بذكرنا للميم والعين والسين نكون أمام تعامل رمزي مع ثلاث شخصيات إسلامية كان لها التأثير الكبير في الإنتاجات الفكرية والمذهبية للطوائف الشيعية وللتيارات الغنوصية والإشراقية في الإسلام؛ والمقصود هنا ثلاث شخصيات بثلاثة أفعال مختلفة وملتبسة، ونقصد محمد وفعل النبوة، علي وفعل الإمامة، سلمان الفارسي وفعل الصحبة. و لم يكن النظر إلى هذه الشخصيات مقتصرا على سيّرها التاريخية، بل كان ينظر إليها كشخصيات روحانية متعالية ومفارقة، أو لنقل نماذج أولية.
بالإضافة إلى النبي محمد والإمام علي يعتبر سلمان الفارسي من أبرز الشخصيات الروحية في التراث الإسلامي، فقد تبوأ مكانة أساسية عند معظم الطوائف الإسلامية سواء المعتدلون منهم أو الغلاة، باعتباره واحدا من آل البيت ، حسب قول النبي حينما اختلف عليه المهاجرون والأنصار كل منهما يقول سلمان منا، فقال النبي: سلمان منا أهل البيت . ولسلمان الفارسي، حسب معتقدات بعض الطوائف الإسلامية، خصوصا الطوائف الشيعية، حضور مزدوج: واحد تاريخي والآخر روحي، إلا أنه وكما بين هنري كوربان ذلك ، يوجد ترابط بين الحضور التاريخي والحضور الروحي؛ لأن المسار الذي عرفته حياة سلمان أصبح رمزا لمسار مثالي بات من اللازم على كل النفوس أن تسلكه لتحقق اكتمالها، فالفتى سلمان تربى في بلاد فارس على العقيدة المجوسية ثم تحول عنها إلى المسيحية، لكن بعد أن سمع بأمر الرسالة الجديدة؛ الرسالة المحمدية، فرحل إلى مكة لملاقاة النبي، لقد عانى ما عانى في رحلته إلى أن وصل إلى هدفه . وبعد ذلك أصبح هذا الفتى الأجنبي واحدا من الصحابة المقربين، وفردا من أهل بيت النبي بالتبني طبعا. ويشير لوي ماسينيون Louis Massignon أن للحديث المعتمد في تبني الرسول لسلمان، تمام معناه وقوته، "فالمسألة هنا مسألة تقويم ما فعله، سلمان، بنوع من التبني، الشخصي لا القبلي، أو بالأحرى بنوع من التنصيب والتولية، ونعني بما فعله ما كتبه من توجيهات مذهبية أو تنبؤات منسوبة إليه، أو أقوال شفوية تتعلق بالتفسير" .
إن هذا التبني من طرف النبي وآله لسلمان الفارسي هو الذي دفع بكثير من الفرق الشيعية إلى إنزال سلمان منزلة عالية في معتقداتهم. فهو الذي خصه الله بخاصية التأويل، لذلك كان بمثابة رسول الملاك جبريل بل يمكن القول أنه ملاك الملاك ، على اعتبار أن الملاك جبريل مبلغ الرسالة إلى النبي في شكلها الظاهر، و مبلغها لسلمان في وجهها الباطن. وهكذا ارتفعت منزلته عندهم فوق منزلة النبي، لأن التأويل حسب معتقدهم أفضل من التنزيل وسلمان له العلم الأول والعلم الآخر، ومن الأخبار التي يعتمدونها في ذلك، الخبر التالي: " سئل عنه علي فقال: امرؤ منا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم، عَلِمَ العلم الأول، والعلم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول و الكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف" .
لقد كان سلمان الفارسي يشكل مرجعا أساسيا في علم التأويل عند فرق الشيعة، خصوصا الباطنية منها، أولئك الذين ذهبوا في التأويل إلى أبعد الحدود، فهم يقسمون المعرفة إلى ظاهر وباطن ويعتقدون أن الباطن أفضل من الظاهر، بل "اعتبروا أن الظاهر هو المفهوم العام للتوصيات المتعلقة بقواعد علم الدين، والباطن هو جوهر الدين المستور عن الأنظار والمخصص للألباب" . و نورد هنا الرواية التالية، لنبيِّن المستوى الإدراكي للقول عند سلمان الفارسي، كما ترسخ في التراث الإسلامي: يروى أن النبي قال يوما لصحابته: " أيكم يصوم الدهر؟ فقال سلمان: أنا يا رسول الله . فقال: أيكم يحيي الليل؟ فقال سلمان: أنا يا رسول الله. فقال أيكم يختم القرآن في كل ليلة؟ فقال سلمان: أنا يا رسول الله. فغضب بعض أصحابه، فقال: يا رسول الله إن سلمان رجل من الفرس، يريد أن يفتخر علينا معشر قريش. قلت: أيكم يصوم الدهر؟؟ قال: أنا، وهو أكثر أيامه يأكل. قلت: أيكم يحيي الليل؟؟ فقال: أنا، وهو أكثر ليله نائم. وقلت: أيكم يختم القرآن في كل يوم؟؟ قال: أنا، وهو أكثر أيامه صامت. فقال النبي: ( يا فلان ). وأين لك بمثل لقمان الحكيم؟؟ سَلْهُ فإنه ينبئك. فقال الرجل لسلمان: يا أبا عبد الله. أليس زعمت أنك تصوم الدهر؟؟ فقال نعم. قال: رأيتك في أكثر أيامك تأكل. فقال: ليس حيث ذهبت، إني أصوم الثلاثة في الشهر، والله عز وجل يقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وأصل شهر شعبان بشهر رمضان، وذلك صوم الدهر. فقال: أليس زعمت أنك تحيي الليل؟؟ قال: نعم. فقال: أنت أكثر ليلك نائم. فقال ليس حيث تذهب، ولكني سمعت رسول الله يقول: من بات على طهر، فكأنما أحيا الليل كله وأنا أبيت على طهر. قال: أليس زعمت أنك تختم القرآن في كل يوم؟؟ قال: نعم. قال: فأنت أكثر أيامك صامت. فقال ليس حيث ذهبت، ولكني سمعت رسول الله يقول لعلي: يا أبا الحسن. مثلك في أمتي مثل قل هو الله احد في القرآن، فمن قرأها مرة فقد قرأ ثلث القرآن، ومن قرأها مرتين فقد قرأ ثلثي القرآن، فمن أحبك بلسانه فقد كمل له ثلث الإيمان، ومن أحبك بلسانه وقلبه فقد كمل له ثلث الإيمان، ومن أحبك بلسانه وقلبه ونصرك بيده فقد استكمل الإيمان. والذي بعثني بالحق يا علي لو أحبك أهل الأرض كمحبة أهل السماء لك لما عذب أحد بالنار وأنا أقرأ قل هو الله احد في كل يوم ثلاث مرات- فقام فكأنه ألقم حجرا" . يبدو أن فهم سلمان وبالتالي بعض الشيعة مختلف عن ما يدركه بقية الناس وإن كانوا من الصحابة لأنهم منغمسون في الظاهر وسلمان له علم الباطن.
والواقع أن الأدبيات الشيعية قد تعاملت مع العين(=علي) والميم(=محمد) والسين (=سلمان) تعاملا خاصا تجاوزت فيه البعد التاريخي إلى البعد الميتافيزيقي، حيث كانت ترى فيهم، إضافة إلى كونهم أشخاص تاريخية، أقانيم أو نماذج روحية. وهكذا ثم النظر إلى كل واحد كشخص ذي طبيعة مزدوجة، فهو ناسوتي ولاهوتي في الوقت نفسه.
ف(العين) هو النموذج الأول للإمام والشخص المستور الشبيه بأمر الله الباسط أمره على العالم بأكمله، فهو بمثابة"المعنى الذي يضع الله في مركز الجماعة، والحجاب المستور الذي يكشف عن حضرة خفية؛ وهو الجذر الدائم لرسالة الإمامة وأصلها الإلهي الخالد... وهو الجرثومة التي تنتقل من ذكر إلى ذكر على مر الأجيال ولكي يموت المرء على الإسلام الصحيح فمن الضروري الاعتراف به ومحبته في تجليات ظهوره المتقطعة المتواترة هذه، التي تبدو بطريقة دورية كعود الهلال" .
أما الميم فهو "النموذج الأول للنبي(خصوصا لمحمد)، متغير وناطق، ودعوته تنشر ظافرة، الأوامر الإلهية. وهو لهذا يعين تخص العين ويسميه...وهو الاسم الذي به يدعو المؤمنون الله؛ وللميم- شأنها شأن صيغة العلم التي تدعو الفكرة للعقل ( دون أن تتدخل في فهمها)- تقول إن الميم هي حاجز يجب اجتيازه، لأنها تحجب" .
وأما السين فهو بمثابة النموذج الأول" للأسباب، وهي الروابط الخارقة التي يمكن أن تربط بين السماء والأرض...وهو، أعني السين سبب الشد والتلقين، تدعو إلى سبيل الله بالحسنى والإقناع، كما أن نداء المؤذن يزكي القلب بالصلاة. وهو الباب الذي يدخل منه النور الشعشعاني، ومنه يتصل المؤمن بالحضرة الإلهية، ويحقق عمل الله، بنفخ الروح مولدا الأبدان ومعلما النفوس، وهو المقدرة التي تمنح الوجود" .
وللإشارة فإن تصنيفا للحروف الأبجدية العربية الثمانية والعشرين إلى ما هو ظلماني ونوراني قد بدأ مع التأملات الغنوصية المبكرة في الإسلام ثم انتشر في مجالات فكرية إسلامية عديدة سواء كانت شيعية أو سنية، فالغنوصية الإسلامية عملت على توسيع نظرية حول العرفان القديم وفيها اعتبرت الحروف الهجائية كأساس لعملية الخلق، لأنها تمثل تجسيدا للكلام الإلهي، بل إن كثيرا منها، عمل على إبداع طرق متعددة لينسب إلى الكلمات قيما عددية معتبرا أن الحروف كموجودات تؤسس عملية الخلق حيث يتجلى كلام الله في مخلوقاته، فصور الموجودات وأشكالها المنطبعة في النفس يعبر عنها بالقول وبالكتابة أي بالحروف. فبالنسبة للباطنيين عموما، يوجد هناك تعارض أصيل بين القوة الأولى التي تنتمي إلى العالم المفارق وبين البنيات والأشكال المركبة والمكثفة في العلم المحايث. وهذا التكثيف غالبا ما يترجم برمزية الحروف الأبجدية، فالعلاقة الجدلية بين الألف والباء هي التي كونت الحروف الستة والعشرين الأخرى، إنها بمثابة الرحم الذي ستخرج منه كل إمكانات الحقل اللغوي الشاسع، والذي هو الكون بجميع مظاهره. وفي هذا الإطار تم النظر إلى الإمام جعفر الصادق كملقن لعلم الحروف، وبعد ذلك انتقل هذا العلم من الشيعة إلى متصوفة السنة منذ النصف الثاني من القرن التاسع ميلادي . فكان مرجعهم في ذلك، الحروف التي تبدأ بها بعض السور القرآنية باعتبارها حروفا نورانية وعلامات إلهية للمصحف القرآني كما ماثلوا بين الحروف وبين منازل القمر ، فكانت الحروف الظلمانية هي المتماثلة مع منازل القمر الظاهرة لأن هذه ظلمانية للنفس، أما المنازل غير الظاهرة فهي نورانية للنفس وبالتالي تتماثل مع الحروف النورانية.
وبناء على هذا التوزيع للحروف بين ما هو نوراني وبين ما هو ظلماني عمل البعض على قياس مكونات كل من العين (علي) والميم (محمد) والسين (سلمان)، فكانت النتيجة التالية: العين كله نوراني لأن الحروف المكونة لاسم علي تندرج ضمن لائحة الحروف النورانية، أما الميم، ولنفس الأسباب، فله ثلاثة حروف نورانية، وهي؛ الميم والحاء والميم وحرف واحد ظلماني وهو الدال. بينما السين كله تقريبا نوراني رغم أن فيها حرفا واحدا ظلمانيا، لأن السين واللام والميم والنون حروف نورانية، بينما للألف وضعية خاصة يكون فيها خفيا ويمكن أن تكون كلمة سلمان سلمن، يقول جابر بن حيان عن السين: " كان حرفها الظلماني وسطا خفيا ساكنا، ولا تبين فيه حركة بتة في شيء من أحواله وحيث ما وقع من المواضع" . ويترتب عن هذا التصنيف أن العين أفضل من السين وأفضل من الميم، والسين أفضل من الميم.
وعلى هذا يكون تصنيف تلك الشخصيات من ناحية الأفضلية على الترتيب التالي: علي أعلى منزلة من سلمان وسلمان أعلى منزلة من محمد، وذلك متحصل من جهتين:
أولا، من جهة عدد الحروف النورانية في كل شخصية من هذه الشخصيات.
وثانيا: من جهة الصحبة التاريخية بينهم، حيث إن العلم كله لعلي وقد فاض منه على سلمان ثم على محمد، لأن " السين مستقى من العين. وإنما ظهر له ما ظهر ممن نسب إليه ما هو للعين لما أخذ من أنواره وضعفت تلك الأبصار عن إدراك تلك الأنوار تعالت واستعظمت وأكثرت من أنوار السين. وإنما هي أمدت الميم لما رأت من ظلمة الميم" . بل نجد بعض الطوائف الإسلامية كالطائفة النصيرية، قد ذهبت إلى رفع علي إلى مرتبة الإله و جعلت من محمد مجرد حجاب وسلمان باب من الأبواب المفضية إلى العلم الباطن، وهذا ما نعثر عليه في القداس الثالث المسمى قداس الأذان، حيث يقرأ: " أشهد أن مولاي ومولاك أمير النحل علي بن أبي طالب الذي لا حال ولا زال، ولا ينتقل من حال إلى حال، وأشهد بأن حجابه السيد محمد وبابه السيد سليمان، ولا منفصل بين المعنى والاسم والباب".
إن هذا التصور الميتافيزيقي لعلي ومحمد وسلمان، ينقلنا إلى جانب آخر من جوانب الفكر الإسلامي، حيث يتداخل اللاهوت مع الناسوت ويحل الإلهي في التاريخي على نحو يذكرنا بالتثليث في العقيدة المسيحية التي تعتقد بحلول اللاهوت في الناسوت كما يحل السائل في الإناء، فصار ناسوت المسيح ظاهرا ولاهوته باطنا.
ويصح القول إن هذا التصور قد ترتب عنه الاعتقاد بأن هناك حدودا سماوية وهناك حدودا أرضية وهي متماثلة الواحدة مع الأخرى، فثمة ناطق على الأرض، أي نبي ينطق بالشريعة وهو الشبيه الأرضي للعقل الأول الذي يبتدئ الدعوة في السماء. وهناك الوصي وهو مستودع الوحي النبوي والوارث الروحاني المباشر للنبي ومهمته الخاصة هي التأويل الباطني الذي يعود بالظاهر إلى أصله وهو بهذا يشبه العقل الثاني، أي النفس الكلية. وهناك الإمام الساهر على توازن الظاهر والباطن فهو شبيه العقل الثالث.
من هنا تظهر تأثيرات الثقافات الأخرى على الثقافة الإسلامية، رغم إصرار الكثير على الطابع النقي لهذه الأخيرة. لن نخوض كثيرا في البحث في الينابيع التي أتت منها هذه الأفكار، فقط نكتفي بالإشارة إلى أن الفضاء الفكري الذي كان سائدا قبل ظهور الإسلام قد تميز بتعايش وتفاعل الكثير من المعتقدات الدينية: اليهودية والمسيحية ودين الصابئة، فشبه الجزيرة العربية في القرن السادس الميلادي، لم تكن أرضا خلاء من الناحية الدينية، كما يعتقد الكثير، بل كانت تحتضن أنماطا كثيرة ومتنوعة من الملل والعقائد التي سرعان ما وجدت لها في البيئة الإسلامية الجديدة تربة خصبة لتستنبت في شكل جديد، ومع مرور الوقت وتوفر الشروط التاريخية الملائمة والمتمثلة أساسا في الانفتاح على ثقافات جديدة واستدماج فئات بشرية جديدة ومتنوعة من الناحية العرقية والثقافية (الهندية والفارسية واليونانية) في الحضارة الإسلامية لقحت هذه العقائد بمذاهب أخرى وتبلورت في مذاهب جديدة ومتنوعة كل منها يدعي احتكار الإسلام ويقدم نفسه على أنه الناطق باسمه.
وتستمد هذه المذاهب الجديدة التي تنعت بالباطنية، شرعيتها من فكرة التأويل ومجاوزة ظاهر النص القرآني والانفتاح على آفاق لا يسمح بها منطوقه، بحجة أن الفهم الظاهر للنصوص فهم ساذج لا يليق إلا بالعامة، فالقرآن في جوهره رموز وإشارات لا تفتح مغاليقها إلا للذين لهم علم التأويل وبهذا يصير النص ذي وجهين؛ ظاهر وباطن الأول للعامة والثاني للخاصة.