جاء في إنجيل يوحنّا: (وأمّا “المعزّي” الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلّمكم كلّ شيء ويذكّركم بكلّ ما قلته لكم) (14، 26) وفي الإصحاح الموالي: (ومتى جاء “المعزّي” الذي سأرسله أنا إليكم من الأب، روح الحق الذي من عند الأب، ينبثق فهو يشهد لي) (15، 26) وفي الإصحاح الموالي: (لكنّي أقول لكم الحق: إنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم “المعزّي” ولكن إن ذهبت أرسله إليكم) (17، 6) وذهب كثير من المسلمين إلى أنّ هذا الكلام هو بشارة عن النبيّ محمّد، وتصديقُها في القرآن الآية السادسة من سورة الصف: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم مصدّقا لما بين يديّ من التوراة ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلمّا جاءهم بالبيّنات قالوا هذا سحر مبين) فلفظة “المعزّي” الإنجيليّة هي نفسها “أحمد” القرآنيّة.
في معنى “المعزّي”:
الكلمة في النصّ الأصلي لإنجيل يوحنّا باليونانيّة تُرسم: (παρακλητος ) وحيث أنّ القارئ العربي لا يعرف، غالبا، اليونانيّة ثمّ العبريّة، فإنّي سأحاول التبسيط قدر الإمكان وترجمة الحروف اليونانيّة إلى الحروف اللاتينيّة التي يعرفها القارئ بما أنّ الأبجديّة الإنجليزيّة والفرنسيّة منبثقتان منها.
وترجمة اللفظة اليونانيّة حرفيّا إلى اللاتينيّة: ( Parakletos ) وحرفيّا بالعربيّة: “باراكلاتوس” وجاءت في كتب التراث العربي: “الفارقليط” وسأفسّر سبب هذا التغيير في الرسم والنطق لاحقا.
ولفظة Parakletos تتكوّن من مقطعين: الأوّل (παρα = Para) وتعني (قرب، بجانب، من عند، إضافةً إلى) والثاني (κλητος=kletos) وهي مشتقّة من (καλέω= Kaleo) وتعني (أدعو، أرجو، أطلب، أنادي...) فمعنى الكلمة هو: (الذي أدعوه ليكون بجانب) وهي مستعملة كثيرا في النصوص اليونانيّة القديمة وخاصّة في المجال القانوني بمعنى “المحامي” أو “الناصح”(1) بيد أنّها تأتي في أغلب الأحيان بصيغتها الأولى (παρακαλέω=Parakaleo ) وقد تتفرّع إلى معنى “الشفيع”، “السند”، “المعزّي”، “المُواسي”، إلخ..(2) وقد استعمل فيلون الإسكندري (12 ق.م، 54 بعد الميلاد) لفظة Paracletos في سياق قانونيّ عديد المرّات لكنّه استعملها أيضا بمعنى “الشفيع” في سياق الشخص الذي يتدخّل بين الإنسان والله(3) و“فيلون الإسكندري” رجل يهوديّ يكتب باليونانيّة، ومعاصر ليسوع، وهو يستعمل لفظة Parakletos ليعني بها “الشفيع” ولو فرضنا أنّ “حسب يوحنّا” ترجمها إلى اليونانيّة من كلام يسوع فلا بدّ أنّ يسوع قد نطقها بالعبريّة أو الأراميّة أوّلا بما أنّه هو نفسه يهوديّ ويتكلّم من خلفيّة يهوديّة دينيّة، ولم يكن شخص “المحامي” مشهورا عندهم في الحالات القضائيّة، بعكس الحال عند اليونان، ناهيك أن يستعملوا هذه اللفظة في نصّ دينيّ يشير إلى العلاقة بين الإنسان والله، بل دور “الشفيع” هو المستخدم عادة والمشهور في ثقّافتهم، مثلهم مثل العرب. وما يؤيّد كلامي هو ما جاء في الآية الأولى من الإصحاح الثاني لرسالة يوحنّا الأولى : (يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الأب: يسوع المسيح البار) (1يو، 2،1) فقوله (لنا شفيع عند الأب) موجودة في النصّ اليوناني الأصلي هكذا: παράκλητον ἔχομεν πρὸς τὸν πατέρα parakleton ekhomen pros ton patera=
وأغلب الترجمات الإنجليزيّة تترجمها إلى (we have an Advocate with the Father) إلاّ ترجمة Darby فهي تترجمها إلى: (we have a patron with the Father) بينما ترجمة World English Bible تترجمها إلى (we have a Counselor with the Father) وكلّها حسب رأيي لا تترجم المعنى الدقيق وهو معنى “الشفيع” الواضح تماما في هذه الآية والمتّصل مع الثقّافة اليهوديّة الدينيّة، وهو ما نراه في الترجمة العربيّة (سميث-فاندايك) التي تستعمل لفظة “الشفيع” في هذا الموضع، وهذه الترجمة العربيّة هي من أدقّ الترجمات على مستوى العالم، بيد أنّها وكبقيّة الترجمات، ولدافع عقائدي، تستعمل لفظة “المعزّي” حين تترجم الآيات الأخرى في إنجيل يوحنّا، وهي ترجعها إلى الأصل العبريّ (נחם=نحم=واسى) الذي يتكرّر كثيرا في العهد القديم، مثل سفر إشعياء: (عزّوا، عزّوا شعبي، يقول إلهكم) (40،1) وفي الأصل العبري: (נחמו נחמו עמי יאמר אלהיכם = نحمو، نحمو عمي يأمر ألهيكم) وفي ترجمتها اليونانيّة السبعينيّة:
(Παρακαλεῖτε παρακαλεῖτε τὸν λαόν μου, λέγει ὁ θεός
Parakaleite parakaleite ton laon moy, legei o theos =) وإن كنّا نلاحظ في الترجمة السبعينيّة أنّ (נחם=نحم) العبريّة (كفعل) قد تُرجمت على أصل παρακαλέω= Parakaleo أي إلى الفعل في طبقته الأولى، أمّا إذا كانت “نعتا” فتحذف منها الألف الثالثة كسفر أيّوب مثلا الذي يقول فيه: (قد سمعت كثيرا مثل هذا، معزّون متعبون كلّكم) (16،2) وأصل الآية العبري:
(שמעתי כאלה רבות מנחמי עמל כלכם=شمعتي كاله ربوت منحمي عمل كلكم) تمّت ترجمة كلمة (منحمي=معزّي) في الترجمة السبعينيّة إلى: (παρακλήτορες=Parakletores ) بصيغة الجمع بطبيعة الحال، وهذا لم يمنع الالتباس في فهم كلمة Parakletos الموجودة في إنجيل يوحنّا، خاصّة إذا ألبسنا الكلمة ثوبا تأويليّا، كاعتبارها تعني الروح القدس مثلا، ممّا أدّى إلى ترجمتها كما هي في بعض الترجمات القديمة، فنجدها في الترجمة اللاتينيّة “La Vulgate” والتي تعود إلى القرن الخامس الميلادي: (Paraclitum) وفي الترجمة السريانيّة “البشيتا” والتي تعود إلى القرن الخامس الميلادي تُترجم الكلمة إلى (فارقليطا) (4) لكن في الترجمة السريانيّة الفلسطينيّة والتي تعود إلى القرن الرابع الميلادي تُترجَم إلى “منحمنا” (5) وهذا الالتباس وعدم وضوح الكلمة أدّى أيضا إلى أن يعتبر “ماني”(القرن الثالث الميلادي) أنّه هو “الفارقليط” المذكور في إنجيل يوحنّا(6) وقبل “ماني” ادّعى شخص آخر من تركيا اسمه “مونتنس” (مولود 160 ميلادي) أنّ “الفارقليط، الروح الحقّ” قد حلّ فيه، وهو مؤسّس مذهب “المونتانيّة” الذي انتشر كثيرا في القرن الثاني الميلادي في الإمبراطوريّة الرومانيّة وتبعه خلق كثير، وأشار إلى أنّ النبوّة لم تتوقّف مع المسيح بل ما زالت متواصلة ويمكن أن ينزل الوحي على رجل أو امرأة، وتبعته امرأتان هما “ماكسيميليا” و “بريسيلا” كانتا قريبتين منه، ثمّ ادّعتا النبوّة أيضا، (مثل مسيلمة وسجاح) وهو الذي نشر مفهوم التثليث في المسيحيّة، على قول “André Wautier” (7) حيث أنّ أوّل ذكر لصيغة “الأب والابن والروح القدس” جاء عند “ترتليانوس” “Tertullianus” (من قرطاج، القرن الثاني الميلادي) وكان يدافع عن المسيحيّة ثمّ اتّبع مذهب المونتانيّة، وهذا موضوع يطول الحديث فيه وليس مقامه هنا.
وطلبا للاختصار والتبسيط وكي ألخّص المسألة فإنّ الكلمة تُترجم كالتالي:
اليونانيّة: παρακλητος= Parakletos
اللاتينيّة: Paraclitum و Advocatus
العبريّة: מנחם=منحم
السريانيّة: منحمنا وفارقليطا
العربيّة: المعزّي والشفيع
مبشّرا برسول من بعدي اسمه أحمد:
جاء في سورة الصفّ: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم مصدّقا لما بين يديّ من التوراة ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبيّنات قالوا هذا سحر مبين) (الصف،6) من الطبيعيّ أن تتّجه أنظار المفسّرين إلى الآيات الموجودة في إنجيل “حسب يوحنّا” والتي تتحدّث عن الفارقليط الذي سيأتي، فيقول مقاتل بن سليمان في تفسيره، وهو أقدم تفسير وصلنا (توفّي حوالي 150 هجري) : (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بنى إسرءيل إني رسول الله إليكم مصدّقا لما بين يديّ ( يعني الذي قبلي) من التوراة ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ( بالسريانية فارقليطا ) فلمّا جاءهم ( عيسى) بالبيّنات ( يعني بالعجائب التي كان يصنعها ) قالوا هذا سحر مبين) (8) وجاء في سيرة ابن إسحاق: (وقد كان فيما بلغني عمّا كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله، ممّا أثبت يحنّس الحواريّ لهم، حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام في رسول الله إليهم أنّه قال [...] فلو قد جاء المنحمنّا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الربّ، وروح القدس، هذا الذي من عند الربّ خرج، فهو شهيد عليّ وأنتم أيضا [...] والمنحمنّا بالسريانيّة: محمّد، وبالروميّة: البرقليطس) (9) وابن اسحاق عاصر مقاتل بن سليمان، لكن لكلّ منهما مصادر معلومات مختلفة عن الثاني حيث نلاحظ في مواضع كثيرة اختلافا في سرد الأحداث والروايات، ورغم ذلك فهما يتّفقان في هذه النقطة وهي أنّ الفارقليط تعني أحمد، والمنحمنا تعني محمّد.
بالنسبة إلى قول ابن إسحاق إنّ منحمنا هي محمّد فهو كلام غير صحيح، حيث أنّ “منحمنا” تعود إلى جذر “نحم” بينما تعود كلمة “محمّد” إلى جذر “حمد” ولا توجد علاقة إيتمولوجيّة بين الكلمتين، اللهمّ إلاّ إذا أردنا أن نركبّهما على بعضهما بصورة اعتباطيّة، كما فعل ابن إسحاق، بسبب وجود الحاء والميم وهذ أمر خارج البحث العلمي.
أمّا قول مقاتل إنّ كلمة الفارقليط تعني أحمد، فقد أشرنا في بداية البحث إلى معناها: “المعزّي” أو “الشفيع” ولا علاقة لها بمعنى “أحمد” و “الكثير الحمد” وهو ما يذكره الرازي في مفاتيح الغيب قائلا: (أمّا الفارقليط ففي تفسيره وجهان: أحدهما أنّه الشافع المشفّع، وهذا أيضا صفته عليه السلام [يقصد محمّد] والثاني قال بعض النصارى: الفارقليط هو الذي يفرق بين الحقّ والباطل وكان في الأصل فاروق كما يقال راووق للذي يروق به وأمّا “ليط” فهو التحقيق في الأمر كما يقال شيب أشيب ذو شيب، وهذا أيضا صفة شرعنا لأنّه هو الذي يفرق بين الحقّ والباطل) (10) ولم يخطئ الرازي في تفسير معنى الفارقليط بالفاروق حيث أنّ كلمة Paraklitos اليونانيّة وجدت لها جذرا في السريانيّة أثناء الترجمة وهو جذر “فرق” فأخذت دلالة جديدة تضاف إلى الدلالات القديمة وهو أمر منتشر في تداخل المعاني في الترجمات القديمة، بيد أنّ الرازي يفسّر كلمة “الفارقليط” بالشفيع ويتجاهل المعنى الآخر، وهذا مفهوم، حيث أنّه يعتبرها نبوءة عن النبيّ محمّد فأخذ التفسير الذي يوافق غرضه، بما أنّ محمّدا في المفهوم الإسلامي هو شفيع أيضا، وترك التفسير الثاني ولا أظنّه يجهله، لكن المشكلة هنا أنّ الآية في القرآن تتحدّث عن معنى“أحمد” لا عن معنى “الشافع”.
وقد ذهب “يوسف علي” إلى أنّ كلمة الفارقليط تعني فعلا “أحمد” واقترح تخريجة لغويّة ذكيّة تستحقّ النظر إليها وهي كالتالي: لفظة Parakletos تعني “المعزّي” أو “الشفيع” حقّا لكن يوجد تحريف في الكلمة الموجودة في إنجيل يوحنّا وأصلها الصحيح هو: Periklutos وتعني “المشهور” و “المحمود” وبالتالي تعني “أحمد” وقد وردت هذه الكلمة (Periklutos) في الإلياذة والأوديسة لهوميروس بهذا المعنى (11) وكما نلاحظ فإنّ هذه التخريجة تعتمد على أنّ اليونانيّة تُكتب بلا حروف مدّ، أيّ أنّ الكلمة تُرسم بهذه الطريقة: Prklts ويمكن في هذه الحالة أن نقرأها بمعان مختلفة، كقولنا مثلا : (قتل) في العربيّة القديمة حيث يمكن قراءتها (قاتل) أو (قتال) أو (قتل) حسب المعنى، لكنّ اليونانيّة ليست لغة سامية وتُكتب فيها الكلمات بجميع حروفها كما أنّه وبمراجعتنا للمخطوطات القديمة قبل الإسلام وجدنا أنّ الكلمة كانت فعلا Parakletos ويمكن الاطّلاع على المخطوطة السينائيّة (codex sinaticus) للقرن الرابع الميلادي(12) والمخطوطة الإسكندرانيّة (Codex Alexandrinus ) للقرن الخامس الميلادي(13)
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يذكر القرآن أنّ عيسى بشّر بشخص اسمه أحمد إن لم يكن فعلا يعتمد نصّا دينيّا قبله وإلاّ فيمكن تكذيبه بسهولة من معاصريه المسيحيّين؟ أو نصوغ السؤال كما قال الرازي: (لأنّ ذلك لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفّرات لليهود والنصارى عن قبول قوله، لأنّ الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفّر الناس عن قبول قوله، فلمّا قال ذلك دلّ هذا على أنّ النعت كان مذكورا في التوراة والإنجيل)(14).
في هذه الحالة فإنّنا نتساءل: هل ذكر محمّد فعلا هذه الآية في القرآن؟ وهل من الممكن أن تكون قد أضيفت بعده؟
نصّ الآية بعد ذكر عيسى هو: (إنّي رسول الله إليكم مصدّقا لما بين يديّ من التوراة ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلمّا جاءهم بالبيّنات قالوا هذا سحر مبين) وهي الآية الموجودة في المصحف العثماني، لكن في مصحف أبيّ بن كعب فإنّنا نقرأ كلاما مغايرا وهذا نصّ الآية في مصحفه: (إنّي رسول الله إليكم وأبشّركم بنبيّ أمّته آخر الأمم يختم الله به الأنبياء والرسل قالوا هذا سحر مبين)(15) فأبيّ بن كعب لا يذكر اسم “أحمد”، ووجود مصاحف الصحابة المتداولة قبل عثمان والتي تختلف عن المصحف العثماني أمر مذكور بكثرة في كتب التفاسير وقد تمّ التأكّد من وجود هذه المصاحف اليوم بعد اكتشاف مخطوطات صنعاء حيث يحتوي بعضها على آيات قرآنيّة تمّ مسحها وإعادة كتابة القرآن الحالي فوقها، وتمكّن Puin من قراءة بعض الآيات باستعمال الأشعّة فوق البنفسجيّة وبعضها قريب ممّا هو مذكور في مصحف ابن مسعود في كتب التراث(16).
فإن كان اسم “أحمد” قد أضيف إلى القرآن بعد وفاة النبيّ فمتى حدث ذلك وكيف؟ وأودّ قبل أن أسترسل توضيح نقطة مهمّة للقارئ وهي أنّه يمكننا اعتبار الآية أصليّة وأنّ عيسى بشّر بشخص اسمه أحمد، وليس بالضرورة أن يصلنا كلّ ما قاله عيسى فالأناجيل نفسها محرّفة، أليس كذلك؟ وهذا كلام أحترمه وأشكر كلّ من يفكّر بمثل هذا المنطق المتماسك بيد أنّه يدخل في باب الإيمان والتسليم ولا يُعتدّ به في الأبحاث التاريخيّة للأسف.
قلنا إذن، متى حدثت هذه الإضافة وكيف؟ يمكننا في البداية أن نقترح علامة زمنيّة تبدأ من تاريخ وفاة النبيّ حيث أنّ كلّ صحابيّ كان يملك قراءة تختلف عن الآخر، وتنتهي عند عبد الملك بن مروان الذي كان آخر من جمع القرآن(17) وأضاف فيه ومحا مع صاحبه الحجّاج(18).
الفرضيّة الأولى: لم نجد -فيما وقفنا عليه- في كتب السنّة رواية توضّح لنا المسألة، بيد أنّ رواية لفتتْ انتباهنا في كتب الشيعة، وردت في أخبار عيون الرضا للشيخ الصدوق، في مجلس الخليفة المأمون وهذا نصّها: (لمّا قدم عليّ بن موسى الرضا عليه السلام على المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين، والهربذ الاكبر، وأصحاب زردهشت، ونسطاس الرومي والمتكلمين ليسمع كلامه وكلامهم فجمعهم الفضل بن سهل ثم أعلم المأمون باجتماعهم فقال: أدخلهم عليّ ففعل، فرحّب بهم المأمون ثمّ قال لهم: إنّى إنّما جمعتكم لخير وأحببت أن تناظروا ابن عمى هذا المدنىّ القادم عليّ [...] قال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه هل تنكر منهما شيئا؟ قال الرضا: أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمّته وأقرّت به الحواريون وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد (ص) وبكتابه ولم يبشّر به أمّته، قال الجاثليق: أليس إنّما نقطع الأحكام بشاهدي عدل؟ قال عليه السلام: بلى، قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمّد (ص) ممّن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا، قال الرضا عليه السلام: الآن جئت بالنصفه يا نصرانيّ ألا تقبل منّى العدل المقدّم عند المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام؟ قال الجاثليق: ومن هذا العدل؟ سمّه لي، قال: ما تقول في يوحنّا الديلمى؟ قال: بخ بخ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح، قال: فأقسمت عليك هل نطق الانجيل: إنّ يوحنّا قال: إنّما المسيح أخبرني بدين محمّد العربي وبشّرني به أنّه يكون من بعده فبشّرت به الحواريين فآمنوا به؟ قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنّا عن المسيح وبشّر بنبوّة رجل وبأهل بيته ووصيّه ولم يلخّص متى يكون ذلك، ولم تسمّ لنا القوم فنعرفهم، قال الرضا عليه السلام: فإن جئناك بمن يقرأ الانجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمّته أتؤمن به؟ قال: سديدا، [...] فقال: ألست تقرأ الإنجيل؟ قال: بلى لعمري، قال: فخذ عليّ السفر فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته وأمّته فاشهدوا لي وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي ثم قرأ (ع) السفر الثالث حتى بلغ ذكر النبي (ص) وقف، ثمّ قال: يا نصرانيّ إنّى أسألك بحقّ المسيح وأمّه أتعلم أنّى عالم بالإنجيل؟ قال: نعم، ثمّ تلا علينا ذكر محمّد وأهل بيته وأمّته)(19).
والإنجيل الذي يقرؤونه في هذه “المناظرة” وفيه ذكر محمّد هو ليوحنّا الديلمي كما جاء في النصّ، ويوحنّا الديلمي مولود سنة 660 ميلادي وتوفّي سنة 738 ميلادي، وقد تحدّث عنه المؤرّخون السريان (وخاصّة أبو نوح الأنباري) فيما بعد وأسطروا قصّته ونسبوا إليه معجزات كثيرة، ورووا فيما رووا أنّه قابل عبد الملك بن مروان وشفى ابنة عبد الملك من شيطان كان بها ثمّ شفى الحجّاج بن يوسف من مرض السرطان(20) وبغضّ النظر عن صحّة هذه الأخبار فإنّ الذي نستخلصه منها هو أنّ يوحنّا الديلمي كان على علاقة جيّدة بعبد الملك والحجّاج، ولا بدّ أنّهما سألاه عن نبوّة محمّد في الإنجيل فهل كان له دور ما في التمهيد لإضافة اسم “أحمد” للآية؟
وربّما تمّ التمهيد لإضافة اسم أحمد قبل ذلك التاريخ اعتمادا على الترجمة العربيّة للإنجيل والتي قام بها يوحنّا الأوّل (توفّي سنة 648 ميلادي) مع بعض التحوير فيها وإعطائها نكهة إسلاميّة حيث جاء في كتاب ميخائيل السرياني الكبير: ( في هذا الزمان أوفد عمرو بن سعد في طلب يوحنّا، ولمّا وافى إليه جعل يناقشه بكلام يخالف ويناقض الكتب وأخذ يوجّه إليه أسئلة عويصة فردّ البطريك عليها بأدلّة سديدة من أسفار العهدين القديم والحديث وبأدلّة طبيعيّة، فأعجب الأمير بشجاعته ووفرة علمه وأمره قائلا: أنقل لي إنجيلكم إلى اللغة العربيّة)(21) وقد اشترط عليه عمرو(22) أن يترجم الإنجيل دون أن يذكر فيه ألوهيّة المسيح والتعميد والصليب، لكن البطريرك رفض متحجّجا بأنّه لا يستطيع تغيير كلمة واحدة من النصّ الأصلي، فوافق الأمير في الأخير، وقام يوحنّا بالترجمة ثمّ دفع بالكتاب إليه(23) ولا شيء يمنع من أن يتدخّل “عمرو” أو “عمير” في هذه الترجمة بعد أن صارت بحوزته، حيث أنّه لم يكن راضيا منذ البداية أن تتمّ الترجمة بأمانة، وربّما أضاف لفظة “أحمد” لتكون أساسا نصّيّا لمن جمع القرآن بعده.
الفرضيّة الثانية: الآية أصليّة في القرآن، أي قالها محمّد فعلا لكن نقلها من الكتاب المقدّس “كنزا ربّا” المندائيّ مع بعض التغييرات من عنده أي نقلها “بتصرّف” وقد جاء في كنزا ربّا: (في ذلك الوقت، تصبح أورشليم حطاما ويُنفى اليهود ويتشتّتون في كلّ بلد، ثمّ يأتي أحمت [أحمد] بن بيصابات، الساحر، ويعمّ الشرّ العالم بسبب دعوته الشرّيرة، وتسقط النفوس في العالم السفلي)(24) والمندائيّون-الصابئة يعتبرون “يسوع”
نبيّا كاذبا ويطلقون عليه اسم (المسيح الدجّال) و(عيسى الكذّاب) وربّما نستطيع أن نفهم هنا سبب تسمية "يسوع" بعيسى في القرآن، فقلْب الحروف لتغيير المعنى كان سائدا عند رجال الدين القدامى فمثلا لفظة "يشوع= ישוע" مكتوبة في التلمود "ישו=يشو" حيث أنّ "يسوع" تعني "المخلّص" أو "الله خلّص" فقام "التلموديّون" بحذف حرف "العين" الأخير من الاسم لنفي صفة "المخلّص" عنه وجعْل اسمه بلا معنى، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المندائيّين الذين يعتبرون "يسوع" مسيحا دجّالا فقد قلبوا حرف "العين" الأخير من "يشوع" وجعلوها في أوّل الكلمة "عيشو" فصارت لا تعني شيئا(25) ثمّ دخلت إلى القرآن من هذه الناحية بعد تحويل "الواو" إلى "ياء=ألف مقصورة" و"الشين" إلى "سين" كما هو معروف في التحويل بين الحروف في اللغات السامية فصارت "عيسى"(26).
ولكن وبما أنّ القرآن يعتبر عيسى مسيحا حقيقيّا فقد صار المسيح الدجّال شخصا آخر سيأتي في المستقبل، أي تمّت قسمة "المسيح الدجّال عيسى" إلى شخصين : عيسى المسيح الحقيقيّ وهو المذكور في الأناجيل، والمسيح الدجّال سيأتي لاحقا، ومن هنا نفهم من أين جاء مصطلح "المسيح الدجّال" في التراث الإسلامي، فهو مسيح ولكنّه دجّال، وكما نلاحظ فنحن الآن في فضاء قرآنيّ "مدراشيّ" يقوم بتأويل المعلومات السابقة بطريقة أخرى، فيصبح "أحمت بن بيصبات" الشرّير هو أحمد خاتم الأنبياء وبشّر به عيسى في الإنجيل، ويصبح المسيح الدجّال شخصا آخر غير عيسى الإنجيليّ، وهذا التأويل المدراشيّ في القرآن منتشر فيه بكثرة ونفهم على أساسه اختلاف بعض القصص التوراتيّة عن القرآنيّة.
بيد أنّه من الممكن أنّ "أحمد بن بيصبات الساحر" مأخوذة من القرآن، حيث أنّ كنزا ربّا انتهت كتابته في القرن الثاني الهجري، رغم أنّه يحتوي على نصوص شفويّة قديمة، فاقتبسوا اسم أحمد من القرآن وجعلوه ساحرا وشرّيرا، ولا ندري يقينا من الذي اقتبس من الآخر.
ما كان الفارقليط مسيحيّا ولا مسلما:
ماذا لو كان يسوع يعرف شخصيّا هذا الفارقليط ويقصد شخصا بعينه؟ ولا علاقة له بأحمد القرآني ولا بماني المانوي ولا بمونتنس المونتناني؟
لماذا نبحث عن معنى الإسم، بدل البحث عن الاسم نفسه؟
الإجابة عن هذا السؤال قد نجدها في الأطروحات التي تعتبر يسوع مجرّد يهوديّ ثائر أراد تخليص اليهود من الاحتلال الروماني واعتبر نفسه المسيح فقبض عليه الرومان وصلبوه كغيره من الثوّار الذين يحرّضون على الثورة. ومن هذه الأطروحات أطروحة Massé (27) الذي اعتبر أنّ ليسوع علاقة "بيهوذا الجليليّ" الذي قاد الثورة في الاضطرابات التي حدثت سنة 6 ميلادي، وهي حركة ثوريّة مسلّحة تكفّر كلّ يهوديّ يعتبر الرومان سادة له، وتنهى عن مخاطبتهم بلفظ "سيّدي" وأنّ السيّد الوحيد هو الله، وهو ما نراه في كلام يسوع قائلا: (وأمّا أنتم فلا تدعوا أحدا بلفظ سيّدي، لأنّ معلّمكم واحد وأنتم جميعا أخوة. ولا تدعوا لكم أبا على الارض لأنّ أباكم واحد، الذي في السموات. ولا تدعوا الناس بلفظ قادة لكم، لأنّ قائدكم واحد: المسيح) (متّى23، 8-10) ويهوذا الجليليّ يعتبر الرومان كلابا وخنازير وأنجاسا وهو ما نراه في قول يسوع: (لا تعطوا القدس للكلاب.ولا تطرحوا درركم قدّام الخنازير.لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزّقكم) (متّى7، 7) وغير هذا كثير من الأمثلة التي لا نوردها خشية الإطالة.
وأبناء يهوذا الجليليّ هم: (يوحنّا وسمعان ويعقوب الكبير ويهوذا ويعقوب الصغير ومناحم وأليعازر) ونلاحظ أنّ الأسماء الخمسة الأولى تتّفق مع أسماء تلاميذ يسوع، وقد يكون تشابه أسماء، بيد أنّنا نملك دلائل عديدة على تورّط يسوع في هذه الحركة الثوريّة واتّصاله بهؤلاء المتمرّدين.
ومن ضمن أبناء يهوذا الجليليّ نلاحظ اسم "منحم= מנחם" وترجمة معناه إلى اليونانيّة: (παρακλητος= Parakletos) وبالسريانيّة: (منحمنا) وباللاتيتيّة: (Advocatus) وبالعربيّة: (المعزّي والشفيع) ، لكن هذه ترجمة لمعنى الاسم، تماما كأن نقول مثلا: (سيأتي كريم غدا) والمقصود به اسم علم، فيترجم أحدهم الاسم مثلا إلى : (generous) أو (généreux) وهذا الذي حدث في ترجمة اسم "منحم" فأدّى إلى الالتباس.
نرجّح أنّ يسوع كان يتحدّث عن "مناحم" الذي سيواصل مسيرة الثورة بعده، وهو ابن يهوذا الجليليّ الذي ينتمي إلى نسل داود، وفعلا قاد مناحم الثورة واعتبر نفسه المسيح ودخل إلى القدس تحت هتاف الجماهير الذين استقبلوه بسعف النخيل، ثمّ قُتل سنة 66 ميلادي لتتمّ إضافة اسمه إلى قائمة الثوّار الذين ادّعوا أنّهم "المسيح المنتظر".
لقد مات الفارقليط بعد سنوات فقط من وفاة يسوع، وبقي المؤوّلون يبحثون عنه في شقوق الكلام، فالمسيحيّون يرون أنّه الروح القدس، والمانويّون ماني، والمونتانيّون مونتنس، والمسلمون محمّد، لكنّ الرجل مات وانتهى أمره من قديم الزمان.