البدايات:
لم يُطرح سؤال (الحرية) و(الإرادة والاختيار) في المرحلة المحمدية، أقصد خلال فترة الرسول الكريم، من منطلقات (وجودية). أقصد سؤال (الذات الفردية) و(الوجود)، أو (الذات) و(الموت)، أو (الذات) و(الآخر)، و(الوجود) و(العدم)، أو حتى السؤال الاجتماعي الأكبر الذي صار أساس الجدل حول سؤال (الحرية) في الإسلام وأقصد سؤال (الجبر) و(الاختيار)، لأن الإسلام منذ ولادة التأملات الكونية الأولى في عقل النبي محمد وروحه وهو في ريعان الشباب، ونشوء الأسئلة عن: مَن؟ ما؟ متى؟ أين؟ ولماذا؟ وكيف؟ لم تكن ترتبط لديه بشكلها التجريدي، فهو ليس مفكرا ولا فيلسوفا، بل نبي، فهو لا يتمركز على ذاته المفكرة وإنما المركز هناك في المجتمع وعند الآخر، فذاته قد ارتبطت بالمجتمع وبحياة الناس وتحرير المجتمع والإنسان من عبودية الأشياء : عبودية النفس وشهواتها وغرائزها وشهواتها الطاغية : شهوة المال، والسلطة، والجنس. وتحرير المجتمع من العماء العقلي والحسي واللاعدالة الاجتماعية والتفاوت الطبقي والعنصري. أراد أن يرفع هامة الإنسان إلى الأعلى كي يتأمل (الوجود)، (ينظر) إلى السماوات، والأرض، والشمس والقمر، والجبال، والبحار، والرياح، والسحاب، والمطر، الماء، والإبل والمواشي، والأشجار، ثم دعاه إلى أن يتأمّل نفسه، كيف ولد وكيف يموت، وكيف يعيش، ومعنى حياته. طلب من (الآخر) أن يسمع، ويرى، ويتفكر، ويتعقل. أراد (تحرير) عقولهم من كسلها الجمعي.
ملامح فكرة الحرية والاختيار الفردي في العصر الجاهلي:
ليست هناك مرحلة في تاريخ العرب أكثر غموضا وإبهاما وتناقضا من الفترة التي سبقت الإسلام والتي يُطلق عليها اسم (الجاهلية)، حتى أن الماركسيين العرب الذين حاولوا تفسير معالم الثقافة العربية في العصر الجاهلي وفق منظور المادية التاريخية، لاسيما (حسين مروة) في كتابه المهم (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – الفارابي – مجلد 1 – ط2 – بيروت – 2008) -ووفق القاعدة الماركسية بأن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي -أراد تفسير تجليات الوعي والثقافة من خلال علاقات الناس وتطور البنى التحية للمجتمع، وجد نفسه أمام ظاهرة غامضة تتناقض مع المسلمات الفكرية والمنهجية لديه : (إن معالم الثقافة العربية في الجاهلية، هي مجموعة من معارف العرب الجاهليين عن العالم المحيط بهم، العالم الذي يتأثرون به ويؤثرون فيه، يعيشون في ظروفه وشروطه الخاصة ويعيش هو في وعيهم بظروفه وشروطه الخاصة تلك نفسها.. ولكن، لا بد أن نلحظ هنا واقعاً تاريخياً في موضوعنا قد ينفي هذا الشكل من التطابق. وهو ما سبق القول فيه من أن مستوى تطور الأشكال الثقافية التي عرفناها عن مرحلة الجاهلية المتصلة بعصر الإسلام، كان أعلى من مستوى شكل العلاقات الاجتماعية لهذه المرحلة. فهل يعني ذلك خرقاً لقانون الانعكاس؟ للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نبحث عن أساس هذا التفاوت بين المستويين. إن الانقطاع التاريخي النسبي بين المراحل القديمة للتاريخ العربي الجاهلي ومرحلته الأخيرة، هو الذي أحدث تلك الفجوة بين الأشكال الثقافية والبنية الاجتماعية في المرحلة المذكورة، حتى بدت – أي الأشكال الثقافية – كأنها مستقلة عن شروط وجودها، أي عن البنية الاجتماعية، استقلالاً يكاد يكون تاماً من حيث التفاوت الهائل بين مستوى تطور كل منهما بالقياس إلى مستوى تطور الأخرى. فكيف نفسر ذلك، أي كيف نفسر أن الانقطاع التاريخي هذا فعل في البنية الاجتماعية ما لم يفعله في الأشكال الثقافية التي أنتجتها هذه البنية حتى حدث هذا التفاوت في مستوى تطور الجاهلية الأخيرة، مع وجود علاقة الترابط الموضوعي بينهما، الناشئة عن علاقة الانعكاس؟ ).
إن أحد أهم أشكال التناقض بين المستوى الثقافي وبين مستوى تطور البنية الاجتماعية يتجلى في اللغة العربية ومستوى تطورها وبالتحديد في الشعر الجاهلي. ولا نريد هنا التوغل في بحث إشكاليات المجتمع الجاهلي الذي يكاد يبدو لنا فضاء تاريخيا وجغرافيا مظلماً، بقدر ما يهمنا أن نتلمس أسئلة الحرية والاختيار والإرادة الفردية في الوعي الفردي والجمعي خلال تلك الفترات الغامضة.
في الشعر الجاهلي، قبل الإسلام، نجد بلا شك بعض ملامح القلق الوجودي، وبالتحديد لدى (طرفة بن العبد) و(الشنفرى) وكذلك عند بعض الشعراء الصعاليك، لكنها تبقى شذرات وهواجس لا ترتقي لتشكيل موقف وجودي يطرح سؤال الحرية. فهي إحساس بثقل الزمن و(الدهر) وبطيء حركة الليل والنهار أو تكرارهما المضجر.
يقول النابغة الذبياني في إحدى قصائده:
كِلـيني لهـمٍّ يا أمُيـمـة ُ ناصبِ وليــلٍ أقـاسيـهِ بطـيءِ الكــواكبِ
تطاولَ حتى قلتُ ليسَ بمنقضٍ وليس الذي يرعى النجــومَ بآيـبِ
وصدرٍ أراحَ الليلُ عازبَ همَّهِ تضاعفَ فيه الحزنُ من كل جانبِ
أو كما يذكر صاحب (طبقات الشعراء) في كتابه أبياتاً للشاعر المستوغِر بن ربيعة يقول فيها: (طبقات الشعراء – الجمحي- تقديم طه أحمد إبراهيم – دار الكتب العلمية- بيروت-2001):
ولقد سَئِمتُ من الحياة وطُولها وازددتُ من عَددِ السنينً مئٍينا
هل ما بقــى إلا كما قــد فاتــنا يـومٌ يكــّـرُ وليـلةٌ تحـدونــا
إن الإحساس بثقل الزمن وتكرار مسيرة الليل والنهار وخضوع الإنسان المطلق للطبيعة الصحراوية تجسد في صورة علاقته بما يُسمى (الدهر). ويشير (د. محمد الرحموني) في كتابه (مفهوم الدهر – في العلاقة بين المكان والزمان في الفضاء العربي القديم – الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت – 2009) إلى مثل هذا الأمر : ( لقد بدت الحياة في الشعر الجاهلي سلسلة من الحوادث الفاجعة التي لا يحكمها قانون النمو والاندثار الطبيعي بل إرادة غامضة خفية يجسدها الدهر الذي لا مفر من قبضته ومن هنا جاء تشخيص الدهر في الشعر الجاهلي، فهو حيوان ذو مخلب، وهو صياد مختبئ دوماً قرب شرعة الماء، وهو عقاب تنصبّ من السماء انصباباً على فريستها، وهو “إنسان” يكنّى بأبي زيد وأبي هبيرة وأبي العجب وأبي الورى. ومن ثمة فإن الموت في الشعر الجاهلي لا يعني تلك الظاهرة البيولوجية الطبيعية وإنما كان يحسّ بلون الدم ولون السواد لأنه ليس سوى الوجه الأخير من تسلّط الدهر على حياة الإنسان، أو هو الشكل الخاص الذي يتخذه الدهر عندما يصل إلى هدفه النهائي. ارتبط الدهر في “الفلسفة العربية الأولى” بالموت بمختلف صوره وألوانه. وبدا بذلك قوة خفيةً تُهيمن على حياة الإنسان. ويمُثل الموت في هذا السياق النقطة النهائية لحياة الفرد وهي نقطة محددة مسبقاً. فلكل إنسان أجل لا يحدده الله، وإنما قوة عمياء غامضة وغاشمة لا مفر للإنسان من قبضتها القوية. وبهذا المعنى ينتصب الدهر إلهاً ولكنه إله غير عادل. وعلى العكس من ذلك يبرز الدهر في “الفلسفة العربية الثانية” ، (فلسفة ابن سينا أنموذجاً) إلهاً بكل صفات الإله وأول هذه الصفات “المطلق”).
وربما كان للبيئة الصحراوية وامتدادات الأفق غير المحدودة إلا بانحناء السماء تأثيره اجتماعي – سياسي على نفسية إنسان الصحراء، فنشأ لا يطيق القيود ولا الجبر والإكراه، وهذا ما نجده في معلقة عمرو بن كلثوم:
ونحـن التـاركون لما سخـطـنا ونحن الآخذون لما رضينا
وأنّـا الـمــانعــون لـمـا أردنــا وأنّـا النازلون بحيثُ شيـنا
وانّـا العـاصمــون اذا أطــعـنا وأنّـا العارمون اذا عُـصينا
إذا ما الملك سام الناس خسفا أبيــّنا أن نقــرَ الـذل فـيــنا
وربما يتميز (طرفة بن العبد) عن غيره في الإحساس بامتلاء الذات ووعيه لها ولإشكالية الحياة والموت وجدوى الوجود البشري وعبثية الأشياء:
ألا أيّـهذا اللائمي أحضـرْ الوغـى وأنْ أشَهَدَ اللذاتِ هل أنتَ مُخلدي
فإن كنتَ لا تسطيعُ دفـعَ منـيّـتي فدَعني أبادِرْهَا بما مَلكــت يــدي
أرى قبـرَ نحّــامٍ بخيـلٍ بمــالـــهِ كقبــرِ غويٍ في البطــالةِ مُفسدِ
أرى الدَّهرَ كنـزاً ناقصاً كلَّ ليلةٍ وما تنقُصِ الأيــامُ والدهرُ ينفـدِ
أو الشنفرى في لاميته الشهيرة بغض النظر عن كونها منحولة أم لا:
ولـكــنَّ نفسـاً حـرة لا تُقيــمُ بي عــلى الضيمِ إلا ريثـُّمــا أتحـولُ
وربما يمكن التوقف عند الصعاليك باعتبارهم يشكلون حركة اجتماعية في الجاهلية، إلا أن تكوينهم ناتج في بعض جوانبه، وفي حالات خاصة، عن خروجهم الإرادي على الإجماع القبلي والعرف والتقاليد السائدة، وأحيانا لأسباب اقتصادية واجتماعية. وهذا ما يؤكد (حسين مروة) في كتابه الآنف الذكر بطريقة أخرى حين يكتب : ( لقد تميز، فعلاً، شعر الصعاليك بمفارقة يصح القول بأنها من أبرز الدلالات التاريخية التي يحملها الشعر الجاهلي. فهذا – أي شعر الصعاليك – مسكون في وقت واحد بكل مقومات “شعر القبيلة العربية قبل الإسلام” من وجه، وبكل مقومات الرفض لهذا العنوان من وجه آخر. لكن المفارقة هنا لا تبلغ حد التعارض أو التناقض بين الوجهين. فالصعاليك لم يقولوا شعرهم خارج العلاقات اللغوية – الفنية لشعر القبيلة في جاهليتها ولا خارج العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية لذلك العصر، ولكن قالوه في حالة لهم هي شكل من التعبير السلوكي عن بداية التفكك التاريخي لمجمل تلك العلاقات، فكان شعرهم إذن شكلاً من الوعي الأولي العفوي لتلك الظاهرة التاريخية، أي ظاهرة الاهتزاز والتخلخل التي كانت قد بدأت تهز وتخلخل الأساس المادي للعلاقات القبلية في مجتمع شبه الجزيرة العربية آنذاك).
ويشير الباحث (احمد محمد الحوفي) في كتابه (الحياة العربية من الشعر الجاهلي – دار القلم – ط4- بيروت – 1962) إلى (تمادي العرب في حب الحرية تمادياً خرج بهم عن معنى الحرية وحدودها، لأنهم فهموها حرية مطلقة من القيود التي تتنافى وطبائعهم. وكان لهذا الفهم آثار سيئة بجانب آثاره الحسنة، فلم يكد العرب يخضعون للقانون العام المنظم للعلاقات الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الا لينفلتوا منه، ذلك أن هذا التمادي في حبّ الحرية، أو هذا التصور الخاطيء للحرية، كان من أسباب ردة بعض المسلمين عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ رفضوا أن يخضعوا لسلطان أبي بكر، وامتنعوا من أداء الزكاة، مدعين أنها أتاوة لأبي بكر، جاهلين حكمتها وآثارها الاجتماعية والروحية).
جــبر أم اختيــار:
لم تطرح الدعوة الإسلامية مسألة (حرية الاختيار) الفردي كسؤال فكري يحتاج إلى تفسير أو تأويل، ففي (القرآن الكريم) نجد آيات عديدة تؤكد على (حرية) الفعل البشري ومسؤولية الإنسان عن أفعاله، لكن توجد أيضا آيات عديدة أخرى تؤكد على أن كل ما يقوم به الإنسان معروف ومحسوب ومقدر من عند الله الخالق للإنسان.
كل المصادر التاريخية العربية الإسلامية تشير وتؤكد على أن هذا السؤال لم يطرح بشكل واضح في الفترة النبوية المحمدية، بل تم تداوله فيما بعد. ولم يأخذ بعده الفكري إلا في الفترة الأموية وبلغ ذراه في الفترة العباسية.
في كتابه (نقد العقل العربي – ج3 - العقل الأخلاقي العربي – الفصل الثالث - منشورات مركز دراسات الوحدة العربية – ط3- بيروت 2009) يشير المفكر الراحل (محمد عابد الجابري) : ( (في جميع الديانات وفي جميع الفلسفات لا يعتبر الإنسان مسئولا إلا بما صدر عنه بحرية واختيار. فالحرية هي الشرط الأول في المسؤولية. وسواء تعلق الأمر بالمسئولية أمام القانون أو أمام الله أو بالمسئولية أمام الضمير، وهذه الأخيرة هي “المسؤولية الأخلاقية”، فإن الحرية هي الشرط المسبق، شرط في قيام الأخلاق نفسها، فالمكره على فعل ما، لا يُسأل عليه. ومن هنا مبدأ “الضرورات تبيح المحظورات في الفقه”، فالمضطر في حكم المكره، غير مسئول. والحرية في هذا المجال تعني أن الفعل الحر يصدر عن قصدية، فالفاعل هنا يعرف نتيجة عمله ويقصدها عامدا.
هذه أمور تبدو بديهية ولا تثير أي إشكال، خصوصاً عندما يكون المفكَّر فيه هو الإنسان في علاقته بالإنسان والطبيعة… ولكن عندما يكون المفكر فيه هو الله، وعندما يكون الاعتقاد في أن “لا فاعل إلا الله” جزءً من المذهب الديني، فإن الأمر يختلف. ذلك لأن ظاهر الأمر يقضي بأنه كلما وسعنا من حرية الإنسان ونسبنا أفعاله إليه، إلى قدرته وإرادته واختياره، ضيقنا من مجال “لا فاعل إلا الله”. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك حالات يشعر فيها الإنسان أن الأمور تجري على غير ما يريد مع أنه لا يحس لا بالإكراه ولا بالاضطرار مما يجعل طرح السؤال التالي مشروعا تماما: هـل الإنسـان مُخــّير أم مُـسّير؟.
من الممكن أن تطرح مثل هذه التساؤلات ويبقى مع ذلك الاعتراف بمسئولية الإنسان عن أفعاله قائماً، أو يبقى الموضوع في مستوى النقاش اللاهوتي والفلسفي، لا يترتب عنه نتائج ذات شأن على مستوى الحياة العامة! ولكن عندما يلجأ الحاكم إلى تبرير اغتصابه للحكم بالقوة، بأن ذلك كان قضاء وقدرا، وعندما يعمد إلى تبرير ما يقوم به من عسف وظلم بكون ذلك كان في علم الله السابق، وأن مشيئة الله هي التي تصرفت، فحينئذ تكتسي المسألة بعداً آخر. ذلك لأن السؤال في هذه الحالة سيتحول من المستوى البشري (هل هذا الإنسان مسؤول عن هذا الفعل؟ أو هل الإنسان على العموم مسير أو مخير؟)، إلى المستوى الإلهي (هل يفعل الله الظلم، هل يفعل القبيح؟)).
ورغم إشارة (محمد عابد الجابري) إلى أن السؤال عن أفعال الإنسان هل هو مخير فيها أم مسير، وإمكانية طرحها دون أن يترتب عليها نتائج ذات شأن على المستوى العام، فأن (عبد الجواد ياسين) في كتابه المهم (السلطة في الإسلام – العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ – المركز الثقافي العربي- ط2- بيروت 2000) يشير بأن الوجه الحقيقي للإسلام والذي يقدمه (النص الخالص) بريئا من بصمة الجغرافيا والتاريخ، (تتسع دائرة المباح، وتتقلص دائرة الإلزام، ويرتفع سقف التكاليف فوق فضاء واسع من الحرية واحترام العقل الإنساني، دون أن ينقص ذلك من حرارة الإيمان شيئا)، على عكس (إسلام الفقه): (الذي تقدمه المنظومة السلفية مبنياً على التاريخ حيث تنقبض دارة المباح، وتتسع دائرة الإلزام، ويتسع التوجس من العقل والحرية، دون أن يزيد ذلك من حرارة الإيمان شيئا).
وبالتالي فإن سؤال (الحرية والاختيار ومسؤولية الفعل البشري) لم يكن سؤالا لاهوتيا بحتا بقدر ما كان سؤالا سياسيا – اجتماعيا أنتجه الصراع على السلطة بدءا من استلام الإمام علي بن أبي طالب للخلافة، وتركيز معاوية بن أبي سفيان على قضاء الله ان يشن الحرب على الخليفة الرابع، كما تشير معظم المصادر التاريخية القديمة والحديثة، من حيث أن ازدواجية الديني والدنيوي، والروحي والجسدي، اللاهوتي والدنيوي لم يكن مطروحاً في الدعوة المحمدية وفي النص القرآني، فليس هناك عزلة واختيار ما بين ما لله وما لقيصر، وكما يستشهد (عبد الجواد ياسين) بنص من كتاب (تراث الإسلام) لمؤلفيه (شاخت و بوزورث): ( أنه لم تنشأ أمام محمد وأصحابه مشكلة الاختيار بين الله والقيصر. ذلك الفخ الذي لم يقع به المسيح، وإنما وقع في حبائله كثير من المسيحيين. ففي الإسلام لا يوجد قيصر بل الله وحده. وكان محمد رسوله الذي يعلم ويحكم باسمه. فقد كانت السلطة نفسها الصادرة عن المصدر نفسه تدعم الرسول في كلتا المهمتين.. وكان الوحي ذاته يقدم محتوى الأولى وأساس الثانية.. فالواقع أنه لم يكن يوجد في المفهوم الإسلامي مقابل حقيقي لمثل تلك الأضداد: ديني ودنيوي، روحي وزمني، كهنوتي وعلماني. ولم يظهر مثل هذا التضاد إلا بعد وقت طويل جدا حين استحدثت كلمات جديدة للتعبير عن مفاهيم جديدة).
بهذا المعنى لا يكتفي الإسلام أن يكون دينا وإنما دولة أيضا، وليس مشروعا فرديا في الحرية وإنما مشروعا جماعيا واجتماعيا. وربما هناك أسباب موضوعية لهذا الأمر، من حيث أن انتشار الدعوة المحمدية في الجزيرة وانتصارها في زمن النبي محمد نفسه كان له الأثر الواضح في هذا الأمر، فلو لم تنتصر الدعوة الإسلامية في زمن محمد ربما لأنتظر الإسلام مصير مختلف.
الجبر والاختيار في القرآن:
هناك شواهد قرآنية كثيرة تؤيد حرية الإرادة الإنسانية ومسؤولية الإنسان عن أفعاله مثلما توجد الشواهد التي تؤكد الإرادة الإلهية المطلقة. لكن تاريخ النزول يشير إلى أن الآيات التي كانت تؤكد على مسؤولية الإنسان عن أفعاله كانت مرتبطة بالفترة المكية وبدايات الدعوة، من حيث ان عرب الجاهلية كانوا يؤمنون بالجبر وعدم مسؤولية الإنسان عن كل ما يفعل، فقد حاجج النبي من خلال آيات القرآن الكريم المشركين بهذا الصدد، فقد جاء في سورة الأنعام – الآية 148 (سيقولُ الذينَ أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَمّنا من شيء)، وكذلك جاء في سورة الأعراف – الآية 28: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، قل إن الله لا يأمرُ بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون)، وكذا الآية 20 من سورة الزخرف التي تقول: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون). أي أن العقيدة السائدة عن المشركين كانت عقيدة الجبر. علما أن المرحلة المدنية ستشهد نزول الآيات التي تثبت صراحة أن الله هو الملك والقادر وهو الذي يسير كل شيء، رغم أن هذا لا يعني ثمة فصل كامل بين الآيات المدنية والمكية في هذا الموضوع، فقد جاءت بعض الآيات المكية لتمنح حرية الاختيار للإنسان، ففي سورة النمل- الآية40- وهي مكية : (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم)، لكن آيات الجبر موجودة أيضا، ففي سورة التكوير- الآية 29، وهي سورة مكية نقرأ : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ربُ العالمين)، وفي سورة الأنعام التي وردت فيها سور ترد على المشركين وتبريراتهم بالجبر الإلهي وهي من السور المكية، نجد الآية 137 التي تؤكد: (ولو شاء اللهُ ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، أو الآية 188 من سورة الأعراف وهي سورة مكية أيضا حيث نقرأ: (قل لا أملكُ لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله)، أو الآية 43 من نفس السورة (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللهُ). أو ما جاء في سورة هود – الآية 34، وهي مكية أيضا: (ولا ينفعكم نُصحي إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان اللهُ يُريدُ أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون). أو ما جاء في سورة النحل – الآية 93، وهي مكية: (يُضلُ من يشاء ويهدي من يشاء). وغيرها من الآيات المكية التي تؤكد الجبر، وكذا نجد في السور المدنية التي وردت فيها الكثير من الآيات التي تشير إلى الجبر، مثل ما جاء في سورة الأحزاب – الآية 67 حيث نقرأ : (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)، كذلك نجد أيضا آيات تؤكد على حرية الإنسان في الاختيار ومسؤوليته عن أفعاله، ففي الآية 79 من سورة النساء وهي مدنية نقرأ : ( وما أصابك من سيئة فمن نفسك)، وكذا في سورة الإنسان – الآية 3: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا).
ولقد كانت محاولة التوفيق بين الآيات التي تشير إلى الجبر وتلك التي تؤكد مسئولية الإنسان عن أفعاله وحريته في الاختيار، وقد عرف التاريخ الإسلامي فرق (المعتزلة) و(الأشاعرة) و(الإمامية) التي ناقشت هذه المسألة.
إلا أن بعض المستشرقين حاولوا أن يشرحوا أو يفسروا ذلك، ومنهم المستشرق (ت. ج. دي بور) في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام – ت: د. محمد عبد الهادي ابو ريده – ط 3 - دار النهضة العربية – بيروت- 1954 ) أن يفسر هذا التعارض بين الآيات من خلال منهج التحليل النفسي إلى تقلب الظروف التي عاش فيها النبي، وباختلاف أحواله النفسية، حيث كتب: (قبل الرعيل الأول من المؤمنين ما في القرآن من تعارض، وهو الذي نعلله نحن بتقلب الظروف التي عاش فيها النبي باختلاف أحواله النفسية، وسلموا به دون أن يتساءلوا كيف؟ أو لِمَ؟. ولكن بعد أن فتح المسلمون بلادَ غيرهم، وجدوا أمامهم عِلمَ عقائد نصراني متكامل البناء، كما وجدوا أمامهم مذاهب أصحاب زرادشت ومذاهب البراهمة….. غير أننا لا نخطيء الصواب، إذا قلنا إن اختلاط المسلمين بالنصارى وتلقيهم العلم عنهم في المدارس كان له عظيمُ الأثر. ولم يكن ما يُستفاد من مطالعة الكتب في الشرق في تلك الأيام بالشيء الكثير، بل كان الناس يأخذون عن أساتذتهم شِفاها أكثر مما يتعلمون من الكتب. ونحن نجد في بين مذاهب المتكلمين الأولى في الإسلام وبين العقائد النصرانية شبهاً قوياً، لا يستطيع معه أحد أن ينكر أنّ بينهما اتصالاً مباشراً. وأول مسألة كثر حولها الجدل بين علماء المسلمين هي مسألة الاختيار، وكان النصارى الشرقيون يكادون جميعاً يقولون بالاختيار. ولعل مسألة الإرادة لم تُبحث من كل وجوهها في زمن من الأزمان، ولا في بلد من البلاد، مثل ما بحثها علماء النصارى في الشرق أيام الفتح الإسلامي، وكان هذا البحث داخلاً ضمن المشكلات المتصلة بالمسيح أولاً، ثم دخل في المباحث المتصلة بالإنسان).
المستشرقان (هـ. غريم) و(غولدتسيهر) حاولا تفسير ذلك باختلاف مراحل تاريخ الدعوة. بينما يرى (حسين مروة) إلى (إن الاتجاه العام في تلك الآيات كان يرمي إلى هدم الروح الجبرية الاستسلامية التي سرت إلى العرب عن جاهليتهم، وتدل عليها أشعارهم وآيات القرآن نفسها، وهذا التعليل أقرب إلى الواقع وإلى المسار التاريخي للحركة الإسلامية. وفي اعتقادنا أن تعليل ذلك يرجع إلى كون الآيات “المدنية” جاءت في وقت أصبح فيه الإسلام، بعد الهجرة وبعد استقراره النسبي، يواجه وضعاً جديداً احتاج معه إلى رسم خريطته النظرية والأيديولوجية في شؤون العقيدة والتشريع).
ولقد حاول (د. محمد عبد الهادي أبو ريده) مترجم كتاب (تاريخ الفلسفة في الإسلام) في تعليقه على ملاحظة (دي بور) أن يكشف عدم دقة ملاحظة المؤلف عن تقبل المؤمنين الأوائل لتعارض الآيات دون سؤال، حيث يكتب: (إن كلام المؤلف عن تسليم العرب للنبي فيما بلغه إليهم وعن عدم سؤالهم كيف؟ أو لِمَ؟ تعارضه الوقائع من جدالهم للنبي وعنادهم له، وسؤالهم المستمر، واعتراضهم على ما كان يقوله لهم، إلى أن آمنوا، واطمأنت نفوسهم في أكثر من عشرين عاماً. والقرآن والحديث سجلان يثبتان أسئلة معاصري النبي، من العرب الوثنيين، والعرب وغير العرب من أهل الكتاب، فسألوا عن أوجه القمر وعن موعد قيام الساعة وعن ماهية الروح وتطاولوا إلى التفكير في ذات الله حتى أمرهم النبي أن يتفكروا فيما خلق الله وألا يتفكروا في ذاته).أما فيما يخص مسألة الجبر والاختيار فيكتب: (وإذا أردنا الكلام عن مشكلة الجبر والاختيار فإننا لا نجد في القرآن ما هو نص صريح على “أن الإنسان مُجبر” ولا نص صريح على نفي الإرادة الإنسانية، بل الإنسان في القرآن يُخاطب ويُكلف باعتبار أنه مريد قادر. ولكن لو قال أحد إن الإنسان حرٌ حريةٌ تامة لكان مصيباً من وجه، أعني من جهة شعور الإنسان بإرادته وقدرته، عندما يتصور نفسه إرادةً مستقلة، مع صرف النظر عن أنواع المقاومة الداخلية والخارجية التي يواجهها عند تنفيذ العمل، وكذلك لو قال احد إن الإنسان مُجبرٌ، لكان أيضاً مصيباً من ناحية، اعني من جهة انه مخلوق وأن أفعاله تتأثر بمؤثرات كثيرة عند تنفيذها. ولذلك عبّر بعضُ الفلاسفة عن موقف الإنسان بأنه حرٌ في ميدان من القيود).
الإسلام والمسيحية بين الدين والدولة:
من الثابت تاريخيا أن المسيحية ظلت طوال ثلاثة قرون مطاردة من قبل الإمبراطورية الرومانية، وكان المسيحيون يعدمون ويسجنون ويُحرقون ويلقى بهم للحيوانات المفترسة في الساحات والملاعب الرومانية، وخلال هذه القرون كان للمسيحية منظومتها الفكرية المفارقة للدولة، (فالدولة) و(الإمبراطورية الرومانية) بالتحديد كانت موجود بكل قوتها وجبروتها، وبكل منظومتها الإدارية والقانونية والعسكرية وطقوسها الدينية الوثنية. وربما هناك وضع يخصص جوهر المسيحية كما يشير (هيغل) من حيث أنها حسب توصيفه لها (ديانة فردية صرفة). لكنها وبعد تبني الإمبراطورية الرومانية للمسيحية، من خلال اعتراف الإمبراطور (قسطنطين) بالمسيحية في أوائل القرن الرابع، وتقبله لها كديانة، إلى العام 391 حيث تم إقرار المسيحية باعتبارها دين الدولة الرسمي في زمن الإمبراطور (ثيودوسيوس)، فصار هناك اندماج بين مؤسسات الدولة الوثنية والمؤسسات والمنظومة الفكرية والدينية للمسيحية، رغم الجذب والشد لكل منظومة من أجل هضم الأخرى أو الهيمنة عليها وإعادة صياغتها، وهذا ما أوجد دولة وديناً هجينين، يحمل كل منهما بعض ملامح الآخر، من جهة، وأيضا أبقى على مؤسسات كل من (الدولة) و(الكنيسة) في نوع من الاستقلال الذاتي. وقد أشار (عبد الجواد ياسين) في كتابه (الإسلام والسلطة) الآنف الذكر: (إن عملية الاندماج التي تمت بين المسيحية والدولة الرومانية في القرن الرابع الميلادي، إنما كانت تتم بين مؤسستين كاملتين تتمتع كل منهما في مواجهة الأخرى بكيان ذاتي مستقل. الأمر الذي ظل يصيغ بصيغة الازدواجية تاريخ العلاقة بين الكنيسة والدولة بامتداد العصور الوسطى الأوربية وحتى عصر النهضة، ليس فقط في الجانب الغربي من الإمبراطورية بل وأيضاً في الجانب الشرقي البيزنطي حيث كانت مظاهر الازدواجية بين الدولة والكنيسة أقل حدة وأخف ظهوراً. ومن ثم، فإذا كان الفكر السياسي الروماني قد أبدى تأففاً من فكرة استقلالية الكنيسة ككيان داخل الدولة، أو دولة داخل الدولة، بحكم تراثه التقليدي الطويل عبر العصرين الجمهوري والإمبراطوري، حيث كانت الشؤون الوثنية تدار على يد موظفين حكوميين باعتبارها جزءاً من أعمال الدولة فقد كانت الكنيسة من جانبها ترفض فكرة الخضوع الكامل للدولة مما وضع كُلاً من الكنيسة والدولة أمام وضعية جديدة وفريدة بالنسبة لكل منهما. وهي الوضعية التي فرضت على الطرفين مقولة تقسيم العالم بين الرب وبين القيصر، منذ وقت مبكر من تاريخ المسيحية السياسي ففي أعقاب مجمع ميلانو سنة 355 كتب هومسيوس إلى الإمبراطور قسطنطيوس قائلاً: “لا تقحم نفسك في المسائل الكنسية، لا تصدر إلينا أوامر هي من صميم شؤوننا، بل لتتعلمها أنت منا. وكما أن الذي يسلبك هذه الإمبراطورية يصنع الشر في عيني الربّ فلتخش أنت أيضا التدخل في شؤون الكنيسة حتى لا تأتي بذلك شيئا إذا. مكتوب (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، ومن ثم فليس من حقنا أن نمارس حكم الدنيا، وليس من حقك أيها السيد أن تحرق البخور”).
الإسلام يختلف عن المسيحية في هذا الجانب، من حيث أن الإسلام لا علاقة له بحرق البخور ولا بالطقوس، فحتى المسجد والجامع لا تمارس فيه أية طقوس ولا تحرق فيه البخور باستثناء إقامة الصلاة وتدارس العلم وحلقات الدرس. ومن جانب آخر فأن الإسلام نشأ في بيئة وثنية بشكل عام، وفي مجتمع وثني يؤمن بعبادة الأصنام، ولا يوحد فيه الله إلا بين مجموعة صغيرة هي (الأحناف) وبين المسيحيين العرب القبائل اليهودية، بينما جاءت المسيحية لتجديد اليهودية وتطهيرها مما لحق بها من شوائب وتحريف، فقد بدأ المسيح دعوته بتطهير المعبد من التجار وطردهم من بيت الله. أي أن الإسلام في الجوهر يتميز بـ(العقلانية الاجتماعية). بل أن (هشام جعيط) في كتابه (الفتنة – جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر- دار الطليعة – ط 6- بيروت - 2008) يؤكد أنّ الإسلام حرر الإنسان من وصاية السماء حينما يكتب: (إن كل وحي قد انقطع بعد محمد، وأن صلة الله بالإنسان قد اكتملت، وان دين إسلام الإنسان لله قد دشن عصر نهاية الحوار بين السماء والأرض، أو حتى كما كان يقول إقبال(الشاعر الباكستاني محمد إقبال – من قبلنا) أنه افتتح عصر نهاية وصاية الإلهي على البشري، وبالتالي انعتاق الإنسان).أو ما يؤكده (محمد عابد الجابري) في كتابه (نقد العقل العربي – المجلد 2- بنية العقل العربي) بطريقة أخرى حين يكتب: (إن الإسلام يشجب جميع أنواع “الشرك” ويرفع جميع الجسور بين الله من جهة وعالم الإنسان من جهة أخرى، إلا جسر “النبوة” و“الرسالة”، وبالتالي يقرر الانفصال التام بين عالم الإلوهية وعالم البشر).
لكن بعض الباحثين يؤكدون ان الدعوة المحمدية مرت بمراحل، لذلك يجب ضرورة التمييز بين الفترة المكية والفترة المدنية ، وهذا ما يركز عليه محمد أركون، احمد عبد الكريم، محمد عابد الجابري، عبد الجواد ياسين، هشام جعيط، لاسيما الأخير حينما يكتب في كتابه الآنف الذكر: ( لا مناص من الفصل المطلق بين التبشير الديني لمحمد طيلة 13 سنة في مكة بالذات، التبشير الذي كان البارقة الدينية المحض التي أدّت إلى ولادة الإسلام، وبين التوليف المقبل في المدينة بين الدولة والدين. فالعنصر الأول نتاج اتجاه روحي عميق ويندرج في سياق المدى الطويل لتطور الروحانية التوحيدية، مثلما يندرج في المجال السامي والشرقي الواسع، والثاني هو ثمرة المصادفة وكان يلبّي الحاجة إلى تجاوز هامشية محلية، هامشية الجزيرة العربية، بإدخال مبدأ الدولة فيها وإليها). أن بداية تشكل الإسلام كنظام سياسي كان في المدينة بعد الهجرة، وبعد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ووضع دستور الحكم للمدينة المسلمة. وهذا الأمر طرح أمام الباحثين فيما بعد، وعلى مدى القرون، أسئلة تدور حول سؤال مركزي هو: ما الأحكام الملزمة للسلطة في الإسلام؟ هل هناك شكل للنظام السياسي في الإسلام؟ وهذا ما دفع بعض الباحثين المعاصرين للتوقف عند (إسلام النص) و(إسلام التاريخ)، وبين (الظاهرة القرآنية) و(الظاهرة الإسلامية). وبالتالي تجليات سؤال الحرية، والاختيار والإرادة، والتزام والمسؤولية، عبر التاريخ الإسلامي، لاسيما بعد وفاة الرسول، بدءاً من سقيفة بني ساعده، مروراً بالفتنة ومقتل عثمان بن عفان، وحرب صفين وانفرد معاوية بالسلطة، وبدايات تشكل طروحات (الجبر) الإلهي في الفكر الإسلامي.
بيد أن المستشرق (دي بور) يحاول أن يجد تأثيرات نصرانية في بناء الدولة الإسلامية من حيث أن العرب كانوا يتبّوأون المناصب العليا في الدولة والجيش بأي بلد يفتحونه، وكانوا يشكلون طبقة أرستقراطية حربية، بينما صار التوفر على الفنون والعلوم من حظ غير العرب، وكان العرب في الشام يتعلمون الفنون والعلوم من النصارى.
ولكن هذا الرأي فيه الكثير من التعميم والخلط التاريخي من حيث أن مسار بناء الدولة العربية الإسلامية لم يكن مستقيما وسهلا، وإنما كان مخاضه عسيرا منذ لحظة وفاة مؤسس الإسلام ونبي الدين الجديد. فأحداث السقيفة، وحروب الردة، واغتيال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بشكل فردي، واغتيال الخليفة الثالث بتمرد اجتماعي، وحرب الجمل وصفين والنهروان، واغتيال الخليفة الرابع بانشقاق عقائدي، وانتقال عاصمة الخلافة من مكة والمدينة الى الشام، ومذبحة كربلاء، ومذبحة الحرة، ثورة زيد بن علي، والمختار الثقفي، وانتفاضات الخوارج، وقاتل الطالبيين، وثورات الشعوب الداخلة في الإسلام، وثورة الزنج، والقرامطة، والحشاشون، والدولة الفاطمية الإسماعيلية، ودولة بني العباس، والدولة الأموية في الأندلس، ودولة المماليك في مصر، والدولة المغولية، وملوك الطوائف…كل هذه الأحداث وغيرها تؤكد بأن مسار بناء الدولة الإسلامية لم يكن منسجما وهادئا ومستقرا، حتى وهي في ذرى مجدها الذي وصلته في العصر العباسي الأول، وبالتالي الحديث عن التأثير والاقتباس من النصارى أو غيرهم فيه الكثير من المبالغة، لكن كل هذه الأحداث الجسام في هذا التاريخ لا ينفي ويلغي التواصل والتأثر النسبي، لاسيما فيما يخص البناء الفكري والعقائدي، وفي ما يمكن تسميته بـ(الآداب السلطانية)، على الأقل منذ بناء الدولة الأموية، من حيث أن مرحلة الخلافة الراشدية كانت عربية خالصة، بل ونخبوية محصورة بين المهاجرين والأنصار، وبالتالي فان الكثير من الصراعات الفكرية في هذه المرحلة هي من نتاج المجتمع العربي الإسلامي في تلك المرحلة التاريخية.