الدوجماتية فى دوائر المعارف تعنى الاعتقاد الجازم ، واليقين المطلق دون الاستناد إلى براهين يقينية، وإنكار الآخر ورفضه باعتباره على باطل مطلق ! وهى ليست مذهبا فلسفيا أو دينيا، وإنما هي –في أكثر معانيها انتشارا- سمة وطريقة تفكير تتسم بها أي فرقة أو مذهب أو فلسفة تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشكل شامل، ولا تقر بأنها قد تحتمل شيئا من الخطأ أو النقص، وتقطع بأن ما تحوزه من معارف ومعتقدات لا يقبل النقاش ولا التغيير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية، أو السياقات المكانية والاجتماعية؛ فهي إذن مقدسة ومنزهة عن أي نقد. والناس عادة تنظر إلى العالم بطرق غير متوافقة، لكنهم على استعداد للموت لفرض رؤيتهم للحقيقة على بقية العالم ، ومن المهم ان نفهم أين وكيف يكتسب الأفراد وجهات نظرهم المتحيزة والتي تظهر أكثر وضوحا فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية والسياسية التي يعتقد الأفراد أنها على حق دون تمحيص فى مصادر تلك المعتقدات ، بل يفسرون العالم حولهم من خلال عدسة معتقداتهم المسبقة والتى تشكلت مبكرا فى مرحلة الطفولة ، والبداية ان كل منا هو نتاج تجاربه الخاصة وكل واحد لدية القناعات التى تستند على معتقداته من خلال نظام الإدراك الحسي المتميز .
ويعتبر بعض الكتاب ان التصلب العقلي والدوجماتية ، مصطلح واحد ، فكتب طارق القزيري بمجلة الحقيقة العدد الخامس - فبراير 2004 وهو يعلق على كتاب سيكولوجية الإنسان المقهور “للدكتور مصطفى حجازى بأن المؤلف لم يبتعد كثيرا عن فكر ملتون روكيش و ديكونشي” في أن التصلب العقلي أو الدوجماتية تتمثل في " عدم القدرة على تغيير الحكم أو الرأي في الوقت الذي تتطلب فيه الشروط الموضوعية ذلك ، وعدم القدرة على إعادة تركيب حقل معرفي ما، حيث توجد فيه مجموعة من الحلول لمشكلة واحدة وذلك للوصول إلى حل بأقصى فعالية ممكنة.
المصريون والتصلب العقلى
يوم 25 يناير 2011 انفجر ميدان التحرير في القاهرة بالمحتجين من شباب الإنترنت رافعين شعارات التغيير ، وتحولت مظاهراتهم بعفوية إلى احتجاجات شعبية غاضبة واسعة النطاق. وساعد على هذا التحول أسباب عديدة بعضها ظاهر ، وبعضها كامن مثل هشاشة وترهل نظام الحكم السابق رغم المظاهر الخادعة لقوته ، انسحاب قوات الأمن والشرطة ، وانسحبت معها هيبة الدولة ، الاستعداد الكامن بين طوائف الشعب للاحتجاج على أوضاع المجتمع المتفسخة من أعمال الفساد والمحسوبية واستغلال النفوذ، انحياز القوات المسلحة إلى جانب المحتجين ، ثم تسلق قوى سياسية واجتماعية ودينية متعددة موجة الاحتجاجات، واستغلالها وتوظيفها لتحقيق مصالحهم! حتى الغوغاء والبلطجية ركبوا مظاهرات ميدان التحرير ، وانتشروا فى مصر كلها مستغلين مناخ الفوضى والأنفلات الأمنى !
وكانت قمة البلطجة فى الحوارات والمناقشات التى جرت ,وتجرى منذ شهر يناير وحتى الآن بين المصريين فى وسائل الإعلام المختلفة ، خاصة فى برامج التوك شو حول مستقبل مصر بعد سقوط نظام مبارك ، وعلى الخصوص القضايا الوطنية المثيرة للجدل .وتابعت جانب معقول من تلك المجادلات ، ولفت نظرى ان معظمها كان يخيم على أجوائها مناخ الخصومة بدلا من الطرح العقلي المتزن، والنقد الجاد والمحترم لتحديد القيم المشتركة وأسس التوافق فى الآراء . وأزعم انتشار التصلب العقلي او الدوجماتيه كحالة ثقافية عامة بين المصريين ،وظهر ذلك واضحا فى مجادلاتهم حول إيجابيات وسلبيات نظام مبارك ، وقضية الدين والعلمنة والدولة المدنية أو مواقفنا تجاه إسرائيل و أمريكا أو حتى مباريات كرة القدم وتفسير الفتاوى الدينية ونقد الأعمال الفنيه ، نجد أنفسنا نتشنج ونتعصب فى المناقشة ، ونعرض وجهات نظر يقينية ، وتصبح حسابات الربح والخسارة لكل فريق هى المعيار فى النقاش .
فالمناخ السياسى والاجتماعى فى مصر سواء قبل 25 يناير او بعده يشير إلى وجود خطرا كبيرا يواجه القيم المشتركة وقواعد السلوك فى المجتمع المصرى ، حيث أتسم خطاب الفرقاء بالتضارب الواضح فى معظم الأحيان حول ما هو صحيح وعادل وأخلاقي للقضايا السياسية والاجتماعية . ورغم فيض المعلومات كسمة من سمات العصر الذى نعيشه ، لاحظت فى الحروب الكلامية بين الفرقاء السياسيين ان الكثير منهم يجهلون إلى حد كبير معظم القضايا الرئيسية التى تشكل حياة المصريين ، وعلى الرغم من ذلك كان أصحاب المواقف المتعارضة يؤكدون أنهم وحدهم يملكون الحقيقة ! وإذا كانت ثقافة الدوجما من الخصائص المميزة للشارع المصري ، فهى الخاصية الفاعلة فى مرحلة الانتقال الخطيرة التى تمر بها مصر الآن ، فكل طرف يعتبر نفسه على حق !
والدوجماتية dogmatism كما وصفها استأذنا الدكتور مراد وهبة ، هى توهم امتلاك الحقيقة المطلقة ، لدرجة أصبحت للدوجما سلطة تحكم على من يعارضها بالهرطقة او الكفر !؟ والحقيقة عندما يختلف عليها اثنان تصبح دوجما . وبعد 25 يناير تحول الأعلام الرسمي والخاص فجاءه إلى تمجيد شباب التحرير ، بل وصلنا لدرجة إقصاء الآخرين المختلفين على ما حدث فى التحرير ، بل أصبحنا نعيش كارثة إعلامية ، فى برامج التوك شو التى فاضت بتصفية الحسابات والشماتة والتحريض العلنى ، وتبادل الاتهامات ، وتوزيع الإهانات على كل ما هو متعلق بالآخر المختلف ، وكأن هناك حزب لميدان التحرير إما ان تكون معه فيرحب بك ، او تختلف عليه فيتم إقصاءك !؟
وبطبيعة الحال تحاول التيارات الدينية التى ركبت موجة 25 يناير فرض رؤيتها الأصولية على الآخر بكافة الطرق ، فالأصولية بطبيعتها دوجماتية تزعم انها صاحبة الحقيقة المطلقة. وقد أنكشف الوجه الحقيقى للتيارات الدينية فى محاولتها لدغدغة المشاعر الدينية للبسطاء ، حين رفعت الشعارات الدينية أثناء عملية الاستفتاء على التعديلات الدستورية الأخيرة فى مصر ، باستخدام منابر المساجد ، واللافتات التى احتلت الميادين العامة تحمل دعوة صريحة للتصويت بنعم باعتبارها واجبا دينيا !! واتهام كل من يخالف هذا الرأي بالكفر ، والتوعد بعذاب جهنم !؟ حتى ان البعض أطلق عليها غزوة الصناديق !! وما حدث ، ويحدث الآن من مظاهرات عادة يزعم أنها مليونيه و تحاول فرض شعاراتها ومطالبها على أكثر من 85 مليون مصرى هى دوجما حقيقية ، وفوضى كارثية ! وكانت قمة الفوضى يوم 9-9 عندما اقتحمت السفارة الإسرائيلية من قبل غوغاء الشوارع تحت ضغط دوجما الكراهية ، وزادت تلك الفوضى عمقا بانتشار ظاهرة تفرغ رجال الدين هذه الأيام للكلام فى السياسة ، وتلميع وسائل الإعلام لشيوخ التيارات الدينية المفرج عنهم من السجون لدرجة تفاخر بعضهم علنا وعلى الهواء بأعمال العنف والقتل التى قاموا بها . لقد تصدر التيار الدينى المشهد الثورى فى مصر ! وهو استغلال فج للدين فى السياسة . وأصبح خطاب الدوجما هو السائد الآن فى مصر.
مصداقية خطاب الدوجما
هل نثق أو نرتاب فى خطاب الدوجما ؟!الإجابة بلا شك ان عقلية الدوجما تؤثر تماما على الأحكام التقيمية للإنسان . ويرجع ذلك جزئيا إلى عدم رغبة الإنسان لإعادة النظر في معتقداته الأساسية العزيزة لديه ! ويصبح عدم الرغبة مبررا لتجاهل المنطق والأدلة العقلية . لكن المفارقة أننا لا نملك دليلا منطقيا دائما ؟! وهنا تصبح الكراهية الغريزية للأسباب الغيبية بديلا عن افتقاد الأسباب المنطقية! والإنسان بطبيعته لديه حاجات نفسية داخلية يشبعها قدرا ما من عقلية الدوجما ، فكلنا لدينا مناطق نمارس فيها الدوجما المتعصبة بشدة ، ومناطق أخرى نمارس فيها الدوجما بدرجة أقل ، ونقابل فى حياتنا بعض الناس يمارسون الدوجما العقلية الشديدة التعصب فى المواقف الأخلاقية والدينية ، ونجد نفس الأشخاص اقل تعصبا وأكثر انفتاحا وتسامحا فى المواقف العملية التى تعود عليهم بمنافع وإرباح اجتماعية واقتصادية . ونذكر القارئ أن أفكار هذه العجالة هى نفسها نوعا من الدوجما ، رغم محاولة الكاتب الحياد والموضوعية فى عرض الموضوع ، فكل الناس عادة لها نصيب من منهج عقلية الدوجما .
فالمشاعر السلبية ضد أحد الموضوعات بالضرورة سوف ينسحب الأمر على موضوعات أخرى فى مجالات أخرى ؟! وبعض الدراسات تزعم ان العلاقة هي عكس ذلك : فالشخص الأقل دوجما والأقل تعصبا فى مجال معين من المرجح أن يكون كذلك فى بقية المجالات ، وليس العكس ؟ و هناك وجهة نظر بديلة تقول أن الناس أدمنوا على الدوجماتية ، لدرجة امتداد عقلية الدوجما الى العديد من مجالات الفكر. وأعتقد أن هذا النموذج البديل هو الأقرب إلى الدقة بصرف النظر عن هامش الدوجماتية إذا كان يصيب المناطق الخطأ من الفكر. وتعتبر الدوجماتية متغير هام في عمليات التواصل التى تستهدف الإقناع ، فالدوجماتيه عند ملتون روكيش هى المساحة التى يكون فيها العقل الكلى مفتوحا او مغلقا . وهكذا ، الدوجماتية هي منهج عقلى اومجموعة من أنماط التفكير المتعددة التي قد تؤثر على ردود فعل الاتصالات التى تستهدف الإقناع .
وهنا يصبح السؤال المطروح ما هى العلاقة بين دوجماتية المتلقي على تغيير موقفه استجابة للرسائل الاتصالات التى تستهدف الإقناع ؟! وعلى الرغم من أن البعض ينظر للدوجماتية كنظرية ، فالمفهوم هو في الواقع عنصر من سمات الشخصية . وبالتالي ، يمكن استكشاف دور سمات الشخصية باختبار الدوجماتية كخاصية من خصائص الشخصية ، وباعتبارها عنصرا من عملية واسعة لنظرية الإقناع. نظريا يوجد بين الأفراد الذين ترتفع لديهم مستويات الدوجما ، القليل من الاختلافات بين معتقداتهم المركزية ، ومعتقداتهم الطرفية . لذلك عندما يتلقون رسائل اتصال تقنعهم بتغيير مواقفهم ، نجد أنهم يدركون تلك الرسائل على أنها تحدى وتهديد لمعتقداتهم المركزية !! ونتيجة لذلك نجدهم يدركون نداءات وإغراءات الإقناع بالتغيير كموضوعات سلبية جدا ! وهؤلاء لا يفرقون بين مصدر الرسالة ومحتوى الرسالة ، وهم يميلون إلى الغلط بين إدراكهم الحسي لمصدر الرسالة وبين إدراكهم لمحتويات الرسالة . ويشرح ملتون روكيش ذلك بقوله أن أصحاب نظم المعتقدات المغلقة يواجهون صعوبة كبيرة فى تمييز الفرق بين المعلومات التى يستقبلونها عن العالم وبين المعلومات التى يستقبلونها حول المصدر .
وهؤلاء الأفراد الذين ترتفع لديهم مستويات الدوجما لا يميزون تمييز قاطع بين محتوى الرسالة ومصدرها ، فإذا استقبلوا رسائل من مصدر موثوق جدا ، تكون الرسالة مقنعة جدا ، وإذا استقبلوا رسائل من مصدر منخفض الثقة يتوقع ان تكون الرسالة غير مقنعة. وهكذا ، تتشابك آثار الدوجماتية مع فكرة مصداقية المصدر.
فعندما ينظر الناس إلى المصدر كمصدر موثوق ترتبط مستويات الدوجما بعملية الإقناع ، وليس من الضرورى ان يقتنع أفراد العقول المفتوحة بسهولة ! عندما يكون المصدر جدير بالثقة والموضوع غير مهم ، ويجد أصحاب العقول المفتوحة صعوبة شديدة فى الاقتناع ، بالمقارنة بالإفراد ذو العقول المغلقة وأكثر دوجماتيه . فالعلاقة بين الدوجما والإقناع متوقفة على تأثير مصداقية المصدر .
آليات العقلية الدوجماتية
اكتسب مصطلح “الدوجماتية” المصداقية العلمية إلى حد كبير من خلال أعمال ميلتون روكيش في دراسته للخلافات الشخصية ، وأنماط التسلط والتعصب ، ودرس الطريقة التي ينظرون بها للعالم ، وهو أمريكي ، بولوني الأصل، وله مجهودات واضحة و مميزة في العمل تجاه كشف آليات “التصلب العقلي ، واهتم الفرنسي”جانبيير ديكونشي بدراساته “كما يذكر”محمد أركون“، في كتابه”الفكر الإسلامي: قراءة علمية"استعراض هاشم صالح . وينطلق روكيش في رحلته داخل هذا العقل مما يسميه مفهوم ( الصرامة العقلية ) لكي يصل إلى بلورة نهائية لمفهوم الدوجماتية ووظائفها العقلية و آلياتها.
وعند مراجعة مفهوم الدوجماتية عند روكيش نجد انه تم استعراضها على 10 مستويات : الفاشية ، قياس الدوجماتيه ، الشخصية ،التكيف والضبط ، السلوك الجماعي ، والعلاقات بين الوالدين والأطفال ، وإدراك الوقت ، وعدم الاتساق المعرفي ، وحل المشاكل ، وعمليات التعلم .وتشير الدلائل إلى أن الشخصية “المتعصبة” نمط موجود ويمكن التعرف عليه بسهولة. وتشتد حاجتنا إلى روكيش في هذا الوقت لنتلمس مفاتيح دوجما هسترية ، جانب منها يصرخ ان مصر تتراجع وتنهار أمام الفوضى العارمة والانفلات الأمني بعد أحداث 25 يناير . وهستريا مقابلة ترى ان البلد بخير ، وان ما حدث من احتجاجات واعتصامات 25 يناير حدث تاريخى سيجعل مصر تعيش ازهى عصور الديمقراطية والرخاء والآمن ! ومن جانب آخر نرصد دوجما هسترية تطالب بالدولة الدينية وتطبيق الشريعة مقابل دوجما هيسترية أخرى تطالب بالدولة المدنيه وحرية العقيدة وحقوق الإنسان ! فالمنطق الذي يتحكم بالعقل الدوجماتي على نحوٍ فظ فى الجانبين يرتكز أساساً على ثنائية ضدية حادة هي : الإيمان واللا إيمان … فالدوجماتيه نمط فكرى يؤكد الانفصال ، ويتسم بشمولية الرفض ، ويعمق التناقض ، ويغلب الهامشيات ، ويتصف بالصرامة الشديدة ، “وأزعم ان العقلية المصرية فى جانب كبير منها تتصف بالتصلب العقلى. ونلحظ بسهولة ان قطاعا كبيرا من عقول المصريين سيطرت عليه الدوجما الدينية ، وشغلوا أنفسهم بالحلال والحرام والحجاب والسفور ، وأعطوا ظهورهم تماما لكل متغيرات وعوامل العمل والإنتاج والتقدم ، وهى نتيجة طبيعية لمنظومة القهر والفقر والخرافة ، التى أصابت بنية العقل المصرى فى مقتل.
وأتذكر هنا كلمات فيلسوفنا مراد وهبة : إن جهل العقل يغتال العقل ، والشعور الواعي بفداحة الجهل هو الذي يحفّز الإنسان إلى التعلم . والإنسان بحاجة إلى تغيير ما بداخله ، وصناعة سلوكه بما يتناسب مع الإنجازات الكبيرة التي حققتها هذه الحضارة ، فلا يمكن العودة إلى الوراء ، و أن ما نواجهه اليوم هو أزمة حضارية، بسبب هيمنة الأصولية علينا وافتقارنا للإبداع في حل الإشكاليات الجديدة. وإنّ حالة التخلف فى مصر حالة دائمة على مر العصور !
--------------
المصادر ومزيد من القراءة :
محمد أركون الفكر الإسلامي – قراءة علمية – ترجمة هشام صالح – مركز الأنماء القومى بيروت – المركز الثقافى العربى الدار البضاء - الطبعة الثانية 1996-http://medaad.wordpress.com
2-Rokeach, Milton. “The nature and Meaning of Dogmatism.” Psychological
Review 61 (March 1954) http://www.all-about-psychology.com…
3- Rokeach, M. (1960). The open and closed mind. New York: Basic Books
http://www.questia.com/library/book/the-open-and-closed-mind-investigations-into-the-
nature-of-belief-systems-and-personality-systems-by-milton-rokeach.jsp