“وأخذ موسى الدم ورشَّه على الشعب”
(الخروج 24: 8)
لم يكتمل نصر يهوه على المصريين بعد الكوارث العشر التي انتهت بموافقة الفرعون على رحيل بني إسرائيل. فلقد ندم الفرعون إلى إطلاقهم وتبعهم بمركبات كثيرة فأدركهم وهم نازلون على البحر، فصرخ بنو إسرائيل وقالوا لموسى: “أَمنْ عدم القبور بمصر أخرجتنا لنموت في البرية؟ ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟ أَليس هذا ما كلمناك به في مصر قائلين دعنا نخدم المصريين فإنَّ خدمتنا لهم خير من أن نموت في البرية؟” (الخروج 14: 10-12). وفي الحقيقة فإنه لا يوجد أبلغ من هذا الخطاب توكيداً على عدم رغبة بني إسرائيل في هذا التحرير المزعوم والباهظ التكاليف، وعدم رغبتهم في الانتماء إلى هذا الإله. ولكن يهوه مُصرّ على الالتصاق بهذه الجماعة، لأنها وسيلته الوحيدة للخروج من وحدته الجبلية الأزلية والدخول في مجرى التاريخ، إنه عازم على إتمام نصره على أقوى قوة عسكرية في ذلك العصر، وهو النصر الذي سيُخضع له هذا الشعب القاسي الرقبة ويتوِّجه ملكاً عليهم. وهنا تحصل أعظم المعجزات التي روتها ملاحم التاريخ. فقد مد موسى عصاه على البحر بأمر الرب فانشق ماؤه إلى طودين واحد عن اليمين وآخر عن الشمال، وعبر الإسرائيليون على اليبس. ثم أوحى الرب إلى فرعون وجنوده أن يلحقوا بهم، فلما صاروا في قلب اللجة مد موسى يده على البحر ثانية فأطبقت المياه عليهم ولم يبقَ منهم أحد على قيد الحياة (الخروج 14: 13-30). وللمرة الثانية كان بنو إسرائيل يقفون موقف المتفرج على الانتصار الذي حققه يهوه من أجلهم، ولذلك فإن هذه المعركة لم تكن نصراً إسرائيلياً مثلما لم تكن هزيمة مصرية، لأن مصر لم تكن تواجه قوة بشرية وإنما قوة إلهية تحاول إثبات قدرتها أمام الشعب الذي اختارته خاصةً لها من بين الشعوب. أما الخاسر الوحيد في هذه المعركة التي توجت يهوه أميراً للحرب، فهم بنو إسرائيل الذين سوف يرزحون تحت نير هذه الألوهة لما تبقى من تاريخهم، وما فعله يهوه بالمصريين سيبقى أمام بني إسرائيل أمثولة لما يمكن أن يفعله بهم. وها هو بعد انتصاره يوجه إلى موسى أولى تهديداته المرعبة: “إن أطعت أمر الرب إلهك وصنعتَ بالاستقامة أمامه وحفظت جميع فرائضه، فجميع الأمراض التي أحللتها بالمصريين لا أُحلُّها بك.” (الخروج 15: 26).
ولكن هل أطاع بنو إسرائيل الرب وحفظوا جميع فرائضه؟ في الحقيقة، فإن بقية القصة التوراتية ليست إلا وصفاً للعلاقة المتوترة بين يهوه وإسرائيل. فلقد كانت إسرائيل بالنسبة إليه مثل الزوجة الخائنة الزانية، وكان يهوه بالنسبة إليها مثل الزوج المكروه الذي أُلزمت على العيش معه. وها هو بعد أكثر من خمسة قرون على الخروج ما زال يشتكي من فسق زوجته على ما نقرأ في سفر هوشع: “حاكموا أمكم حاكموها، فإنها ليست امرأتي ولا أنا رجلها. لتنزع زناها من وجهها وفسقها من بين ثدييها، لئلا أجردها عريانة وأردها كما كانت يوم ميلادها… إني لا أرحم بنيها لأنهم بنو زنى، لأن أمهم زنت والتي حبلت بهم أتت بالمخازي… والآن أكشف فاحشتها على عيون محبيها وليس أحد ينقذها من يدي، وأُبطل كل فرحها وأعيادها وسبوتها ورؤوس شهورها وكل احتفالاتها، وأدمر كرمها وتينها مما قالت هو أُجرتي التي جعلها لي محبيَّ، وأصيرهما غاباً فيأكلهما وحش الصحراء.” (هوشع 2: 2-13).
حتى آخر قصة الخروج، نستطيع متابعة هذه العلاقة المتوترة في أوضح أشكالها بين أبطال القصة الثلاثة: يهوه وموسى وإسرائيل. فموسى لم يكن من حيث الأصل راغباً بهذه المهمة الثقيلة التي ألقاها الرب على كاهله، وقد أبدى تذمره منها أكثر من مرة. فعندما خاصمه رؤساء الشعب بعد زيادة الفرعون أثقال بني إسرائيل قال للرب: “لماذا بعثتني؟ فإني منذ دخلت على فرعون لأتكلم باسمك أساء إليَّ هؤلاء الشعب.” (الخروج 5: 22-23). وفي مناسبة أخرى قال له: “لمَ ابتليت عبدك؟ ولمَ لم أنل حظوة في عينيك؟ حتى وضعت َأثقال جميع هؤلاء الشعب عليّ.” (العدد 11: 11). وبنو إسرائيل ما برحوا يتذمرون على الرب أمام موسى في كل مناسبة: “لماذا أتى الرب بنا إلى هذه الأرض حتى نسقط تحت السيف وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة؟ أَليس خيراً لنا أن نرجع إلى مصر؟” (العدد 14: 2-3). وها هو الرب يتذمر بدوره على شعبه لدى موسى: “حتى متى يهينني هذا الشعب؟ وحتى متى لا يصدقون بجميع الآيات التي عملتُ في وسطهم؟ إني أضربهم بالوبأ وأبيدهم وأصيِّرك شعباً أكثر وأعظم منهم.” (العدد 14: 11-12). وموسى الواقع بين مطرقة الرب وسندان الشعب يبذل ما بوسعه من أجل التوفيق بين الطرفين.
كان هدف موسى هو الوصول بجماعته إلى أرض كنعان، ولكنه تفادى الطريق الدولي المعروف بطريق البحر، وهو الطريق الأقصر الذي يصل بين الدلتا ومدينة غزة، وفضّل عليه الطريق الصحراوي الذي يمر عبر سيناء. ويبرر النص التوراتي هذا الخيار غير المنطقي بالخوف من مواجهات عسكرية لم يحدد طبيعتها: “وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يهدهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة، لأن الله قال لئلا يندم الشعب إذا رأوا حرباً ويرجعوا إلى مصر. فأدار الله الشعب في طريق برية سوف… ثم ارتحلوا من سُكّوت ونزلوا في إيتام على أطراف البرية.” (الخروج 13: 17-20). والمقصود هنا ببحر سوف هو البحر الأحمر وبالتحديد خليج السويس. أما برية سوف فهي القسم الغربي من صحراء سيناء المتاخم لخليج السويس. ويبدو أن معجزة شق المياه قد جرت إما على خليج السويس أو على إحدى البحيرات المرة الواقعة إلى الشمال من الخليج والتي اختفت بعد شق قنال السويس.
من الصعب علينا المطابقة بين أسماء المواقع التي مر بها العبرانيون بعد معجزة شق المياه وأيٍّ من المواقع الحالية، ولكن يبدو أنهم اتجهوا جنوباً على طول البرية المتاخمة لخليج السويس. وفي موقع يدعوه النص مارة تذمر الشعب على موسى لأن الماء الذي وردوه كان مراً. فصرخ موسى إلى الرب فأراه شجرة فطرحها في الماء فصار الماء عذباً (الخروج 15: 22-25). وفي الشهر الثاني وصلوا إلى برية سين حيث نفدت مؤونتهم من الطعام: “فتذمر كل جماعة بني إسرائيل على موسى وهرون في البرية. وقال لهما بنو إسرائيل: ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزاً للشبع. فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع. فقال الرب لموسى: ها أنا أمطر لكم خبزاً من السماء فيخرج الشعب ويلتقطون حاجة اليوم بيومها. سمعتُ تذمر بني إسرائيل. كلمهم قائلاً: في العشية تأكلون لحماً وفي الصباح تشبعون خبزاً، وتعلمون أني أنا الرب إلهكم… فكان في المساء أن (طيور) السلوى صعدت وغطت المحلة وفي الصباح كان سقيط الندى حوالي المحلة. ولما ارتفع سقيط إذا على وجه الأرض شيء مثل قشور، دقيق كالجليد على الأرض… فقال لهم موسى: هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا… ودعا بيت إسرائيل اسمه منَّاً.” (الخروج 16).
في المرة الثالثة وصل تذمر بني إسرائيل شفا التمرد. فعندما وصلوا إلى موقع يُدعى رافيديم: “لم يكن ماء ليشرب الشعب، فخاصم الشعب موسى وقالوا: أعطونا ماءً لنشرب… لماذا أصعدتنا من مصر لتميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش؟ فصرخ موسى إلى الرب قائلاً: ماذا أفعل بهذا الشعب؟ بعد قليل يرجمونني. فقال الرب لموسى: مر قدام الشعب وخذ معك من شيوخ إسرائيل، وعصاك التي ضربت بها النهر خذها في يدك واذهب، وها أنا أقف أمامك هناك على الصخرة في حوريب (؟)، فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب. ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل.” (الخروج 17: 1-7).
بعد معركة مظفرة لا نعرف دوافعها شنها موسى على شعب العماليق، وهم قبيلة عربية من نسل عيسو، وصل موسى إلى جبل الله حيث ضرب خيامه على مقربة منه (الخروج 18: 5). وهناك هبّ للقائه حموه يثرون ومعه صفورة زوجة موسى وابنيها. ويبدو أن موسى كان قد أرجع عائلته إلى موطنها عندما كان في مصر يجابه الفرعون ويعمل على إطلاق بني إسرائيل. فقص موسى على حميه كل ما جرى، فسُرَّ يثرون بجميع الإحسان الذي صنعه الرب إلى إسرائيل وقال: “تبارك الرب الذي نجاكم من أيدي المصريين… الآن علمت أن الرب أعظم من جميع الآلهة.” ثم قدم يثرون ذبائح للرب وتشارك مع الشعب في وليمة طقسية أمام الجبل (الخروج 18: 1-12). وبعد ذلك انصرف إلى موطنه الذي لا بد أنه كان قريباً من الجبل.
نحن الآن في نحو أواخر الشهر الثالث للخروج، ويهوه يتهيأ للعمل الحاسم في تاريخ بني إسرائيل وهو إنزال الوصية والشريعة على موسى، ويُعدّ المسرح لأضخم استعراض للقوة الإلهية أمام عيون الشعب. ونص سفر الخروج عند هذه المرحلة شديد الاضطراب بسبب محاولة المحرر التوفيق بين أكثر من موروث وصله عن هذه الأحداث، وما سأقدمه الآن هو مقاطع منتقاة تُعبّر عن الخيط الرئيسي للقصة.
فقد نادى الرب موسى من الجبل فصعد إليه، وهناك يتلو عليه بنبرة هادئة نص الميثاق، أو العهد، الذي سيعقده مع بني إسرائيل: “هكذا تقول لبيت يعقوب وتخبر بني إسرائيل: أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين. وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليَّ. فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب، فإن لي كل الأرض، وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة. هذه هي الكلمات التي تُكلّم بها بني إسرائيل. فجاء موسى ودعا شيوخ الشعب ووضع قدامهم كل هذه الكلمات التي أوصاه بها الرب. فأجاب جميع الشعب معاً وقالوا: كل ما تكلم به الرب نفعل.” (الخروج 19: 3-7). ونلاحظ في هذا النص مدى شبه العهد الذي يقدمه يهوه إلى الشعب، بالمواثيق والمعاهدات التي كان يعقدها ملوك الدول الكبرى مع الدويلات الصغيرة التابعة لهم. وإليكم نموذجاً لها في معاهدة ملك حاتي في الأناضول مع عازيرو السوري ملك آمورو: “أنا الملك الشمس قد جعلتك يا عازيراس تابعي. فإن صنت أرض ملك حاتي سيدك فإن سيدك سيقدم لك الحماية. عليك أن تحمي روح مليكك وشخصه وجسمه وأرضه، وملك حاتي سيقدم لك بالمقابل الحماية نفسها. ويتوجب عليك أن تدفع 300 شاقل من الذهب الخالص جزية سنوية… (تعداد لبقية بنود المعاهدة)… لقد ترك عازيراس ملك آمورو بوابة مصر وصار موالياً للملك الشمس.”(1)
بعد موافقة الشعب على ميثاق يهوه، يبدأ العرض المسرحي مدعوماً بكل المؤثرات السمعية والبصرية، عندما تجلى الرب على الطور فكاد أن يجعله دكاً: “وحدث في اليوم الثالث لما كان الصباح أنه حدثت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل وصوت بوق شديد جداً. فارتعد الشعب الذي في المحلة. وأخرج موسى الشعب من المحلة لملاقاة الله فوقفوا في أسفل الجبل. وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كل الجبل جداً، فكان صوت البوق يزداد اشتداداً جداً وموسى يتكلم والله يجيبه بصوت. ونزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل (وكان جميع الشعب يرون البروق والرعود وصوت البوق والجبل يدخن. ولما رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد وقالوا لموسى: تكلم أنت معنا فنسمع ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت. فقال موسى للشعب: لا تخافوا، لأن الله جاء ليمتحنكم ولكي تكون مخافته أمام وجوهكم حتى لا تخطئوا)(2)” (الخروج 19: 16-20). بعد هذا المشهد العاصف يقطع المحرر زحم الحدث عندما يأمر يهوه موسى بالصعود إلى الجبل ثم يملي عليه الوصايا العشر والشريعة بنبرة هادئة بعيدة كل البعد عن صخب تلك القوى الطبيعانية المتفجرة التي عرضها منذ قليل.
ودعا الله موسى إلى رأس الجبل فصعد موسى
“ثم تكلم الله بجميع هذه الكلمات قائلاً: أنا الرب الذي أخرجك من أرض مصر بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور… لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً… اذكر يوم السبت لتقدسه… أكرم أباك وأمك… لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور… لا تشتهِ بيت قريبك ولا تشتهِ امرأة قريبك… ولا شيئاً مما لقريبك.” (الخروج 20: 1-17).
بعد الوصايا يسرد يهوه على موسى الأحكام الشرعية والطقسية فيما يدعوه النص بكتاب العهد، والذي يحتوي أيضاً على تعليمات يهوه بخصوص إبادة سكان الأرض التي سيعطيها لبني إسرائيل ميراثاً: “لا تسجد لآلهتهم ولا تعبدها، ولا تعمل كأعمالهم، بل تبيدهم وتحطم أصنامهم تحطيماً، وتعبدون الرب إلهكم.” هذه النبرة الجديدة في صوت يهوه تأتي في اتفاق مع دوره الجديد كأمير للحرب. لقد وعد شعبه بأرض مليئة بالسكان وما من سبيل لتحقيق وعده سوى بإبادة سكان تلك الأرض وإحلال بني إسرائيل محلهم (الخروج: 21-23).
بعد تلقيه هذه الدفعة الأولى من الأحكام، جاء موسى وقص على الشعب جميع كلام الرب وجميع الأحكام، فأجابه الجميع بصوت واحد وقالوا: جميع ما تكلم به الرب نعمل به. ثم إن موسى قام بتوثيق عهد يهوه وختمه بالدم، وإليكم الطريقة: فقد بنى مذبحاً في أسفل الجبل ونصب اثني عشر نصباً لأسباط إسرائيل الاثني عشر، وقدم على المذبح قرابين من الثيران كان دمها كافياً لملء عدة طسوت كبيرة، فرشَّ نصف الدم على المذبح ورشّ نصفه الآخر على الشعب وقال: هذا هو دم العهد الذي عاهدكم به الرب على جميع هذه الأقوال(3). (الخروج 24: 3-11). بعد ذلك حل مجد الرب على الجبل وغطاه الغمام ستة أيام وفي اليوم السابع دعا الرب موسى من جوف الغمام، فدخل موسى في وسط الغمام وصعد الجبل. وأقام موسى في الجبل أربعين يوماً وأربعين ليلة، تلقى خلالها الدفعة الثانية من أحكام الشريعة. ولما فرغ الرب من مخاطبة موسى دفع إليه لوحي الشهادة، لوحين من حجر مكتوبين بإصبع الله (الخروج: 25-31).
على أن قصة ميثاق الدم لم تنتهِ بعد وسوف نتابعها في البحث القادم، بعد أن نقطع زخم الحدث مثلما قطعه المحرر من أجل التعليق على الوصية والشريعة.
يلفت نظرنا بشكل خاص في لائحة الوصايا الوصية الأولى القائلة: “لا يكن لك آلهة أخرى أمامي.” فهذه الوصية لا تنفي وجود الآلهة الأخرى بل تأمر الشعب بألا يعبدوها إلى جانب يهوه. من هنا فإننا لا نستطيع أن نطلق صفة التوحيد على عبادة يهوه عند هذه المرحلة من تطور دين إسرائيل، لأن ما يطلبه يهوه ليس التوحيد وإنما «وحدانية العبادة». على أننا سنرى في سياق البحث أن هذا المطلب غير الطموح ليهوه لم يتحقق إلا نحو أواخر عصر الملوكية، وأن التوحيد بمعناه الحقيقي لم يترسخ إلا بعد العودة من السبي البابلي. أما فيما يتعلق ببقية الوصايا الأخلاقية، فإنها لم تكن حدثاً فريداً ولا حاسماً في تاريخ الدين، لأن لوائح الوصايا الأخلاقية التي وصلتنا من ثقافة مصر وبلاد الرافدين قد سبقتها بقرون عديدة، ولم تترك جانباً من جوانب الحياة الاجتماعية إلا وعالجته.
أما فيما يتعلق بشريعة يهوه التي أنزل قسمها الأول على موسى في سفر الخروج، ثم أكملها في أسفار اللاويين والعدد والتثنية، فمن الواضح لقارئها أنها تتعامل مع ظروف ثقافة حضرية متطورة وتعكس بنى اجتماعية وسياسية مركبة. وهذا يعني أن المحرر التوراتي قد انتزعها من سياقاتها المتأخرة التي نشأت فيها لتلبية حاجات عملية وواقعية وحشرها في سيرة موسى. وهي تتماثل في العديد من النواحي مع شرائع الشرق القديم الأخرى من سومرية وبابلية وآشورية وحثية. وسوف أعرض فيما يلي بعضاً من تقاطعاتها الكثيرة مع شريعة حمورابي البابلية:
1- إذا وُجد رجل قد سرق نفساً من إخوته بني إسرائيل واسترقه وباعه يموت ذلك السارق (التثنية 24: 7).
-إذا سرق رجل حر ابن رجل حر آخر، يموت ذلك الرجل (شريعة حمورابي البند 14).
2- إذا وُجد السارق وهو ينقب فضُرب وقُتل، فدمه مهدور (الخروج 22: 2).
- إذا نقب رجل حر في منزل يموت في ذلك الموضع ويُسد النقب الذي أحدثه بجسده ويُغلق عليه (شريعة حمورابي، البند 21).
3- إذا وُجد رجل مضطجعاً مع امرأة زوجة بعل، يُقتل الاثنان (التثنية 22: 22).
- إذا وجدت زوجة رجل حر مضطجعة مع رجل آخر، يُقيّد الاثنان ويرميان في النهر (شريعة حمورابي، البند 129).
4- إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في الحقل وأمسكها واضطجع معها، يموت الرجل وحده وأما الفتاة فلا تفعل بها شيئاً (التثنية 22: 23-26).
- إذا قام رجل حر باغتصاب فتاة عذراء مخطوبة لرجل آخر وما زالت تقيم في بيت أبيها وأُمسك، يُقتل الرجل وتُطلق الفتاة (شريعة حمورابي، البند 130).
5- من ضرب أمه أو أباه يُقتل قتلاً (الخروج 21: 15).
- إذا ضرب ابن أباه تُقطع يده (شريعة حمورابي، البند 196).
6- لا تشفق عينك. النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن والرِّجْل بالرجل (التثنية 19: 21).
- إذا أتلف رجل حر عين رجل حر آخر، تُتلف عينه. وإذا كسر له عظماً يُكسر له عظم، وإذا كسر له سنه تكسر سنه…الخ (شريعة حمورابي، البنود من 196-214).
7- إذا تخاصم رجال وصدموا امرأة حبلى فسقط ولدها، يُغرَّم (الجاني) مثلما يضع عليه زوج المرأة. وإن حصلت أذية تُعطي نفساً بنفس وعيناً بعين ويداً بيد (سفر الخروج 21: 22-25).
- إذا ضرب رجل حر ابنة رجل حر آخر وكانت حبلى فسقط ولدها، يُغرّم بعشرة شيكلات تعويضاً عن جنينها. وإذا ماتت المرأة تُقتل ابنة المتسبب… (شريعة حمورابي، البنود من 209-212).
8- إذا بيع لك أخوك العبراني أو أختك العبرانية وخدمك ست سنين، ففي السنة السابعة تطلقه من عندك (التثنية 15: 12).
- إذا استحق دين على رجل فباع زوجته أو ابنه أو ابنته، يعملون في بيت مشتريهم ثلاث سنوات ويطلقون في السنة الرابعة (شريعة حمورابي، البند 117).
9- إذا أعطى إنسان صاحبه فضة أو أمتعة للحفظ فسُرقت من بيت الإنسان، فإن وُجد السارق يعوّض باثنين، وأن لم يوجد السارق يقدّم صاحب البيت إلى الله ليحكم هل لم يمد يده إلى مُلك صاحبه… فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه باثنين (الخروج 22: 7-9).
- إذا أودع رجل حر حبوبه في مخزن رجل حر آخر، ثم حصل نقص في تلك الحبوب، أو أن صاحب المخزن مد يده وأخذ منها، أو أنكرها كلية. يعلن مالك الحبوب عن مودعاته أمام إله، وعلى صاحب المخزن أن يعوضه اثنين (شريعة حمورابي، البند 20).
10- إذا زاغت امرأة رجل وخانته خيانة واضطجع معها رجل آخر وليس شاهد عليها… يأتي الرجل بامرأته إلى الكاهن… ويسقي الكاهن المرأة ماء اللعنة (والإشارة هنا إلى ماء يحضر بطريقة خاصة يُمتحن به المتهم، فإذا شربه وانتفخ بطنه كان مُداناً وإذا لم ينتفخ بطنه كان بريئاً)-سفر التثنية 5: 12-28.
- إذا أشارت الأصابع إلى امرأة رجل حر بسبب رجل آخر ولكنها لم تضبط مضطجعة مع ذلك الرجل، فإنها تلقي نفسها في النهر (الإشارة هنا إلى تحكيم النهر المعمول به في القضاء البابلي، والذي بموجبه يلقى المتهم إلى النهر، فإذا ابتلعه كان مذنباً وإذا طفا كان بريئاً) - شريعة حمورابي، البند 132.
الهوامش:
1- James Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, P.529.
2- ورد هذا المقطع في الإصحاح التالي (20: 18-20) في غير سياقه الطبيعي. وقد ارتأيت أن يكون موضعه هنا.
3- إلى هذا العهد القديم الذي وثقه يهوه بالدم مع شعبه، أشار يسوع المسيح عندما وثّق عهد الله الجديد مع البشرية بدمه المسفوك، وذلك في ليلة العشاء الأخير عندما أخذ كأس الخمر وشكر وأعطاهم منها فشربوا جميعاً ثم قال لهم: هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجل كثيرين (راجع إنجيل مرقس 14: 22-24).