هل خرج العبرانيون من مصر؟ سؤال ربما لن نستطيع الإجابة عليه بدرجة كافية من اليقين. فنحن إذا قبلنا بالمطابقة بين العابيرو والعبران لخرجنا بنتيجة تبدو منطقية، وهي إن جماعة من العابيرو قد وفدت أو استُقدمت إلى مصر كيَدٍ عاملة مأجورة، وعندما انتهت الحاجة إليها جرى تهجيرها إلى مواطنها الأصلية تلافياً لما يمكن أن يسببه وجود جماعات أجنبية عاطلة عن العمل من مشاكل اجتماعية. وقد أوردنا في بحث سابق عدداً من النصوص المصرية التي تؤكد وجود العابيرو في مصر تعمل على المشاريع العمرانية أو في الأراضي الزراعية/ وهذه النصوص ترجع إلى الفترة ما بين 1350 و1250 ق.م، أي إلى العصر المفترض للخروج. ولكن الشيء الذي نستطيع توكيده في ظل الوضع الراهن لمعلوماتنا التاريخية والأركيولوجية، هو إن الخروج لم يحصل بالطريقة ولا في الزمن الموصوفين في الرواية التوراتية. وفي هذا الخصوص يقول الباحث ناحوم م. سارنا، وهو مؤرخ وباحث يهودي ما يلي:
“إن خلاصة البحث الأكاديمي حول تاريخية الخروج، تشير إلى أن الرواية التوراتية تقف وحيدة ودون سند من أي مصدر خارجي، وهي مليئة بالتعقيدات التي لا تساعدنا على وضع أحداث الخروج ضمن إطار تاريخي مقبول. يُضاف إلى ذلك أن النص التوراتي يحتوي على محدّدات داخلية ناجمة عن مقاصد المحررين. فهؤلاء لم يكونوا يكتبون تاريخاً بالمعنى الذي نفهمه اليوم، بل يصوغون تفسيرات لاهوتية لحوادث تاريخية منتقاة، وقد صاغوا قصصهم بشكل يتلاءم مع هذه المقاصد والأهداف، من هنا فإننا ينبغي أن نقرأ تلك القصص ونستخدمها تبعاً لذلك. إننا نفتقد إلى المصادر الخارجية التي تحكي عن تجربة الإسرائيليين في مصر أو تُلمّح إليها، والشواهد الموضوعية على تاريخية قصة الخروج التوراتية مفقودة تماماً، بما في ذلك نتائج التنقيب الأثري”(122).
إن البداية المنطقية لأي استقصاء تاريخي لمشكلة الخروج هي تحديد زمنه التقريبي، الأمر الذي يساعدنا على اختبار أحداث القصة التوراتية على الخلفية العامة لتلك الحقبة. وسنقوم فيما يلي باستعراض ثلاث من أهم النظريات التي تصدت لوضع هذه القصة في إطار تاريخي.
لدينا أولاً نظرية مصرية قديمة قال بها المؤرخ مانيثو الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد خلال العصر البطلمي، وهي تربط بين خروج العبرانيين من مصر وطرد الهكسوس منها، وتطابق بين هاتين المجموعتين الإثنيتين. فقد وصف مانيثو في كتابه عن تاريخ مصر غزواً خارجياً للبلاد من الجهة الشرقية قامت به مجموعات يدعوها باسم الهكسوس، وهي كلمة يونانية غامضة ربما كان أصلها مصرياً، وتعني في رأي مانيثو الملوك الرعاة، ولكن الباحثين متفقون اليوم على أنها تعني حكام البلاد الأجنبية. ويقول مانيثو إن الهكسوس قد استقروا في منطقة الدلتا وبنوا لأنفسهم عاصمة دعوها أفاريس، وإن سلالتهم الملكية قد حكمت مصر لمدة تزيد عن خمسمئة سنة. وبعد ذلك قام ملك مصري صالح وشجاع ثار عليهم وهزمهم وقتل الكثيرين منهم، ثم طارد البقية ودفعهم خارج حدود مصر نحو المنطقة السورية، وقد وصل هؤلاء إلى موقع أورشليم وبنوا لأنفسهم فيه مدينة ومعبداً. وقد تبنى المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس هذه النظرية وطابق في كتابه “عاديات اليهود” (أواخر القرن الأول الميلادي) بين العبرانيين والهكسوس(123).
وقد صرنا اليوم نعرف الكثير عن فترة حكم الهكسوس في مصر بفضل قراءتنا للنصوص الهيروغليفية. فقد استولوا على السلطة في منطقة الدلتا نحو عام 1730 ق.م. ثم وسعوا مناطق نفوذهم تدريجياً باتجاه الشمال، ودام حكمهم قرابة قرنين من الزمن إلى أن قام القائد العسكري أحمُس بثورة عليهم ودمر عاصمتهم أفاريس نحو عام 1570 ق.م، وطاردهم إلى حدود كنعان الجنوبية عند غزة. ولدينا نص تركه ضابط في الجيش المصري(124) يصف بالتفصيل مجريات هذه الحملة التي ارتقى بعدها أحمُس إلى منصب الفرعون وأسس للأسرة الثامنة عشر الشهيرة في تاريخ مصر. فإذا كان طرد الهكسوس من مصر قد تم نحو عام 1730 ق.م. فإن القبول بنظرية مانيثو يقود إلى وضع تاريخ مبكر جداً للخروج لا يقبل أحد من الباحثين به اليوم.
ولدينا ثانياً نظرية تستند إلى ما ورد في سفر الملوك الأول بخصوص زمن بناء الملك سليمان لهيكل أورشليم، حيث نقرأ: “وكان في السنة الأربعمئة والثمانين لخروج بني إسرائيل من مصر، في السنة الرابعة من مُلك سليمان على إسرائيل، في شهر زيو وهو الشهر الثاني، أنه بنى البيت للرب.” (1 ملوك 6: 1). وبما أنه من المفترض بالنسبة لمن يعتقد بتاريخية الملك سليمان أنه قد اعتلى العرش عام 962 ق.م (وذلك اعتماداً على مقارنة فترات حكم من تلاه من الملوك ومقاطعتها مع السجلات الآشورية والمصرية)، فلا بد أن الخروج قد حصل نحو عام 1438 ق.م (962-4= 958 + 480= 1438)، أي بعد مئة وثلاثين سنة من طرد الهكسوس من مصر. غير أن مثل هذا التاريخ يطرح على الباحثين مشكلات جمة. فخلال هذه الفترة بلغ التوسع الإمبريالي لفراعنة الأسرة الثامنة عشر ذروته، وذلك إبان حكم الفرعون تحوتمس الثاني وابنه تحوتمس الثالث الذي شن عدة حملات على سورية، وحطت جيوشه على نهر الفرات متحدياً نفوذ مملكة ميتاني التي كانت قوة عظمى في ذلك الوقت. من هنا فإن كثيراً من الباحثين لا يأخذون هذا التاريخ بالمعنى الحرفي وإنما بالمعنى الرمزي المجازي، وهم يرون أن محرر سفر الملوك الأول قد قصد إلى جعل بناء الهيكل في نقطة الوسط بين نهاية السبي الأول في مصر ونهاية السبي الثاني في بابل. يُضاف إلى ذلك أن رمزية الرقم 480 تدعمها رمزية الرقمين 12 و40، فهو يمثل حياة 12 جيلاً مضروبة بالرقم 40 وهو متوسط حياة كل جيل (12×40=480).
النظرية الثالثة تستند إلى معلومة مهمة أوردها محرر سفر الخروج تقول إن العبرانيين المستعبدين في مصر قد بنوا لفرعون مدينة مخازن فيثوم ومدينة رعمسيس (الخروج 1: 11). وفي الحقيقة فإن هذه المعلومة هي الوحيدة التي تحتفظ بذكرى ذات أصل تاريخي لا لبس فيه، ذلك أن المصادر المصرية تتحدث عن قيام الفرعون رمسيس (= رع مسيس) الثاني، الذي حكم من عام 1279 إلى عام 1213، ببناء عاصمة له في الدلتا دعاها بي – رمسيس، أي بيت أو مدينة رمسيس. وعلى ذك فإن الخروج لا بد وأن يكون قد حصل في عهد هذا الفرعون الذي اشتهر بأعمال التشييد والبناء واستخدم في مشاريعه اليد العاملة الأجنبية. وقد اقترح الباحث الشهير وليم فوكسويل أولبرايت منذ أواسط القرن العشرين أن الخروج قد حدث في بداية حكم رمسيس الثاني وفي زمن لا يتعدى عام 1280 ق.م. لأن هذه الفترة قد شهدت عدداً من أحداث التمرد والعصيان على الحكم المصري في المناطق الآسيوية عندما كان الفرعون غض الإهاب ويفتقد إلى الحنكة السياسية والعسكرية(125). ولكن الرأي السائد لدى الباحثين عن تاريخية الخروج اليوم، هو أن الخروج قد حصل في تاريخ لا يتعدى عام 1250 ق.م. فإذا أخذنا بعين الاعتبار مصداقية النص التوراتي بخصوص البقاء في سيناء مدة أربعين عاماً، فإن دخول بني إسرائيل أرض كنعان سيكون نحو عام 1210 ق.م. وهذا ما يؤكده في رأيهم نص مسلة الفرعون مرنفتاح الذي يصف حملته على سورية الجنوبية عام 1207 ق.م. ويورد الاسم إسرائيل بين المجموعات البشرية التي قهرها. وهذه هي الإشارة العابرة الوحيدة في النصوص المصرية إلى مجموعة بشرية تُدعى بالاسم إسرائيل.
وفي الحقيقة فإن ذكر مدينة رعمسيس في سفر الخروج مسألة لا يمكن التعويل عليها في وضع إطار تاريخي للقصة التوراتية، لأن المحرر التوراتي قد استخدم تعبير “أرض رعمسيس” في الإشارة إلى منطقة الدلتا في قصة يوسف، أي قبل أربعئمة سنة من زمن الخروج ومن عصر رمسيس الثاني (راجع سفر التكوين 47: 11). ونحن نعلم أن أول فرعون تسمى بالاسم رمسيس أو رعمسيس هو رمسيس الأول الذي ارتقى العرش عام 1320 ق.م. وكان أول حاكم مصري نقل عاصمته إلى الدلتا ودعاها تانيس. وهذا يعني أن المحرر التوراتي الذي كان عاكفاً على صياغة أسفار الكتاب في القرن الخامس قبل الميلاد وما تلاه، قد استخدم الاسم الذي يعرفه لمنطقة الدلتا بصرف النظر عن زمن الحدث الذي يرويه. ولا أدلّ على جهله بأوضاع مصر العامة خلال هذا العصر المفترض للخروج من أنه لم يذكر اسم فرعون موسى. وبالمقابل فإن النصوص المصرية لم تُشر من قريب أو بعيد إلى تواجد الإسرائيليين في مصر أو إلى خروجهم منها، ونص مرنفتاح الذي يحتوي على الإشارة الوحيدة إلى الاسم إسرائيل في التاريخ المصري القديم، إنما يتحدث عن مجموعة بشرية مقيمة في كنعان لا في مصر. يُضاف إلى ذلك أن معلوماتنا عن فراعنة الأسرة التاسعة عشر تنفي أن يكون أحدهم قد مات غرفاً في البحر الأحمر الذي انشق أمام قوم موسى.
ولنفترض جدلاً بأن الخروج قد حدث في عهد رمسيس الثاني أو أحد أسلافه أو خلفائه من فراعنة الأسرة التاسعة عشر، فهل كان بإمكان مثل تلك المجموعة البشرية الهائلة أن تغادر منطقة الدلتا رغم أنف السلطات المصرية؟ إن محرر سفر الخروج يقول لنا إن عدد الخارجين من مصر كان ستمئة ألف من الرجال عدا الأولاد، وإن لفيفاً كثيراً من غير بني إسرائيل قد رافقهم مع عدد وافر جداً من الغنم والبقر. فإذا أضفنا إلى هؤلاء المعدودين النساء والأطفال غير المذكورين في الرقم المعطى أعلاه، لخرجنا برقم لا يقل عن مليون وخمسمئة ألف نسمة سارت تحت قيادة موسى. وهذا يعني أننا أمام إحدى الهجرات الكبرى في التاريخ. فكيف حدثت مثل هذه الحركة السكانية دون أن يلحظها أحد في عصر موثّق لنا كل التوثيق؟ سوف أترك التعامل مع هذا السؤال إلى عالم الآثار الإسرائيلي المعروف إسرائيل فنكلشتاين، وهو من أبرز أفراد الجيل الجديد من الآثاريين الإسرائيليين الذين تخلصوا من سطوة النص التوراتي، وأقتبسُ هذه المقاطع من كتاب له أعده بالمشاركة مع المؤرخ نيل سيلبرمان(126):
“لقد كانت الحدود بين مصر وكنعان في ذلك الوقت تحت مراقبة شديدة من قِبل السلطات المصرية من خلال سلسلة من الحصون (يُدعى واحدها مجدول بالمصرية) متوضعة على حدود الدلتا الشرقية وعلى طول الطريق المؤدي إلى كنعان عبر سيناء الشمالية، يفصل بين الواحد والآخر مسيرة يوم واحد فقط. وكانت مصر تُحكم قبضتها على مناطق سورية الوسطى والجنوبية، لاسيما فلسطين التي بنى المصريون فيها عدداً كبيراً من الحصون في المواقع الاستراتيجية، وكانت قطعاتهم العسكرية تجتاز المنطقة وصولاً إلى نهر الفرات. وهذا يعني أن خروج جماعة بهذا التعداد الهائل من مصر دون إذن السلطات المصرية أمر مستعبد تماماً، ولو أنه حصل لتوجب أن يرد ذكر هذه الحادثة المهمة في الأرشيف الرسمي. ولكن لسوء الحظ فإن السجلات المصرية الغزيرة من عصر المملكة الحديثة ومن القرن الثالث عشر على وجه الخصوص لم تأتِ على ذكر الإسرائيليين باعتبارهم شعباً مستعبداً في البلاد، ولم نعثر فيها على إشارة واحدة إلى خروجهم. ولو أن مثل هذه الجماعة قد خرجت لكان من السهل ملاحقتها والقضاء عليها بسهولة.
”ولكن ماذا لو أن موسى قد تفادى السير في الطريق الدولي واختار اختراق صحراء سيناء على ما يورده محرر سفر الخروج؟ إن التقنيات الحديثة لعلم الآثار اليوم قادرة على اقتفاء أثر البقايا المادية لأصغر الجماعات التي تعيش على الصيد أو الرعي المتنقل في أي مكان من العالم. وقد قامت البعثات الأثرية بمسح شامل لصحراء سيناء ولم تعثر على أثر واحد للإسرائيليين الذين تجولوا فيها، لاسيما في المنطقة المحيطة بجبل موسى الحالي الذي يسود الاعتقاد بأنه جبل حوريب حيث أقاموا قرابة السنة، وفي منطقة قادش برنيع حيث أقاموا ثمانية وثلاثين سنة. لقد تمكن الآثاريون من اكتشاف آثار لجماعات رعوية في سيناء تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد وآثار تعود إلى العصر الهيلنستي وما بعده، أما من القرن الثالث عشر فلا شيء على الإطلاق ولا حتى كسرة فخار واحدة.
“ثم ماذا عن المواقع والشعوب المذكورة في سفر الخروج بعد مغادرة بني إسرائيل قادش برنيع وتوجههم نحو شرقي الأردن؟ في سفر العدد 21: 1 – 3، يقول لنا المحرر إن ملك مدينة عراد الساكن في الجنوب قد حارب إسرائيل وسبى منها سبياً كثيراً. ولكن التنقيب في تل عراد قرب بئر السبع دلت على أن هذا الموقع كان خالياً من السكان خلال القرن الثالث عشر وكامل عصر البرونز الأخير (1550 – 1200 ق.م.)، والشيء نفسه ينطبق على منطقة بئر السبع. وفي سفر العدد 21: 21 – 25، يقول لنا المحرر إن ملك حشبون الآموري حارب بني إسرائيل ليمنعهم من المرور في أراضيه، ولكن التنقيبات في تل حسبان وهو الاسم الحالي لموقع حشبون القديم أثبتت عدم وجود مدينة ولا حتى قرية صغيرة من القرن الثالث عشر وكامل عصر البرونز الأخير. أما عن ممالك آدوم ومؤاب وعمون التي يروي محرر السفر أنها قد قاومت بني إسرائيل، فإن التنقيبات الأثرية أثبتت أن هضبة شرقي الأردن كانت متخلخلة بالسكان إلى حد بعيد خلال كامل عصر البرونز الأخير، وأن هذه الممالك المذكورة لم تقم إلا بعد عصر الخروج بعدة قرون، وكانت مناطقها قبل ذلك خالية من السكن المستقر.”
ماذا عن يشوع؟
يتفق معظم المؤرخين اليوم على وضع تاريخ لأحداث سفر يشوع لا يتعدى عام 1200 ق.م. هذا إذا كانت قد وقعت. ولكن علم الآثار يقول لنا إنها لم تقع. ولنبدأ أولاً بالصورة التي رسمتها التنقيبات الأثرية للمدن الفلسطينية في ذلك الوقت ونقارنها بالصورة التي تخيلها محرر سفر يشوع.
لقد كانت المدن الفلسطينية نحو نهايات عصر البرونز الأخير (1550 – 1200 ق.م) ومطلع عصر الحديد الأول (1200 – 1000 ق.م)، مختلفة عما كانت عليه في عصر البرونز الوسيط (1950 – 1550 ق.م) وفي عصر الحديد الثاني من حيث السعة والازدهار. فالمدينة النموذجية لم تحتوِ إلا على مقر إداري للملك أو الأمير، ومعبد متواضع، وأبنية قليلة يسكنها الموظفون الإداريون، وبعض الخانات، وحول هذه المدينة يعيش الفلاحون في قرى صغيرة متناثرة. أما الأسوار الدفاعية الضخمة التي يصفها سفر يشوع فلم يكن لها وجود، لأن مسؤولية الأمن في فلسطين كانت تقع على عاتق السلطات المصرية، ولأن حكام تلك المدن لم يكن لديهم فائض من الثروة يسمح لهم بالإنفاق على المشاريع العمرانية الضخمة. لقد كانت مدن عصر البرونز الأخير الكنعانية مجرد ظل باهت لمدن عصر البرونز الوسيط، ومعظمها قد تم هجرانه أو تقلص في الحجم، ولم يكن عدد سكان فلسطين الكبرى بكل مدنها وقراها يتجاوز المئة ألف وفق أعلى التقديرات(127).
وفيما يتعلق بالمدن التي ادعى سفر يشوع تدميرها وإحراقها، فإن التنقيب الأثري فشل حتى الآن في تقديم الدلائل على صحة الرواية التوراتية. ففيما يتعلق بأريحا أثبتت الحفريات في الموقع أن المدينة قد دُمرت في نهاية عصر البرونز الوسيط نحو عام 1560 ق.م، وحلت محلها بعد فترة قصيرة قرية صغيرة فقيرة وغير مسورة. ومع نهاية القرن الرابع عشر هُجرت هذه القرية وتوقف السكن في الموقع إلى نهاية القرن الثالث عشر وزمن متقدم من عصر الحديد الأول. وهذا يعني أن أسوار أريحا التي سقطت أمام الإسرائيليين بمعجزة من الرب لم تكن قائمة، ولم يكن هنالك مدينة ليقهرها يشوع. أما مدينة عاي، فإن التنقيبات في الموقع أثبتت أن المدينة دُمرت قبل عدة قرون من حملة يشوع ولم تكن مسكونة في أواخر القرن الثالث عشر. ومدينة جبعون التي جرت عندها المعركة الفاصلة مع حلف المدن الجنوبية لم تكن مسكونة أيضاً خلال القرن الثالث عشر، وكذلك البلدات التابعة لها والمذكورة في يشوع 9: 17. وفيما يتعلق بحاصور لدينا آثار دمار وحرائق ترجع إلى مطلع القرن الثالث عشر وليس إلى أواخره. أما بقية المدن الوارد ذكرها في سفر يشوع، فإن دمارها لم يحصل في أوقات متقاربة وإنما على مدى قرن من الزمان، ولا يمكن أن نعزوها إلى حملة عسكرية صاعقة واحدة. ولربما كان للحملات المصرية دور في ذلك، أو لشعوب البحر الذين كانوا يهاجمون المدن السورية في ذلك الوقت، محاولين إيجاد مواطن جديدة لهم بعد أن هاجروا من كريت وجزر بحر إيجة(128).
يضاف إلى ذلك كله أن أحداث سفر يشوع لا تقدم لنا نقطة ارتكاز واحدة تساعدنا على وضعها في إطار تاريخي. فمن المفترض أن الإسرائيليين قد واجهوا شعوب البحر التي وفدت من الغرب في طريقين؛ الأول بري عبر آسيا الصغرى حيث دمروا المملكة الحثية ثم انحدروا نحو سورية وتجمعوا في فلسطين من أجل الانقضاض على مصر. أما الطريق الآخر فبحري حيث انطلقت مجموعات أخرى من هذه الشعوب من نقطة ما في الأرخبيل الإيجي وحطت على الشاطئ الليبي وتعاونت مع مجموعات محلية أخرى على مهاجمة الأراضي المصرية في محاولة للاستقرار في الدلتا. وقد قام الفرعون مرنفتاح بصد الحملة البرية عن حدود مصر الشرقية نحو عام 1200 ق.م، بينما صد خليفته رمسيس الثالث الحملة البحرية نحو عام 1177 ق.م. وقد سمحت السلطات المصرية لمجموعات من هؤلاء بالاستقرار في المناطق الساحلية في الجنوب السوري، ومنهم الفيليست الذين سكنوا السهول الساحلية الجنوبية من فلسطين، وهؤلاء هم الفلستيون أو الفلسطينيون المذكورون في التوراة كأعداء لبني إسرائيل بعد استقرارهم في الأرض.
ولكن يشوع لم يلتقِ بهذه الجحافل التي كانت تتحرك في فلسطين، ولا يوجد في سفر يشوع ذكر للفرعونين مرنفتاح ورمسيس الثالث أو لأي فرعون آخر، مثلما لا يوجد ذكر للتواجد العسكري في مصر التي كانت في ذلك الوقت تحكم قبضتها على فلسطين، وكانت قطعاتها العسكرية تقيم في حصون خاصة بها، كشفت التنقيبات الأثرية الحديثة عن العديد منها. ولدينا شواهد من مواقع مجدوا بوادي يزرعيل على استمرار الوجود العسكري المصري في فلسطين إلى عصر رمسيس الخامس في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد، أي إلى ما بعد قرن على الفتوحات المفترضة ليشوع. وفي الحقيقة لو أن مثل هذه الحملة العسكرية الصاعقة على فلسطين قد حدثت فعلاً لتركت أثراً في السجلات المصرية، ولكن مثل هذا لم يحدث.
كل هذا يقودنا إلى نتيجة واضحة كل الوضوح، وهي أن الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد في فلسطين لم تشهد وصول هجرة جماعية ضخمة لمجموعة إثنية متميزة عبرانية كانت أم إسرائيلية، وأن أحداث سفر يشوع ليست إلا ملحمة دبجها خيال المحرر التوراتي الذي كان يبحث عن أصول إسرائيل من منظور ديني إيديولوجي. على أنه إذا كان الناتج الأخير لعملية القص الملحمي هذه هو أخيولة أدبية، إلا أن مادة هذه الأخيولة كانت مستمدة من ذاكرة شعبية دبّجت قصصاً عن مصائر مدن عصر البرونز الأخير التي غابت وراء الحرائق والدخان إبان ذلك العصر الغامض. وقد تم جمع هذه القصص في ملحمة واحدة مضطردة عن غزو صاعق بقيادة قائد أسطوري بمباركة من إله إسرائيل.
أخيراً، لعل كل ما قلناه آنفاً في استقصائنا التاريخي لرواية سفر يشوع سيبدو للقارئ مجهوداً لا طائل من ورائه، عندما ينتقل معنا إلى سفر القضاة ويكتشف أن محرر هذا السفر قد ضرب صفحاً عن معظم ما جاء في سفر يشوع، وقدم لنا الرواية التوراتية الثانية عن دخول الإسرائيليين إلى كنعان، وهي تناقض في معظم تفاصيلها رواية الفتح العسكري الصاعق ليشوع.