تحت مفاهيم ثلاثة “الدولة ، المجتمع المدني ، والديموقراطية” راح الـ : د . سهيل عروسي يتحرى الأجوبة عن أسئلة أخذت تقضّ مضاجعنا في السنوات الأخيرة من القرن المُنصرم ، أن لماذا تهدّدت سيادة الدولة في ظلّ العولمة ؟! وما دور المُجتمع المدنيّ بمُختلف تشكيلاته ومُنظّماته في بناء الدولة ، وتقديم الدعم لها ، أو في تقويضها وإضعافها !؟ ثمّ ماذا عن الضعف في مُؤسّسات الدولة !؟ هل يصبّ هذا الضعف في صالح المُجتمع !؟ وهل يذهب التراجع في دور المُجتمع المدنيّ جهات الدولة ليصبّ في مصلحتها ، أم أنّ العكس هو الصحيح !؟ وأخيراً كيف نحقق التوازن بين قوى المُجتمع المدنيّ والمُؤسّسات الديموقراطيّة على الطريق نحو تشكيل دولة قويّة !؟
ولكي يتمكّن من الإجابة على أسئلة كهذه ، اعترضته صعوبات جمّة ، إذْ في الوقت الذي خضعت بعض المفاهيم والمُصطلحات كالعولمة أو صدام الحضارات أو الحداثة لنقاش ثريّ من قبل النخب الثقافية العربية ، بما وضّح أبعادها ومضامينها ، اعتورت الصعوبات مُصطلح المُجتمَع المدنيّ ، بسبب من غياب المُعادل الدلاليّ الدقيق له بتعبيره الغربيّ “Civil Society” عن المعاجم العربيّة ، وأسهم أنصاف المُثقفين في التشويش ، هذا أولاً ، ثمّ أنّ المُجتمعات العربيّة ما تزال تعيش مرحلة ما قبل الدولة الوطنيّة ، ناهيك عن علاقة كل من المُثقف والسلطة بهذا المُصطلح ، ذلك أنّ الطرفَيْن رأيا في الدولة والمُجتمَع المدنيّ ضدّيْن ، فاحتكما إلى سوء الفهم والريبة ، ربّما لأنّ الدولة رأت في دعاة المُجتمع المدني أدعياء يتطلّعون إلى الانقضاض على السلطة ، فيما رأى دعاة المُجتمع المدنيّ في السلطة أدوات لابتلاع المُجتمَع !
وعليه أراد الباحث أن يوضح قضايا خمسا ، أولاها أنّ الطرفيْن يخرجان عن ثنائيات الأصالة والمُعاصرة ، أو العروبة والإسلام .. إلخ ! ما يخرجهما من ساحة التضاد ، وثانيها أنّ ضعف المُجتمع المدنيّ لا يصبّ في مصلحة الدولة القويّة ، ذلك أنّ ضعف الدولة سيلتهم الدولة والمُجتمع عاجلاً أو آجلاً ! أمّا ثالثها فتتأسّس في أنّ المشكلة ليست في من يحكم ، ربّما لأنّ المُعادلة تخرج عن دولة أقل ومجتمع أكثر في مُواجهة دولة أكثر مُجتمع أقل ، أي أنّ دولة أقوى ومُجتمع أقوى هما لبّ المسألة ! بينما يتلخّص رابعها في أنّ الدولة تتعرض لهجوم غير مسبوق ، بما يُهدّد كيانها ، وهذا يتطلب الوقوف معها وليس ضدّها ! ليخلص في الخامسة إلى التفريق بين الديموقراطية والشورى ، التي يتوّهم الكثير من المُسلمين بأنّها البديل الإسلاميّ للأولى ، بهدف فك الارتباط بينهما لمصلحة المقاصد النبيلة لكلّ منهما !
وحتى يوضّح كيف تطوّر الفكر السياسيّ ليسوس مفهوم الدولة والمُجتمع المدنيّ ، ارتحل إلى حقل التاريخ ليقف بالمُفكّرين الذين نظّروا لمفهوم الدولة ، ويَخْلصَ - بحسبه - إلى أنّ ابن خلدون وميكيافيلّي وهيغل ، يُشكّلون محطات بارزة في هذا المسار، مُتوّهّما أنّ الفكر بدأ بالميثولوجي ، أي الأسطوريّ ، في حين أنّنا نذهب إلى أنّ الميثولوجي وُلد من رحم الأسطوريّ ، ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّهما يختلفان في الدلالة والمضامين !
إنّ الأسطورة - بحسب الباحث - تشكّل مرحلة الطفولة في الوعي البشريّ ، وسيصعب على أي باحث الجزم بمدى إسهام الشعوب في الحضارات المختلفة إن لم يقف بخزينها الأسطوريّ ، ذلك أنّ إسهامات الشعوب في الحضارة تختلف ، ففي حين أسهم بعضها بحجم أنهارها “بلاد ما بين النهرَيْن ، وادي النيل” ، أسهم بعضها الآخر بما يُعادل جدولاً ، كما في الحضارات التي اندثرت ، لكنّ الإجماع يذهب إلى أنّ الفضل في الارتقاء بالفكر السياسيّ إلى أنّ المُستوى المنهجيّ للمعرفة يرجع للإغريق ، وذلك عبر أفلاطون الفيلسوف وصولون المُشرّع !
لقد اتكأ الفكر البشريّ على الحلم ، كضرورة منطقيّة وإنسانيّة لإنجازه الماديّ ، إذ أنّ الإنسان حلم بالعدل ، فإذا قيّض له أن يتحقّق قامت الدول ونهضت الشعوب ، وسيمثل لهذا بفيثاغوث ، فلقد رأى بأنّ العدالة الإنسانيّة عدد مُربّع يتشكّل من أجزاء مُتساوية مُحققة العدالة !
أمّا أفلاطون فلم يكن يثق بصلاحيّة الشعوب لتحكم نفسها ، كما جاء في كتابه “الجمهوريّة” ، ناهيك عن أنّ الإنسان مُثلّث الصفات ، فهو يتكوّن من “العقل ، والميول الكريمة ، والرغائب الدنيئة” ، ولهذا انضوت مدينته الفاضلة على طبقات ثلاث ، الرؤساء ، الذين يتسّمون بالحكمة ، والمُحاربين ذوي الشجاعة ، ثمّ طبقة الحرفيّين ، لتتجسّد العدالة بالقدر الذي يُشارك المواطنون فيها ، هكذا تتحقق مدينتة المُوحّدة سياسيّاً وأخلاقيّاً ، وتتخلّص من الانقسام إلى أغنياء ضدّ النبلاء ، أو العكس ، ثمّ أنّ تقسيم أنظمة الحكم في الدولة يعود إليه ، لتتباين بين الجمهورية ، والسياسة ، والقوانين ، أمّا نظامه المثاليّ فهو النظام التيموقراطي - حكم العتاة - مسبوقاً بنظام كاليبوس ، ويليه إذ ينحل النظام الأوليجاركي ، أي حكم القلة الغنيّة حال فساده ، ثمّ يتطوّر الأخير إلى نظام ديموقراطيّ ، حتى إذا انحط - هو الآخر - حلّ النموذج الأسوأ مُتمثلاً في الطغيان !
لكنه في كتابه “السياسة” قسّمَ الدولة إلى النظام المثالي ، الذي يترأسه الفلاسفة كـ “يوتوبيا” ، تليها طائفة الدول الزمنية الست ، ثلاث منها تتقيّد بالقوانين - حكم الفرد المُستنير ، وحكم الأقليّة الأرستقراطيّة ، وحكم الديموقراطيّة المُعتدلة ، أمّا تلك التي لا تتقيّد بالقوانين فهي حكم الفرد المُستبدّ ، وحكم الأقليّة الأوليجاركيّة ، وحكم الديموقراطيّة المُتطرّفة ، بينما يقترح دولة مُختلطة في كتابه “القوانين” ، تجمع حكمة النظام الملكيّ إلى حريّة النظام الديموقراطيّ !
لقد تجنّب أفلاطون الصراع الطبقيّ ، وذلك عن طريق منح الطبقة الحاكمة سلطات مُطلقة ، على الرغم من أنّه عمل على دولة قائمة هي دولة اسبارطة ، وليس على دولة لم تتكوّن بعد ، كما يرى كارل بوبر ، ناهيك عن أنّ الأخير يرى في برنامج أفلاطون حنيناً إلى ماض مُستقرّ غاب إلى الأبد !
والدولة المثالية عند أفلاطون بحسب بوبر ، في كتابه الشهير “المُجتمَع المفتوح” هي تلك التي يعمل كلّ فرد فيها بإخلاص لتلبية حاجات الجماعة من موقعه الطبقيّ ، مميّزاً المُجتمع إلى طبقات ثلاث :
العمال اليدويون في أسفل السلّم الاجتماعيّ ، كمُنتجين للحاجات الماديّة للجميع ، وهم
ذوي أرواح شهوانية ترتبط بالمادة ، ولذلك ترتبط معرفتهم بالحواس بعيداً عن عالم المُثل !
الفيلسوف الملك : ويقف مُقابل العامل اليدويّ ، متسماً بروح عقلانيّة ، ليتمكّن
من إدارة الدولة !
حرّاس المدينة : كطبقة تتوسّط الطبقتين السابقتين ، للدفاع عن المدينة !
وعليه فإنّ بوبر يصف أفلاطون بالرجعيّة والاستبداد ، وينفي عنه صفة التقدّم لانعدام المُساواة الطبقية في اشتغاله ككلّ ، ويتفق أرسطو مع أفلاطون في أنّ الهدف النهائيّ للدولة هو هدف أخلاقيّ عبر الدولة الدستوريّة ، لتكون علاقة الحاكم بالمحكوم علاقة أحرار !
إنّ أرسطو يُميّز بين النظام الملكي والأرستقراطيّ والتيموقراطيّ ، ولكلّ من هذه الدساتير شكله الفاسد : الطغيانيّ والأوليجاكيّ والديموقراطيّ ، ويرى أنّ الطبقة الوسطى هي التي تؤمّن استقرار الدولة ، بينما يرى الباحث أنّ هذه المقولة شديدة الحضور وبخاصّة في العالم الثالث اليوم ، ثمّ أنّ أرسطو اعتقد بقيمة الأكثريّة ، إلاّ أنّه كأفلاطون سعى إلى إقامة مدينة سعيدة ، بمُواصفات خاصة ، فالأوليجاركية تحتاج إلى قلعة ، فيما تتلاءم الديموقراطيّة والسهل ، وهو يرى أنّ شعوب الشمال شغوفة بالحرية ، لكنّها تفتقد إلى الذكاء ، في حين أنّ شعوب الشرق ذكية ، إلاّ أنّها تفتقر إلى الأخلاق ، أمّا الهيللينيّين - على المُتوسط - فهم أذكياء ومولعون بالحرّيّة !
الشرق العربيّ الإسلاميّ هو الآخر كان له قدرته بناء العمارات الذهنية ، إذ يتطرق الباحث إلى تصور الفارابيّ للمدينة الفاضلة ، فيشير إلى أنّ الفارابيّ يتصوّرها كالبدن ، والبدن قلب رئيس ، وأعضاء يمدّه القلب بالقوّة ، والمدينة رئيس ومرؤسؤون تتفاوت فطرتهم ورتبهم ، وتتباين أفعالهم !
وهي كالكون ، ذلك أنّ الكون سبب أول ومُسببات ، الأول إله خلق وأوجد ، والمُسبّبات عقول وأفلاك وأجسام أرضيّة ، تفعل على تحقيق رغبات السبب الأول ، على هذا تكون المدينة بناء مُتماسك تماسك أعضاء الجسد وموجودات الكون بصفات هي على التوالي :
صفات الرئيس الفاضل :
1 - أن يكون فيلسوفاً ، ليقدر عقله المُنفعل على الاستكمال بالمعقولات ، وأن يبلغ درجة العقل المُستفاد ، فيفيض إليه من العقل الفعاّل !
2 - أن يكون نبياً : أي ذو مُخيّلة مُعدّة لقبول المعقولات والجزئيّات من العقل الفعّال !
3 أن يتصّف بـ : تمام الأعضاء ، وبعضها مُطالب بالقوة لجودة الفهم ، والفطنة ، وحب
التعلّم ، وسهولة التعبير عما يكمن في الضمير ، ليندرج تحت هذه الخانة الاقتصاد في لذات الجسد ، والصدق والعدل في مُواجهَة الكذب والجور ، ولصعوبة اجتماع هذه الصفات في شخص واحد تساهل ، واشترط في الرئيس شروطاً ستة :
أولاً : أن يكون حكيماً وفيلسوفاً . ثانياً : أن يكون عالماً يحفظ ما سنّه الأوّلون من شرائع ثالثاً : أن يكون قادراً على استنباط الشرائع للقضايا التي لم يشرعها الأولون . رابعاً : أن يكون قادراً على استنباط شرائع للقضايا المُستجدّة . خامساً : أن يكون جيداً في الإرشاد لتلك الشرائع . سادساً : أن يكون قويّ البنية ، عالماً بصناعة الحرب وقيادتها .
وتعاكس المدينة الفاضلة مدن أربع :
المدينة الجاهلة : لجهلها بالعلم والفضيلة ، ولذلك فهي تطلب المجد في غير موضعه، وتطلب السعادة في الماديّات .
المدينة الفاسقة : وهذه تعرف ما تعمله المدينة الفاضلة ، لكنها تسعى إلى أفعال المدينة الجاهلة .
المدينة المُتبدلة : أي الفاضلة إذ تتبدل مع الأيام .
المدينة الضالة : رئيسها يدّعي النبوة الكاذبة ، وعيّنَ لها سعادة لا تمت بصلة للسعادة الحقيقيّة .
ويتباين مصائرها لتؤول إلى الشقاء أو العدم ، لقد ترسّم الفارابي خطا أفلاطون في تصوّره لمدينته ، لكنه كان مُدركاً لاستحالة توفر الصفات المذكورة في شخص واحد ، واشتغل على المدن المُضادة ، ناهيك عن شجبه لمذهب القوة والأنساب العائلية أو القبليّة أو الخضوع للحاكم الغالب ، أو الاشتراك في العقائد الإيمانيّة ، أو المُشاركة في الخطر الداهم ، كما رفض مفهوم العدل القائم على القوة أو على المنفعة أو على الخوف أو على الغرور ، ورفض سياسة الملوك المُتسلطين على مُقدرات المدينة لهواهم الشخصيّ ، فالسعادة في مدينته تقوم على ثلاثة أسس : النوع والكميّة والكيفيّة ، النوع ويكون في التفاضل بين صناعتي الحياكة والنسيج ، أو صناعتي العطر والكناسة ، أو صناعتي الرقص والفقه ، أمّا الكميّة فهي شبيهة بالنوع ، فيما تقوم الكيفيّة على التفاضل المتكىء على الجودة !
وعلى نحو ما ينفي الفارابي الامتيازات الطبقيّة الخاصة بالتركيز على قدرة كل فرد ، على أساس من استعداده الطبيعيّ والملكة الإدارية معاً ، وبذلك تكون السعادة عنده بداية دنيويّة في العالم الواقعيّ !
وبالمُقارنة مع جمهوريّة أفلاطون سنلحظ الفوارق التالية : فمُجتمع الفارابيّ يشمل الأرض كلّها ، كأكمل أنواع الاجتماع البشريّ سعادة ، في حين اقتصر مُجتمع أفلاطون الضيق على أثينا واسبارطة ، وقد تستدعي المُقارنة مُقاربة المُجتمعات التي عاشها الفيلسوفان ، ذلك أنّ أفلاطون عاش ظروف العلاقات العبوديّة ، ناهيك عن تفرّق المدن اليونانيّة إلى مجتمعات صغيرة غير مُتكاملة ، ينحصر العمل الفكري فيها بالرجال الأسياد لا العبيد ، ربّما لأنّ مفهوم الديموقراطيّة في عهده كان مفهوماً أرستقراطيّاً ، ذلك أنّ حكم الشعب عند اليونان يقتصر على الطبقة المُسيطرة ، ثمّ أنّه يقسم المُجتمع على أساس الاستهلاك لا الإنتاج ، وحين كان يستنكر التيموقراطية أو حكم الطغمة أو الديموقراطية والاستبداديّة ، كان يعكس انهيار الدولة في أثينا ، في حين أنّ الظروف التي عاشها الفارابيّ تختلف ، إذ كانت الدولة العربيّة الإسلاميّة ذات طابع إقطاعيّ ، كمُجتمع اتسعت أراضيه إلى مساحات عظيمة من قارتي آسيا وأفريقيا وبعضٍ من أوربا ، مُجتمع تعدّدت أقاليمه وقوميّاته وثقافاته ، مع ما رافق ذلك من تطوّر في العلوم والزراعة وازدهار سوق التبادل التجاريّ ، ولعبت اللغة العربيّة كلغة الدولة والإسلام في تعميق الروابط والتواصل ، ما فتح أمام الفارابيّ أفقاً فكريّاً شمولياً ، فأتى على تصوّر مُجتمع الأمم كلّها في دولة واحدة !
وعندما عجز الإنسان عن بناء مدينة أرضيّة بأخلاق سماويّة ، تحدث عن إمكانيّة بناء مدينتيْن ، أرضيّة وسماويّة ، وهذا يُذكّرنا بمقولة القديس أوغسطين - فيلسوف المسيحيّة الأوّل - عن الإنسان ، إذ ينقسم إلى روح وجسد ، الروح ملكوتها السماء ، بينما مملكة الجسد عرشها على الأرض ، فهل هي صوى لتعاليم بولس وآراء أوريجين ، الذي رأى أنّ مدينة العالم مهدّت الطريق لمدينة الله ! الأولى أسّسها قابيل ، والثانية أسّسها هابيل ،، ولا يُمكننا فصل تداخلهما هنا في الدنيا ، هذا يُذكرنا بشيشرون على نحو ما ، فالشعب كثرة يوحدّها ارتضاء القانون ذاته والتشارك في المصالح ذاتها ، من غير أن يربط الدولة بالله للوهلة الأولى ، هذا إذا لم نتذكّر الغموض في الفكر الأوغسطينيّ ، ذلك أنّه حسب مضمون الحق يستطيع أن ينفي وجود دولة صحيحة على الأرض، في حين أنّه أراد أن ينفي عظمة الامبراطوريّة الرومانية ، ليبرهن أنّها لم تتفق أبداً مع التعريف الشيشرونيّ ، ومن ثمّ لم توجد قط من حيث الحق ! وهو يستطيع أن يقبل عملياً أنّ كلّ مُجتمع مُنتظم حسب القانون الوضعي هو دولة سياسيّة ، في حين أن بولس الرسول يرى أنّ ممالك الأرض كلّها خارج قوانين العناية ، وتمنح العناية الإلهية كلّ بلد وكلّ حقبة النظامَ الذي يُلائمها ، ما يزيل اللبس عن تناقض العبارة مع سابقتها !
لكن البشرية ابتداءً من القرن الرابع عشر للميلاد ستُطلّق إرثها الأسطوريّ إلى الفكر السياسيّ ، في مُقاربة للواقعيّ، وكان للعلاّمة ابن خلدون دور ريادي في تلك المُقاربة ، جعلته رائد علم الاجتماع العربيّ في القرون الوسطى ، لدرجة أنّ ناتانيل سميث قال عنه بأنّه وصل بعلم الاجتماع إلى حدود لم يصل إليها أوغست كانط نفسه في القرن التاسع عشر، فلقد كشف عن مبادىء الدول ومراتبها والتعرّف على تزاحمها أو تعاقبها ، ومن ثمّ تملكه سؤال هو : ما القوة التي تستند إليها الأسر الحاكمة في استيلائها على السلطة !؟ وذلك كما جاء على لسان محمد عابد الجابريّ ، وللتعرف على فكره ، لا بدّ من دراسة المُجتمّع الذي عاش فيه من خلال مقدّمته الشهيرة !
وبالبحث سنكتشف بأنّ المُجتمع الذي أحاط بابن خلدون ، كان مُجتمعاً قبلياً يقوم الحكم فيه على قبيلة بعينها ، ولذلك ستنهض الدولة على هذا الأساس ، الذي سيطلق عليه مُصطلح العصبية ، أي الجماعة التي تتكوّن من أقاربه الذين يلازمون الرجل ، ولكن ليس بالضرورة أن يكون جميع الأقارب من عصبته ، وهي غير مُرتبطة بمكان أو زمان مُعيّنيْن!
ويرتبط مفهومه للدولة بنظريّته في العصبيّة كما يرى الجابريّ ، ليختلف مفهوم الدولة عنده باختلاف الزاوية التي ينظر منها إلى العصبيّة الحاكمة ، والعلاقات السائدة بينهم ، ثمّ علاقتهم بالعصبيّات الخاضعة لهم ، هذا إذا وقفنا بالامتداد المكانيّ ، ما يتناول أتساع الدولة ، أمّا إذا تناولناها في الزمان ، للوقوف بمحطاتها المُختلفة ، فسنأتي عليها ابتداءً باستلامها للسلطة ، وانتهاءً بنهاية حكمها !
أفقياً - إذن - وجدها على نوعين دولة خاصة كالبويهيّة ، وعامة كالعباسيّة ، فالعامة لا تخضع بأي حال لغيرها ، حتى لو كانت سلطتها اسمية على بعض الأقاليم ، بهذا تكون الدولة الخاصة “ملكاً ناقصاً” ، في حين تكون الدولة العامة “ملكاً تاماً” !
أمّا عمودياً - أي أمتداد العصبيّة في الزمان - فيقسمها إلى دولة شخصيّة : ويحكمها شخص واحد كدولة معاوية ، ودولة الكلية : أي مجموع الدول الشخصيّة ، التي ينتمي أصحابها إلى عصبيّة واحدة !
ويقصد بالدولة الكليّة العامة - بحسب الجابريّ - في حديثه عن أطوار الدولة ، أي تلك التي يتوالى حكامها ، ويمتون بصلة النسب أو الولاء لبعضهم ، هكذا تكون الدولة في المكان دولة عامة ، وتكون الدولة في الزمان دولة كلية ، وباعتماد الجابري تقسيم ابن خلدون يدرس هذا التطوّر من خلال :
- شخص يملك ! 2 - عصبيّة تحكم ! 3 - عصبيّة غالبة وأخرى مغلوبة !
المستوى الأول : الدولة في تعاقب ملوكها تمرّ بأطوار خمسة :
طور الظفر بالبغية ، والتغلب على المُدافع والمُمانع ، والاستيلاء على الحكم ، بعد انتزاعه من دولة سالفة !
طور الاستبداد على قومه ، والانفراد دونهم بالحكم !
طور الفراغ والدعة ، لتحصيل ثمرات الملك كتحصيل المال وتخليد الآثار وبُعْد الصيت مباهياً الدول المُسالمة ، وليرهب بهم الدول المُحاربة !
طور القناعة والمُسالمَة ، ويكون صاحب الدولة قانعاً بما بنى الأولون !
طور الإسراف والتبذير : وفيه يتلف صاحب الدولة ما جمعه السلف في سبيل الشهوات، أي أنها تدخل طور الهرم فالمرض فالزوال !
هذه الأطوار الخمسة التي تجتازها الدولة ، مُرتبطة بالأطوار ذاتها التي يمّر بها الحسب ، فكما أنّ الملك هو غاية طبيعيّة للعصبية ، هو أيضاً غاية لكلّ مجد ونهاية لكلّ حسب ، وكما تفسد العصبيّة ، يفسد الحسب ، ربّما لأنّ من سيرثه يستفيد منه من غير أن يعمل على تعزيزه واتساعه ، لذلك كانت نهاية الحسب التلف والاضمحلال ، ولا تتعدّى مدته في العقب الواحد أربعة آباء ، أي مئة وعشرين عاماً !
المُستوى الثاني : الدولة إذ تتطور في شخص راجع إلى الحسب ، لكنّها إذ تتطور
باعتبارها جماعة راجعة للحالة العصبيّة ، أي إلى تدرج العصبيّة من الالتحام والتعاضد إلى الانحلال !
وعمر الأفراد عند ابن خلدون مئة وعشرون عاماً ، بينما تتراوح أعمار الدول في حدود ثلاثة أجيال ، والجيل وسط العمر أي أربعين عاماً ، ليُمثل الجيل الأول جيل الثورة ، حتى إذا جاء الثاني تحول حالهم بالترف ، لتنكسر عصبيتهم بحدود ، في حين أنّ الجيل الثالث ينسى عهد البداوة ويبلغ الترف عنده غايته ، فيصيرون عيالاً على الدولة ، إذاك يظهر الاستظهار بسواهم !
وإذا كان ظاهر كلام ابن خلدون يدل على أنّ عوامل هذا التطوّر هي عوامل سيكولوجيّة واجتماعيّة محض ، فإنّ وراء هذه المظاهر النفسيّة الاجتماعية عوامل موضوعية ، أي عوامل اقتصاديّة في حقيقتها وعمقها !
* المُستوى الثالث : وهو الأعمّ الذي يضمّ كليّة الدولة باعتبارها شخصاً يملك وعصبيّة تحكم ، وعصبيّات مغلوبة على أمرها ، ولها المراحل ذاتها :
- طور التأسيس والبناء : ويتميّز باستمرار العصبيّة ، علاقات الدولة برعيّتها من جني علاقات أفرادها بعضهم مع البعض، وهنا يكون التقرّب من أهل عصبيّة الأقربين أمراً مطلوباً ، وهذا هو الحال مع العصبيّات المغلوبة ، للمُغالاة في الضرائب ، ما ينشر جوّاً من الاطمئنان والازدهار !
- طور العظمة والمجد : وخصائصه ثلاث ، الرخاء ورقة الحضارة ، والاستبداد الفرديّ ما يُجبر الحاكم على الاشتغال على الموالي والمُصطنعين ، هنا يتدخل العنصر الاقتصاديّ أكثر ، ما يُبرّر للمصالح الخاصة التي تناقض المصلحة المُشتركة !
- طور الهرم والاضمحلال : يقول ابن خلدون بأنّ الملك يُبنى على الشوكة والعصبيّة ، الأوّل : المُعبّر عنه بالجند ، والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجنود ، ويأتي الخلل إذا تهاوى أحد الأساسين ، واستولت عصبيّة كانت منضويّة تحت عصبيّة الدولة ، أمّا الجابريّ فيرى أنّ الخلل والفساد يتطرقان إلى الدولة في مرحلة مُعيّنة من تطوّرها نتيجة العوامل الموضوعيّة !
قدّم ابن خلدون الكثير للفكر السياسيّ والاجتماعيّ ، على الرغم من أنّه كتب عن رقعة جغرافيّة تحددت بالمغرب العربيّ ، وتتركز قيمة ما قدمه - بحسب الباحث العروسي - في نقطتين :
الأولى : أنّه أول مُفكّر عربيّ نظّمَ لفكر البادية السياسي ، عندما كانت البادية - كما هي الآن - مركز الثقل السلطويّ ، إذ لم يُسجّل للمدينة العربية مثل تلك الإسهامات ، بينما أنطلق الإغريق من المدينة !
الثانية : مُقاربته الأرضيّة لفكر الدولة ، إذ تسجل له الريادة في تناول الدولة ، نشوئها و تطورها وأفولها بمنطق أقرب ما يكون إلى علم الاجتماع اليوم ، أبن خلدون - إذاً - كتب عن الدولة من موقع العالم لا الفقيه ، الذي أسّس لمُفكّري الغرب ركائز أسهمت في قيام الدولة الحديثة ، عبر ميكيافيلّي وبودان وهوبز ولوك ومونتسكيو وروسو وهيغل وغيرهم !
وإذا كان أفلاطون وأرسطو وابن خلدون قد جعلوا الأخلاق في المركز من نظرتهم إلى المدينة الفاضلة ورؤسائها ، وإذا كان ابن خلدون قد اتكأ على العصبيّة في تفسيره لقوّة الدولة ، فإن ميكيافيللي قد فصل بينهما ، مرتكزاً إلى مقولته الشهيرة : الغاية تبرّر الوسيلة ، وقد لا يكون ميكيافيللي من وزن الفلاسفة الكبار كمونتسكيو ، إلاّ أنّه تقدّمَ على غير قرين بسبب براعته السياسيّة !
ففي كتابه “الأمير” عكست رؤيته رأيه في الدولة ، ليلخّصها في كتاب مُجرد من العاطفتين الإنسانيّة والبيانيّة !
يبدأ ميكيافيللي بتقسيم الحكومات عبر التاريخ إلى نمطيْن ، جمهوري وملكيّ ، وهذا الأخير قابل للتوريث ، هذا إذا لم يكن حديث النشوء ، وأوضح فكرته عبر نصائح مواربة للأمير لورنزو ، وهي :
التبدل في الحكم يُمهّد دائما لتبدّل آخر، والحاجة إلى تعاطف مكان يتقرّر احتلاله ، وإبادة الأسرة الحاكمة فيه ، بغضّ النظر عن قوة المُحتلّ ، من غير إحداث تبدّل جوهرّي في القوانين ، وإذا تقررت الإساءة إلى أحد ، فلتكن بالغة ، بحيث لا يُفكّر بعدها في الانتقام ، ثمّ أنّ الجاليات أنفع من الحاميات ، والحرب لا يمكن تجنبها ، بل تأجيلها ، والتأجيل يصبّ في مصلحة الطرف الآخر ، وإذا تفكرنا في احتلال دول اعتادت الحرية ، فثمة سبل ثلاثة للاحتفاظ بهذه الدول :
تجريدها من كلّ شيء، أو أن ينتقل الأمير المحتل إليها، وألاّ يمسّ بمُمتلكاتها وأبنيّتها ، أن يضع بين عينيه أنّ هدف الشعب أنبل من أهداف النبلاء ، وإذا تساءل عن الأفضل ، أن يكون الأمير محبوباً أم مُهاباً !؟ يكون الجواب : أن يخافه الناس أهم ممن أن يحبوه !
ثمّ أنّه مطالَبٌ بأن يمتنع عن السلب ، ذلك أنّ الناس تنسى وفاة الأب ، إلاّ أنّها لا تنسى ميراثها ، إلى جانب تعلّم الطبيعة الإنسانيّة والحيوانيّة ، أي أن يُقلّد الثعلب والأسد معاً ، الثعلب ليتعلم كيف يُميّز الشراك والفخاخ ، والأسد بهدف إرهاب الذئاب ، ناهيك عن أن يرى الناس فيه الرحمة والوفاء للعهد والنبل والإنسانيّة ، فالناس تحكم بعيونها على الأشياء أكثر من أياديها ، وهذا يقودنا إلى أنّه ينبغي أن يُرضي الشعب ، ويُلهي النبلاء ، لماذا !؟ لأنّ القلاع لا تحمي ، وأن يختار وزراءه بدقة ، وبلا حد أدنى من الأخطاء ، إلى جانب الإغداق على هذا الوزير !
ويرى الباحث العروسي أنّ فلسفة ميكيافيللي لا تناقش مفهوم الحق في جانبه القانونيّ ، بل تؤكّد على أنّ القوّة هي قاطرة التاريخ ! وهذا يقودنا إلى أنّ الحرب لها الأولويّة ، وأنّ من يستخف بها يخسرها ، فنوشار مثلاً يرى أنّ اشتغال ميكيافيللي يندرج في السؤال عن الحكم الأفضل ، لا الحكم المشروع !
أن تحافظ على دولتك ، هذا هو لبّ المسألة من وجهة نظر ميكيافيللي ، وهكذا فإنّ السياسة عند ميكيافيللي ترفض أي مُناقشة حول القيم والغايات ، أي أنّه ضدّ حكم الكهنة ، وينادي بالعلمنة ، ويُلاحَظ تأثر ميكيافيللي ببيدبا الفيلسوف في كتابه الشهير “كليلة ودمنة ” ، ناهيك عن تقاطعه مع ابن خلدون ، فهو الذي وضع أسس علم السياسة ، ولتشابه الظروف في بلديهما على الرغم من بعد الدولتين كان هذا التقاطع بحسب عبد الله العروي !
فابن خلدون عاش في المغرب ، ولم يرَ أوروبا إلاّ في سفارة قصيرة عند ملك قشتالة ، وهذا حال ميكيافيللي ، الذي لم يُغادر فلورنسا إلاّ في سفارات قصيرة داخل أوروبا ، وإذا كان ابن خلدون قد عاش في ظل دول ضعيفة ، فإنّ ميكيافيللي عاش بداية النهضة الإيطاليّة التي سبقت النهضة الأوروبيّة ، أوروبا التي لم تتحقق نهضتها إلاّ عندما داست سنابك خيولها أرض إيطاليا ، ما منح تجربة الرجلين تشابهاً عميقاً ، طبعاً قبل رحيل ابن خلدون شرقاً ، وانتقال الثاني إلى غير مكان حتى ينجز كتابه “الأمير” ، ناهيك عن أنّ الرجليْن ذاقا مرارة السجن ، ولم يُحققا طموحهما ، لذلك نرى في كثير من الأحيان تطابقاّ في الرؤية بينهما ، حتى أنّ ميكيافييلّي يبدو أقرب إلى ابن خلدون منه إلى بودان ، ذلك أنّ “الأمير” يُعادل “الجمهوريّة” ، فبودان يرى السيادة في المركز من تلك البنى ، وهي تذهب جهات القوة الناجمة عن الاتحاد ، وتتحقق نظرياً بالأكثريّة الديموقراطيّة والأقليّة الأرستقراطيّة ، ولا يقبل بودان باقتسام السلطة ، ولذلك وقع اختياره على النظام الملكيّ تحت ضغط أسباب ثلاثة :
الأوّل : يكمن في أنّ النظام الملكيّ يتطابق مع الطبيعة ، ذلك أنّ السماء لها شمس واحدة ، والعالم له إله واحد، في حين أنّ الأسرة تمثّل للنظام الجمهوريّ !
الثاني : السلطة المُطلقة تتسق مع القوّة ضماناً لبقائها " الفرس ، العرب .. إلخ !
الثالث : اختيار الكفاءات يتحقق أكثر في النظام الملكيّ ، والملكية عند بودان ليست على الإطلاق ملكيّة الطغيان ، ربّما لأنّه كالرواقيّين والقدّيس توما الأكوينيّ أو علماء القوانين الكنسيّة يُبقي على أولويّة قوانين الطبيعة فوق قوانين السيادة !
هوبز هو الآخر من الفصيلة الفكريّة العظيمة ، إذ لا يمرّ فكره عبر أفلاطون وأرسطو ، بل عبر دبمقريطس وأبيقور والسفسطائيّين اليونان ، ثمّ أنّه تأثر كثيراً بغاليليو وهارفي في اكتشافاتهما العلميّة !
وفلسفة هوبز عقلانيّة ، مبنيّة على ثقافة علميّة متينة ، فهو ينظر إلى السياسة على أنّها ينبغي أن تبنى على مفاهيم صائبة وتعريفات دقيقة ، بهذا يتعارض مع أرسطو ، ربّما لأنّه يُلحّ على أهميّة التعريفات والعلاقات واللغة ، إذ يقول توشار : أنّ هوبز بقي مُخلصاً لبعض المبادىء ، لا تتعلق بمبدأ الملكيّة ذاته ، بل إخلاصاً للسلطة ، ما يُعلمنها ، وبحسب هوبز يمرّ تاريخ السلطة بـ:
1- حالة الفطرة ، وهي حالة طبيعيّة ، تتكىء على الحرب والفوضى بسبب الريبة ، ثم أنّ مفومي العدل والظلم لا وجود لهما !
- نحو المُجتمع المدنيّ : ويُركّز هوبز على غريزة البقاء ، فلكل شخص الحق في
الدفاع عن طبيعته الخاصة ، أي حياته الخاصّة !
- الدفاع عن طبيعته ، أي حياته الخاصّة ، ومن هنا تفرض بعض المُلاحظات نفسها :
أ - أنّ المُجتمع السياسيّ ليس حدثاً طبيعياً ، بل ثمرة لميثاق إراديّ وحساب نفعيّ .
ب - إنّ السيادة تقوم على عقد بين الأفراد ، الذين ينصّبون حاكماً عليهم، وهو ليس عقداً
بين الحاكم ورعاياه !
والدولة عنده تظهر على أنّها :
1 - شخص ، فالجمهور الفقير يؤلف شخصاً واحداً برضى كلّ واحد كشرط لازم ،
وإذن فاللوياثان عملاق ضخم يُمثل الذين عهدوا إليه بالدفاع عنهم ، على هذا تكون الدولة ضخمة ، إلاّ أنّها تحتفظ بوجه إنسانيّ سمح نسبياً !
2- الدولة هي مجموع المصالح الخاصة ، التي يتنازل عنها المُواطنون مقابل حمايتهم .
3- الدولة كنيسة ومدينة بآن ، ثمّ أنّ الهيئات الوسيطة والأحزاب والشيع لا محلّ لها ، مع التأكيد على مبدأ فصل السلطات ، واعتبار العقل الحدّ الرئسيّ للسيادة ، بهذا نفى هوبز المصدر الإلهي للسلطة ، والمُجتمَع المدنيّ عنده يقوم على التعاقد ، فالسلطة تقوم على :
أ - إرادة الأفراد ، مُؤسّسة على قانون العقل .
ب - كما تقوم على احترام التعاقد .
وحده المُجتمَع المدنيّ ممكن كوجود بحسب هوبز ، وتعاقده يخلق جسماً اصطناعياً هو الدولة ، مُمثّلة بحاكم ، تغيب الحرّيات في حضرته ، لأنّه يتقمّصها ، فتحضر في غيابه !
هوبز - هنا - لا يهتمّ بأن تكون الدولة ديموقراطيّة ، أو أوليجاركيّة ، أو ملكيّة ، ما دامت السيادة على مُواطنيها تتحقق لها !
أمّا جون لوك فيرى أنّ الإنسان يتخلّى عن سلطاته ، التي منحته إياها الطبيعة ، لمصلحة المُجتمَع المدنيّ ، ويضبطها عبر القوانين ، عليها وضع نظريّته في الدولة والسلطة والقانون ، وهي أهمّ نظريّة في القرن السابع عشر !
لقد قال لوك بفصل الدين عن الدولة ، لأنّ الدولة تهدف إلى الحياة الأرضيّة ، أمّا الكنيسة فتهدف إلى الحياة السماوية ، هذا ناهيك عن مُطالبته بالفصل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذيّة !
وهكذا انطلق لوك من العقد الأصلي ، الذي ولّدَ المُجتمَع السياسيّ “المُجتمَع المدنيّ” والحكم المدنيّ ، ذلك أنّ مُشكلته تلخصّت في الكيفيّة التي يُؤسّس فيها للحرية السياسيّة على المفاهيم ذاتها ، التي سوغ بها هوبز الحكم المُطلق ! كيف ؟ ويجيبنا لوك :
أولاً : لأنّ حالة الطبيعة عنده مُنضبطة بالعقل ، وذلك على عكس هوبز !
ثانياً : الحقوق الطبعيّة لا ينتقص منها العقد الأصليّ ، فلا تختفي بالكامل عند اكتساح السيادة لها ، وذلك على عكس ما قال به هوبز ، بهذا يبقى العقد الأصليّ لكي يكون أساساً للحريّة !
وينبغي أن نتذكّرَ بأنّ لوك لا يُفرّق بين المُجتمَع المدنيّ والحكم المدني ، على قاعدة أنّ الإنسان في الحالة الطبيعيّة يفتقر إلى القوانين والسلطة ، التي يوفرهما له الحكم المدنيّ !
ويذهب د . عزمي بشارة إلى أنّ إنجاز لوك ، إنّما يكمن في تصوّره لمُجتمَع مُنتظم بالتبادل بين البشر ، بهذا تحقق له اعتبار المُجتمَع مصدراً لشرعيّة الدولة ، ما سمح للأول بمراقبة الثانية وعزلها ، أمّا مُجتمَعَهُ المُتخيّل خارج إطار الدولة فهو اقتصاديّ غير سياسيّ - أي لا دولة - ليفتح المجال لاحقاً لـ :
1 - تخيّل المُجتمَع المدنيّ اقتصادياً وهو مُسيّر ذاتياً ، لينتقل إلى هيغل ، في حين أنّ ماركس عبّر عن المُجتمَع المدنيّ على أنّه سوق ، يقوم على التبادل المُستقل عن القسر السياسيّ !
2- تطوّر يوتوبيات مُعادية للسياسة ، لتصوّرَ مُجتمَعاً مدنيّاً دون دولة ، وخارج عنها كما جاء على لسان توماس بين ، ذلك أن تيّار جان لوك سيتحوّل عند بينْ في نظريّة العقد الاجتماعيّ إلى عداء للسلطة ، هذا يستدعي تحديد البطريركيّة في العائلة والدولة ، على أساس النظام الهرميّ الذي يُحدّد السلطة عن طريق ائتلاف الأفراد في جمعيّات طوعيّة ، جمعيّات تقوم على التعاون بينها !
وإذا كان لوك قد اتكأ على مبدأ الفصل بين السلطات كمُرتكز ، إلاّ أنّه ألحق السلطة القضائية بالسلطة التنفيذيّة ، بينما أوكأ مونتسكيو فلسفته إلى الدستور الفرنسيّ ، وعمد إلى الفصل بين السلطات ، ثمّ استبدل التصنيف الكلاسيكيّ للأنظمة بتصنيفه القائم على : “الجمهوريّة ، الملكيّة ، الاستبداديّة” ، ليتساءل :
كيف نُفسّر وجود قانون مُعيّن في بلد ما ؟ وهذا هو روح الشرائع، فمونتسكيو يبحث عن الاعتدال ، لذلك اتسم منهجه بـ :
1 - حسّ التنوّع ، ذلك أنه يخشى التماثل ، مُميّزاً بين الحكومات حسب الأزمنة
والبلدان .
2 - النسبيّة : ذلك أنّ القانون هو نظام من العلاقات ، بالاتكاء إلى المناخ والدين
والتجارة .
3- الحتميّة : فالقوانين مُركّبَة ، ولا يكفي المناخ أو العادات أو الدستور لتفسير الوضع في
بلد ما ، وإذا كان التاريخ معقولاً ، إلاّ أنّ الناس قادرون على صنعه عبر :
- العقلانيّة : فالقانون تجسيد للعقل ، ويستند فيها إلى أفلاطون .
- الريبيّة : إذْ أنّ القانون يسنّه المُشرّعون ، ذلك أنّ عظمة القانون لا تتناسب غالباً
مع عجز المُشرّعين .
ويقسّم أنماط الحكم إلى : الجمهوريّ ، الملكيّ ، الاستبداديّ :
1 - الجمهوريّ : وتكون السيادة فيه – من حيث الطبيعة - بهيئته كلّها أو لجزء من الشعب ، ويميز بين :
أ - الجمهورية الديموقراطيّة : من حيث طبيعتها ، فإنّ الشعب بمُجمله يُمارس حقّ السيادة ، وهي من حيث المبدأ الفضيلة بالمنى المدنيّ السياسيّ لا الأخلاقيّ ، هنا سيُقدّم الناس المصلحة العامة على مصالحهم الخاصّة ، وتقتصر على مدن صغيرة .
ب - الجمهوريّة الأرستقراطيّة : وترجع السلطة فيها إلى مجموعة من الأفراد ، مبدؤها هو الاعتدال في مُمارسَة التفاوت .
2 - الحكم الملكيّ : أي حكم الفرد الواحد من غير استبداد ، فالملك يحكم على اساس القوانين ، ومبدؤه هو الشرف .
3- الحكم الاستبداديّ : وهو النمط الذي يُدينه مونتسكيو ، حيث يحكم الفرد بحسب نزواته من غير قوانين ، مبدؤه هو الخوف ، وهو - بحسبه - إهانة للطبيعة البشريّة ، ولكي لا يستشري يجيء الدين كرادع ، والإعتدال كفضيلة ، واللامركزية و فصل السلطات للحيلولة دون الاستبداد ، وما يُميّز تطوّر الحكم المدنيّ عند مونتسكيو هو أن المُجتمَع المدنيّ اتخّذ شكل القانون .
وتعود الأشكال المُختلفة للحكم إلى ظروف البلاد المناخيّة والاتساع ، والتساؤل عمّا إذا كانت الغلبة للأسباب المادية أم للأسباب المعنويّة !؟ ثمّ أيّهما ينتصر في السلوك البشريّ ، الإنسان الروح أم غريزته الحيوانيّة !؟ ما يضعنا أمام خلاف جوهريّ حول الضرورة والحريّة ، وقد استرعى العامل المناخيّ الانتباه من أيام أرسطو وأبيقراط ، إلاّ أنّ الفضل في إدخال مفهوم الإقليم إلى مقال السياسة يعود لبودان ، فيما يعود الفضل لابن خلدون في إدخال الإقليم في الدراسات الاجتماعيّة .
وتفرط الأسباب المعنويّة في إرجاع الأمور إلى النفس ، فيما تفرط الأسباب الأخرى في إرجاعها إلى الجسد ، وذلك بحسب زاوية الرؤية ، وها هو مونتسكيو بعد أن وصف أثر الأعمال المعنويّة وصفاً بارعاً في نظريّته عن الحكم ، يكتب في “آثار الهواء على الجسم البشريّ ، ليُطلعنا على أثر الأقليم في الإنسان وأهوائه ، ومن ثمّ في سلوكه السياسيّ ، في” القوانين " ، فهو يرى في الإقليم البارد مصدراً لشدّ الأعصاب الخارجيّة في الجسم ، ما يزيد قوّتها ، بينما يرخي الهواء الحار أطراف الأعصاب ، فيُقلّل قوّتها ، على هذا سيرى المرء في الأقاليم الباردة قوّيا ، واثقاً من نفسه ، ويتفرّع عن هذا ميله إلى التسامح السياسيّ ، وإلى جانب هذا فهم قليلو التحسّس للملذات والألم ! ويتساءل عن السبب الذي يجعل سكان آسيا مسكونين بروح العبوديّة ، بينما ينطبع الأوروبيّ بالحريّة ؟ ويعزو السبب إلى خلو آسيا من المناطق المُعتدلة ، عي حين أنّها في أوروبا واسعة جداً ، ولأنّ الانتقال من الحار إلى البارد إلى الحار مُفاجىء في الأولى ، تقابلت الأمم القويّة والضعيفة ، بينما تتقابل الأمم القوية في أوروبا ، ما يُفسّر قوة الثانية وضعف الأولى !
ويُسارع مونتسكيو إلى الاعتماد على سبب ماديّ آخر هو الاتساع ، فسهول آسيا المُتراميّة تتلاءم وحكم الاستبداد ، في حين أنّ القسمة الطبيعية ، تنشىء دولاً صغيرة على رقعة ضيّقة ، ما يشي بإمكانيّة الحكم المُعتدل !
فهل سيُضيف جان جاك روسو جديداً إلى هذا الإرث ؟ إنّ الأفكار الرئيسة لروسو تتلخص في: 1 - وحدة الدولة . 2 - الكل الاجتماعي يتمتع بقدسيّة . 3 - سيادة الشعب . 4 - القانون تعبير عن الإرادة العامة . 5 - استبعاد المُجتمعات الجزئيّة ، الهيئات ، والجمعيات . 6 - الدكتاتوريّة من أجل السلامة العامّة . 7 - الدين المدنيّ .
وكان روسو في العقد الاجتماعيّ مُبتكراً ، لقد استوحى من الذين سبقوه ، من ميكيافيللي إلى مونتسكيو ، ومع ذلك لم برق كتابه “في العقد الاجتماعي” إلى سويّة “روح الشرائع” لمونتسكيو على مُستوى سعة الأفق الفكرية والحكمة السياسيّة ! ويتمثل ابتكار روسو في الحريّة والمُساواة، وما أصابهما من تعديل كيميائيّ ، هناك خلق لنظام جديد إذاً ، نظام عادل بالضرورة من خلال العقد ، ما يُتيح للإنسان أن يتجاوز التناقض بين مُيوله الفرديّة وبين واجباته الجمعيّة ، كما أنّه يُميّز بين مالك السيادة والحكومة ، وهذا ابتكار ثان حاسم في تطوّر الحق العام ، وهو حذر من حكومة مُلطخة ، لينتهي كتابه بالفصل المشهور عن الدين المدنيّ !
إنّ العقد الاجتماعي عند روسو لا يقوم بين أفراد كما هو الحال عند هوبز ، ولا عقداً بين الأفراد والحاكم ، فكلّ واحد يتحد بالجميع عن طريق الميثاق الاجتماعيّ ، يقول روسو : يضع كلّ واحد منّا مع غيره كل قوته تحت القيادة العليا للإرادة العامة ، وتتصف السيادة بأربع صفات:
1 - السيادة لا تقبل التنازل ، وهي غير مُمثلة بأحد ، أمّا نوّاب الشعب فهم مندوبوه وليسوا مُمثليه.
2- السيادة لا تتجزأ ، ولهذا لا يقبل بفصل السلطات، فالهيئة تمثل مصالح خاصة بالضرورة ، ويجب ألاّ يعتمد عليها لتغليب المصالح العامة !
3- السيادة معصومة ، ذلك أنّ الإرادة العامة مُستقيمة ، وتنزع إلى المنفعة العامة .
4 - السيادة مُطلقة : فالميثاق الاجتماعيّ يمنح الهيئة العامة سلطة مُطلقة على أفرادها !
أمّا بالنسبة لأشكال الحكم ، فهو يُميّز بين أشكال ثلاثة :
1 - الملكيّة : ويُوجه إليها نقداً لاذعاً .
2 - الأرستقراطيّة : التي قد تورّث ، وقد تتم بالانتخاب ، لكنّ الوراثيّة قد تكون بغيضة ، وهو يُفضل أن يحكم الجمهور من هم أوفر حكمة !
3- الديموقراطيّة : أي اختلاط السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة بحسبه ، وهو غير عمليّ ، ويمتنع روسو عن التوصيّة بهذا النمط من الحكم أو ذاك ، فالجيد في حالة قد يكون العكس في حالة أخرى ، وهذا يعني بأنّه يختار أن تنام القوانين ، وتبقى الدولة مُستيقظة ، فقط حينما يكون أمن الوطن في خطر يُعالجه بفعل خاص هو “قانون الطوارىء” أو شيئاً يُشبهه ، ويُميّز روسو بين ثلاثة أنواع من الأديان :
أ - دين الإنسان : هو المسيحيّة ، دين الإنجيل بلا هياكل وطقوس ، دين يقوم على العبادة الخالصة لله العليّ ، ويُطلق روسو على واجباته المُنفذة اسم الدين الإلهيّ ، والمأخذ على هذه الفكرة تتلخّص في أنّه لا يُقدّم الفائدة للهيئة السياسيّة ، لأنّه لا يقرّب قلوب المواطنين إلى التعلق بالدولة !
2- دين المُواطن : هو دين المدينة القديمة ، حيث يقوم في بلد واحد، ما يمنحه آلهته وقديسيه الذين يشفعون له ، وهو كقواعد مُثبتة بالقوانين ، ويُسمّيه روسو الحق الإلهيّ ، ويكيل له الإطراء ، لأنّه يجلب القوة للدولة !
3- الكثلكة : وروسو البروتستانتي يكرهها كهوبز ولوك للسبب ذاته ، وفيها ثمة رئيسيْن ما يعطي حقا مُختلطا وغير اجتماعيّ ، وليس له اسم البتة ، فأيّ دين يطرحه روسو ؟!
إنّ روسو يعرض دينه المدنيّ ، الفرق بينه وبين هوبز البراغماتي يكمن في الأخلاق ، فروسو في أفكاه مُشبع بها ، وإذا تساءلنا معه ، أن ما هي عقائد هذا الدين الذي يكاد تكون بلا عقائد ؟ سنقع في الجواب على عقائد الدين المدنيّ البسيطة ، المبنيّة بدقة ، وجود الله القويّ ، وسعادة العادلين إلى جانب قصاص الأشرار، ثمّ قداسة العقد الاجتماعيّ والقوانين ، ومثلبته الوحيدة في رأي الباحث تكمن في انعدام التسامح !
يقول روسو : الرجل الأوّل الذي سيّسيج قطعة أرض ليتملكّها ، وصدقه الناس ، كان يُؤسّس للمُجتمَع المدنيّ ، ليُطل سؤال آخر مُتمحور فيما إذا كان بقاؤه باستمرار في حالة الطبيعة يُطوّر المُجتمَع المدنيّ، أم أنّ هذا مرهون بانتقاله لإنتاج مُجتمَع سياسيّ ، ما يُبرّر له إنسانيّته ومدنيّته ؟ وهل هذا قابل للتحقق خارج الدولة ؟ ربّما كان هذا هو السؤال الذي ينبغي الاشتغال عليه بحسب الباحث !
لقد نفى هيجل أي وجود للمُجتمَع المدنيّ خارج الدولة ، ولعل أفضل عبارة تدلّ على ما تقدّم هي : أنّ الدولة تنشىء المُجتمَع المدنيّ وتحميه ، وعلى خلاف الآخرين فإنّّه لا ينظر إلى الدولة على أنّها تجسيد للإرادة العامة ، أو خلاصة العقد الاجتماعيّ ، بل كائن طبيعيّ يُجسّد العقل والحريّة ، ورأى بأنّ الحريّة في الدولة تتحقق إذا توافرت على شرطين :
1 - إنْ أمكن للمواطن العاقل أن يجد فيها تلبية رغبات ومصالح معقولة ، يستطيع تبريها ككائن عاقل ومُفكّر !
2 - إذا أمكن لقوانين الدولة أن تتحصّلَ على اعترافه بما هي قوانين عادلة !
وفي دولة الفكر هذه توجد سلطات ثلاث ، هي :
1 - الملك الوراثيّ : ليُجسّد استمراريّة الدولة ، ويمارس وظيفة تقابل لحظة من حياة الدولة هي تلك التي يجب الحسم فيها !
2 - الشعب : ويتمثل في طبقات ، أي في برلمان لا كأفراد بل بمُقتضى تمثيل المصالح ، ويُطلب منه أن يُقيم علاقة بين المُجتمَع المدنيّ والدولة !
3- ولكن ثمة مُوظفون يُمارسون السلطة الرئيسة ، فالمُوظف هو خادم الدولة وسيّدها ،
وهو الذي يتحقق به الكليّ ، أولاً لأنّه نزيه ومُحايد ، وثانياً لأنّ وظيفته تقوم تحديداً على مُمارسَة السلطة يومياً ، لنتساءل مع الباحث : هل تخلو دولة هيجل من العيوب والنواقص ؟
وتكشف الدولة عن عيوبها من خلال :
أ - علاقات الدول في الحياة الدوليّة .
ب ـ الأزمات الداخليّة التي تبرّر طغيان الرجال العظام .
إذ تتكوّن طبقة مستغلة في قلب المُجتمَع المدنيّ، لتعمل على تدمير الدولة ، حيث يغدو الإنسان فاقداً لروحانيّته ، وهو متروك تحت رحمة الحياة الاقتصاديّة ، على هذا ينقسم المُجتمَع ويلجأ إلى العنف ، وتتكوّن شريحة الدهماء ، ولما كانت نظريّته تتكىء على مفهومي الرضا والاعتراف ، فإنّ الدولة هنا يجب أن تصالح المُجتمَع، أي أنّ نظريّته تفسح المجال لمُعارضّة لأنّه بحسب د . عزمي بشارة يوجد دائما مجال للصراع بين الأخلاق الموضوعيّة ، والمُمارسَة المُؤسّسيّة ، المُجتمع المدنيّ هو نظام للحياة ضائع بين قطبيه ، الوجود والعدم ! وحتى في الدولة التي تستريح تناقضات المُجتمع المدنيّ فيها ، يبقى التقسيم الوظائفي قائماً ، والانتقال من المُجتمع المدنيّ إلى الدولة تدريجيّ ، لأنّ الدولة تقوم فيه !
ولكي تستمرّ الدولة يجب أن تتبع طريقتين ، الداخل ويقوم على الأخلاق والرضا ، لكنّ الأمر سيختلف مع الخارج ، وقد تكون الحرب ضرورة لاستمرارها ، هذا هو المنطق الذي أسّس للنهج العدوانيّ الألماني في القرن العشرين !
وتتخفف مُؤسّسات المُجتمَع المدنيّ من الأنانيّة ـ إلاّ أنّها لا تغير مفهوم الحريّة ، أي التخفف من الالتزامات السياسيّة ، فالدولة والحريّة قطبان مُتنافران !
ومع كارل ماركس ستقوم الدولة كمُؤسّسة قوميّة في طريقها إلى الزوال ، عبر الانحلال أو الذوبان ، فهل تكون الفوضى هي البديل الموضوعيّ لغياب الدولة !؟
تفسير ماركس وأنغلز فلسفيّ أكثر من أن يكون واقعيّاً ، إذْ ستبقى في المُجتمَع سلطة عامة ، إلاّ أنّها ستفقد طابعها السياسيّ ! وعليه يُشير د . عزمي بشارة بأنّ ماركس نقدّ هيجل على أساس من رفض الفصل بين الدولة والمُجتمع المدنيّ ، فالفصل عند ماركس دليل اغتراب الإنسان ، وهذا يُؤسّس لـ :
عالم السياسة : القائم على حريّة المُواطن .
عالم الاقتصاد : كواقع يخضع فيه المُجتمَع لهيمنة علاقات الاستغلال ، لتطلّ البيروقراطيّة برأسها .
وكان هيجل قد ادّعى أنّ البيروقراطيّة طبقة عالميّة ، تمثل مصالح المُجتمَع وإرادته ، يُضاف إلى ذلك امتحان التأهيل الذي يخضعون إليه ، أمّا ماركس فيعدّ الميزات دحضاً لعلميّة هذه الطبقة ، ودليلاً على انغلاقها ، وهي تراكم القوة والسطوة والتوسّع الدائب ، لقد سعى ماركس إلى فصل المُجتمع المدنيّ والدولة ، فأصبح الوجود الفرديّ هو النوع الإنسانيّ في حالته اليوميّة ، وبذلك انتقد فلسفة الحق عند هيجل من حيث المنهج الفلسفيّ ، أي قلب الذات والموضوع !
ينطلق هيجل من المفهوم العقلانيّ للدولة ، ويحوّل العائلة والمُجتمع المدنيّ إلى مراحل في تطوّر هذا المفهوم ، وفي هذه المرحلة من تطوّره الفكريّ يبدو المُجتمَع المدنيّ بالنسبة إلى ماركس واقعاً مُتغيّراُ ومُتبدّلاً ومُتنوّعاً ، وليس مُصادفة أنّ ماركس في هذه المرحلة ديموقراطيّ راديكالي ، يؤمن بالدولة الديموقراطيّة ، بهذا المعنى تكون أنظمة الدولة مُجرّد شكل سياسيّ لمضمون خارجه ، وقد يصوغ العروسي سؤالاً أن : هل يمكن أن تكون هناك ديموقراطيّة من غير مُجتمَع مدنيّ ، وسيجد صعوبة في الجواب ، إذ أنّ الديموقراطيّة هي الهوية السياسية للمجتمع المدني ، والمُجتمع المدني هو الشكل الاجتماعيّ للدولة ، أي أنّ الديموقراطية مُنتج اجتماعي قبل أن يكون سياسياً ، ويرى الباحث أنّ عزمي بشارة جانب المسألة في هذا ، ذلك أنّ الفرد لا يتحرّك في الفراغ ، بل في مُجتمّع له إحداثيّاته وشبكته المُتغيّرة في الزمان والمكان ، ولكن إلى أي مدى يتلازم المُجتمع والدولة ؟ وما دور الطبيعة الطبقيّة للدولة بحسب ماركس !؟
ميّز ماركس بين أنماط الدولة الاستبداديّة والعبيديّة والإقطاعيّة والرأسمالية ، كما ميز مع أنجلز ولينين بين أشكال الدولة وأشكال الحكم ! وفي التحليل الماركسيّ النهائيّ فإنّ شكل الدولة ودورها يتحددان عبر علاقتها بالطبقة المهيمنة اقتصادياَّ واجتماعياً ، والدولة بتعبير أنجلز هي نتاج مُجتمع في فترة مُعيّنة من تطوّره هذا يعني بأنّ المجتمع تورّط في تناقض مع ذاته ، ما يمنح السلطة ضرورة التخفف من التضارب ، هذا