« si mon travail, ne parvient point à me mériter la gloire, il ne doit pas non plus m'attirer le mépris »
Nicolas Machiavel -Le Prince et autres textes p 14è
« Le Cardinal d' Amboise m'a dit que les Italiens ne comprenaient rien aux affaires de guerre, je lui ai répondu que les Français n'entendaient rien aux affaires d'État »
«LE PRINCE; chapitre 3 »
التأطير الإشكالي للموضوع:
الفرضيات التي سننطلق منها في فحص موضوع الفلسفة السياسية لميكيافيلي، والتي نحسبها البذرة الأولى لما سيعرف فيما بعد بالفلسفة السياسية الحديثة هي :
• هناك فرق بين ميكيافيلي كما يقرأه الساسة، من خلال كتابه "الأمير"، وميكيافيلي كما يقرأه فلاسفة السياسة، من خلال كل كتاباته ورسائله، وهذا الفرق يتعين علينا الانتباه إليه لتجنب مطبّ الاختزال والتجزيء.
• ميكيافيلي هو بداية الفلسفة السياسة الحديثة، لكونه ينتمي لنسق ثقافي هو النهضة الأوروبية، وهو بالتالي لا ينتمي للماضي، بالمعنى الحصري للماضي، بل هو من مدشني صباح العقل الحديث إذا افترضنا أنّ المساء جنّ مع هيغل.
• ميكيافيلي نظر للطبيعة البشرية كما هي بالفعل، وكما تتجلى في التاريخ الفعلي للمجتمعات، وليس كما ينبغي أن تكون، كما فعل فلاسفة السياسة منذ أرسطو.
• ميكيافيلي أثر في كل فلاسفة السياسة في العصر الحديث، سواء باعتباره مصيبا ومحقا، كما فعل اسبينوزا بشكل صريح، أو باعتباره عدوا وخصما ينبغي دحضه، كما فعل روسو.
انطلاقا من هذه الفرضيات يمكننا القول أنه إذا كان بعض محترفي السياسة يعتقدون بإمكانية تأسيس علم للسياسة بمعزل عن الفلسفة السياسية، مقتدين في هذا الادعاء، بالاستقلال المنهجي للفيزياء والكيمياء عن الفلسفة، فإنّ الحقيقة التي يسعفنا ميكيافيلي في الوقوف عندها، هي أنّ الفلسفة السياسية هي جزء من علم السياسة، ذلك لأنّ الفلسفة السياسية لا تظهر إلا حينما تكون هنالك حياة سياسية، ولا تكون الحياة السياسية إلا حينما تكون المدينة، من هنا نفهم لماذا كان كلّ فلاسفة السياسة على مرّ العصور يناقشون اليونان والرومان، ولا يناقشون من قبلهما، لأنّ الفلسفات السياسية التي انبثقت في هاتين الحضارتين، لم تكن لتكون لو لم تكن هنالك، حياة سياسية تجري أطوارها في مدينة "cité"، وإذا كان أغلب الظن لدى الباحثين في مجال الفلسفة السياسية، يتجه إلى اعتبار ميكيافيلي بداية الإرهاصات الأولى للفلسفة السياسية الحديثة، فلأنّ ميكيافيلي، كان سياسيا خبيرا بأحول "المدينة"، ذاق مجدها وعقابها، ورأى بعينيه ظهورها واندثارها، واستنبط بفهمه وذكاءه أسسها ومرتكزاتها، وكان وهو ينصح ويحلل ويقوّم ويبرهن، مؤرخا للمدينة الرومانية، مدركا لأسباب قوتها وعظمتها، وكذا أسباب عللها وأمراضها، فمن كل هذا كان ميكيافيلي من جهة، سياسيا لا يخفي طموحاته السياسية، في كل كتبه ورسائله، كما كان فيلسوف سياسة، له رؤيته الخاصة وقراءته الخاصة لتاريخ الفلسفات السياسية منذ القدم، من هنا تنبثق كل الإشكالات التي سنحاول مقاربتها في هذا القول :
1- كيف ينبغي أن نقرأ ميكيافيلي؟ هل باعتباره سياسيا خبيرا، أم باعتباره فيلسوف سياسة؟
2- بأيّ معنى يعتبر النسق الثقافي للنهضة الأوربية مفتاحا لفهم فلسفته السياسية ؟
3- ما هي أوجه الجدة في الفلسفة السياسية الميكيافيلية؟ هل في كونها أعطت إمكانية تأسيس علم السياسة باستقلال عن سلطة الأنساق المغلقة؟ أم في كونها البذرة الأولى لما سيعرف بالدولة الوطنية؟
4- ما هو تأثير ميكيافيلي على الفلسفة السياسة الحديثة؟ ومنه ما هو تأثيره على الساسة على مرّ العصور؟
ميكيافيلي والنسق الثقافي للنهضة الأوربية؟
النهضة الأوربية، علامة على مرحلة تمخضت فيها الحداثة الغربية، لتلد أنساقا من التفكير الجديد، في العلم والفلسفة والسياسة والثقافة والفن، فالنهضة ومقابلها الفرنسي هو la renaissance، وتعني في الترجمة العربية الحرفية، "الميلاد الجديد"، وهي تختلف عن مفهومي الإحياء والبعث العربيين، لأنهما يرتبطان بالميت، والميت مستريح في كفنه لا أظنه يبعث إلا في اليوم الآخر، أما الميلاد الجديد فهو مرتبط بتجدد الأجيال، وهذا نقاش آخر...
المهم في سياقنا، هو أنّ كلّ القرائن في نصوص ميكيافيلي، تشير إلى أن الرجل كان واعيا بالتحولات التي تشهدها الثقافة الأوروبية، والتي سماها هو نفسه، في نصه المعنون بـ"خطابات" « les discours »، حيث نجده في الفصل الأول لهذا الكتاب، يشبه ما سينجزه في السياسة، بما ينجزه آخرون في مجال الاكتشافات الجغرافية والفلكية، في إشارة واضحة لاكتشافات كريستوف كولومبوس في مجال الجغرافيا وكوبرنيك في مجال الفلك، فميكيافيلي كتب "خطابات" و"الأمير" على التوالي، سنتي " 1513 و1512 »، واكتشافات كولومبوس كانت سنة 1498، بينما النظرية الفلكية لكوبرنيك ظهرت سنة 1473، أي أربعين سنة قبل كتابة "الأمير"، وربط الفلسفة السياسية بالنسق الثقافي للنهضة، يتعدى هذا أيضا إلى ربطه بالتحولات السياسية التي اعتملت في إيطاليا، والتي كانت ممهدة بشكل مباشر، لظهور أشكال وتنظيمات سياسية، كالجمهورية مثلا، حيث لم يعد الدين مرجعا للأمراء والقادة، بدليل أن كل كتابات ميكيافيلي، لا وجود فيها، إطلاقا لمفاهيم طبعت الأدبيات السياسية الوسطوية، كالعالم الآخر أو جهنم أو الجحيم، بل لا ترد كلمة النفس في كتاباته إطلاقا، وهو بهذا يتجاوز النسق الأرسطي وورثته الوسطويين مفاهيميا، ويتجاوزه أيضا في الرهان السياسي وفي نظرته للطبيعة البشرية، وهذا عنصر ثوري إن شئنا، لا يمكن إلا أن يقاس في مجال المعرفة بثورة ديكارت على المنطق الأرسطي، فإذا كان هذا الأخير منهجا فاسدا، لأنه" يصادر بالمطلوب"، كما يؤكد ديكارت، فإن السياسة الأرسطية هي نفسها فلسفة لقيت حتفها، بتعبير ميكيافيلي، نفسه، لأنها "تنظر للبشر كما ينبغي أن يكونوا وليس كما هم"، يقول ميكيافيلي في الفصل 15 : « قصدي هو أن أكتب شيئا مفيدا للذين يعلمون، بأنه يبدو لي من الملائم أن أذهب إلى الحقيقة الواقعية بدل تخيلها، لأن كثيرين تخيلوا جمهوريات وإمارات لم يروها، إن هناك فرقا كبيرا بين كيف يعيش المرء وكيف ينبغي أن يعيش، حتى إن الذي يرفض ما يفعله الناس بالفعل مفضلا عنه ما ينبغي أن يفعلوه يسعى إلى حتفه بدلا من بقائه".
إذن نحن أمام فكر سياسي جديد، مرتبط بفلسفة سياسية جديدة، مرتبط بحياة سياسية جديدة، ومرتبط بتصور معين للدولة وللسلطة، وما يستتبعها من شخصيات مفاهيمية، كالحق والعدالة والسيادة والشعب، فمثلا لم يعد الشعب جمعا نمطيا ومتشابها من الغوغاء و"العامة"، ليس لهم حظ في الفضائل النظرية والعملية والمدنية، بل نحن أمام شعب له "شخصيته"، فهم يتصارعون وينقلبون ويثورون ويحبون ويكرهون ويخافون ويرجون...، وفي كل هذا تظهر السياسة، كفن لتدبير كل هذه الاضطرابات، وتظهر أيضا القوانين والمؤسسات، فالقوانين كما يقول ميكيافيلي في الفصل الخامس عشر من كتابه خطابات "هي ثمرة هذه الاضطرابات".
في مقدمة كتاب "الأمير"، والتي وجهها "لورنزو دي ميتشي"، نجد هذا الأمر واضحا، حيث يقول : "في عالم الخرائط الطبيعية يضع الجغرافي نفسه في السهول الواطئة ليرصد معالم الجبال والمرتفعات، ويضع نفسه على الجبال والمرتفعات ليرى السهول، وبالمثل فعالم السياسة، يجب أن يضع نفسه في الطبقات الشعبية ليفهم طبيعة الحكام، ومع الطبقة الحاكمة ليفهم طبيعة الشعب"، ومعنى هذا القول عند ميكيافيلي كما سبق الذكر، هو أن الحكام غير مستغنين عن الشعب، والشعب غير مستغن عن الحكام".
عناصر الفلسفة السياسية لميكيافيلي:
في كتابه "فن الحرب" يدعو ميكيافيلي الفلورنسيين إلى تكوين جيش وطني، للدفاع عن فلورنسا، وهو كلام جريء في عصره إذا علمنا أن فلورنسا كانت تحت حماية الجيوش الفرنسية، وأيضا عدم الاعتماد على جيوش المرتزقة، كما يوضح أيضا في كتاب "الأمير"، ومجمل التبريرات التي يسندها بها ميكيافيلي دعوته، تؤدي بنا إلى القول أن الفلسفة السياسية لميكيافيلي، احتضنت ما سيعرف فيما بعد بالدولة الوطنية، التي تبحث لها عن جذور تيولوجية، بل تعتمد على خصوصياتها القومية، لذلك نجد له كتابات عديدة، تناول فيها القضايا الخاصة ببلده "فلورنسا"، وهذا أيضا قد يجعلنا نقول إننا بصدد "مثقف" حقيقي، فمن كتاباته أيضا، "إصلاح حكومة فلورنسا".
وجه الجدة في الفلسفة السياسية لميكيافيلي، يتجلى أيضا في كونها تناولت بصورة واضحة عن شيء كان يسبب للساسة وخزات ضمير عندما كانوا يمارسونه، ونقصد "السياسة غير الفاضلة"، فالصراع في السياسة هو جزء من طبيعتها كما سبق القول، ومن الطبيعي أن يلجا المتصارعون لجميع الوسائل لحسم انتصاراتهم، وما فعله ميكيافيلي هو أنه خلص السياسيين من الشعور بالذنب، بل دعاهم إليه وحثهم عليه، واعتبره حقا لهم، وخاصة في كتاب "الأمير" كما سنرى، في العنصر الموالي.
ميكيافيلي أيضا وضع أسس علم السياسة، كعلم محايث للعلم الطبيعي، فإذا كانت غاية هذا الأخير هي تمكين الإنسان من السيطرة على الطبيعة، فإن علم السياسة هو العلم الذي يمكّن البشر من السيطرة على البشر، وهي فكرة التقطها سبينوزا في رسالته السياسية، وكذلك هوبز، فسبينوزا يهاجم الفلاسفة بكونهم، يعالجون الانفعالات بوصفها رذائل ويظهرون إيمانهم بطبيعة بشرية غير موجودة، وهنا يصف سبينوزا ميكيافيلي بـأنه مدافع عن الحرية بما هي انفعالات.
"الأمير"..التاريخ يسجل الغايات ولا يتطرق للوسائل:
"الأمير" من أشد الكتب تأثيرا في التاريخ السياسي للبشرية، فقد قرأه فلاسفة الأنوار وعندما تربع "نابليون بونابارت" على الإمبراطورية الفرنسية وهو المتأثر بالأنوار، لم يتردد في قراءته والاستفادة منه، وتأثر به فريدريك ملك بروسيا، وبسمارك، وقد اتسعت هذه الحلقة في القرون الحديثة، فقد اختاره موسوليني في أيام تلمذته موضوعا لأطروحته التي قدمها للدكتوراه، وكان هتلر يضع هذا الكتاب على مقربة من سريره ليقرأ منه كل ليلة قبل أن ينام، كما جاء في “كفاحي”، ولا يدهشنا قول ماكس ليرنر في مقدمته لكتاب "خطابات" إن لينين وستالين أيضا قد تتلمذا على يد ميكيافيلي..وكذلك فعل الزعماء العرب، فقد ذكر حسنين هيكل في كتابه "كلام في السياسة"، علاقة الملوك العرب بهذا الكتاب، ومنه فصل دال بعنوان “الحسن الثاني قرأ الأمير أميرا وطبقه ملكا”، وكذلك فعل الأمير حسين، بحسب ما يرويه هيكل دائما.
يضم الكتاب 26 فصلا، وما يعطي للكتاب هذه القابلية لأن يكون مرجعا للساسة في كل الأزمنة، هو اعتماده على حقائق تاريخية وأحكام التجربة، بالإضافة لشموليته، فلا يوجد موضوع يفكر فيه أي حاكم إلا وتجد "الأمير" يتناوله بطريقة مفاجئة وصادمة أيضا، كموضوع الولاء ومحبة الرعايا للأمير، وطريقة تدبير صورته لديهم، والمعايير التي على الأمير/الحاكم الحفاظ عليها، والأخرى التي عليه تجنبها، بالإضافة لموضوع تدبيره للولايات والممالك، سواء التي استولى عليها بقوة السلاح أو التي انضمت طواعية، وطريقة تدبيره للجيش والمرتزقة والوزراء والبرلمانيين والأحزاب..غير أن أهم الفصول في اعتقادي هي الفصول 15 و 17 و18 و19.
في الفصل 15 نجد ميكيافيلي ينصح الأمير بأن يحافظ على نفسه أولا، ويعطي نماذج من التاريخ لأمراء نجحوا في ذلك، والدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس، فمن وجب الأمير أحيانا أن يساند دينا ما حتى ولو كان يعتقد بفساده، فليس أفيد للمرء من ظهوره بمظهر الفضيلة، كما لا يجدي أن يكون المرء شريفا وفاضلا دائما، بل كيف يستخدم الفضيلة والشرف، وليس المهم أن يكون رحيما بل عليه ألا يسيء استخدام الرحمة.
وفي الفصل 17 نجد أدلة يصعب محاججتها، بضرورة اعتماد الأمير على الترهيب والتخويف في الحفاظ على وحدة دولته، وألا يعتمد فقط على معسول كلام رعاياه، فبما أن الناس في العموم متقبلو الولاء، ويغريهم الربح ويطمعون إلى ما ليس في أيديهم، فإن تعويل الأمير على محبتهم هو طريق غير مضمون، بينما طريق التخويف كما يقول مكيافيلي "طريقة لا تفشل أبدا"، وفوائد معاقبة الأمير للأقلية هي أن العقاب لا يضرّ غيرهم، أما التساهل واللين معهم فيضرّ الجميع..والتاريخ لا يسجل أن فلانا كان رهيبا أو كان لينا ورحيما، بل يسجل إن كان فشل في الحفاظ على وحدة أمته أم فشل في ذلك، ويعطي أمثلة تاريخية عن النموذجين. يقول في الباب السابع عشر من الأمير: "من الواجب أن يخشاك الناس وأن يحبوك، ولما كان من العسير الجمع بين الأمرين فالأفضل أن يخشوك على أن يحبوك، هذا إذا ما توجب عليك الاختيار بينهما...ومصير الأمير الذي يركن إلى وعودوهم دون اتخاذ أي استعداد هو الدمار والخراب."
وفي الفصل 18نجده ينصح الأمير بتقليد عالم الحيوان في المزاوجة بين القوة وهي صفة الأسد، "ليخيف الذئاب" بتعبير ميكيافيلي، وثعلبا ليتجنب السقوط في الشراك التي يسقط فيها الأسد، و"من يعول على أن يكون أسدا فقط، فهو لا يفهم الأمور جيدا"...، فالغاية تبرر الوسيلة، وهذه حقيقة لا تنقضها أية فكرة أخرى، فإذا كانت غاية الأمير هي الحفاظ على إمارته، فإن حكم عامة الناس على الوسائل التي يعتمدها في سبيل الحفاظ على هذه الغاية يبقى حكما سطحيا، فالفضيلة والرذيلة ليسا قيمتين ثابتتين، فإن تمكن الأمير من الحفاظ على وحدة إمارته، ذكر التاريخ إنجازه، وإن فشل سجل التاريخ فشله، وفي جميع الحالات لا يسجل التاريخ الوسائل..
وفي الفصل 19، نجد ميكيافيلي يعرّف السياسة بأنها "فنّ الممكن"، ففي المجتمع هناك بشر يسيطرون على بشر، ومجمل الوسائل التي تجعل من السيطرة ممكنة ودائمة تسمى سياسة، وما يجمع هذه الفصول هو أن ميكيافيلي يعتقد بسوء نوايا البشر، وأنهم غالبا ما يركنون إلى الراحة والدعة والتملك بأقل قدر من الخسائر، سواء كانوا مواطنين أو حكاما، ولذا أوجدت الدولة والحكومات القوانين، وهي للحد من نفوذهم، هنا نلاحظ أن ميكيافيلي يتناول البشر كما هم، لا كما يجب أن يكونوا، وهذا هو روح الميكيافيلية كفلسفة سياسية.