حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 أفخاذ بيضاء القدر والسياسات الجنسانية في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيّب صالح

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
باسل
ثـــــــــــــــائر محــــرض
ثـــــــــــــــائر محــــرض
باسل


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 259
معدل التفوق : 770
السٌّمعَة : 21
تاريخ التسجيل : 15/12/2011

أفخاذ بيضاء القدر والسياسات الجنسانية في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيّب صالح Empty
29122013
مُساهمةأفخاذ بيضاء القدر والسياسات الجنسانية في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيّب صالح

أفخاذ بيضاء القدر والسياسات الجنسانية في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيّب صالح Arton9854-76f0f
في عام 1914 وصل الطيار الفرنسي مارك بورب بنجاح في أول رحلة جوية من القاهرة إلى الخرطوم. كان الحاكم العام ريجنالد ويجنت بانتظاره عند الهبوط وعدد من الموظفين الرسميين. حيا الحاكم ريجنت الطيار مارك بالكلمات التالية:
أنا في غاية السرور والحماس كما في اليوم الذي حدثت فيه معركة أم درمان في العام (1898)(1). اسمح لي أن أهنئك باسم كل واحد هنا وأن أشكرك على مجيئك وقطع كل هذه المسافة. لقد غزوت السودان خطوة خطوة، في الصحراء التي اجتزتها لتوك. ولا يسعني أن أخفي عنك المشاعر التي ملأتني، وملأت الجميع اليوم برؤية الكلمة الفصل في الحضارة: طيارة فرنسية. (17 Lufbery).
الحاكم البريطاني كان لديه سبب وجيه ليشعر بالتفوق. ففي عام 1914 ادعت القوى الغربية أن “85% من مساحة الأرض كانت على شكل مستعمرات، محميات، بلاد تابعة، وأراض خاضعة، وكومنولث” (Said 8)، هذا الاستعراض للتقنية المتقدمة كان فقط إعادة تأكيد لتفوق الغرب على بقية العالم.
في مقالتها “كاليبان الاستثناء” (Caliban the Excluded) تؤكد مارجريت بول جوزيف أهمية التقنية كعنصر إكراه لدى سلطة الغرب. هي تذكر عالم الاجتماع أو. مانوني الذي افترض مسبقاً أن علاقة الاتكال المتبادل بين المستعمِر والمستعمَر، تشبع الرغبات غير الواعية لكلا الطرفين (مقتبس لدى 6Joseph). ففي الأدب، بحسب مانوني، هذه العلاقة الثنائية كما قدمت بين كاليبان وبروسبيرو(2) وبين روبنسون كروزو وفرايدي، هي وصف للكائنات البشرية، التي طبيعتها معقدة بما فيه الكفاية لتضم بين ظهرانيها كلا “الوحش” و“الإنسان الرؤوف” (6). فرانز فانون وإيميه سيزار بحديثهما عن جوزيف، يرفضان فكرة الاتكال المتبادل هذه. بالحقيقة فإن فانون ينتقد مانوني لعدم تمييزه أن برسبيرو وكاليبان لا يحتاجان بعضهما، ولكن حالة التبعية (جراء الدونية) خلقت فعلياً من قبل الأول (برسبيرو) عندما استخدم تفوقه التقني للاستغلال (Joseph 7). وتكتب جوزيف “فانون أدرك حقيقة أن الاغتراب يحتل مكانة مركزية في أي تحليل للكولونيالية” وتتابع:
اهتم ماركس بعمال العالم: العمل وعجزه الاقتصادي. أبطال فانون، معذبو الأرض: المستعمَرون وتحطمهم النفسي. يعلق روبرت سميث على هذا بالقول: “الشخصية المستعمَرة مغتربة ليس فقط جراء اللون والمجتمع التقليدي ولكن، وهو الأكثر أهمية، من خلال ديناميكيات الحالة الاستعمار / العنصرية، هو مغترب عن كينونته كشخص أسود” (Joseph 7).
هذا الاغتراب النفسي هو الذي أقض مضجع مصطفى سعيد، بطل رواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”(3). بعد أن صنعت حسنة أرملته، قدرها بيديها وقتلت ود الريس ثم قتلت نفسها، تمت إدانتها من قبل سكان القرية على ضفاف النيل. فقط هناك شخصان استوعبا فعلتها: زوجة ود الريس الأولى، مبروكة - ضحية تابعة- والأفندي، سارد الحكاية الخارجي. بكلمة مختصرة حسنة “قبلت الرجل الغريب، لماذا لم تقبل ود الريس؟” (صالح 106).
قبول “الغرباء” أو عدم قبولهم، مسألة هي في القلب من رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”. الغريب مصطفى سعيد، ابن الخرطوم، طالب اللغة الانكليزية الذي كوفئ، والاقتصادي تالياً، حاول أن يجعل وطنه أولاً في انكلترا، ثم في قريته الصغيرة على ضفاف النيل. مصطفى يأتمن الأفندي فوالده مات قبل أن يولد، وليس لديه صلات بأبيه وأمه. ويعترف بأن هذا منحه كطفل “إحساساً دافئاً بأنني حر، بأنه ليس ثمة مخلوق، أب أو أم، يربطني كالوتد إلى بقعة معينة” (صالح 21) حرية الارتباط هذه بأرضه، ثقافته وناسه قادت مصطفى إلى ممرات غريبة. هو اختار كفتى أن يحضر إلى المدرسة الإنكليزية ويفوق توقعات الجميع. أرسل في بعثة دراسية إلى انكلترا، قدر لها أن تجعل منه جنتلمان “إنكليزي أسود”. هذا الجنتلمان الانكليزي الأسود هو ذروة نتاج قانون الإيديولوجية الانكليزية بالسماح غير المباشر: السماح بحكم “السكان الأصليين” مع التأكيد على أن المصالح البريطانية تبقى محفوظة. كما اختصر اللورد ماكولي القصد، عبر التعليم، هو امتلاك طبقة الفرد فيها، هندي أو [أسود] بالدم واللون، ولكنه انكليزي في الذائقة، في آرائه، في أخلاقه وفي ثقافته. بالنسبة لهذه الطبقة يمكن أن نتركها لننقح اللهجات العامية للبلد، ونغني هذه اللهجات بمصطلحات العلم المستعارة من المصطلحات الغربية، وإذابتها بدرجات تناسب المعرفة المنقولة إلى الجمهور العريض" (مقتبس لدى سبيفاك 61).
أتقن مصطفى دوره بشكل جيد وصار اقتصادياً يحمل شهادة دكتوراه، ولكنه فشل في اكتساب القبول الكامل من زملائه كمثقف مساوٍ لهم. إذ بقي ذلك الغريب الاكزوتيكي لنقيضه الانكليزي، بغض النظر عن مستواه العلمي ولكنته الانكليزية: فجلده داكن جداً. وبعد سنوات عديدة يتذكر رجل انكليزي مصطفى بالقول:
خلق لنفسه أسطورة من نوع ما. الرجل الأسود الوسيم، المدلل في الأوساط البوهيمية. كان كما يبدو واجهة يعرضها أفراد الطبقة الارستقراطية الذين كانوا في العشرينات وأوائل الثلاثينات يتظاهرون بالتحرر. وقال أنه كان صديقاً للورد فلان ولورد علان. وكان أيضاً من الأثيرين عند اليسار الانكليزي. ذلك من سوء حظه، لأنه يقال أنه كان ذكياً" (صالح 51).
بالنسبة للمستعمِرين لا يمكن أن يعتبر مصطفى مساوياً تماماً لرجل انكليزي رغم جميع إنجازاته.
مصطفى يمارس اللعبة، ولكنه يعي أنه دائماً منقوص، لأنه لا يستطيع أن يكسب القبول الكامل بميزاته الشخصية. كاهن يقول لمصطفى عندما سافر وحيداً إلى القاهرة وهو فتى: “كلنا يا بني نسافر وحدنا في نهاية الأمر” هذه الجملة الكونية الشاملة تبعتها حالاً “إنك تتحدث الانكليزية بطلاقة مذهلة” (صالح 28). الغريب سيبقى دائماً موضوع الدهشة.
مصطفى شخص غريب الأطوار مثير للاهتمام، ولكنه ليس مساوياً لأساتذته ونظرائه، والنساء اللواتي نظرن إليه بوصفه “المجهول” الداكن، الاكزوتيكي. أصابته جرثومة “الرجل الأبيض”، العدوى التي يتنزى بها جسم الكون“(87) تختصره إلى شيء، تنتزعه من سواده، تشطره وتوطد اغترابه. بدوره يركز اشمئزازه الذاتي وإحساسه بالانتقام على آن همند، ايزابيلا سيمور وشيلا غرينوود. هؤلاء النساء بخضوعهن لما تسميه باربرا هارلو”النزعة العاطفية للاستشراق“يعتقدن بآخريته وباختلافه ويردنه ليس كرجل ولكن كرجل أسود. مصطفى يتذكر”تتأملني كل مرة [عشيقته شيلا] كأنها تكتشف شيئاً جديداً“وتخبره شيلا غرينوود”لسانك قرمزي بلون الغروب “وتهتف”ما أروع لونك الأسود، لون السحر والغموض“شيلا غرينوود تعتبر مناوشاتها المحظورة مع رجل أسود فاحشة بشكل ما وتثيرها”أمي ستجن وأبي سيقتلني“تقول لمصطفى (صالح 115). عندما قابلت إيزابيلا سيمور مصطفى للمرة الأولى وافقت على الخروج معه وقالت:”نعم. لم لا؟ هيئتك لا تدل على أنك من أكلة لحوم البشر“(37) تحطم زواجها لأجل مصطفى. آن همند ترتدي عباءة عربية وعقالاً في الفراش، وتلعب دور سوسن جاريته. ويحكي مصطفى أنها - أي آن -”تحن إلى مناخات استوائية. . . كنت في عينيها رمزاً لكل هذا الحنين" (صالح 117).
بمخزونه الذي لا ينفذ من العبارات المبتذلة يبنى مصطفى الأكاذيب ويشبه نفسه بعطيل “الرجل الأسود النبيل” عندما يناسب التشبيه غايته. يحكي حكايات شائنة عن وطنه، فيها من الغرابة بقدر ما تريد النساء منه أن يفعل. مصطفى يكذب على نسائه حتى يستدرجهن إلى سريره “غرفة نومي مقبرة تطل على حديقة” (صالح 30). في هذه المقبرة ترقد بقايا مصطفى، الأفريقي الأسود المذبوح بيد المستعمِر البربري. استعباد النساء يساعده على تعويض ما هو مفقود بالنسبة له (“نعم هذه فريستي” يقول مصطفى بلقائه بغزوة جديدة [صالح 34]). النساء شريكات في الجريمة. لم يغتصبن ولكن فقط ضللن لأنهن أردن المشاركة في الدور الذي حدده لهن، وفي حالة آن همند كان الدور هو دور الأمة العبدة (صالح 142)، أدوار تمنحهن الإشباع بتحدي أهاليهن والتوافق على الدعوة للبحث عن المتعة لتحقيق متعة البحث.
ليست هذه ذهنية لوم الضحية. مصطفى يمكن أن يعتبر نفسه كعطيل النبيل المغربي ليحصل على هؤلاء النساء؛ على أية حال، هو بشكل أساسي أقرب إلى كاليبان أكثر من قربه إلى عطيل، والنساء اللواتي كذب عليهن هن الميراندات (جمع ميراندا) اللواتي أوقعته في شرك نمط الفحل الأسود المثير جنسياً. يكتب جيمس دبليو رايت “اللغة التي تعطيها ميراندا لكاليبان تدفع تعريفه بمصطلحاتها وبمصطلحات بروسبيرو: كاليبان/كانيبال(4) – المتوحش الذي”هدفه“ الاستعباد. كاليبان يحاول أن يستخدم اللغة لمصلحته الخاصة ولكنه لا يستطيع” (2). مصطفى يكذب، ولكنه لا يستطيع أن يتحرر لأنه حدد فريسته – شيلا غرينوود، آن همند، إيزابيلا سيمور- وبذلك فقد جعلهن كُلاً ومنحهن سلطة اللغة والهوية، شيء لم يفعله المستعمِر أبداً من قبل، أن يصارع ليغزو النساء الخاضعات، الخنوعات، نساء القارة السوداء الاكزوتيكيات(5). مصطفى يسعى إلى أن يستعمرهن ويأمل أن يلوثهن ولكنه يجد أنهن يحملن أمراض الرجل الأبيض – لديهن الحس الداخلي بالذات والتفوق والاستعلاء عليه. بشكل مؤثر فإن ميرانداته، قيدنه، وروضنه، وأكدن مجدداً اغترابه عن الحضارة البيضاء أو السوداء. ونتيجة لذلك فقد مصطفى الشفقة على طرائده وعلى نفسه. هو يعي قسوة أفعاله وتعطشه لإيزابيلا سيمور سبب له “وعيه [كما أخبرته] بأن عليه أن يكف” ولكنه يبرر ذلك بمتعة اللحظة (“لكن القمة صارت على بعد خطوة، وبعد ذلك ألتقط أنفاسي وأستجم”). مصطفى لم يكذب على نفسه، على أية حال. يتابع: “ونحن في قمة الألم عبرت رأسي سحائب ذكريات بعيدة قديمة كبخار يصعد من بحيرة مالحة وسط الصحراء. وانفجرت هي ببكاء ممض محرق واستسلمت أنا إلى نوم متوتر محموم” (صالح 40). مصطفى يبحث عن لحظة الاتصال، لا يهم كم هي زائلة (مغرقة في الذاكرة) بالنسبة لعالمه وهو يرغب بمحاكمة الألم في لحظة قصيرة من الاتصال.
سيكون مستعمِر النساء، على أية حال، يلتقي قدره مع جين مورس. كما لو كان ينطق شعراً، يخبر مصطفى الأفندي (الراوي) ثلاث مرات أن “القطار حملني إلى محطة فيكتوريا وإلى عالم جين مورس” (صالح 29، 31، 33). مرجعاً أصداء الكورس الإغريقي تعلن كلماته سقوطه: “القطار حملني إلى محطة فيكتوريا وإلى عالم جين مورس” يُنَغِّم. إنه عالم يتوق إليه بيأس ويبحث عنه مهما كانت الثمن باهظاً. الكلمات ترجع الصدى بقوة؛ تستحضر القطار، سيل الأفكار الذي داهم مصطفى وعبث محاولته الهروب من قدره. جين هي رمز لا محدود للإمبريالية. هي بيضاء، تملك عقلاً خاصاً بها. هي ديزديمونا الملفقة والجزء المضاد لمصطفى العطيل الملفق. نمطياً ديزديمونا مشكوك بها من قبل نقاد إياغو كونها سلبية جداً: “ديزديمونا سلبية تماماً. لا تقدر على أن تفعل أي شيء مهما كان. ولا تستطيع أن تنتقم حتى عن طريق الكلام؛ حتى ولا بالمشاعر المكتومة . . لا حول لها ولا قوة لأن طبيعتها عذبة بشكل كبير وحبها مطلق . . . عذاب ديزديمونا يشبه حب جميع الكائنات البكماء تتعذب دون سبب مما تَعْبد” (مقتبس في Neely 69).
جين مورس على أية حال، هي ديزديمونا غير السلبية. هي برية، نزوية، ضارية، متطلبة، مشوشة، ولم تؤثر فيها “آخرية” مصطفى. في المرة الأولى التي التقته فيها لم تتحدث إليه بل وجهت إليه نظرة من “صلف وبرود وشيء آخر” (صالح 29). في لقائهما الثاني أخبرته “أنت بشع. لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك” (صالح 29). كنمط أولي للغرب، جين مورس ترى قبح الرجل الأبيض الإمبريالي منعكساً على مصطفى. وجهة مرآة الروح المعتمة. بتوبيخه هي توبخ نفسها. مصطفى قدرها، ولكن عليها أن تقبله. خدعها وطاردها بقسوة لمدة ثلاث سنوات. بالنسبة إليه جين مورس هي “سراب يومض” بأمل أن يكون مقبولاً كانكليزي [أسود]. في يوم من الأيام قالت له “إنني تعبت من مطاردتك لي ومن جريي أمامك. تزوجني” وقد فعل، وسخرت منه بجسدها العاري، والذي لن تسمح له بلمسها (صالح 127). تذكر مصطفى أمه وهي تقول له: “إنها حياتك وأنت حر فيها” (صالح 127) ولكنه يتحقق أنه مع جين مورس – المرأة التي لم يفكر بها قط كزوجة (ليست جزءً منه، ما زالا منفصلين)، والتي ترفض كل شيء يتعلق به بما في ذلك اسمه – لن يكون ممثلاً، فقط إعادة التمثيل والمعرفة تجعله يصرخ يائساً: “أقسم أنني سأقتلك يوماً ما” (127). صرخته تستهدف الغرب بقدر ما تستهدف زوجته. جين مورس تضحك من تهديده؛ مشهد العنف يثيرها، ولكنها تشك في أن مصطفى سيقوم بذلك.
انتبه مصطفى يائساً أنه تحول من مطارِد إلى فريسة. لقد تروض كمستعمر وفقد هويته كرجل. في جميع مراحل حياته عانى مصطفى من البرودة الناجمة من الاستيعاب الكلي للحضارة الغربية وإنكاره لأفريقانيته. هذا البرود جعل من المستحيل بالنسبة له أن يعبر عن إنسانيته، أن يضحك (“أنت لست إنساناً. أنت آلة صماء”). مسز روبنسون اعتادت أن تضحك على الفتى مصطفى وتقول “ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً؟” (صالح 28). ثقافته فقط هي التي قدمته للنخبة البيضاء وجعلته مميزاً فيها. في حالة جين مورس زوجته الإنكليزية، مصطفى يكتوي بنيران الجحيم لأنها لم تعبأ بذلك. تعذب وابتهج من زوجته. هو يعرف أنه يجمع في نفسه الغازي والمغزو. لقد حطمته، ولكنها جعلته يشعر ولم يعد بارداً. مصطفى يتعجب “أين البرد؟”
في ليلة قتل جين مورس، يعود مصطفى إلى المنزل ليجدها “عارية مستلقية على السرير، فخذاها بيضاوان مفتوحان، ابتسامتها مفعمة، وعلى وجهها شيء مثل الحزن، في حالة تأهب عظيم للأخذ والعطاء” (129). للمرة الأولى مصطفى [الشرق] يمكن أن يأخذ من جين [الغرب] حتى من دون أن يكذب أحدهما على الآخر أو يتحفظا على هدفهما. مارسا الحب، ومارسا الكراهية. لقد اشتبكا في صراع من أجل التفوق، ولن يتخليا عن مواقعهما. صراع يصدي إلى العنف الضروري لتحطيم روابط الاستعمار. فانون في كتابه “معذبو الأرض” يقول “حقيقة الاستعمار العارية تثير لدينا الطلقات النارية والسكاكين القاتلة التي تخرج منها. لأنه إن كان الآخر سيكون الأول، فهذا فقط سيمر بعد صراع حاسم ومرير بين كلا الطرفين” فانون (37).
في البحث عن إحساسه بنفسه كإنسان غير تابع للمستعمِر الأبيض، فإن مصطفى يغرز السكين في قلب جين وهو يعتليها. وبينما هي تحتضر ينبثق التغير التالي:
“وقالت لي: أحبك – فصدقتها. وقلت لها: أحبك وكنت صادقاً. ونحن شعلة من اللهب، حواف الفراش ألسنة من نيران الجحيم ورائحة الدخان أشمه بأنفي وهي تقول لي: أحبك يا حبيبي، وأنا أقول لها أحبك يا حبيبتي. والكون بماضيه وحاضره ومستقبله اجتمع في نقطة واحدة ليس قبلها ولا بعدها شيء” (صالح 130).
يكافح مصطفى ليتطهر من شياطينه وذلك فقط في التحطيم العنيف لعلاقتهما التي صادق عليها الاثنان: فتَحْتَ البغض وسوء النية كان الحب وامتزجت الحاجة بالضراوة لتحرر من عواطف كهذه. فتقول له: “تعال. لا تدعني أذهب وحدي” (صالح 130) ويحاول مصطفى فعلاً اللحاق بها. فهو لم يدافع عن فعلته وأَمِل أن يحكمه قاضي المحكمة الأبيض بالإعدام لأنه “المتطفل [على التراب البريطاني والنساء البيضاوات] الذي يجب أن يقرر مصيره” (صالح 94). يفكر مصطفى “أنا لست عطيلاً. أنا أكذوبة. لما لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة؟” ولكنه يخفق في الوقوف وقول هذه الكلمات. لدى شكسبير كان عطيل “أبيض” بالتبني ولكن مصطفى يعرف أن هذا لا ينطبق عليه. فهو يعي تماماً أنه يشبه كاليبان، الذي اغتصب وسرق بنجاح ولكنه بطريقة ما زال مستعبداً وتحت رحمة السيد الأعلى.
الرجال “البيض” يعاقبون مصطفى بالحبس مدة سبع سنوات. الجملة باهرة لأن معاقبته تعني الاعتراف أن التجربة البريطانية العظيمة أخفقت. لقد دافعوا عنه أولاً في المحاكمة وثانياً دافعوا عن ذاكرته ببناء حكاية عنه “إنه الآن مليونير، ويعيش كاللوردات في الريف الانكليزي” (صالح 49). لقد أدانوا أفعال مصطفى دون استيعاب كامل لماذا قام “هو” بذلك.
يقول فانون، أن المستوطنون يعرفون أن “البلدة المحلية، بلدة مروضة، صاغرة، ممرغة بالوحل. إنها بلدة العبيد والعرب القذرين. النظرة التي يوجهها الإنسان المحلي لبلدة المستوطن، هي نظرة تعطش، نظرة حسد؛ تعبر عن حلمه بالاستحواذ – بجميع أشكاله: الجلوس على طاولة المستوطن، النوم في فراشه، مضاجعة زوجته إن أمكن. الإنسان المستعمَر شخص حسود. وهو ما يعرفه المستوطن جيداً” (فانون 39).
أمضى مصطفى عقوبة السبع سنين رافضاً حالته كجنتلمان أسود. وبعدها يعود إلى قرية صغيرة على ضفاف النيل حيث يبدأ حياة جديدة مع زوجة أفريقية. يحاول التواصل مع مجتمع القرية بأساليب “قديمة”. من الناحية الشكلية يبدو متوائماً في حياته. ولكنه عندما يسكر يقرأ الشعر الإنكليزي بلكنته الأصلية، وعندما ينام يردد اسم جين. لاوعيه مسكون بالأفكار. تماماً كما في إنكلترا حافظ في قريته على وجود غرفة سرية في منزله تمثل “الشرق”، ضمت موقداً، كتب باللغة الانكليزية، وصور لشيلا غرينوود، آن همند، إيزابيلا سيمور وجين مورس، النساء “الغربيات”. مصطفى ما زال مسحوراً ومتشبثاً بأغلاله. كان الأفندي على صواب حين حكم عليه بأنه أحمق (صالح 137)(6).
يبقى مصطفى غريباً بالنسبة لأهالي القرية على ضفاف النيل. لعب دوراً في بعض الأعمال المحلية ونصحهم ببعض الخطوات لزيادة غلالهم ولكنه لم يشارك في مجلس القرية المحلي. فهو منقوص. هو غير قادر على العودة عندما لا يعرف ما الذي يريده من عودته. إن عجزه عن الانخراط في تقاليد القرية يعبر عنه موقفه من زوجته الثانية حسنة، التي يعاملها بكثير من اللباقة والاحترام ويقدرها. والتغير كان ملحوظاً: “كل النسوان يتغيرن بعد الزواج . لكن هي خصوصاً تغيرت تغيراً لا يوصف. كأنها شخص آخر. حتى نحن أندادها الذين كنا نلعب معها في الحي، ننظر إليها اليوم فنراها شيئاً جديداً” (صالح 85) حسنة الجديدة هذه تعبر عن آراءها الخاصة وتقول رغباتها الشخصية.
عندما ووجهت بإلحاح للزواج من ود الريس، ذهبت إلى محجوب وطلبت من الأفندي أن يتزوجها. وعندما رفض محجوب الاستماع إليها، المرأة الطيبة التي يجب أن تروض بتطهيرها روحياً ول“موقعها” في مجتمع القرية، تهدد بأنه ستقتل ود الريس وتقتل نفسها. (صالح 81). هي مدانة لأنها تصارع ضد قدرها ولا ترضخ لمسألة الشرف. القرويون يتشبثون بالماضي الذي هو قبل الاستعمار، وحسنة تصر على إنكار التقاليد القديمة وترفض حقيقة أن “الرجال قوامون على النساء” (صالح 82). حسنة يجب أن تموت. إنها التضحية الضرورية حتى يتم إقصاء التقاليد القديمة وتكون لدى القرويين الفرصة لبناء مستقبل جديد لأنفسهم، مستقبل ليس استمراراً لحياة العبودية أو ارتداداً للأساليب القديمة. إن اغتصابها وموتها مقلقان لأنها لم توافق على تمليك جسدها، وأن تكون شريكة مطواعة بنفس الطريقة التي كانت عليها كزوجة لمصطفى. لم يكن لحسنة أن تنجو من قدرها المحتوم لأنها “قبلت بالغريب” والتمست التغيير. هي والغريب مصابان في الحرب ضد الاستعمار.
الأفندي على أية حال، يمكن أن ينجو إذا اختار فقط الفعل. فهو مثل مصطفى أمضى سبع سنوات في انكلترا لتحصيل شهادة دكتوراه في الشعر. في البداية ارتكب خطأ بإضفاء الطابع الرومانسي على وطنه. خلال إقامته المؤقتة في إنكلترا “حلم” بوطنه ولم يخسر الصلات التي تربطه بفكرة الوطن. لم يحاول أن يستعبد النساء البيضاوات أو يقلد الأساليب البيضاء؛ درس الشعر وشعرَ بالمهانة عندما قال له مصطفى “لو أنك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب لكان خيراً”(صالح 13). يعود الأفندي إلى عمله في بلاده (يحصل على وظيفة لدى الحكومة) ولكنه دون أن يدري أصيب بمرض معدٍ – الحسد، بفكرة أن الأشياء ليست الرعوية (idyllic) الكامنة في وعي الذات. تغيرت بصيرته. في عودته الأولى يرى أقرانه المحليين عبر الضباب (صالح 1)، ويتساءل لماذا أجبرت حسنة على الزواج من ود الريس؛ على أية حال، لم يعترض لأنه كان خائفاً من أن يقلل ذلك من أفريقيته. هو يعترف بحب حسنة ولكنه لم يفعل شيئاً للحفاظ عليها. وفكرة أن يرتبط بها كزوجة ثانية (ويمكنه ذلك من خلال أعراف القرية) مرفوضة بالنسبة له. يتراجع عن هذه الفكرة التي تبدو له غير طبيعية. يبدو وكأنه شريك في موت حسنة كما القرويين، ومعرفته بإخفاقه على الإقدام على الفعل سببت له الإحباط فقفز إلى النيل مجللاً بالذنب.
في البداية يقول الأفندي: “وكونهم جاؤوا إلى ديارنا لا أدري لماذا، هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً” (صالح 44). وهو يتخبط في الماء يدرك أن عليه أن يمتنع عن إلقاء اللوم والمرأة والعمل باتجاه المستقبل. ويعترف أن “طول حياتي لم أختر ولم أقرر، إنني أقرر الآن أنني أختار الحياة” صالح (132).
المراجع المذكورة:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

أفخاذ بيضاء القدر والسياسات الجنسانية في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيّب صالح :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

أفخاذ بيضاء القدر والسياسات الجنسانية في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيّب صالح

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
»  أفخاذ بيضاء القدر والسياسات الجنسانية في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيّب صال
» موسم الحبّ
» اسباب الهجرة
» مسألة «القيم» في موسم «الحراك»
» قطة سوداء وقطة بيضاء... والنتيجة أسد فضي!

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: