sheen22 ثـــــــــــــــائر متردد
الجنس : عدد المساهمات : 31 معدل التفوق : 67 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 23/02/2012
| | في معنى وشروط : اعرف نفسك بنفسك | |
في معنى وشروط : اعرف نفسك بنفسك
عبد الحي أزرقان يمكن، ولاشك، أن نقرن بداية الفلسفة بظهور مبدإ "اعرف نفسك بنفسك". ونقصد بالبداية النشأة الأولى للفكر الفلسفي، وكذلك الانطلاقات التي أخذت معها الفلسفة توجها جديدا. هناك مجموعة من الأقوال فرضت نفسها في مجال الفلسفة وخارجه يرددها أناس كثيرون لا علاقة لهم بـ"محبة الحكمة"، نذكر من بين هذه الأقوال مثلا: "الإنسان حيوان اجتماعي بالطبع"، "أنا أفكر إذن أنا موجود"، "إن تاريخ المجتمعات هو تاريخ صراع الطبقات"، "الرجوع إلى الأشياء ذاتها"، "الجحيم هو الآخر". ولكن يبقى القول "اعرف نفسك بنفسك" يفوتها شهرة وعمقا لأنه يتمتع باستقلالية تامة، حتى وإن كانت تفرضه الأقوال السالفة الذكر. لقد كان لإتقان أصحابها لتطبيق قول "اعرف نفسك بنفسك"، الذي هو بمثابة مبدإ فلسفي، دوره الحاسم في إبداع الفكر الذي أتت في إطاره. لا يفيد مبدأ "اعرف نفسك بنفسك" اعتماد الفرد على ذاته لتحديد قدراته المادية والفكرية بدقة من أجل تحسين توظيفها في الحياة اليومية. يعبر هذا السلوك حقيقة عما يميز الإنسان عن الكائنات الأخرى التي يتقاسم معها الكون، وعن إرادة تكييف المعطيات الذاتية مع المعطيات الموضوعية والعكس. ولكنه يظل مع ذلك بعيدا عن استنفاذ معنى "اعرف نفسك بنفسك" لأن هذا الأخير يلخص خاصية الفكر الفلسفي ويجعله واثقا من تجديد الانطلاقة في الوقت الذي يبدو فيه أنه قد حقق غايته. كما لا يفيد مبدأ "اعرف نفسك بنفسك" حصر النشاط الفكري في وضع منهج نصنف وفقه المعارف الموجودة. ويتضح لنا، بإمعان النظر في تاريخ الفلسفة، أن الإبداع الفكري الناتج عن تطبيق هذا المبدأ لا يتوقف على المنهج وحده، وربما كان المنهج ثانويا، لأن الأمر المهم والرئيسي هو الموضوع الذي يصوغه ويبنيه الفيلسوف. هناك فلاسفة كثيرون تقرن ابتكاراتهم بوضعهم لمناهج جديدة ترتبت عنها تحولات وثورات في الفكر، ويأتي سقراط في مقدمة اللائحة ليليه كل من ديكارت وماركس وهوسرل وفوكو إلخ... ولكنه من الصعب، مع ذلك، حصر إبداع هؤلاء المفكرين في مسألة المنهج، وكل محاولة تعمد إلى استعارة ما يبدو لها بمثابة منهج في فلسفة ما لتطبيقه في مجال آخر قصد التوصل إلى الإبداع الفلسفي، فإنها تكون بذلك بعيدة عن أهم مبدإ في الفلسفة ألا وهو "اعرف نفسك بنفسك"، فتنتهي في أحسن الحالات (أي في حالة تمكنها من ضبط الفلسفة المدروسة) إلى إغناء الفكر الذي تبنت منهجه دون التوصل أبدا إلى إبداع فكر جديد. يحث مبدأ "اعرف نفسك بنفسك" على ضرورة ممارسة الفكر بجوار مختلف الممارسات الإنسانية الأخرى، وبالخصوص تلك التي تتمتع بالبداهة التامة وينساق المرء وراء تطبيقها (والدفاع عنها) بدون أدنى تحفظ. يحث مبدأ "اعرف نفسك بنفسك" على ضرورة التأمل في الأسس التي تقوم عليها الممارسة في مختلف مجالات الحياة. هكذا يكون الفلاسفة السابقون على سقراط قد مارسوا بدورهم المبدأ الأول في الفلسفة حتى وإن لم يقولوا به. ولعل أصالة فكرهم تكمن في الحقيقة في محاولتهم إعطاء تفسير للوجود بالاعتماد على أنفسهم أكثر مما تكمن في التفسير ذاته الذي قدموه. لا تعنى هذه الممارسة، طبعا، الاعتراض بالضرورة على المعاني السائدة، إنها تفيد فقط خلق نوع من الفاصل (أو المسافة) بين الفكر والفكر الذي ينتمي إليه مهما بلغت قناعته بهذا الفكر. إن المهم في تطبيق مبدإ "اعرف نفسك بنفسك" هو جعل الإنسان حاضرا حضورا قويا في الحياة، ومعنيا بسيرها. لهذا نجد الفيلسوف يمعن النظر مثلا في المعارف الموجودة، ولكنه يمعن النظر في "غياب المعرفة أيضا" كما يقول أفلاطون. إن التساؤل عن غياب المعرفة هو بدوره إمكانية للإبداع وإمكانية لإغناء الحياة. إنه إمكانية لتعميم الحضور الإنساني داخل واقعه. ولعل هذا التعميم هو الذي يجعل الطابع البرغماتي غير مرتبط دائما بالفلسفة، وإما هو ثانوي جدا بالنسبة لها. ولقد أثار أفلاطون هذه النقطة مع بداية الميتافيزيقيا قبل أن يؤكد عليها هيدجر مع نهايتها(1). نستخلص مما قلناه أن مبدأ "اعرف نفسك بنفسك" قام بالأساس للطعن في الدوغمائية، أو على الأقل للحد منها، ويكفي أن نضرب المثل مرة أخرى بأفلاطون لدعم الفكرة. لقد اشتهر كاتب الجمهورية وفيدون بتقديم معرفة بصدد موضوع اصطلح عليه بالمثل واعتبره مصدر الحقيقة وغايتها. إن طريقة تقديمه لموضوعه ودفاعه عنه جعل فلسفته تنعت في كثير من الكتابات النقدية بالدوغمائية. غير أن أفلاطون لم يتردد هو ذاته في الإشارة إلى كون الخطاب المهتم بتعريف المثل يؤدي إلى التناقض وإلى الحيرة، ويؤدي إلى جعل الأحكام التي نصدرها وبصدد الأشياء المحيطة بنا صعبة الحسم. وهو يذهب إلى الإفصاح عن ضرورة الحد من الطابع الوضعي الذي قد تأخذه الفلسفة على العموم حيث يقول: "لا يوجد أي شيء يمكن أن يكون واحدا إذا تم تناوله في حد ذاته؛ كما لا يوجد أي شيء في استطاعتنا تعيينه وتحديد خصائصه بطريقة صحيحة كل الصحة. إن أنت حددت شيئا ما بكونه كبيرا، فإنه سيبدو لك صغيرا، وسيبدو لك حفيفا إن أنت قلت عنه ثقيلا، وهكذا دواليك لأنه لا يوجد شيء ما على شكل الواحد". لا يفيد الاعتراض على الدوغمائية الدفاع عن الشك التام كما يذهب إلى ذلك الدوغمائيون. إنه يعني فقط عدم ادعاء استنفاذ كل الإمكانيات المرتبطة بإبداع معنى الحياة. إن الممكن هو المجال الحق للفكر الفلسفي، ولهذا نجد فلسفات كثيرة لا تهتم (وترفض أن تهتم) بالوجود وحده أو بالعدم وحده لتتشبث بما يشتركان فيه (Leur intersection )، وهو ليس شيئا آخر غير الممكن. ويفيد الاعتراض على الدوغمائية أيضا الاعتراض على النظرة الأحادية إلى العقل الإنساني. ونقصد بالأحادية ما يلي: اختزال العقل في الإنارة من جهة، واعتباره قادرا على الإلمام بموضوعه بشكل تام من جهة ثانية. يتضح مما سبق قوله إن الفيلسوف يظل وثيق الارتباط بواقعه ومجتمعه وثقافته وعقيدته وتاريخه (وتاريخ الإنسانية على العموم) في الوقت الذي يبدو فيه أنه منشغل بذاته فقط. وبما أن مبدأ "اعرف نفسك بنفسك" يعني دائما محيط الفيلسوف أيضا فلا بأس أن نقول كلمة أيضا عن خصائص المحيط الذي يعيش فيه الفيلسوف. إذ لاشك أن هذا المحيط ينفرد بخاصية ما مادام أن الفلسفة، بالمعنى الدقيق والواضح، لا تمارس إلا في مجتمعات محدودة. هناك في نظرنا مفهومان رئيسيان يكونان عبارة عن أسس داخل المجتمع الذي يسمح بالاستناد في عملية التفكير إلى مبدإ "اعرف نفسك بنفسك" وهما الحرية والتغير. يترك مبدأ "اعرف نفسك بنفسك" الفرصة للفرد لإعادة النظر فيما يسود محيطه من تقليد وتفكير وتصورات، إن لم نقل يفرض عليه هذا السلوك ويعلمه تحمل مسؤولية الحياة. ذلك أن المجتمع الذي يسود فيه مثل هذا المبدإ يكون مجتمعا متشبعا بالحياة ومنغمسا في غناها، ومجتمعا يكتسب فيه أفراده رهافة في الحس تدفعهم إلى الانتباه لأدنى الجزئيات، وإلى الإصرار على الحفاظ على طاقتها، مع العمل في الوقت ذاته على فتح آفاق جديدة للحياة، وإعطائها معاني أعمق من تلك التي اكتسبتها من قبل. يكون المجتمع الذي يسود فيه مبدأ "اعرف نفسك بنفسك" مجتمعا متماسكا وقويا وقادرا على التغلب على المعضلات التي تواجهه، وعلى إدراج الجديد الذي يلحق ببنياته وعاداته وثقافته داخل نسقه. إنه مجتمع يقوم على الحرية ويومن بها ويدافع عنها. ونحن نعرف أن المجتمع الذي تسود فيه الحرية مجتمع يعمل على تطوير بنياته ومؤسساته حتى تكون في مستوى استيعاب الجديد الذي يظهر في محيطها. هكذا يخضع الهياكل للأفراد بدل الاقتصار على إخضاع الأفراد للهياكل. إنه مجتمع يتنافى مع أسلوب الإقصاء، وحينما يحدث ذلك فإنه لا يعدو أن يكون أمرا متعلقا بحالات خاصة ومحدودة. كثيرا ما يقال إن الحرية تكتسب ولا تعطى. يصدق هذا على المجتمع الذي تسود فيه الحرية، لأن وصوله إلى جعل الحرية مبدأ من مبادئ الحياة بداخله لا يدل على كون مسيرته أناسا خيرين، أو على كون مؤسساته نشأت فقط انطلاقا من أفكار مثلى تمكن المثقفون من خلقها، وإنما يدل على رقي المجتمع ذاته، أي على رقي الأفراد على مستوى واسع وشامل. تتجسد الإرادة في هذا المجتمع بقوة في المؤسسات لأنها تجد من يجسدها على مستوى الأفراد، يحرص الفرد في المجتمع المتطور على فردانيته، فتكون النتيجة هي احتراس المؤسسة من الفرد. لا يمنعه حرصه على فرديته من ربط الحفاظ على هذه الأخيرة بخدمة ما هو كلي والدفاع عنه، إذ يعمل الفرد على تقوية الكل لضمان سير الحياة التي يعتبرها مناسبة له، ولكنه يترك لنفسه دائما إمكانية التصدي للخلل الذي ينتاب سير هذا الكل. إن المجتمع الحر مجتمع المسؤولية. هناك مسؤولية تخص الهياكل وأخرى تخص الأشخاص، الشيء الذي يسهل علمية المحاسبة. وكلما توفرت شروط المحاسبة المقننة كلما ساد الانسجام. لا يتناقض المتجمع الحر مع الاستبداد فقط، وإنما يتناقض أيضا مع التفاني. فلا الفرد يتنافى في خدمة المؤسسة ولا المؤسسة تتنافى في خدمة الفرد. وحينما يحصل هذا الأمر فإنه لا يعدو أن يكون مبادرة تلقائية قد يجازي على فعلها ولكن لا يعاقب بتاتا على التخلي عنها. هكذا تؤدي ممارسة مبدإ "اعرف نفسك بنفسك" إلى عكس ما قد يمكن أن يفيده للوهلة الأولى. يمكن للمرء أن يفهم منه أنه مبدأ منبثق من الأنانية ليدافع عن الأنانية. ولكن يتبين أن المجتمع الذي يسود فيه هذا المبدأ هو المجتمع الذي يربط فيه الفرد فرديته بالكلي، لأن هذا الأخير يكون في مستوى الترحيب بكل إغناء جديد للحياة ساهم به فرد من أفراده. وحتى إذا لم يتوصل إلى مستوى الترحيب فإنه يسمح على الأقل بإمكانية التعايش. ليس من الغريب إذن أن تظهر الفلسفة لدى اليونان، وليس غريبا أن نقرأ عند أكبر فلاسفتهم: إن الإنسان حيوان اجتماعي، وليس غريبا أن تبدأ الفلسفة بطرح فكرة الشمولية في الوقت الذي تلح فيه على المبادرة الفردية في التفكير. هكذا تكون الفكرة التي تربط نشأة الفلسفة بانقسام العمل إلى يدوي وفكري محدودة الصحة. إنها تراعي جانبا واحدا من الحضارة اليونانية، وتهمل جانبا آخر أكثر أهمية فيما يخص بروز الفلسفة. نقول إنها تراعي جانبا تتقاسمه مع الحضارة اليونانية حضارات متعددة، وتغفل عن الجانب الذي انفرد به اليونان ألا وهو الحرية: أي إيمان الفرد بارتباط حريته بتطور المدينة وبقوتها، وإيمان المدينة بارتباط حريتها بتطوير الفرد وتقويته. يعرف المجتمع الذي يسود فيه تقسيم العمل إلى يدوي وفكري الثراء والرفاهية والبذخ على العموم، ولكنه لا يعرف سيادة الحرية بالضرورة، هذا بالإضافة إلى أن المجتمع الثري ليس بالضرورة مجتمعا في مستوى إبداع معاني متطورة للحياة، وكسب رهافة الإحساس، لدفع الإرادة إلى ما لا نهاية في إنجازاتها وتحقيقاتها. واضح إذن لماذا أشرنا في البداية إلى عدم حصر معنى مبدإ "اعرف نفسك بنفسك" في تحديد القدرات والخصائص الفردية. إنه مبدأ فلسفي تنص دلالته على إمكانية الفرد في التساؤل عن الكل الذي ينتمي إليه (وضرورة ذلك)، كما تنص على أن حياة أو موت الفكر الذي يقدمه الفيلسوف يتوقفان على القوة الداخلية للخطاب بدل القوة الخارجية. وحتى إذا تعرض هذا الفكر للمواجهة (وهو يتعرض لها بالضرورة) فإنها تتم مع قوى من نفس الطبيعة، أي مع قوى معرفية. وبسيادة هذا النوع من الصراع يبرهن الإنسان على أنه منشغل فعلا بوضع حد للطابع الحيواني الذي يتسرب إلى سلوكه بكل سهولة. هناك مسألة أخرى تحتل بدورها مكانة مرموقة في المجتمع الذي يسمح بتطبيق مبدإ "اعرف نفسك بنفسك" لا تقل أهمية عن الحرية، إن لم نقل إنهما متلازمتان، ويتعلق الأمر بالتغير. إذا توفرت لدى أفراد المجتمع إمكانية تحديد أنفسهم انطلاقا من الكل وتحديد الكل انطلاقا من ذواتهم، فمعنى ذلك أن هذا المجتمع يكون، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، في مستوى إدماج الجديد الصادر عن العناصر المكونة له، في بنياته كلما شكل ذلك الجديد قوة تفرض نفسها فيما يخص تعميق انسجام المجتمع وإغناء حياته وتطوير مستواه. ولن نكون في حاجة هنا إلى ذكر الأمثلة، لأنها كثيرة ومتعددة وواضحة. ولعل تقبل المجتمع الذي تزدهر فيه الفلسفة للتغير هو الذي جعل الفلاسفة يتعاملون معه كموضوع رئيسي بالنسبة لمجالهم الفكري. لهذا لا ينبغي أن نستغرب إن كان مفهوم التغير قد ظهر مع ظهور الفلسفة. لقد اتخذه بارمنيدس وهيراقليطس كموضوع رئيسي للفكر الفلسفي ليظل حاضرا عبر تاريخ هذا الأخير ولو بشكل سلبي. إنها لمسألة عميقة جدا أن يذهب أكبر فيلسوف يمثل الاتجاه إلى قرن المطلق ذاته بالتغير. إن الإقرار بالتغير معناه الإقرار بالقدرات الإبداعية للإنسان من جهة، وبضرورة منحها المكانة اللائقة داخل الوسط الذي تتدفق فيه من جهة ثانية. إنه اعتراف في نهاية المطاف، بدور الكائن الإنساني في الوجود. يصعب، في نظرنا، الحديث عن حقوق الإنسان أو عن واجباته داخل مجتمع برفض صراحة مقولة التغير أو داخل مجتمع يعجز عن خلق الشروط المادية والفكرية التي تسمح باستيعاب التغير. هناك نقطة تستدعي الإثارة بهذا الصدد وهي كون المجتمع الذي يعترف للإنسان بدوره الإبداعي، مجتمع ترتبط مشاريعه دائما بالمستقبل. ولهذا يمكن أن نضيف إلى الملاحظة السابقة المتعلقة بالشرط الذي تفترضه حقوق الإنسان وواجباته،. أن الإنسان كإرادة وكقوة وكحياة لن يجد مكانته إلا داخل المجتمع الذي يتحدد انطلاقا من المستقبل (بما في ذلك ماضيه)، أي من الممكن؛ ذلك لأن الممكن أساسي في تحديد المجتمع لإمكانياته التي هو في حاجة إليها. هكذا يكون مبدأ "اعرف نفسك بنفسك" مبدأ قائما على الاعتراف بالإنسان كإحدى القوى الأساسية الفاعلة في الحياة. | |
|