، ومعها نظرية التطابق في الحقيقة....»(11) وهو ما يعني أن رورتي وديفيدسون يعطيا دوراً للبيئة في تشكيل قناعاتنا ومعارفنا ومعتقداتنا، فليس ثمة انفصال مطلق بينهما، إلا أن هذه العلاقة ليست علاقة تطابق أو تمثل لهذه عن تلك. ومن ثم، فهما لا يقولان بضرورة الانفصال عن البيئة، بل بضرورة امتلاك مفاهيم نافعة للتلاؤم معها.
وإن كانت اللغة _وفقاً لصاحب النزعة التمثيلية_ تمثل وسيطاً بين الذات والموضوع، لكونها تقوم بالتعبير عن الذات وماهيتها الحقيقية، من جهة، وتقوم بتمثيل الواقع ونسخه في الذهن، من جهة أخرى، فإن اللغة تصبح في نظر أصحاب النزعة اللاتمثيلية، وعلى رأسهم رورتي، أداة يتم الحكم عليها بمقدار منفعتها وبالمرونة التي تبديها حيال الأنا لتمكنه من الابتكار في استعمالها. وبهذا المعنى فاللغة متغيرة عرضية وليست ثابتة ومقدسة.(12)
3- النزعة اللاتأسيسية Anti-foundationalism:
النزعة اللاتأسيسية هي رفض الادعاء القائل إنَّ جميع المعتقدات هي معتقدات مسوغة بواسطة معتقدات أخرى، بمعنى أن معتقداً ما يشكل أساساً لأنواع كثيرة من المعرفة. ورفض هذا الادعاء هو نتيجة طبيعية للنزعتين اللاماهوية واللاتمثيلية في المعرفة. ذلك أن نفي الماهية والتمثل يفضي إلى نفي وجود أسس معرفية صحيحة ومتينة يمكن أن تمثل قواعد بناء لأفكار ومبادئ أخرى. وبالتالي يرى رورتي أن الإبستمولوجيا التأسيسية هي مشروع مضلل وفاسد.(13)
وبما أن التأسيس في المعرفة أو الفلسفة، شأنه شأن الماهية والتمثُّل، هو إحدى سمات الحداثة، فإن اللاتأسيس يتجسد في نزعة التفكيك ما بعد الحداثية من حيث هي «شعار يؤشر على توجه معين في العلم السياسي والتاريخ والقانون، مثلما الحال في دراسة الأدب. وفي كل هذه الفروع المعرفية يضطلع التفكيك ضمناً بإثارة مشروع يفضي إلى قلقلة أسس هذه الفروع قلقلة جذرية.»(14) وهو ما يعني أن هذه النزعة تستهدف تقويض الأسس اليقينية التي تقوم عليها الميادين المختلفة للمعرفة البشرية. ومن ثم، فاللاتأسيسية تجسِّد نزعة لايقينية حيال المعايير والمرجعيات الثقافية والسياسية والقانونية والتاريخية.
ومن المعروف أنَّ نزعة التفكيك ترجع إلى "دريدا" الذي يعترف له رورتي بفضل كبير على الثقافة الأمريكية بعامة، والبراغماتية بخاصة. فرورتي يرى فيه واحد من مجموعة كبيرة «...أسهمت في حركة التحرر الفكري، ليست البراغماتية الأمريكية إلا إحدى تجلياتها. وما تلك الحركة إلا تحوُّل ابتعد عن الفكرة التي تقول بوجود أمر ما يكون البشر مسؤولين أمامه _قد يكون الله أو الواقع أو الحقيقة.»(15) وتشكل هذه المفاهيم في جميع الحالات، نوعاً من القسر الخارجي ليس للذات البشرية فيها دور، مع أنها هي من صنعتها، ولكنها تحولت العلاقة بينهما، في نهاية المطاف، إلى نوع من العبودية.
ولئن كانت النزعة اللاتأسيسية هي نزعة تفكيكية وتدميرية تحررية، فإنها لا ترمي من وراء ذلك التفكيك إلى إعادة بناء أسس أو أنساق جديدة، بل ينصب اهتمامها، في نظر رورتي، على«استبعاد ما يعتبرونه مشكلات زائفة لدى النزعة التمثيلية...»(16).
والنزعة اللاتأسيسية التي يتبناها رورتي، لا تحيل إلى مصدر خارج التاريخ أو إلى شيء فوق بشري لتسويغ المعرفة _وهي رؤية يشترك فيها كل من الفيلسوف الواقعي وعلماء الطبيعة الباحثين عن الحقيقة، والأصوليين الذين دعوا إلى حب المسيح_ بل إن المعرفة، في نظره، لا تنفصل عن سياقها التاريخي. ومن ثم، فكل معرفة تنشأ ضمن ممارسات الجماعة في مجتمع بعينه، الأمر الذي يفضي إلى أنَّ تسويغ معرفة ما أو معتقد ما يجب أن يكون، في رأيه، إزاء الأفراد الذين يعيشون ضمن الجماعة نفسها.(17)
وتسويغ المعتقدات للأفراد الذين يتقاسمون الحياة نفسها يفضي، في نظر رورتي، إلى مزيد من اعتماد البشر على أنفسهم، فيصبحون بذلك أقرب إلى الشعور بالمسؤولية اتجاه بعضهم البعض، وليس تجاه أي شيء آخر فوق بشري. وهو يؤكد «أن زعم الإنسانيين بأن البشر لا يتحملون المسؤوليات إلا تجاه بعضهم البعض، يستتبع التخلي عن التمثيلية والواقعية، على حد سواء.»(18) وبرفض هذه المفاهيم يمكن للبشر أن يتخطوا التصور الموضوعي والعقلي للحقيقة وأن يتحرروا من الخضوع له.
4- دور الفلسفة:
قد يبدو للوهلة الأولى أنَّ رورتي لم يأتِ بجديد يذكر، وأنَّ محاولته لا تزيد عن كونها جمعاً لآراء الفلاسفة السابقين عليه والمعاصرين له، مما يعني أن فلسفته لا تتسم بأصالة فكرية. غير أن رورتي يقول في إحدى مقابلاته: «إن من لم يمتلك ذهناً أصيلاً، لا يمكنه إلا أن يعقِّب أو يعلق على ما يفعله الآخرون.»(19) ولكن هذا لا يعني أن رورتي كان قد اكتفى بالتعليق على آراء الآخرين، ومعارضة الواحد منها بالآخر، أو محاولة التقريب بين آراء الفلاسفة الأمريكيين وبين نظرائهم الأوروبيين فحسب، بل هو أعاد تأويل المفاهيم الفلسفية، واستبدل بدور الفلسفة بوصفها بحث نظري في المعرفة، دوراً جديداً تتجلى الفلسفة فيه بوصفها قاعدة عملية وممارسة اجتماعية تتجسد في الديمقراطية، وهي المحاولة التي بدأ بها ديوي من قبل والتي رأى فيها رورتي محاولة تستحق المتابعة والتعمق.
وتنطوي هذه المحاولة، بصورة أساسية، في رأي رورتي، على «...المعنى الذي أعطاه للتغير التدريجي لصورة الذات البشرية عن ذاتها،...، التغير من معنى اعتماد البشر على شيء حاضر، بصورة مسبقة، إلى معنى الاحتمالات الطوباوية للمستقبل، وتنامي قدرتهم على تلطيف الحس بالتناهي، عن طريق موهبة إبداع الذات. فقد رأى ديوي أن ظهور التسامح الديني وغاليله وداروين، فضلاً عن انبثاق الحكومات الديمقراطية وجماهير الناخبين، إنما هي أحداث مركزية في هذا التاريخ.»(20) وتكمن أهمية نقد ديوي هنا في تأكيده على ضرورة التخلي عن مفاهيم مثل الحقيقة والموضوعية والنسبية، نظراً لكونها أصبحت تمثل عقبات أمام امتلاك هذا المعنى لاعتماد الذات على ذاتها، كما ينطوي على التخلي عن نظرية المعرفة القائمة على التأمل النظري استجابة لمتطلبات المجتمع الديمقراطي.
ويمضي رورتي إلى ما مضى إليه ديوي بالقول: «إنَّ الخير الذي قدمته أفكار كالموضوعية والتعالي لثقافتنا، يمكن الوصول إليه، بقدر مكافئ، عن طريق فكرة المجتمع الذي يكافح سعياً وراء الإبداع، والاتفاق بين الذوات، أي المجتمع التعددي الديمقراطي.»(21) ويعني رورتي بهذا أن يتم إعادة تأويل الموضوعية على أنها اتفاق ناجم عن التفاعل المتبادل بين البشر والحوار الديمقراطي، وليس بوصفها وجود الذهن أو اللغة وجوداً مستقلاً عن الواقع.
وتشير الموضوعية هنا بطبيعة الحال إلى الحقيقة الموضوعية التي أراد رورتي تخطي التصور التقليدي لها بوصفه يحيل إلى الماهية والتمثُّل والتطابق، وهذه المفاهيم تحيل بدورها إلى شيء خارجي أو فوق بشري، وأن نستبدل به تصوراً يمكِّننا من «تنمية أذهاننا تدريجياً، لتصبح أوسع أفقاً، وأكثر استقلالاً وانتفاعاً بإضافة خيارات جديدة وأفكار جديدة متعلقة بالمعتقدات والرغبات، المعبر عنها بمفردات جديدة.»(22) وهو ما يعني أن رورتي لا يدعو إلى إلغاء المفردات والمعتقدات القديمة، وإنما إلى تعديلها عن طريق معارضة الواحد منها بالآخر، وإلى إعادة نسجها وحبكها، من جديد. وبالتالي فهو يدعو إلى إصلاح وليس إلى ثورة.
وعلى ذلك، فإن تحرر الفلسفة من وهم القدسية الموروثة عن الدين بفعل التنوير والحداثة، لم يحُل دون تحوُّلها إلى دين جديد بتبنيها نظرية التمثل والماهية. وبالتالي، فإن ضرورة تخلِّيها عن نظرية كهذه سيقربها، في نظر رورتي، من ميادين الثقافة الأخرى ومن أشكال التعبير المختلفة، الأكثر إنسانية، للبشر عن ذاتهم، والتعايش ضمن حوار مع الآخر، الأمر الذي يجعلها تتجاوز عقلانية الحداثة إلى انفتاحها على آفاق ما بعد الحداثة الأكثر أهمية من مهمة التمثل الحقيقي للعالم.(23)
وهكذا، تنطوي دعوة رورتي على ضرورة انفتاح الثقافة الغربية بعامة، والأمريكية بخاصة، على الآخر. وهو، في نظره، مطلب إنساني وحاجة قابلة للتهذيب عن طريق تربية أخلاقية مناسبة، وهو ضرورة « ترتقي بالبشر إلى ما فوق مستوى التواضع.....وتربية كهذه تحاول أن تصعِّد الرغبة لتحل، وبطريقة ملائمة، التوق إلى الحرية والمواجهات المفتوحة بين الكائنات البشرية، محل العلاقات المتواضعة للحقائق فوق الإنسانية، المواجهات التي تبلغ ذروتها سواء في اتفاق بين الذوات، أو في تسامح متبادل.»(24) وينطوي موقف رورتي هذا على بعد إنساني عميق، وطموح إلى تجاوز عرضية العيش في التثاقف، وأمل في إنتاج ثقافة جديدة تنطوي على مضامين إنسانية أهمّها، التعدّدية بدل القطب الواحد، والتسامح مع المختلف بدل إلغائه، والحوار مع الآخر بدل إخضاعه.
الهوامش: