حدود العقل : بين التضييق النظري والتوسيع العملي:
ترتكز فكرية القدامة الفائقة على قصور العقل وعلى طابعه الوسيلي ومنحاه الإجرائي؛ فبما أن العقل البشري، قاصر نظريا، فإنه غير قادر على تأويل النصوص المؤسسة ولا على الانفراد بقراراته وتأويلاته بعيدا عن المقررات الشرعية. ومن البين أن السنّيين بنوا شرعيتهم على القدح في العقل التأويلي وعلى التفاعل الإبداعي مع محمولات النصوص، وكرّسوا التسليم مبدأ، وتعطيل العقول قاعدة لا مناص من العمل بهما لنيل النجاة في الدارين.
لم يملك السفير محمد بن عثمان المكناسي حين أبصر هياكل بشرية بصقلية إلا أن يؤكد على قاعدة التسليم، وأن يتعامى عن إرهاصات الثورة العلمية.
(فمن عجز عن أقرب الأشياء نسبة منه، فكيف يقدر على أبعد الأمور خفية عنه من عرف نفسه عرف ربه، فالعجز عن الإدراك إدراك، والغاية التي لا تدرك يجب أن تترك، فهو على ما يليق بجلاله تعالى من واجب مستحيل وجائز، اللهم إيمانا كإيمان العجائز، ولله درّ القائل :
كل ما ترتقي إليه بوهم من جلال وقدرة وسناء
فالذي أبدع البرية أعلا منه، سبحان مبدع الأشياء)
( -محمد بن عثمان المكناسي – البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر – دراسة وتحقيق : مليكة الزاهدي – منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية – الطبعة الأولى – 2005- ص.245)
ليس العقل قادرا على الإدراك ولا على التدبر ولا على الاستدلال من منظور أحد مداوري الفكر التسليمي اللاعقلاني في مغارب القرن الثامن عشر ؛ إلا أن القدح في فعالية العقل، قاسم مشترك بين النظار القداميين أيا كانت اختياراتهم الفرقية أو المذهبية. إن للعقل حدودا لا يتعداها، وتخوما لا يتجاوزها في حسابات العقل اللاهوتي القروسطي عموما؛ مما يحكم عليه بالقصور النظري وبالعجز عن إنارة العوالم المتشعبة للمتاهة الكونية.
يعتني الناظر القدامي بالعمل لا بالتعقل، بتدبير النجاة لا بتدبير المعرفة، باقتصاد الغيب لا باقتصاد الكون؛ وليس من المستغرب والحال هذه أن تحتل العلوم العقلية مكانة هامشية في تصنيف العلوم لدى النظار القداميين مثل أبي حامد الغزالي.
(ثم العلوم ثلاثة :
1-عقلي محض، لا يحث الشرع عليه ولا يندب إليه، كالحساب والهندسة والنجوم وأمثاله من العلوم فهي بين ظنون كاذبة لائقة، وإن بعض الظن إثم، وبين علوم صادقة لا منفعة لها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وليست المنفعة في الشهوات الحاضرة والنعم الفاخرة فإنها فانية دائرة، بل النفع ثواب دار الآخرة…)
(أبو حامد الغزالي – المستصفى من علم الأصول – اعتنى به : عبد الله محمود محمد عمر – دار الكتب العلمية – بيروت-لبنان-الطبعة الأولى -2008-ص.8) .
لقد نظر المنظرون الكلاسيكيون للاقتصاد في التعقل ولملازمة الأمر الغيبي، والاكتفاء بالمسلك المعرفي الخاص بالسلف الأول. ولا يعني الاقتصاد في التعقل هنا إلا التمسك التام بتحجيم العقل النظري وتغليب السمعيات على العقليات في كل تدبر للنصوص المؤسسة والنأي عن الإحداث والابتداع وما جاور ذلك مما ينافي التسنن والركون إلى سلطة السلف المرجعية. فلتحقيق الأمن المعرفي استمات التراثيون في تسييج التأويل وفرض إطار مرجعي لغوي- تاريخي باعتباره إطارا معياريا عاصما من عنف التأويل وفتنة التعقيل وغواية التدهير.
نقرأ في اعتصام الشاطبي ما يلي :
(وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – إذ كتب له عدي بن أرطاة يستشيره في بعض القدرية ، فكتب إليه :
“أما بعد، فاني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنّة فإنّ السنّة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أحرى. فلئن قلتم : أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنّتهم، ورغب بنفسه عنهم، إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر عنهم آخرون فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم.”)
(أبو إسحاق الشاطبي – الاعتصام – تحقيق : هاني الحاج – المكتبة التوفيقية-القاهرة- الجزء الأول –ص 55)
ينهض موقف السلف إذن على الإتباع وعلى إنكار فعالية العقل الاستكشافية، وعلى التزام السنّة وعدم الانسياق مع رحابة التأويل وما يمكن أن ينتج عنها من استكشافات وارتقاءات في مدارج المعرفة. ورغم تسليم الإعجازيين النظري بهذا الموقف، فإنهم لا يبدون أيّ التزام بمقتضياته حين ينصرفون إلى إسقاط تأويلات علموية على النصوص المؤسسة. لا يمكن الجمع بين فحوى القول العمري وبين المقتضيات الإبستمولوجية للعلوم الدقيقة؛ فالعلم سجلّ مفتوح على الغائب عن المدركات الإنسية فيما يتمسك النسق السنّيّ بطمأنينة التسليم واللاإدراك والتفويض والتوقيف وتعطيل فعاليات العقل والخيال. يقدم تقدم العلوم المطرد دليلا معرفيا وتاريخيا عن قدرة العقل عن إنارة عتمات التاريخ الطبيعي والتاريخ الإنساني والتاريخ الديني، مما يحفز على مراجعة نظرية العقل كما رسم تخومها وحدودها العقل الإسلام وعلى استشكال قاعدتها النظرية من الأساس.
لقد اختارت القدامة الفائقة الإكثار من التقريبات التداولية والحرتقات الفكرانية ومن تكييف نتائج العلوم الدقيقة بما يوافق مسبقاتها ومقرراتها، فيما تتطلب الوضعية الإبستمولوجية الراهنة إنهاء تعطيل العقل باسم التسلف المعرفي وتحرير المخيلة من أسر الترسيم الفكراني التراثي والتأسيس لعقل منبثق واثق من قدراته وفعاليته.
يقول ابن حزم ما يلي:
(فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراما أو حلالا أو يكون التيس حراما أو حلالا، أو أن تكون صلاة الظهر أربعا وصلاة المغرب ثلاثا، أو أن يمسح على الرأس في الوضوء دون العنق، أو أن يحدث المرء من أسفله فيغسل أعلاه، أو أن يتزوّج أربعا ولا يتزوّج خمسا، أو أن يقتل من زنى وهو محصن، وإن عفا عنه زوج المرأة و أبوها ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمدا إذا عفا عنه أولياء المقتول)
(أو أن يكون الإنسان ذا عينين دون أن يكون ذا ثلاثة أعين أو أربع، أو أن تخص صورة الإنسان بالتمييز دون صورة الفرس أو أن تكون الكواكب المتحيرة سبعا دون أن تكون تسعا، وكذلك سائر رتب العالم كلها، فهذا ما لا مجال للعقل فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه، وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لأوامره، ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه، والإقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ولو شاء أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى، ولو فعله لكان فرضا علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد).
(ابن حزم -الإحكام في أصول الأحكام – تحقيق: محمود حامد عثمان – دار الحديث- القاهرة – مصر – 2005- الجزء الأول – ص. -43-44).
مما لا شك فيه أن نظرية الإعجاز العلمي تبطل كثيرا من القضايا الواردة في التسويغ الحزمي لغيبية العبادات والطقوس الإسلامية؛ فمادامت نظرية الإعجاز تتفنّن في تقديم البراهين العلمية الداعمة لتشريع الصلاة والحج الإسلاميين ولتحريم لحم الخنزير، فإنها تلغي عمليا قصور العقل النظري، وتدرج ضمن نطاق العقل ما اعتبره العقل الشرعي، غيبا لا يدرك وسرّا لا يسبر. إلا أن نظرية الإعجاز العلمي لا تقدم أية استنتاجات نظرية في هذا السياق، فهي تقرّ عمليّا بقدرة العقل على قلب حقائق الإبستمولوجيا الإسلامية، وترفض النتائج النظرية لذلك القلب الإبستمولوجي من حيث المبدإ.
فحيث إن العقل قادر، كما يعتقد الإعجازيون المعاصرون، على التدليل العلمي على أسباب تحريم لحم الخنزير وفرض الوضوء و الصلاة والحجّ وعلى علمية المعراج، فإنّهم مطالبون باستشكال الإبستمولوجيا التراثية، المانعة والرافضة مبدئيا لكل تعقل ممكن للعقائد والشرائع بدعوى اندراج كثير من أركانها وعناصرها، ضمن اللامدرك والغيبي.
فلئن صحت تأويلات نظرية الإعجاز العلمي في هذا المقام، فإن المؤسسة الإعجازية مطالبة بمراجعة جذرية لوضعية العقل في النسق التراثي وتفكيك كثير من المسلمات الأصولية والفقهية والكلامية المبنية عليه، مما سيحملها، إن صحت قناعاتها العلمية، على تفكيك فكريتها بالذات، أو تعديل جزء جوهري من بنيانها النظري ومنظورها المعرفي على الأقل. .
فالواقع أن التأويل العلموي الإعجازي يوحي بافتقاد الأدلة السمعية للصلابة النظرية، فهي لا تنطوي على مقدمات ظنية فقط بل على نتائج قلقة بالمقاييس العلمية. أليس الاحتماء بمرجعية العلم دليلا ضمنيا على عجز الأدلة التراثية والحجاج المتسنّن عن تكريس الاقتناع وإفادة اليقين؟ ألا يدعو هذا المسلك إلى اتساع الفارق بين الظواهر النقلية و“القواطع” العقلية؟ كيف يمكن تسويغ استحالة القواطع النصية إلى ظواهر في الاستعمالات العلموية الإعجازية؟ هل يمتلك الذهن الإعجازي تشريع قطعية الدليل العلمي وتأصيلها، هنا والآن؟
تأويل المتشابه :
لم يكتف المؤولون الإعجازيون المعاصرون بتأويل المحكم، بل سارعوا إلى تأويل المتشابه، وإخراج تأويلاتهم مخرج الفتح العلمي غير المسبوق. والحال أن خلفياتهم المرجعية تحول مبدئيا دون أي تأويل بعيد أو ذاتاني أو عندي للنصوص، سواء أكانت محكمة أم متشابهة عموما. وضدا على مقتضيات إطاره المرجعي، يقبل الإعجازي المعاصر إعمال آليات التأويل العلمي حتى في المتشابهات نظير تأويل زغلول النجار وأحمد صبحي منصور للقصص القرآني أو تأويل بهاء الدين الوردي للمقطعات.
(كهيعص مريم (19)كاف=أعلن، ها=الإلهية، يا = الكلمات، اله، ساطع، عين = ينبوع، أساس + صاد = الحقيقة، السعادة.
فيكون معناها “هاهي الكلمات الإلهية أساس السعادة، أو أصل الحقيقة”.)
(-بهاء الدين الوردي – حول رموز القرآن الكريم –مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء – المغرب –1983- الجزء الأول – ص.65) .
لقد بزّ الإعجازيون المعاصرون المعتزلة والمتفلسفة والمتصوفة والملحدة، في خرق مقتضيات الدليل الشرعي وفي تجاوز قوانين التأويل العربي، وفي تعقيل التكليفات والعبادات تعقيلا كفيلا بإدراجها ضمن ما يقبل التعقيل، علما أنها معدودة ضمن الغيبيات والمتشابهات في الأصول التأسيسية.
لا يلفت المؤول الإعجازي إلى المقتضيات النظرية والمنهجية لإطاره النظري، في غمرة انهمامه بالإبانة عن علمية الديانة الفائقة. فمن الغريب حقا أن يفرغ الإعجازيون المعاصرون الوسع في التسويغ للمقطعات والمغيبات والحدود والعبادات، رغم تشدد نظامهم المعرفي في الحدّ من فعالية العقل وإحكام الميز بين المحكم والمتشابه، والاعتقاد غير المشروط بالتفويض والتسليم واللاتعليل.
(وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس مرفوعا : “أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادّعى علمه سوى الله فهو كاذب”. ثم أخرجه عن وجه آخر عن ابن عباس موقوفا بنحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس، قال : نؤمن بالمحكم وندين به، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به، وهو من عند الله كله.
وأخرج أيضا عن عائشة، قالت : كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه.
وأخرج أيضا عن أبي الشعثاء وأبي نهيك، قال : إنكم تصلون هذه الآية وهي مقطوعة.
وأخرج الدارمي في مسنده، عن سليمان بن يسار : أنّ رجلا يقال له : صبيغ، قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر، وقد أعد عمر عرجونا من تلك العراجين، فضربه حتى دمي رأسه).
(جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – 2004- ص . 479)
يتجاوز الإعجازيون كل المتاريس التراثية الحائلة دون تأويل كثير من المتشابهات، ويقدمون على تفسيرات غير مسوغة بالمقاييس العلمية وغير قابلة للاندراج في المنظومة المعرفية التداولية. والأخطر من ذلك هو قرض هذا المسلك التأويلي العملي للحيز الغيبي المتعالي في النصوص المؤسسة، وفتحه الفعلي لإمكان عقلنة اللامعقول السمعي. يفترض تعقيل الصلاة والمقطعات والصوم والحجّ والقصص القرآني، انسحاب الميثي والغيبي من ساحة الاعتقاد، وتلقيح العقيدة برياح التعقيل و“الوضعانية”. إلا أنّ الإعجازي المعاصر لا يلتفت إلى المترتبات والمستتبعات والنتائج النظرية، لأداءاته “التقنية”. فهو يريد البرهنة على علمية المأصولات لتعجيز العقل لا للإبانة عن قدرته الفذة، كما يسعى إلى تطويع العقل العلمي لنظرية المعرفة التراثية، من باب الانتصار الفكراني لمقتضياتها الأنطولوجية والإبستمولوجية. كما يدل هذا المسلك على اقتناع ضمني باستحالة إحالة الكثير من المسلمات النقلية إلى رحاب التفويض في سياق ثقافي كوني متشبع بالمواضعات العلمية. وتأسيسا على هذا، لم يعد التلويح بغيبية اللامعقول القرآني والسني، ممكنا من جهة نظر المؤسسة العلموية الإعجازية، والذبّ عن التسليم، واردا في زمان العولمة العلمية.
نقرأ في (الإتقان) ما يلي :
(وأخرج الطبراني في الكبير، عن أبي مالك الأشعري : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله”. الحديث).
(جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – 2004- ص . 478)
ومهما كانت فداحة الارتجاج النظري في التأويل العلمي للنصوص المؤسسة من منظور النظام المعرفي الأصلي، فإن الخرق التقني للمواضعات التفسيرية في التراث يقترب مما سماه الزركشي بالتأويل المستكره. وهذا ما يوقع الإعجازي في قطيعة آلية أو تقانية مع العدة الاستدلالية التداولية ، وفي انفصال منهجي عن الترسانة التدليلية التراثية.
(وأما المستكره فما يستبشع إذا عرض على الحجة، وذلك على أربعة أوجه :
الأول : أن يكون لفظا عاما، فيختص ببعض ما يدخل تحته، كقوله : (وصالح المؤمنين) [ التحريم : 4] ، فحمله بعضهم على علي رضي الله عنه فقط .
والثاني : أن يلفق بين اثنين؛ كقول من زعم تكليف الحيوانات في قوله : (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) [فاطر : 24] مع قوله تعالى : (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) [الأنعام : 38] : إنهم مكلفون كما نحن.
الثالث : ما استعير فيه، كقوله تعالى : (يوم يكشف عن ساق) [ن : 42] في حمله على حقيقته.
الرابع : ما أشعر به باشتقاق بعيد، كما قال بعض الباطنية في البقرة : إنه إنسان يبقر عن أسرار العلوم، وفي الهدهد إنه إنسان موصوف بجودة البحث والتنقيب.
والأول أكثر ما يروج على المتفقة الذين لم يتبحروا في معرفة الأصول، والثاني على المتكلم القاصر في معرفة شرائط النظم، والثالث على صاحب الحديث الذي لم يتهذب في شرائط قبول الأخبار، والرابع على الأديب الذي لم يتهذّب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات).
(الزركشي-البرهان في علوم القرآن – تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 2006-الجزء الثاني –ص.115).
ينتج التأويل المستكره إذن عن خرق قواعد التفسير والتأويل، وعدم استكمال تحصيل معرفة الأصول وشرائط النظم ومقتضيات قبول الأخبار وآليات استعمال الاستعارات والاشتقاقات. لا يعتني الإعجازي بامتلاك الآلة التأويلية كما أبدعها العقل الإسلامي بقدر ما يهتم بحفظ الجوهر بكل الأدوات مهما بدت بعيدة عن جوهريات ذلك العقل نفسه ومستعارة من منظومة الأغيار والخصوم العقديين والثقافيين والحضاريين.
ليس الإعجازي إلا التجسّد المعاصر للمتكلم المتسنّن القديم؛ وليست نظرية الإعجاز العلمي سواء في صيغتها الكلاسيكية لدى عبد الرحمان الكواكبي أو طنطاوي جوهري، أو في صيغتها الفائقة لدى هارون يحيي وإدريس الخرشاف ومحمد الطالبي ومحمد شحرور وكريم نجيب الأغر إلا التجلي المستحدث للكلاميات القديمة.
لا يلغي التفسير العلمي للقرآن التدبّر التراثي لكثير من النصوص القرآنية فقط، بل يلغي فلسفة المتشابه السارية بين نظار الأمة. فلو صحّ التفسير العلمي للمتشابهات لبطلت التسويغات السنّية لجدوى إيراد المتشابه في التنزيل، ولبقي تشغيب النفاتي أو الهرطوقي أو الكتابي قائما. كيف يتيه علماء الأمة المصطفاة في تأويلات متضاربة، ولا يتثبتون إلا بعد تمكن العقل الموسوم بالقصور في معهودهم النظري من استكشاف كثير من القوانين الكونية؟ كيف يقدم الإعجازيون العلمويون على خرق مقتضيات التأويل وشرائط التناول التفسيري للنصوص دون تقديم نظرية جديدة في التفسير والتأويل؟ ألا يؤدي التأويل العلموي للمتشابهات إلى استنبات العلم وسط النواة الصلبة للدين والى السماح للعلمانيين بعلمنة المعتقد نفسه؟
(الرابع : قيل : ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى؟
قلنا : إن كان ممن يمكن علمه فله فوائد :
منها : ليحثّ العلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه، والبحث عن دقائق معانيه، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب، وحذرا مما قال المشركون : (إنا وجدنا آباءنا على أمة) [الزخرف : 22]، وليمتحنهم ويثيبهم كما قال : (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده…) [الروم : 27]. وقوله (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات) [سبأ : 4] فنبههم على أن أعلى المنازل هو الثواب، فلو كان القرآن كله محكما لا يحتاج إلى تأويل لسقطت المحنة، وبطل التفاضل، واستوت منازل الخلق، ولم يفعل الله ذلك، بل جعل بعضه محكما ليكون أصلا للرجوع إليه، وبعضه متشابها يحتاج إلى الاستنباط والاستخراج ورده إلى المحكم، ليستحق بذلك الثواب الذي هو الغرض، وقد قال تعالى : (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) [آل عمران : 142])
(الزركشي – البرهان في علوم القرآن – تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 2006- الجزء الثاني – ص. 49).
يفضي الإقرار بصحة التفسير العلمي إلى إلغاء مسوغات الزركشي وقسم كبير من النظار التراثيين؛ فالجدير بالتفضيل إن صح مدعى الإعجازي، ليس الناظر الإسلامي الموزع بين مجاهل المتشابه وتقنينات المحكم، بل العالم الغربي المنفصل كليا، عن مؤديات العقل الشرعي .فكيف ينحصر التفضيل في أناس لم يحصلوا الآلة العلمية ولم يكسروا سياج العقل المعتقل أصلا؟ وكيف يستسيغ الذهن العلموي المفاضلة بين المعطيات العلمية، ويركن، في مواجهة الاستكشافات الأكثر جذرية، إلى المرويات التراثية بلا تأويل ولا تسويغ عقليين كما في موقف رابطة العالم الإسلامي وإدريس الخرشاف من الاستنساخ؟
التأويل العلموي والخارقية التداولية :
تكاد أن تسقط في غمرة التفسير العلمي حدود العلم والأسطورة في ممارسات الإعجازيين المعاصرين. فلئن رام الإعجازيون الكلاسيكيون تعميق الفارق بين المدرك العقلي واللامدرك، وأحاطوا اللامعقول والغيبي، بالأسرار والتهويل إلى درجة إنكار التوليد والطبائع والقول بالتجويز والنقض المتواصل للعادات، فإن الإعجازي المعاصر سيسعى- ظاهريا - إلى البحث عن الخلفية العلمية للخارقية القرآنية والسنية، وعن الركيزة المعرفية لمرويات كثيرا ما تؤولت باعتبارها متشابهات أو غيبيات لا سبيل إلى معرفتها بآليات العقل النظري أو التجريبي.
لا يكتفي المؤوّل الإعجازي المعاصر، بالتقريب بين الدليل النقلي والدليل العلمي، بل يفرغ وسعه التقريبي في تعقيل اللامعقول، لا لإظهار فعالية العقل النظري بل لإبراز التفرد النصي .وهكذا لم يعد إحضار عرش بلقيس إلى مملكة سليمان والإسراء والمعراج وحديث النملة في حضرة سليمان وجنوده، سرودا تمثيلية أو كنائية أو متشابهات مجهولة المعنى أو تمثيلا وترميزا لمعاني وحكم، بل أضحت قرائن إعجازية عن الاكتشاف القبلي لسرعة الضوء والنسبية الخاصة وسوى ذلك من نظريات وقوانين لم تدخل السجل المعرفي إلا غبّ تلاحق الثورات العلمية.
فلئن توخت المقاربات البيانية الكلاسيكية التمييز بين المعقول واللامعقول، بين السببي والخارق، بين العادة ونقيضها، لتأكيد خارقية الأمر النبوي، والتدليل على استواء البرهان الرسالي، فإنّ نظرية الإعجاز العلمي تخرق تلك التمييزات “بعقلنتها” للخارق وبإلغائها الضمني أو العملي للتجويز ولنقض العادات. ومن نافلة القول أن لا فكرية توحيدية من غير إقرار بالخارقية وبإمكان خرق العادات وقلب النواميس الكونية، تبليغا لمراد علوي أو مساندة لفعل نبوي أو تحقيقا لاتصال المفارق بالمحايث في الأزمنة القدسانية التأسيسية.
( وخرج الطحاوي في مشكل الحديث عن أسماء بنت عميس من طريقين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحي إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال رسول الله صلى عليه وسلم أصليت يا علي قال لا فقال اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس قالت أسماء فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ووقفت على الجبال والأرض وذلك بالصهباء في خيبر قال وهذان الحديثان ثابتان ورواتهما ثقات.
وحكى الطحاوي أن أحمد بن صالح كان يقول لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء لأنه من علامات النبوة).
((القاضي عياض – كتاب الشفاء بتعريف حقوق سيدنا المصطفى – اعتنى به وراجعه : هيثم الطعيمي ونجيب ماجدي -دار الرشاد الحديثة – الدار البيضاء – المغرب – 2003-ص. 175-)
الوضع التأويلي لأمة الدعوة :
لعل من أعطاب نظرية الإعجازالمعاصرة، التقديس النظري للسلف ولاجتهاد الأمة من جهة وإلغاء جدارة واعتبارية علم الأمة وامتيازها التفسيري والتأويلي باصطناع تأويلات مخالفة كليا للمحصول التراثي من جهة أخرى. لا يفكر الإعجازيون إلا في المردود الفكراني لتأويلاتهم، إلا أنهم يغضون الطرف عن المترتبات والالتزامات والإقرارات النظرية والمنهجية والإبستمولوجية الناتجة عن فعلهم التأويلي. إن مخالفة التفسير بالأثر لا يعني إلا الإقرار العملي بعدم تمكن الأمة من الغوص على المعاني البعيدة لنصوصها المعيارية، وعلى استكناه خفايا الخطاب المؤسس وحقائقه. وتأسيسا على فرضيات المتخيّل الإعجازي العلموي يبدو الوضع الدليلي والتأويلي للأمة غريبا؛ إن الأمة المفسرة عاجزة -حسب مدلول الممارسة الاعجازية - عن بلورة نظرية تأويلية متماسكة، وعن النفاذ إلى ماهية الدليل النصي؟ ما معنى أن تنعزل الأمة المفضلة عن حقيقة نصوصها طيلة أزيد من أربعة عشر قرنا ونيف بفعل افتقارها إلى السند العلمي والى مفاتح الطبيعة؟ كيف تمتلك مفاتيح الغيب وهي غير قادرة على استكناه كتاب الطبيعة وتحصيل حقيقة “المصنوعات” وامتلاك مفاتيح الكون؟ ألا يترتب على منافاة النظريات التفسيرية والتأويلية والتأصيلية التراثية للنظريات العلمية، إحداث قطيعة مع المنظومة الأصولية والفقهية والتفسيرية وإعادة النظر في النسق التراثي عموما؟ ألا تفصح الممارسة التقنية للفعل التأويلي لدى المتناظرين الإعجازيين، عن استشكال عملي للميثودولوجيا التراثية وللبنية الاستدلالية كما مارسها الأصوليون والفقهاء والمتكلمون والمفسرون طيلة الزمان الإسلامي؟ كيف تؤدي أمة الدعوة واجبها الكوني وهي غائصة في الكلاميات والمناظرات وأدبيات الملل والنحل وتعطيل النظر باسم الطهرية المعرفية والأصلانية السلفية ؟
كيف يوفق الإعجازي العلموي بين النقلية الطهرية والحرفية الصلبة في النظر، والتأويل الفائض عن سعة الدليل النصي، بدون تقويم معقلن لهذا الاختلال المنهجي الظاهر؟ هل تكفي سوسيولوجيا المثقف الاعجازي للوقوف على الإحداثيات التاريخية لانبثاق التأويل الفائق في زمان الحداثة الفائقة؟ أم لا بدّ من فتح السجل النفساني، وتأسيس سيكولوجيا التأويل الفائق والإنجراحية المعرفية؟
نقد التفوق المعرفي التداولي :
يترتب عن التسليم بتوفيقات نظرية الإعجاز العلمي إنكار أفضلية العلماء التقليديين المخصوصين بالثناء والتقريظ طيلة العصر الإسلامي. فبين فهوم هؤلاء العلماء ومنجزات العلوم الدقيقة في الرياضيات والفلكيات والطبيعيات مسافات لا متناهية. وحين نتدبّر إقرارات هؤلاء العلماء وإلزاماتهم، نقف على خطورة مضمونها النظري ودعاواها الإيديولوجية، مما يستدعي استشكال الأسس التكوينية لفكريتهم ولمنهجيتهم.
وللتدليل على راهنية هذا الاستشكال نورد، على سبيل التمثيل، موقف عبد القاهر البغدادي الأشعري من كروية الأرض.
(وأجمعوا على أن السماوات سبع طباق، خلاف قول من زعم من الفلاسفة والمنجمين أنها تسع، وأجمعوا أنها ليست بكروية تدور حول الأرض، خلاف من زعم أنها كرات بعضها في جوف بعض، وأن الأرض في وسطها كمركز الكرة في جوفها. ومن قال بهذا لم يثبت فوق السماوات عرشا، ولا ملائكة، ولا شيئا نثبته موجودا فوق السماوات.)
(عبد القاهر البغدادي – الفرق بين الفرق – تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 2004-ص.232-233) .
مما لا شك فيه أن استدلال البغدادي يناقض أبسط معطيات علم الفلك، ويخرق كل مبادئ المنهج العلمي؛ إلا أن الإعجازي الأشعري المعاصر لا يقدم على إنتاج نتائج مقدماته، بل يصر على الجمع بين الجسد النظري للأشعرية من جهة والمعطيات التقنية للعلوم الدقيقة من جهة أخرى.
وليس التنكب عن جادة المنهاج العلمي خاصا بالأشاعرة؛ فابن عباس المخصوص بالتأويل يتأول الفتق والرتق تأويلا بعيدا عن تأويلات إدريس الخرشاف وزغلول النجار مثلا.
(وأخرج من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر : أن رجلا أتاه يسأله عن : (السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) [الأنبياء : 30] فقال : اذهب إلى ابن عباس فسله ثم تعال أخبرني، فذهب فسأله فقال : كانت السموات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات. فرجع إلى ابن عمر فأخبره، فقال : قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ؛ فالآن قد علمت أنه أوتي علما.)
(جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – تحقيق : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت - لبنان – 2004-ص .878 )
لم يبرهن الإعجازيون على شرعية تأويلهم العلموي الفائق لفحوى هذه الآية؛ كما لم يستشكلوا أساسيات التأويل السلفي، المسند إلى شرعية قدسانية كما في حالة ابن عباس وعلي ابن أبي طالب.
(ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدل به على معنى أراده.
فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال، وتعلق علينا بعلة.
وهل يجوز لأحد أن يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه؟!.
وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى : (وما يعلم تأويله إلا الله) [آل عمران : 7] جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته؛ فقد علم عليا التفسير.
ودعا لابن عباس فقال : “اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين”.
وروى عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال : كل القرآن أعلم إلا أربعا : غسلين، وحنانا، والأواه، والرقيم.)
(ابن قتيبة – تأويل مشكل القرآن – علق عليه ووضع حواشيه : إبراهيم شمس الدين – دار الكتب العلمية – الطبعة الأولى – 2002-ص. 66-67).
من البين إذن أن لا رابط بين تأويل ابن عباس وتأويلات نظرية الإعجاز العلمي للرتق والفتق. فثمة فجوة معرفية كبيرة بين معرفة حسية أو ميثية ومعرفة مستندة إلى صرامة المنهج وإحكام الصياغة الرياضية ودقة أدوات السبر. وبدلا من إبراز ميثية السند المعرفي لدى الكثير من النظار السنّيين، وتعيين مواطن القطيعة بين المعرفة الحجاجية البيانية الشرعية وبين المعرفة العلمية، تكتفي نظرية الإعجاز بتوسيع الفارق لملء وجدان القارئ بالدهشة والغبطة الوجدانيتين وتغييب العقل وطمس فعاليته بأدوات أكثر حداثة من أدوات المتكلمين. فلئن جاز تأوّل النصوص استنادا إلى نتائج العلوم الدقيقة، فإننا سنصادف نصوصا تراثية مناقضة لأبسط المعطيات العلمية.
( …(والشمس تجري لمستقرّ لها ذلك تقدير العزيز العليم) في معنى قوله (لمستقرّ لها) قولان أحدهما أن المراد مستقرّها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض في ذلك الجانب وهي أينما كانت فهي تحت العرش وجميع المخلوقات لأنه سقفها وليس بكرة كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة، وإنما هو قبة ذات قوائم تحمله الملائكة وهو فوق العالم مما يلي رؤوس الناس فالشمس إذا كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون إلى العرش، فإذا استدارات في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام وهو وقت نصف الليل صارت أبعد ما تكون من العرش فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث…)
(إسماعيل ابن كثير – تفسير القرآن العظيم – دار الجيل – بيروت – لبنان – الجزء الثالث – ص. 549).
ميزة هذا الشاهد أنه يرسم بدقة الخريطة الميثية للفكرية السلفية، وينعطف نحو القيعان العميقة للتخييل ويتلذّذ بإدارة اليقين والتحكم في مساراته العويصة. لا يمكن العبور إلى الفلكيات المعاصرة إلا بفك الارتباط لا بالمعرفيات التراثية فقط، بل بمنهجها المعرفي وبثوابتها الأنطولوجية. والحال أن الإعجازي يتعامل مع الاستيهامات التخييلية لمراجعه، باعتبارها هفوات تقنية موضعية لا تمس البناء النظري لمعرفته على الإطلاق. وعليه فإن الأخطاء المشار إليها ليست أخطاء موضعية يمكن تذويبها في الصواب النظري الساري في المنظومة المعرفية السنية، بل هي أمارات فصيحة عن الالتباسات الجوهرية الساكنة في صلب النسق المعرفي التراثي تعيينا.
لا مراء إذن في ضرورة نقد الإطار الإبستمولوجي التراثي، وتفكيك بناه المنهجية، مما يعني إلغاء الأفضلية التداولية للمجال العربي- الإسلامي ولمكونه المعرفي تخصيصا. تقدم الشواهد المقدمة عينات دالة على اختلال المعرفة التراثية، وانغراس كثير من بداهتها وثوابتها في التخييل والأسطرة، مما ينفي قاعدة الامتياز المعرفي كليا، ويدعو إلى استشكال دفوع واستدلالات من يصرّ على ربط الامتياز المعرفي بالامتياز اللغوي والامتياز العقدي، في أوان تشهد فيه الفتوحات العلمية على تنكّب المفسرين والمتكلمين عن حقيقة المراد في النصوص الكونية وفي النصوص المتشابهة كذلك.
ألا يقود منطق المناظرة إلى الذهول عن حقائق المنهج العلمي وعن آليات بلورة الحقائق العلمية؟ ألا يقود المنهج البياني إلى النأي عن سوية المنهج العلمي؟ ألا يفصح التمسك بالتفوق المعرفي التداولي عن قناعات ما قبل علمية وعن رغبة غير سديدة في تعقيل العقل بالتوليد الكلامي الجديد؟
(…ذلك أن شعور العربي بهذا التفوق التداولي سابق على ظهور هذه الحركة(يقصد الحركة الشعوبية)، فشعوره بالامتياز اللغوي تمتدّ أصوله إلى فترة المنتديات والمحافل التي كانت تشهد أشد التباري بين الشعراء والخطباء في العصر الجاهلي؛ وشعوره بالامتياز العقدي تولد في قلبه لما خص به من نزول أفضل الشرائع الإلهية على قومه مع تكريمه بالأمر بنقلها إلى العالمين؛ وأما الشعور بالامتياز العقلي، فهو متفرع من الامتيازين السابقين، فمن تكون له أفضل شريعة وأفضل لغة، لزم أن تكون له أفضل معرفة ما دام يستمد مضامين هذه المعرفة من أحق الحقائق التي جاءت بها أصدق شريعة، ويستمد وسائل هذه المعرفة من أبلغ الأساليب التي انطوت عليها أبين لغة).
(طه عبد الرحمن – تجديد المنهج في تقويم التراث – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء- المغرب – الطبعة الأولى – 1994-ص . 254) .
والحقيقة أن التجاء الإعجازيين المعاصرين إلى السند العلمي إقرار صريح بالطابع التاريخي للمعرفة العربية – الإسلامية وبمنافاتها للحقائق العلمية الحديثة. ويبدو أن الكلاميات الجديدة تؤدي دور الواقي النظري من وبالة المستجدات والانقلابات العلمية المتكاثرة، ودور الدرع الواقية من انفجارات العلوم الحديثة في واقع كوني لا يأبه كثيرا بتشقيق الكلام والركون إلى التسديد في المعرفيات والأخلاقيات. فكيف يتوق الناظر إلى العقل المسدد والعقل المؤيد، وعقله المجرّد مجبول على الميثيات المؤدلجة، بدلالة الشواهد المذكورة أعلاه؟ ألا يؤدي تفكيك الركيزة المعرفية وما ينتج عنها من اهتيامات واستشباحات إلى تفكيك النواة الصلبة للإطار التداولي التراثي تعيينا؟
تفترض الأمانة العلمية لا احتيالات المتكلم المتيقن من فضله وأفضليته على العالمين، بل تجديد المنهج في تقويم المعرفة التداولية التراثية في ضوء العلوم الدقيقة؛ وحيث إن تلك العلوم تناقض المتداول في الفلكيات والطبيعيات والرياضيات التراثية، فإن المجال التداولي العربي – الإسلامي مجال قروسطي بامتياز، وإن العقل المجرد يتحرك في بيداء من الأعطال المفصلية البنيوية. ولتبيان مفارقة الفكر المؤيد، نقدم دليلا تراثيا عن التدبّر السنّي-الأشعري لإشكالية معرفية متمحورة حول تفضيل لحم الخنزير واعتباره أعدل اللحوم .
(…يقال لهم : بم علمتم أن لحم الخنزير أعدل اللحوم؟ بشعره إذ مسخ، أو بلونه إذا سلخ، أو بطعمه إذا طبخ، أم بشحمه إذا سنخ؟ وأي مناسبة بينه وبين الإنسان؟ إلا من جهة الحيوانية، وذلك يشترك فيه معه الثور والقرد، هذا على رجلين، وذلك على أربع، وأنت ترى لحم ذوات الأربع كيف تختلف مراتبها، ويتباين بعضها عن بعض في طبائعها، وكذلك ما يمشي على بطنه من الحيوان، تختلف مرتبتهم، وتتباين أكثر من تباين ذوات الأربع، وتبعد عن ذوات الأربع أبعادا عظيمة، وأن لحوم ذوات الأربع عندهم لتتباين في طبائعها ومنافعها ومضارها، على أنها ذوات أوبار وأشعار، فماذا يقرب الخنزير ممن يمشي على رجلين؟ هل هو إلا إرادة منهم لاحياء دينهم، وعضد لنحلتهم ؟ )
(أبو بكر بن العربي – العواصم من القواصم – تحقيق : عمار الطالبي – مكتبة دار التراث – القاهرة – الطبعة الأولى – 1997-ص.75-76).
لا يملك المقارب التراثي هنا إلا تشقيق الكلام والإكثار من التشغيب، مما لا يفيد كثيرا في البرهنة والتدليل على وجاهة الدليل أو الأدلة المقدمة ضد السوى المعرفي.
فكيف لمن لا يحسن“المقاربة” ويخطئ في التعقيل والتعليل، أن يبحث عن الكمالات التحقيقية للعقل المؤيد؟ ألا تدعو الضرورة المعرفية، راهنا، إلى تعزيز الكفاءة الإبستمولوجية للعقل وإلى استشكال خطاب الكمالات التحقيقية التراثية؟
في نقد علموية القدامة الفائقة(2/1)