“كيف يمكن أن يكون ليدنا إنتاج فكري حول مسألة الدولة، إذا كنا نجهل ما كتبه أفلاطون وأرسطو وابن خلدون(…) ومونتسكيو وكانط وهيغل وماركس”
(د.عبد الإله بلقزيز)
أولا: العنف والدولة
من المعلوم أن تكون مسألة الدولة غائبة في الواقع السياسي العربي.وبنجلي ذلك حينما نقف في التأليف العربي والإسلامي الحديث عند مفاهيم ومقولات لها ارتباطات متداخلة مع مفهوم الدولة(ιδια) منها: الشرعية، و التعدد الديمقراطي والمواطنة وتداول السلطة..كل ذلك يشي بان الكتابة العربية النهضوية والإصلاحية لم تفكر في مسألة الدولة الا كفكرة تقنية لا تحتاج إلى تعقل نظري كبير أو لتركيب فلسفي فائق.وهذا الأمر إنما مرده هو هيمنة الهواجس الإيديولوجية والنضالية على حساب القراءة المعرفية الدقيقة.
ولعل هذه الرؤية هي التي جعلت منظري الخطاب العربي الراهن يميزون منهجيا ، بمعنى إعادة صياغة المشكلة(διαπορετν/to state the problem)ما بين دائرة الإيديولوجيات السياسية وبين نظرية الدولة التي لطالما تم الخلط بينهما من قبل رواد النهضة والإصلاحية العربية. ومن هنا كانت النظرية وحدها، كما يقول العروي، هي التي تسمح لنا بفهم ادوار ادلوجة الدولة. فنظرية الدولة إنما تجمع بين أخلاقيات الدولة(تحليل الادلوجة أي شروط تحقيق الشرعية والإجماع)، وبين اجتماعيات الدولة باعتبارها عملية تكون البيروقراطية أي حركة العقلنة.
وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار أن غياب الدولة العربية الحديثة هو نتيجة التفكير فيها عن طريق الغزو الأوروبي، فهذا الأخير هو الذي كان يحدد للفكر العربي مساراته واستشكالاته في تلك المرحلة التاريخية.بمعنى أن دولتنا هي دولة الصدام بين العرب والغرب.
ويتولد من هذا، أننا تعاملنا مع الدولة كدولة لها أسس نظرية وتقعيدات فلسفية ومعرفية، والحال أن الأمر لم يكن أكثر من إيديولوجيا الدولة!!
لذا كانت نهاية الإيديولوجيات، هي في الواقع السياسي العربي، نهاية لما يسمى الدولة/السلطة.ألم يسجل تاريخنا العربي سيطرة الحاكم: أنا الدولة، أنا الثورة، أنا الشرعية، وأنا الأمة..
لاغرو أن منطق الحداثة هو منطق تحكمه مبادئ أساسية منها: مبدأ العقل ومبدأ الاستقلالية ومبدأ الحرية.. فتقاطع تجربة الدولة مع تجربة الحرية لا يتم الا بتجربة التاريخ التي أسهمت أيما إسهام في بناء المطلق(البداية هي النهاية).وهو الأمر الذي يدفع “هيغل” إلى تأسيس فلسفة كلامية بؤرتها المطلق.بيد أن نظرية “ماركس” تعتبر أن تأليه الدولة بهذا النوع إنما يضيع فرصة الانشغال بالفرد كطبقة اجتماعية على حساب الدولة كآلة اصطناعية.
لكن مهما يكن من أمر السجالات حول فكرة الدولة وعلاقتها بالتاريخ والتحرر والفرد..، فإن الدولة الحديثة، على وجه العموم، في أوروبا الحديثة، قد تجلت في محاربتها لنظرية الحق الإلهي للملوك عبر عمليتي: الهدم والبناء في إطار صيرورة تاريخية متنامية. فأما عملية الهدم فينجلي في مناهضة نظرية الحق الإلهي للملوك، باعتبارها توطيد لدعائم ومرتكزات الحق باسم الإله أو السلطة المطلقة، وهذا دليل واضح على ممارسة لعبة إخفاء فاعلية الذات البشرية ودورها الرئيس في ممارسة الظلم والقهر والغلبة تحت لواء الإله أو خلفية الله في الأرض، انه منطق قلب الأشياء والحقائق. فالدولة مستبدة وعنيفة ليس في ذاتها، بل من خلال، وعن طريق أشخاص وذوات بشرية مشار إليها.
ويتحصل من هذا، أن سلطة الذات الإنسانية تلبس قناع الذات المطلقة وتتحدث باسمها..وهذا ما يشكل خطورة كبيرة على الدين والشريعة حينما لا يميز الفقيه بين كلامه وكلام الذات الإلهية!!
وأما أمر البناء ، فلا ريب أن الهدم، ومن منظور التاريخ النسقي، يستلزم انتظارات جديدة واجتراح نماذج جريئة ومثمرة.ومقولات تتطلع إلى ترسيخ دعائم الاستقلالية والعقلانية والحرية.
ومن المفيد القول إن نظرية الإنسان وإعلاء شانه مع كل من “كانط” و“هيغل” و“فيخته” و“راولز” و“شتراوس”، و“حنا ارندت” و“جاكلين ورس”..الخ، قد انعطف إلى تأسيس الخطاب الحقوقي الإنساني في مواجهة نظرية الحق الإلهي باسم الإله أو الدين أو العرق …ولعل هذا السياق قد عمل ومازال في الحضارة الغربية على توسيع رقعة الإنسان وقيمته، بالرغم من توسع منطق هيمنة الدولة الحديثة .لذا كانت انتقادات كبيرة لهذا المنطق الاداتي من قبل : “هابرماس” و“ماركيوز” و“بودريادر”و“بير بورديو” و“نعوم تشومكسي” و“كاستورياديس”..وغيرهم ممن انتقدوا عقلانية الغرب ومظاهرها التقنية المسيطرة.
لقد بلغ السجال الفكري والإيديولوجي حول فكرة الدولة وعلاقاتها بالفرد والدين والعلم والتقنية..مبلغا لا نستطيع أن نصفه بأنه سجال يؤسس، بل قل أسس بالفعل لمابعد الدولة الديمقراطية. في حين ما زال فكرنا العربي يرزح تحت نير السلطة، لا الدولة، المهيمنة باسم الحاكم المطلق..هذا الذي يحمي الأمة والجماعة من الفتنة، و يسهر على مناهضة الثورة المتربصة باستقرار النظام وأمنه..إننا بالفعل لم نحقق ثقافة الحسم بين منطق الفعل ومنطق الاسم كما يقول العروي.
من البين، أن العنف هو من أساسيات الإنسان الطبيعية والفطرية، فهو دافع أساس نحو الاستيلاء والتملك والسطو..فمدنية الإنسان وعقلانيته وتنويرية إنما تخفي لاعقلانيته ونزوعاته المتواصلة نحو السلطة وتشهي تقلد السلطة بغية النهي والأمر. لعل الشاهد على هذا مدى بربرية الإنسان المعاصر حينما يدعو إلى التسامح والتفاهم مع الأمم والشعوب الأخرى، يعمل جاهدا على تدمير جميع القيم الإنسانية النبيلة عن طريق شنه للحروب والمعارك في أبشع صورها ومشاهدها. أليس هذا منطق المخاتلة والمراوغة. لو ترك الإنسان لنفسه لسعى في الأرض فسادا وإفسادا تلبية لغرائزه الفطرية -الطبيعية العميقة فما المظهر الإنساني والأخلاقي ..الا أقنعة وراءها الغل والحقد كما يقول “فريدريك نيتشه”، فوراء القيم استراتيجيات و إرادات تتوارى وراءها.
إذا، فالعنف طبيعي في الإنسان، لذلك كانت الدولة والقانون أداة تحريره من ذاتيته وهواجسها البغيضة ونزعاتها التدميرية.بيد أن الأدهى من ذلك ، ان تتحول الدولة ذاتها إلى ممارسة العنف على الجماعات والأفراد والأحزاب، وتمارس القيود والأغلال على الأفكار والآراء..فتضحي الدولة من أداة للتحرر إلى أداة للإرهاب ونشر ثقافة الخوف والمطاردة.فمتى كان الأصل في حيوانية الإنسان وعنفه التنازع والتصارع والتقاتل، فان الأصل في الحق هو التفاوض والتعاقد والتداول..فانظر كيف تصور“توماس هوبز” بناء الدولة وتأسيسها على الخوف.فالخوف هو منفذ تشكل السلطة السياسية. يقول الفيلسوف الانجليزي “هوبز” في هذا المعرض:“جرت العادة عندما يموت الملك في فارس في العصور القديمة أن يترك الناس خمسة أيام بغير ملك وبغير قانون، بحيث تعم الفوضى والاضطراب جميع أنحاء البلاد. وكان الهدف من وراء ذلك هو انه بنهاية الأيام الخمسة، وبعد ان يصل السلب والنهب والاغتصاب إلى أقصى مدى، فان من بقي منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد، إذ تكون التجربة قد علمتهم مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع إذا غابت السلطة السياسية”.
وينتج من هذا، أن الدولة ظاهرة طارئة على الإنسان في تاريخه الاجتماعي والسياسي والفكري، لذا كانت بمثابة الجسم الاصطناعي.فإنقاذ هذا الإنسان من براثين الشر وأوحال العنف والشر المستطير يستلزم بناء الدولة باعتبارها تجسيديات لتطور الإنسان العقلي ووعي بذاته وبغيره..أو أنها(أي الدولة) هي مجموع وسائل العقلنة على حد قول “ماكس فيبر”.
لقد أسهم هذا المفكر الألماني وعالم الاجتماع في ترسيخ فكرة العنف المشروع، وهو العنف الذي للدولة الحق في ممارسته ضد الجماعات والأفراد. ومفاد هذا التصور دعوة “فيبر” من ناحية اجتماعيات الثقافة إلى الحفاظ على النظام والاستقرار والأمن.
ومن الواضح أن من آثار ظاهرة العنف على السياسة والاجتماع هو انسداد أفق الحوار ما بين الفرد والدولة وارتداد الحراك الاجتماعي..وانتشار تيارات تؤمن بالحقيقة الأحادية والفكرة الواحدة والرأي الواحد انه سياق هيمنة المعنى الامبريالي كانعكاس لهيمنة السلطة السياسية وانغلاقها.
فكل دولة أو سلطة تؤمن بأحادية الرأي وامتلاك الحقيقة الكاملة مصيرها قول إخوان الصفا :“اعلموا ان كل دولة لها وقت منه تبتدئ ولها غاية إليها ترتقي وحد إليه يشتهي، وإذا بلغت إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها أخذت في الانحطاط والنقصان، وبدأ في أهلها الشؤم والخذلان واستأنف في الأخرى القوة والنشاط والظهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد ويضعف ذلك وينقص إلى ان يضمحل المتقدم ويتمكن الحادث المتأخر”.
لقد ساد العنف في تاريخ الإنسانية كايدولوجيا وكأطروحة تدافع عن مشروعيته وتبريراته. لذا اختلفت المرجعيات في صياغته وسبك مقولاته وصوغ نماذجه، بل ومناهضته لفلسفة السلم والتسامح الإنساني.
فهذا “ايمانويل كانط” الذي يسند للحق المتحقق من قبل الدولة مهمة الحفاظ على الحقوق الطبيعية الثلاثة الأولى المعلنة من لدن الجمعية التأسيسية منذ غشت من سنة 1789، الحرية والملكية والأمن، فانه يقصي الحق الرابع وهو: مقاومة القمع..فمواجهة الجور بالجور يزج بالإنسانية في حالة من التوحش والبدائية المرفوضة.
في مقابل ذلك التصور الفلسفي العقلاني النقدي، يجابه “فخته” الأمر بحزم كبير، منذ ارتباطه بالدفاع عن حقوق الإنسان في سنة1792/كما تشهد على ذلك كتاباته المنشورة في السنة الموالية نداءه للأمراء من اجل المطالبة بحرية التفكير..لذا يدعو “فخته” الفرد بفرض حقه بنسفه، وان اقتضى الأمر اللجوء إلى العنف!! وهكذا كان الفلسفة الكانطية هي نزعة إصلاحية، في مواجهة الإعلان الثوري لنظرية الحق لدى “فخته”.
إذا، تختلف المرجعيات حتى في بناء إيديولوجيا العنف، كما سبق الإشارة أعلاه، كخيار فكري وقناعة سياسية. فانظر كيف ذهب بعض الا سلامين“الجهاديين” نحو ممارسة العنف ضد مجتمعهم، وأمتهم، تحت تبريرات فقهية ودينية معتبرة.فضلا عن ذلك، شعار بعض الماركسيين الذين يتصورون أن فكرة العنف جزء من الفلسفة الماركسية ذاتها، إذ لا سبيل في نظرهم للقضاء على الطبقة المهيمنة/الدولة الا بالتغيير الثوري العنيف.أما القومي العربي فقد مارس العنف ضد الدولة القطرية حينما اعتبرها وليدة الاستعمار والتوسع الامبريالي، بل حينما بالغ في إنها(الدولة القطرية)مصدر الشتات العربي ونشر فكرة التجزئة داخل الوطن العربي الكبير.
أما الليبرالي ، فلا ريب ، انه يمارس الاضطهاد على الفرد ومحاولة تقليص من حرياته وحقوقه، وان كان الليبرالي أكثر اطمئنانا من التيارات الإيديولوجية العربية الأخرى إزاء الدولة القائمة، لأنها في حسبانه دولة وطنية!!
وبهذا الاعتبار، نقول على لسان العروي، أن أدلوجة الدولة سابقة على نظرية الدولة. وهذا لا يعني ان نهاية الادلوجية يعني، بشكل ميكانيكي، بداية النظرية.بل المفيد من هذا، أن منطق الإيديولوجي هو منطق يميل إلى سد الثغرات وتذويب الاختلافات وقهر التناقضات..ذلك لان الخطاب الإيديولوجي العربي ما زال يعتبر التناقض وشمة عار، والاختلاف علامة على ضعف الفكرة وتهافتها.لذلك ترى الإيديولوجي يسعد بالوحدة في بعدها التام والكامل، ويقتنع بنهاية الحقيقة واكتمالها..لهذا، يفاجئ من حيث يفكر في الوحدة بالتناقض، ويباغث من حيث يدعو إلى الضم والجمع بالتعدد والاختلاف..
وهكذا، فتاريخ الأفكار والفلسفات هو تاريخ التنافس والصراع والتداول والتخاصم من اجل بناء الأفكار والمذاهب والعلوم.
ويتحصل مما تقدم، ان العنف ظاهرة طبيعية في الإنسان، لكن لا يعني هذا اطلاق العنان لها، وكأننا في دائرة حالة الطبيعة، حالة الفوضى والتقاتل..بل ان الحلول والمقترحات التي اجترحها بعض المفكرين يمكن تسطيرها كما يلي:
ان اختفاء العنف من ساحة البشر والإنسانية من الأمور التي تجافي منطق التكوين الطبعي والفكري والنفسي والاجتماعي للأفراد والجماعات، لكن عملية الحد منه يتطلب، في رأي بعض المفكرين العربي، مايلي:
-فتح المجال العام على لعبة الديمقراطية والقبول بقواعدها المحددة.
-الانتقال من فكرة القبيلة/الدولة الى الانتقال الى دولة حديثة، دولة الحق والقانون. من حيث ان القانون فوق الجميع، بعيدا عن منطق الاوليغارشي الداعي الى اعتبار الثروة والجاه هما وسائل للسيطرة والغلبة..
-الانتقال من أحادية الرأي الى الاختلاف في الرأي في السياسة والمعرفة والدين..
-بناء المجال السياسي العربي.
ثانيا: ما بعد الثورات العربية : مصائر الهوية.. ومآلات الايدولوجيا
قبل ان ننعطف الى فكرة أخرى، لا بد من القول ان طوبى الدولة في التجربة المعيشة العربية الحديثة هي حقيقة من حيث ان الدولة العربية لا تتمظهر الا في الوجه القهري والقمعي لها.
وقد يعترض عليها معترض بقوله ان الخطاب العربي-على العكس من ذلك- هو خطاب كثير التأليف في مفهوم الدولة السلطة، بل قل ان مدار الفكر العربي هو مدار الدولة ذاتها.
وعلى هذا، نقول أن وجه اعتراضنا يتجلي في ضربين هما كالآتي: أما الضرب الأول ، فهو ان الكثرة في الحديث عن مفهوم الدولة هو دليل وشاهد وحجة على وجود أزمة متجذرة في مجتمعنا. وأما الضرب الثاني، فهو قولنا أن التأليف في قضايا الدولة والسلطة والأمة والجماعة.. هو تأليف لم يكن الا حديث السياسة لا حديث الفكر والتفلسف، فما أحوجنا الى التقعيد لمفهوم الدولة في الفكر العربي القديم والحديث.وهو الأمر الذي انبرى له بعض المفكرين العرب اليوم، نذكر منهم على سبيل المثال، عبد الإله بلقزيز وعبد الله العروي ورضوان السيد والجابري وهشام جعيط..
فضلا عن ذلك، ان كثرة الانتقادات للواقع السياسي العربي اليوم هو برهان على تهافت فكرة الدولة، التي لم تكن من قبل، بل تهافتها كسلطة إدارية قمعية. فالماركسي لا يرى في “هذه الدولة العربية” أو بالأحرى النظام السياسي العربي الا مطهرا من مظاهر الطبقية. في حين لا يطمئن القومي العربي الى الدولة القطرية كدولة وطنية، ففي نفسه منها شيء من حتى..بدعوى إنها ولد غير شرعي، من استعمار غير شرعي ومشروع. وأما الإسلامي فهو يستشعر بقوة ضياع الأمة والشريعة بين الواقع العربي المهزوم والدولة الفاسدة..
ومن المفيد القول إن العلماني هو أيضا لا يعتبر هذه الدولة العربية القائمة المشار اليها دولة لائيكة أو علمانية كما يصورها الإسلام السياسي، بل على العكس من ذلك، انها دولة غير علمانية ذات البعد الليبرالي التحرري، والملتزمة بقواعد القانون والدستور.. ولعل من سلبياتها، احيانا، هو أنه كلما كان هناك مشكل سياسي الا ، ولجأت إلى حله بالمحدد الديني ، وكلما كان هناك مشكل ديني الا ولجأت الى الحل السياسي!!.
إذا، فالدولة العربية القائمة هي دولة، عفوا، طوبى الدولة..ليس لها الا الكفاية والشوكة حسب تعبير رضوان السيد، متى أخذنا بعين الاعتبار التطلعات الفقهية والأصولية..
إن الثورات العربية اليوم هي ثورات أتت وفق منطق التاريخ وسياقه الطبيعي، ونتيجة تراكمات من التهميش والإقصاء والظلم والإذلال..كما ان من سماتها إنها ثورات غير مؤدلجة ، فبدايتها شرارة البوعزيزي..قتل في نفسه السلطة المستبدة والقمع اللامشروع، قتل في نفسه أيضا الظلم المتراكم والهوان المتعاظم..بقتل نفسه هو تحرير للروح والنفس.ألم يقل “أفلاطون” إن من أراد الحقيقة كاملة أن يعمل على انعتاق النفس من الجسد الذي هو بمثابة سجن للنفس، وظلمة وعتمة تحجب الحقيقة الساطعة عنها.
من المؤكد، ان هذه الثورات العربية المتواصلة هي ثورات ذات نزعات إصلاحية(Reform). لأنها لم تقتلع النظام السياسي العربي من جذوره، بل قل لم يتم تعويض دولة بدولة..من هنا تلاحق هذه الثورات مناوشات ومهارشات من هنا وهناك، بغية التشويش على تطلعاتها و طموحاتها.
وينتج من هذا، أن دعوة حراس الثورة المصرية والتونسية على وجه الخصوص إلى التكاثف والتعاون بين جميع التيارات الايديولوجية السائدة، إسلاميين وقوميين وناصريين وماركسيين وليبراليين..إنما مقصده هو تشكيل هوية وطنية متماسكة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.إنها هوية من اجل التحرر من الاستبداد والظلم، إنها هوية مشتركة، أو ما يسميه“ادموند هوسرل” ب:“تداخل الذوات”(Intersubjectivités)..فالانفتاح على الغير ضرورة وطنية وان لم تقتنع بعض الإطراف المؤدلجة والتي لا تنظر نظرة أهل المقاصد والكليات. لكن هنا يجب الانتباه إلى اشتكال أساس وهو:
ما هي الضمانات والاعتبارات التي وسف تحصن هذه الهوية الوطنية ما بعد الثورات العربية.؟
لم نطرح هذا الإشكال اعتباطا بقدر ما انطلقنا من التاريخ العربي المعاصر حيث يشهد، بما ليس فيه ريبة، أن مواجهة الاستعمار قد كانت بمنطق التشارك والتعاون ما بين جميع الأحزاب والتيارات.. بيد إن خروج الاستعمار المعطوب من بلاد العرب والمسلمين، تحول إلى تقاتل، بل على الأقل، إلى التنازع بين هذه التيارات الايديولوجية العربية بشأن من يتسلم زمام السلطة ويدير الدولة.. فتجولت ذينك الهوية الوطنية إلى هويات قاتلة، كل هوية تنغلق على ذاتها بدعوى امتلاك الحقيقة والشرعية التاريخية..وغيرها من الشعارات الجوفاء التي تجافي متطلبات الواقع العربي ومراحله التاريخية الحاسمة.
من ثمة، لابد من صياغة الهوية الوطنية من قبل هذه التيارات والتوجهات الثورية العربية صياغة تركيبية فائقة حتى تكون فيما بعد ، الحصن الحصين من كل انشقاقات وتمزيقات وتصدعات طارئة.