“إن تقدم حضارات الأمم وثقافاتها إنما يقاس بمدى شيوع التفلسف الصحيح فيها”[1]
ديكارت
نخطئ كثيرا حينما نعتقد أن معيار تقدم الأمم يتقوم بالجانب الإقتصادي أو التكنولوجي، إذ أن هذه المقومات تعد تجليات للتقدم، وليس التقدم في حد ذاته، أما المعيار الحقيقي فهو فكري بالأساس، وهذا ما تكشف عنه المقولة الديكارتية أعلاه، إن مقصود ديكارت من كلمة “شيوع التفلسف” هو انتشار نمط تفكير عقلاني يقوم على تعليق الأحكام الجاهزة والتخلص من المعتقدات الموروثة، وإخضاع كل المعارف ا لتي نتلقاها لغربلة عقلية لاتقبل منها إلا تلك التي اجتازت الإختبار العقلي بنجاح، ومن هنا يحكم ديكارت على كل الأمم التي لا تفكر بطريقة فلسفية بالبقاء في دائرة التخلف مهما بلغ تطورها العلمي وتقدمها التكنولوجي.
وبديهي أن لايعزب عن كل ذهن طالعته هذه المقولة سؤال يفرض نفسه بإلحاح منطوقه هو“هل تخلف المجتمع المغربي فكريا وحضاريا دليل على غياب التفلسف فيه؟” والجواب الطبيعي هو الإيجاب، فالعقلية السائدة بأفكارها الخرافية وتقاليدها العرفية كانت وما تزال تشكل عقبة تعيق سير عجلة التقدم، و ذلك بالرغم من وجود محاولات جادة ومحترمة يقودها مفكرون ورجال إعلام شرفاء جعلوا من بث الفكر التنويري والحداثي مهمتهم الأساسية، بغية زعزعة هذه العقلية الجامدة، وذلك من خلال مقالات فكرية وندوات وترجمات لا تجد لها صدى واسعا في المجتمع، بل أكثر من ذلك أن تطلعاتها وآمالها ما تلبث أن تختفي وراء ركام الأحكام الجاهزة.
قد يقول قائل إن الفلسفة لم تعد ذلك الفكر الدخيل على ثقافتنا، وإنما أصبحت جزءا منها، وقد يستدل على ذلك بوجود الكثير من الأعمال الفلسفية لأعظم الفلاسفة، وأيضا بكثرة طلاب الفلسفة ومدرسيها، لكن هذا القول يكشف عن سذاجة لاتقل عن سذاجة العقلية السائدة، لأن المقصود بشيوع التفلسف ليس النظريات الفلسفية، وإنما هو نمط تفكير حداثي لايكتمل إلا بالثورة على الموروث الثقافي، وتحطيم كل الأبنية المسلماتية التي تعشش في أعماق عقلية هذا المجتمع، والتي تحولت إلى ملكوت تسكنه حقائق لا تقبل النقد والشك، أقل ما توصف به أنها أوهام نتناسى عن وعي وقصد أنها كذلك .
من هنا يجب أن نقر بغياب تفلسف حقيقي في مجتمعنا رغم وجود الفلسفة، وحتى وجود هذه الأخيرة ليس غاية في ذاته، بقدر ما هو وسيلة ثبت نفعها في الصراعات السياسية الرخيصة، وهذا هو ما جعل تأثيرها كنمط تفكير لايظهر في متعلميها ومدرسيها[إلا ما رحم ربي]، فكيف بعامة المجتمع؟ ان السبب في بقاء الفلسفة حبيسة الكتب والمخطوطات دون أن تتعداها إلى العقول وأنماط السلوك، مرده إلى كونها ما تزال تحت وصاية السياسة، حيث يتم توظيفها كإديولوجيا لمواجهة التطرف الديني حينا، ولإضعاف المد اليساري حينا آخر، ويتضح هذا من خلال المد والجزر اللذين تعيشهما الفلسفة في بلادنا، إذ كلما بدأ الخطاب الديني يكتسح الساحة السياسية يتم الدفع بالفلسفة، وكلما تراجع هذا المد وخف دور الفلسفة قل الإهتمام بها أيضا، وكلما طغى الفكراليساري ونما الوعي الراديكالي إلا وتقلصت قيمتها، وكأن دور الفلسفة بات مقتصرا على حفظ التوازنات السياسية التافهة.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على فهم سطحي وخاطئ للفلسفة التي ما يزال البعض يتوهم أنها خطاب يعارض الدين ، ويعتقد البعض الآخر أنها تفرخ اليساريين،ويتغافل الجميع عن الاسباب الحقيقية الكامنة وراء الاختلالات الاجتماعية، المتجسدة في الأوضاع الاقتصادية والمادية المتردية التي يحياها السواد الأعظم من الناس. هذه الأخيرة باتت مادة دسمة لصناع الموت المستغلين للفراغ الروحي والعقلي والقيمي الذي ينخرالمجتمع، ويسيد ثقافة الاستسلام والميوعة والانحلال الخلقي.
هذا الإستعمال الخاطئ للفلسفة هو ما يبعدها عن وظيفتها الحقيقية، والمتجسدة في كونها رسالة إلى الإنسانية ودعوة إلى تحكيم العقل، وينزع عنها طابع النقدية والتساؤلية، فتتحول إلى مجرد مادة تعليمية فاقدة لمحتواها، ويصبح الأهم فيها هو استظهار تصورات الفلاسفة وآرائهم، مما يبخس من قيمة الفلسفة. جميل أن نتعرف على مواقف الفلاسفة، لكن العيب أن تختزل الفلسفة ككل في ذلك، إذ الأهم من دراستها هو تعلم نمط التفكير الفلسفي، الذي يقوم في جوهره على النفي والنقد والشك، والذي سيكون نبراسا نهتدي بنوره في محاولتنا تلمس طريق الحداثة ودروبها الوعرة.
ولما كنت بصدد الحديث عن الحداثة وشروطها والتغيير الممكن، فإني أجد نفسي مضطرا للعودة إلى فيلسوف الأنوار “إيمانويل كانط” وبالضبط إلى سؤاله الكبير، الذي يجب على كل مجتمع بدأ يتطلع إلى الحداثة والتغيير أن يستحضره، وأقصد “سؤال الأنوار”[2]، إن عودتي إلى هذا السؤال ليست اعتباطية، وإنما هي عودة فرضتها طبيعة الشروط التي صيغ فيها هذا السؤال، وهي شروط أقرب ما تكون إلى وضعيتنا الراهنة،من وصاية ورقابة على الفكر، واستغلال للإنسان واستهتار بكرامته، وتعتيم على حقيقة الوضع القائم من خلال رفع شعارات ديماغوجية مضللة.
من هذا المنطلق أعتقد أن مايحتاجه مجتمعنا ،ليس الإنخراط في مشاكل ا لغرب، ومسايرة آخر إنتاجات الموضة، والتهافت على الإهتمام بالمظاهر الخارجية، وإنما يحتاج إلى إعادة النظر في ذاته وعقليته الجامدة والخروج بها من وضعيتها الستاتيكية إلى الوضعية الديناميكية، ولن يتأتى الوصول إلى هذا النشاط والفعالية ما لم يتم نزع غطاء القدسية عن كافة المواضيع، والتساؤل بصددها، وتجاوز كل الخطابات[سواء كانت دينية أو سياسية ] التي ما تزال تجتر معارف وأفكارا تجاوزها التاريخ، وأصبحت في حكم الماضي الذي يجب الإستفادة من أخطائه وليس استهلاكه كما هو، وحينها سنكون قد بدأنا في الخروج من حالة القصور الذاتي الإختياري ، والمتجسد في قبولنا لأفكار الآخرين وعظاتهم دون أدنى نقد أو مساءلة[3]، إنه لمن أكبر العيوب أن نجد ثقافتنا نحن أبناء قرن التطور والثورات العلمية المتواترة، ما زال تحفل بالمعتقدات والخرافات التي وجدنا عليها آباءنا، وتحبل بمزيد منها، وهذه هي الوصاية الحقيقية التي لايفرضها علينا سوى خوفنا من استعمال العقل، وإخضاع كل المسلمات التي نؤمن بها للنقد قصد التحقق منها، لهذا كان شعار الأنوار هو “تجرأ على استعمال عقلك”[4]، إن ما يجب أن نستعيده هوكل عناصرا لرفض والإحتجاج والشك التي تم تخريبها واستلابها من ذواتنا، وأيضا أن نستعمل عقولنا وآليات تفكيرنا.
إنه لما كان العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس[5]، فإن هذا لايعفي أحدا من استعمال عقله وإعمال تفكيره في كل القضايا التي تهمه بعيدا عن الأحكام الجاهزة، لأن من طبيعة العقل أنه ملكة بمقدورها التمييز بين صحيح الأفكار وباطلها، بل إن من شأن اسعمال العقل[مع احترام حريات الآخرين] أن يؤدي إلى شيوع التفلسف والتفكير السليم، وخلق مجتمع تواصلي لا يؤمن بالمسلمات والحقائق المطلقة.
إ ن ما يمكن استخلاصه من الخطاب الفلسفي هو عدم وجود حقيقة واحدة ثابتة، مما يدل على أنه ليس هناك مالك للحقيقة، “من هنا فإن الحقائق هي كل الأفكار والقضايا التي يحصل التوافق بشأنها بعد النقاش والحوار والتواصل الفعال بين الناس في جو الحرية واللاإكراه”[6]، في انتظار أن يتفق المتحاورون على رأي آخر يحل محل الأول، مما يجعل كل الآراء المأخوذ بها حقائق مؤقتة لا أكثر. وهكذا سيكون بمقدورنا كشف النقاب عن أولائك الذين نصبوا أنفسهم حماة للحقائق الدينية وسدنة للهياكل الوهمية، وأيضا أباطرة السياسية المستفيدين من حالة الوصاية على الناس.
يجب ان نقر باننا غير قادرين على مجاراة الغرب في تطوره العلمي وتقدمه التكنولوجي، الذي بدأ يتطلع إلى غزو كواكب أخرى بعد ان استنزف خيرات الأرض، لكن هذا القول لايعني الإستسلام للأمر الواقع ، بل يظل هناك جانب آخر يمكن أن ننطلق منه، بدلا من أن نظل مستهلكين لنتائج هذ التقدم فقط، ويتعلق الأمر بالدرس الإبيستمولوجي المستفاد من الحداثة الغربية.
لقد وصل الغرب إلى ما هو عليه الآن عندما تخلى عن كل الصراعات الدينية والنزعات الطائفية والمعتقدات الخرافية، واحتكم إلى العقل وآمن بأن لا وجود للمطلق والثبات، بل“إن جوهر العالم ككل هو الحركة والصيرورة والتغير” كما يقول الفيلسوف الطبيعي هيراقليطس، كما أن التطور العلمي الحاصل الآن، لم يوطد دعائمه إلا عندما تخلى عن مفاهيم الحتمية والإطلاقية واليقين، وانبنى على مفاهيم النسبية والتاريخية والتقدم والنفي …، هذه المرتكزات التي تشكل أسس العقل المعرفي، ليس الإيمان بها مشروطا بالتقدم التكنولوجي، وإنما هي أمور ذاتية يمكننا القيام بها، من خلال خلق مجتمع تواصلي تنتفي فيه العقلية الوثوقية ، ويقبل بالنقد البناء والرأي المعارض، ما دام أن الواقع مؤسس على النفي وصراع الأضداد، وهذا سيكون أفضل لنا من الإنخراط في عوالم التكنولوجيا والمواصلات المعاصرة، على اعتبار أننا غرباء عنها لم نشارك في بناء صرحها وأسسها. إن سؤال الأنوار غير مقتصر على الغرب، وإنما هو مشروع دائم متجدد قابل لإعادة التأسيس في كل مرة، وبتعبير يورغن هابرماس ، فإن “مشروع الأنوار ما زال غير مكتمل”[7]، وإذا كان الغرب قد دخل حالة الحداثة فإن بابها لم يغلق بعد، وبدلا من أن نتأمل بنيانها ونتعجب من صانعيه، آن الأوان لنطرق بابها.
1- مبادئ الفلسفة، ترجمة :عثمان أمين، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ص. 0 3 :رونيه ديكارت
2- ما هي الأنوار، ترجمة: إسماعيل المصدق، مجلة فكر ونقد، العدد، 4 ، ص.143 : إيمانويل كانط
3- نفس المرجع، ص. 144
4- نفس المرجع، ص. 144
5- رونيه ديكارت، مقالة الطريقة، ترجمة : جميل صليبا، ص. 70
6- نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، نموذج هابرماس، أفريقيا الشرق، ص.931
7- نفس المرجع، ص. 321