كلّ معلوماتنا عن المدينة أو يثرب، قبل الإسلام، قائمة على روايات الإخباريّين الذين قدّموها لنا كمدينة كبرى تسكنها قبائل يهوديّة أهمّها بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع ويجاورون قبيلتي الأوس والخزرج العربيّتين.
وقد يذهب في الاعتقاد أنّ المدينة هي نفسها يثرب بيد أنّ ياقوت الحموي يخبرنا قائلا: (ثمّ اختلفوا فقيل إنّ يثرب من الناحية التي منها مدينة الرسول (ص) وقال آخرون بل يثرب ناحية من مدينة النبي عليه السلام) (1) ونحن نرى أنّها ناحية من المدينة اشتهر اسمها فغلب عليها حيث يقول ابن شبّة (ت262هـ): (وكان في الجاهلية سوق بزبالة من الناحية التي تدعى يثرب، وسوق بالجسر في بني قينقاع)(2) فيثرب، كما حدّد الأنصاريّ(3) موقعها التقريبيّ، قرية في شمال المدينة، وهي من أكبر القرى بها، فلفظة "المدينة" تشير إلى قرى عديدة تنضوي تحتها أي أنّ المدينة تجمع يثرب ومناطق أخرى بسبب اتّساعها وكثرة أعداد ساكنيها. فالقول الثاني لياقوت الحموي إنّ يثرب جزء من المدينة هو الأصحّ، وجاء عند ابن زبالة (ت199هـ) : (كانت يثرب أمّ قرى المدينة...)(4)
يثرب مذكورة منذ القرن السادس قبل الميلاد في نقوش الملك نبونيد Nabonide في حران(5) تحت اسم "Iatribu=إياتريبو"(6) وذكرها بطليموس في القرن الثاني الميلادي تحت اسم Iathrippa(7) ويشير جواد علي إلى: (أنّها كانت مدينة عامرة قديمة، وأنّها كانت أقدم بكثير مما تصوّره أهل الأخبار عن نشوئها)(8) وتذكر الأخبار أنّ سكّانها الأوائل كانوا العماليق فجاء في كتاب الأغاني: (كان ساكنو المدينة في أوّل الدهر قبل بني إسرائيل قوما من الأمم الماضية يقال لهم العماليق، وكانوا قد تفرّقوا في البلاد وكانوا أهل عزّ وبغي شديد [...] وكان ملك الحجاز منهم رجل يقال له الأرقم، ينزل ما بين تيماء إلى فدك..)(9) وقد يكون لهذا الخبر بعض الصحّة إذا اعتبارنا لفظة "عماليق" مكوّنة من مقطعين: الأوّل "عمـ" بالمصريّة القديمة وتعني "البدو" وجمعها "عمو" وهو الاسم الذي كان يطلق على بدو الشام والعراق(10) والثاني "ليق" من الأراميّة "ليك" وتعني الجند المرتزقة(11) وكان يتمّ تجنيد هؤلاء البدو في العراق القديم للعمل في خدمة الدولة كفرق من الجنود المرتزقة، فعماليق تعني "الجنود البدو"(12) وإذ أنّ الملك البابليّ نبونيد قد ضمّ يثرب إلى ملكه فليس من المستبعد أنّه فتحها بجنوده البدو المرتزقة "العماليق" واستوطنوا فيها وفي غيرها من البلدان ثمّ بقيت ذكراهم تتناقل شفويّا من جيل إلى جيل وطبعت قسوتهم وشدّتهم الذاكرة الشعبيّة حيث تذكر الأخبار أنّهم كانوا أهل عزّ وبغي شديد وأنّهم قدموا من بابل(13) وضاع في ثنايا التاريخ معنى المصطلح الأصلي، وحاول الإخباريّون إيجاد نسبهم بعد أكثر من ألف ومائتي سنة فقالوا أنّهم يعودون إلى جدّهم "عمليق" وهم متأثّرون في هذا النسب بالنصوص التوراتيّة التي تقول الأمر نفسه، فكتبة التوراة مثلهم مثل كتبة الأخبار يخلطون التاريخ بالأساطير، وكانوا يعتقدون أنّ البشر الأوائل كانوا عمالقة فقد زعموا أنّ "عوج بن عوق" وكان عملاقا، كان يدخل إلى عمق البحر فلا يجاوز الماء ركبتيه ثمّ يأخذ منه الحيتان ويشويها على الشمس، وهو الوحيد الذي لم يغرق في طوفان نوح وأدرك موسى، وإن كان ابن كثير وغيره يستنكر هذا الخبر فإنّه بالمقابل كغيره أيضا، يرى أنّ الخلق كانوا عمالقة ثمّ تناقصوا مستشهدا بالحديث المنسوب إلى النبيّ والذي أورده البخاري ومسلم: (إنّ الله خلق آدم وطوله ستّون ذراعا، ثمّ لم يزل الخلق ينقص حتى الآن) وإذ أنّ الذراع يساوي خمسين سنتيمترا فإنّ طول هيئة آدم كان ثلاثمائة متر، وواضح أنّ الحديث من الإسرائيليّات رغم وجوده في البخاري ومسلم، وذكر المسعودي في مروج الذهب: (وقد أبى ما ذكرنا من عظم أجسام الناطقين في صدور الزمان، كثير من أهل النظر والبحث ممّن تأخّر، وزعموا أنّ تأثيرهم في بنيانهم وما ظهر في الأرض من أعمالهم يدلّ على صغر أجسامهم، وأنّها كانت كأجسامنا)(14) فإن كان بعض أهل العقل قد ردّوا هذه الروايات منذ زمن المسعودي فإنّ المؤسف وجود من يؤمن بها في عصرنا الذي قطع أشواطا في علوم الآثار.
جاء في تاريخ خوزستان المكتوب بالسريانيّة سنة 660 ميلادي متحدّثا عن بعض المناطق العربيّة: (...المدينة أخذت اسمها من "مدين" ابن "قطورا" الرابع، وتُسمّى أيضا يثرب)(15) وتميل باتريسيا كرون، باعتماد هذا النصّ، إلى إمكانيّة تحديد مكان يثرب في شمال الجزيرة العربيّة ناحية "مدين"(16) لا في مكانها الحاليّ الذي نعرفه اليوم، وتؤيّد رأيها بالخبر الذي جاء في تاريخ السعردي ونصّه: (وجعل [أي محمّد] دياره في يثرب وهي مدينة قطورا سريّة إبراهيم، وسمّاها المدينة)(17) من الواضح أنّ الكاتب، مثله مثل كاتب تاريخ خوزستان إن لم يكن قد نقل عنه، يفسّر المدينة بـ "مدين" بناء على نصّ التوراة لا على موقع جغرافيّ، رغم أنّه جعل يثرب هي نفسها مدين، ربّما لأنّه حاول الربط بين المدن الثلاث، ويقول قبلها: (في أيّام إيشوعيب الجدالي [...] ظهر بأرض تهامة محمّد بن عبد الله...) ومكّة في أرض تهامة، وقد تجاهلت كرون هذه النقطة التي تعارض طرحها عن ظهور النبيّ في الشام، وعلى كلّ حال فالكاتب يسوق نسب النبيّ حتّى جدّه هاشم ممّا يشير إلى أنّه ينقل عن مصدر عربيّ أيضا(18) والراجح أنّ كاتب تاريخ خوزستان قام بتأويل إسم "المدينة" إلى "مدين" متأثّرا، كما يبدو، بالنصوص التوراتيّة ومسقطا إيّاها على أسماء الأماكن ومدلولاتها، والقرآن، كوثيقة تاريخيّة معاصرة للإسلام المبكّر، ذكر "مدين" و"يثرب" و"المدينة" بوصفها أماكن مختلفة.
وطرق التجارة في الجزيرة العربيّة كما ذكرها الرحّالة اليونان والرومان قبل الإسلام تجعل القافلة المتوجّهة إلى الشمال تمرّ عبر يثرب ثمّ خيبر ثمّ تيماء(19) أمّا المتوجّهة إلى الشمال الغربي فهي تمرّ عبر يثرب ثمّ الحجر (مدائن صالح) ثمّ تبوك(20) لكن مدين فموجودة شمال جميع هذه المناطق.
لم تقم إلى اليوم حفريّات علميّة في المدينة للكشف عن تاريخها الضارب في القدم وتوجد دلائل تشير إلى أنّها مبنيّة فوق أنقاض مدينة أخرى، إثر حفر أساس القسم الشمالي لمدرسة العلوم الشرعيّة الواقعة بقرب باب النساء وبعض المواطن الأخرى(21) وتوجد كتابات جاهليّة على جبل سلع وعند موضع بئر عروة وأماكن أخرى لم يتمكّن الباحثون من فحصها(22) وهذا، للأسف، وفي القرن الواحد والعشرين، يجعلنا ما نزال مجبرين على اعتماد روايات الإخباريّين وحدها لمعرفة تاريخها، وما تحمله رواياتهم من شائعات وأساطير وإسرائيليّات.
وليثرب أسماء ذكرها الإخباريّون من بينها "أثرب"(23) وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنّ أصل تسمية :يثرب-أثرب" قد يكون محرّفا من "أثربيس" Athribis المدينة المصريّة الضاربة في القدم(24) بيد أنّ تشابه الأسماء مشهور ومعروف ويثرب-أثرب نفسها موجودة في مناطق أخرى بأحرف مختلفة فـ "أثارب" قرية بين حلب وأنطاكية(25) ويترب (بالتاء) قرية باليمامة وهي أيضا مدينة بحضرموت(26) ولا نعرف يقينا أصل التسمية، وزعم الإخباريّون أنّها سمّيت كذلك لأنّ أوّل من سكنها "يثرب بن قانية بن مهلائيل" من نسل نوح(27) وهم في هذا مثل تفسيرهم للفظة "عماليق".
اليهود:
اتّفق أهل الأخبار على أنّ ساكني المدينة قبل مجيء الأوس والخزرج كانوا من اليهود، واختلفوا في تاريخ استيطانهم، فرأى البعض أنّ استيطان اليهود في الحجاز كان في زمن بختنصر (نبوخذ نصر) في القرن السادس قبل الميلاد، حيث هرب قسم منهم من فلسطين وقصد وادي القرى وخيبر وتيماء ويثرب(28) ورأى البعض الآخر أنّ اليهود هربوا إلى الحجاز إثر هدم الهيكل سنة 70 ميلادي في فلسطين وظهور الروم عليهم فتفرّقوا شتّى، واستوطن البعض منهم يثرب وأعالي الحجاز(29) وربّما هاجروا على فترات متباعدة لأسباب اقتصاديّة وسياسيّة ويقسّم "ولفنسون" هجراتهم إلى طورين: الطور الأوّل قبل الميلاد في أزمنة مختلفة، والطور الثاني "المؤكّد" في القرن الأوّل والثاني الميلاديّين بعد دمار الهيكل في فلسطين.(30)
وهذا هو الرأي الشائع، ويمكننا إضافة رأي شاذّ إذا أخذنا بعين الاعتبار كتاب "كمال الصليبي" عن أنّ التوراة قد كتبت في بلاد العرب(31) فيكون اليهود وصلوا إلى يثرب من الجنوب لا من الشمال، ويبدو أنّ قلب الأماكن الجغرافيّة يستهوي بعض الباحثين، فجاء "كمال الصليبي" بفلسطين من الشام إلى الجزيرة العربيّة بينما ذهبت "باتريسيا كرون" بمكّة من الجزيرة العربيّة إلى الشام.
يمثّل وجود اليهود في المدينة مشكلة من الناحية التاريخيّة، فنحن لا نعلم بوجودهم إلاّ استنادا على المصادر الإسلاميّة المتأخّرة، ولا يوجد لهم ذكر في أيّ مصدر خارجيّ وخاصّة في المصادر العبريّة التي كانت تهتمّ بالقبائل اليهوديّة وأسماء الأحبار خارج فلسطين، ويتساءل "ولفنسون": (وهاهي مراجع عبريّة غير قليلة عن حياة اليهود في بلاد العراق والفرس ومصر واليونان والرومان، نجد فيها كلّ ما نتطلّع إليه من أخبار اليهود في تلك البلاد، في حين لا نكاد نجد مؤلّفات عبريّة عن يهود العرب إلاّ شيئا ضئيلا جدّا) (32) ويستنتج أنّه من الممكن أنّ يهود الحجاز كانوا منقطعين عن بقيّة أبناء جنسهم في جهات العالم الأخرى، فلم يتعرّضوا إليهم في كتاباتهم، بيد أنّ "جواد علي" لا يرى في الأمر مشكلة ويعتبره طبيعيّا قائلا: (وعندي أن عدم ورود شيء عن يهود الحجاز في أخبار المؤلفين العبرانيين لا يمكن أن يكون دليلا على عزلة يهود الحجاز عن بقية اليهود. فقد أهمل غيرهم أيضًا ولم يشر إليهم)(33) ويرى أنّه من الممكن أن تكون يهوديّتهم مختلفة لذلك تمّ تجاهلهم من اليهود الأصليّين، وهو الاحتمال الذي نرجّحه ونرى أنّ يهوديّتهم كانت مختلطة بالعادات العربيّة.
وما يزيد المسألة تعقيدا هو عدم وجود نقش واحد في المدينة بالعبريّة رغم أنّ حجارتها مليئة بالنقوش الثموديّة والصفويّة واللحيانيّة، وقد أثبتت الحفريّات وجود اليهود في شمال الحجاز(34) عند مدائن صالح وتيماء، لكنّنا لا نجد ولو نقشا عبريّا واحدا في يثرب التي كانت مأهولة باليهود لقرون قبل الإسلام، وربّما تكشف الحفريّات في المدينة في قادم الأيّام عن معلومات جديدة، وليس لنا إلاّ أن نقتصر حاليّا على "التسليم" بما أوردته المصادر الإسلاميّة.
الأوس والخزرج:
يروي أهل الأخبار أنّ "طريفة" الكاهنة تنبّأت بانهدام سدّ مأرب وباقتراب سيل العرم فأخبرت زوجها عمرو مزقياء بن عامر ماء السماء، وساقوا في ذلك قصّة طويلة بأساجيع وأشعار، فتفرّق أبناؤه في البلاد وكان منهم الأوس والخزرج وهما أخوان ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزقياء، فسكن الأوس والخزرج يثرب(35)
وسنحاول حصر تاريخ تقريبيّ لخروج أبناء عمرو مزقياء من اليمن، إن صحّ أنّهم من اليمن، باعتماد النقوش التي نستطيع تتبّع بعض ملوك المملكة الحميرية من خلالها.
تخبرنا النقوش(36) أنّ "Malkikarib yuha’min" قد حكم بين سنوات 375م و400م، وفي زمنه دخلت اليهوديّة إلى اليمن حسب نقشين يُؤرّخان بسنة 378م، وهو "ملكيكرب" عند ابن حبيب في المحبّر(37) ثمّ ابنه "Abikarib as’ad" بين سنوات 400م و440م(38) وهو "تبّع أسعد أبو كرب" عند أهل الأخبار ويجعل ابن حبيب دخول اليهوديّة إلى اليمن في زمنه(39) وهذا القول لا يخلو من الصحّة حيث أنّه كان يحكم مع أبيه.
ثمّ حكم ابنه "Hassan yuha’min" بين سنوات 440م و448م(40) وهو "حسّان ذو معاهر" عند أهل الأخبار.
ويخبرنا صاحب الروض الأنف إنّ خروج الأزد من مأرب كان في زمن مُلْك حسّان هذا.(41) وكان قبل دمار سدّ مأرب، وتخبرنا النقوش أنّ "شرحب إيل يعفور" كان قد رمّم السدّ سنتي 449م-450م.
وباعتماد هذه الدلائل، فإنّه يمكننا حصر تاريخ استيطان الأوس والخزرج في يثرب منذ حوالي سنة 400م، بما أنّ "أبا كرب أسعد" كان يحكم مع أبيه "ملكيكرب".
فتاريخ هجرة الأوس والخزرج كان حوالي مائتين وعشرين سنة قبل الهجرة، لكن هذا التاريخ يواجه مشكلة إذا راجعنا شجرة أنساب الأنصار، فعدد الأجيال بين "ثعلبة بن عمرو مزقياء" وأحفاده المعاصرين للنبيّ يتراوح بين عشرة (كابن سلول) إلى أربعة عشر جيلا (كزيد بن ثابت) وأحيانا أكثر من ذلك، وهذا جدول توضيحيّ (42):
وإذا اعتبرنا متوسّط الفترة عشرين سنة بين جيل وجيل حيث أنّهم كانوا يتزوّجون مبكّرا فإنّنا نحصل على معدّل تقريبيّ بمائتين وثمانين سنة يفصل بين زيد بن ثابت مثلا وجدّه ثعلبة، وفي هذه الحالة يكون تاريخ خروج أبناء عمرو مزقياء من اليمن في بدايات القرن الرابع الميلادي، أثناء حكم "Yasirum yuhan’im" الثاني (316-319م) وهو "ياسر ينعم" عند الطبري، لكن لا يمكننا الجمع بين التواريخ التي أوردها أهل الأخبار وبين مشجرة النسب في الوقت نفسه ولا بدّ أنّ أحدهما مخطئ، هذا إن لم يكونا مخطئين على حدّ السواء(43) ولم تكن العرب تملك مؤرّخين قبل الإسلام فجاءت التواريخ وكذلك أسماء الملوك وترتيبهم، مليئة بالخلط والأخطاء ناهيك عن القصص الخرافيّة المنسوجة حول هؤلاء الملوك، وهي من كلام القصّاص في مجالس السمر كقصص عبيد بن شرية(44) وإن كانت تحمل بعض الإشارات التاريخيّة المشوّشة.
عادة ما يربط الإخباريون تهدّم سدّ مأرب بتاريخ خروج الأوس والخزرج من اليمن، وقد وثّق القرآن حادثة تهدّم السدّ في قوله (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم) (سبأ، 16) والعرم هو "السدّ" أو "الحاجز" بالعربيّة الجنوبيّة (عرمن) وجاء في أحد النقوش اليمنيّة متحدّثا عن تصدّع العرم: (ثبرت/عرمن) وذلك في منتصف القرن الرابع الميلادي أثناء حكم "ثارن يهنعم" وابنه "ملكيكرب يهنعم"(45) ونحن لا نعرف تاريخ سيل العرم الذي ورد في القرآن، فقد تهدّم السدّ أربع مرّات على الأقلّ، بعد سنة 350م في عهد "ثارن يهنعم" ثمّ سنة 449م في عهد "شرحبيل يعفر" ثمّ سنة 542م في عهد "أبرهة الأشرم"، ثمّ لا ندري متى تخرّب تماما بعد ذلك وتفرّق الناس جميعا عن ذلك المكان، بيد أنّنا نرجّح أنّ القرآن تحدّث عن المرّة الأخيرة التي أدّت إلى ترك المنطقة نهائيّا، وإلى تمزّق أهلها حيث يقول: (وجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كلّ ممزّق) (سبأ، 19) والمؤكّد عندنا أنّ تهدّم السدّ للمرّة الأخيرة كان قريبا من الزمن المفترض لولادة النبيّ.
رغم محاولاتنا مقارنة النقوش الجنوبية بروايات الإخباريين، والبحث عن مصادر خارجيّة يهوديّة أو غيرها تخبرنا عن تاريخ المدينة، فإنّنا نظلّ في دائرة الفرضيّات والترجيحات وتحت رحمة المصادر الشفويّة الإسلاميّة، ولا يمكننا بناء تاريخ علمي حقيقي للمدينة ومن ثمّة قراءة الإسلام المبكّر في تلك الناحية إلاّ بدعم البحوث الأركيولوجيّة فيها وفصلها عن السلطة الدينيّة وهذا مطلب عزيز.