"متحدو السلطة": الألتراس كقوة تعيد تعريف العلاقة بين الشارع والدولة
د. أمل حمادة
هناك حقيقة علمية يبدو أنها تغيب في بعض الأحيان عن أذهان المراقبين
وعلماء السياسة، وهي أن الدولة منتج بشري أنتجه الناس لمواجهة احتياجات
معينة، تتعلق بتنظيم حياتهم والحفاظ عليها. ولا يهم في هذه الحال ما
إذا كانت الدولة نشأت بشكل تاريخي أو تعاقدي، بقدر ما يهم تأكيد أنها من
صنع الخبرة الإنسانية، وبالتالي فهي قابلة للتغيير والتطوير، بل
والهدم وإعادة البناء في لحظات تاريخية معينة.
وقد تطورت علاقة الأفراد بالدولة تاريخيا لتتحول من فكرة الرعايا في
العصور الوسطي إلى فكرة المواطنة الكاملة في الدولة الحديثة. وقد
استقر علماء السياسة علي أنه من أهم خصائص الدولة الحديثة، احتكارها
للاستخدام الشرعي للقوة وأدوات القمع، على اعتبار أن أجهزة الدولة
تنوب عن المواطنين في الحفاظ على السلم والأمن للمجتمع ككل، وتتولي
محاسبة الخارجين على القانون.
ومصدر شرعية احتكار القمع هو امتلاك الدولة الحديثة مؤسسات تتمتع
بشرعية شعبية، مصدرها إجراءات انتخابية معينة، وبالتالي من حق الدولة
استخدام القوة ضد من يلجأ إلى الشارع لتغيير هذه الموازين وهذه
الشرعية. فالقاعدة الرئيسية في هذه النظم أن هناك قنوات محددة وشرعية
يمكن للمواطنين المشاركة من خلالها لتوصيل أصواتهم حول الخيارات المختلفة
المطروحة أمامهم، ومن ثم لا يحتاج الأفراد إلى اللجوء إلى الشارع إلا
فيما ندر، وبشكل رمزي، بهدف توصيل مطالب معينة إلى صانعي القرار أو
الضغط عليهم. ولكن شهدت نهايات الستينيات من القرن العشرين ما عرف
وقتذاك بالحركات الاجتماعية، التي لم تر في القنوات التقليدية للمشاركة
سبيلا كافيا للتعبير عن مطالبها وأحلامها، بل وفي بعض الاحيان هوياتها
الثقافية.
حيث شهدت العواصم الكبري في الغرب، وفي مراحل تالية بعض عواصم
الشرق، الظهور العنيف للحركات الطلابية، وجماعات الهيبيز، وجمعيات
الألتراس الرياضية، وتبع ذلك ظهور موسيقي السود والراب. كما ارتبط
تسارع وتيرة سياسات العولمة وما ارتبط بها من سيطرة الرأسمالية
كثقافة، وكمؤسسات سياسية واقتصادية، بتصاعد مواز لما عرف بحركات
مقاومة العولمة، التي كانت مظاهرات سياتل في 1999 أحد أهم وأول
تجلياتها.
وفي هذا السياق، تطورت دراسة الحركات الاجتماعية في العقود
الأخيرة من القرن العشرين، لتشمل أشكالا جديدة من التفاعل بين الدولة
والمواطنين خارج الأطر المؤسسية التقليدية للمشاركة، كالأحزاب،
والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني. وظهر مفهوم الحركات الاجتماعية
الجديدة، أو ما تم تطويره فيما بعد من جانب بعض الدارسين، وعرف باسم
اللاحركات الاجتماعية، والتي اهتمت بالتطورات الحركية والنظرية التي
طالت الحركات الاجتماعية ودراستها. ويري كثير من الدارسين أن هذه
التطورات هي السبب الأول في تفجير الحركة الثورية التي تجتاح المنطقة
العربية.
وقد شهدت الدول العربية، في ضوء المرحلة الثورية التي تمر بها
حاليا، العديد من مظاهر اللاحركات الاجتماعية، والتي في حالات معينة
تتحدى الدولة ضمنيا، وفي حالات أخري تدخل معها في صراع، كما في
حالة الثورة المصرية. ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى تعاظم قوة
الشارع، وتزايد نشاطه على نحو غير مسبوق، خاصة القوى غير التقليدية
فيه، أو القوى من غير الحركات الاجتماعية. فنظرة مدققة على المشهد
الثوري المصري، منذ 25 يناير وحتي الآن، تكشف عن تعقد شديد في
خريطة القوى والتيارات والأحزاب والحركات الاجتماعية التي شاركت في هذا
المشهد، سواء في التحضير، أو المشاركة، أو الانخراط في التفاعلات
التي تلت اللحظة الثورية الأولي.
وقد ظهرت مجموعات جديدة من الشباب غير المسيس وغير المنتمي إلى أي
من الحركات السياسية التقليدية، ومنها الجماعات التي ارتبطت أنشطتها
الأساسية بتشجيع اللعبة الشعبية الأولي في مصر، وهي كرة القدم، وعرفت
بمجموعات الألتراس. وقد ارتبط أداء هذه الجماعات في الشارع وفي
الملاعب المصرية منذ 25 يناير بعدد من القضايا السياسية، خاصة ما
تعلق منها بالعلاقة بين ممارسات جهاز الشرطة والشارع الثوري.وبعيدا عن
المبالغات في قوة أو قدرة أو حتي اهتمام هذه الجماعات بالشأن السياسي،
فإن ظهورها في المشهد السياسي، خاصة في بعض اللحظات التي استدعت
مواجهات عنيفة بين الشارع وقوات الأمن، يستدعي بعض التحليل.
في هذا الإطار، تناقش هذه الورقة مجموعات الألتراس كإحدى القوى
المعبرة عن الحركات الجديدة، مع التركيز على الحالة المصرية، وتحاول
هذه الورقة تحليل أبعاد علاقتها بالمشهد السياسي العام، وعلاقتها
بالدولة وبسياسات الشارع قبل وبعد 25 يناير، كما ستحاول استشراف
مستقبلهم، وفرص تحولهم إلى قوة سياسية.
"ثلاثة" أنماط لعلاقة الدولة بالشارع: قبل الدخول في تحليل مجموعات الألتراس، كقوة جديدة مؤثرة في
سياسات الشارع، هناك حاجة إلى تحليل أنماط العلاقة بين الدولة والشارع
بشكل عام، وموقع الألتراس منها بشكل خاص. ويمكن تحديد ثلاثة أنماط
للعلاقة والشارع والدولة. يتمثل النمط الأول في التعاون، وهو الشكل
الطبيعي للعلاقة بين أجهزة الدولة والشارع، باعتباره أحد ميادين
المجال العام الذي يمارس فيه المواطنون تفاعلاتهم السياسية والاقتصادية
والاجتماعية. حيث تضع أجهزة الدولة القواعد المنظمة للمجال العام،
وللشارع الذي يقع في القلب منه، ويتحرك المواطنون بشكل سلمي في
معظم الأحوال، وفق هذه القواعد المستقرة. وفي حالة الاعتراض على أي
من هذه القواعد، يتم الاحتكام للقواعد القانونية والتشريعية لتغيير هذه
القاعدة أو تلك.
ويتمثل النمط الثاني في الإحلال، ويظهر هذا النمط حينما تنسحب
الدولة من المجال العام، بشكل يسمح للشارع بفرض سياساته وقواعده،
بغض النظر عن القواعد القانونية أو التشريعية التي من المفترض أن
تنظمه. وهذا يتحقق في حالة الدول التي لا تكون راغبة أو قادرة على
القيام بالوظائف الاساسية المنوطة بها، خاصة الوظائف الخدمية، مثل
الصحة والتعليم، وفي بعض الأحيان فرض الأمن في بعض المناطق البعيدة عن
العاصمة، ويعرفها بعض الباحثين بحالة الدولة الفاشلة. ففي هذه
الحالة، يجد الشارع نفسه في موقع مقدم الخدمات من خلال القوى السياسية
والاجتماعية غير الرسمية النشطة فيه، والتي تحل في هذه اللحظة محل
الدولة.
وقد تتطور هذه الحالة لتصل إلى النمط الثالث من أشكال العلاقة بين
الدولة وسياسات الشارع، وهي حالة الصدام . ويختلف هذا النمط عن النمط
الثاني في درجة العنف الجسدي والمعنوي، الذي يميز العلاقة بين مؤسسات
الدولة، خاصة الأجهزة الأمنية، وقوى الشارع .فمن ناحية، تكون
الدولة في هذه الحالة شكلا من أشكال الدول الفاشلة، ولكنها لا تستطيع
القبول بعدم فرض سيطرتها على الشارع، وإن قبلت بقيام الشارع بتقديم
الخدمات التي تعجز هي عن تقديمها. ومن ناحية أخري، يري الشارع، من
خلال القوى الفاعلة فيه، أنه بحكم قربه من الجماهير وقدرته على تقديم
الخدمات، يمتلك عناصر قوة تمكنه من الضغط لإعادة صياغة العلاقة مع
الدولة لصالحه، ولصالح القوى السياسية، والقوى السياسية - الدينية،
والقوى الاجتماعية التي يمثلها.وهذه الحالة الصراعية قد تكون لها
تجليات إثنية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو حتي أمنية، ويمكن
تلمسها في الواقع العربي بشكل عام خلال السنوات الاخيرة، خاصة في
اللحظات الثورية التي شهدها عالمنا العربي في عام 2011.
وفي هذا السياق، يمكننا دراسة جماعات الألتراس كحركات اجتماعية،
قد تحتفظ بالأنماط الثلاثة من العلاقة بين الدولة وسياسات الشارع، مع
ملاحظة أن نمط الصدام والصراع هو النمط المميز لعلاقاتها مع الدولة،
خلال الفترة الحالية ، خاصة في حالة مصر التي ستهتم بها هذه الورقة.
الألتراس .. التعريف والسمات: يشير مفهوم الالتراUltra إلى الشيء الفائق والزائد عن الحد،
وكان تقليديا يستخدم لوصف مناصري قضية معينة بشكل يفوق ولاء أصحاب
القضية الأصليين لها، ثم انتقل المفهوم إلى مجال الرياضة، حيث استخدم
لوصف مشجعي ناد معين. ونميز في هذا الإطار بين الألترا والألتراس
Ultra and Ultras حيث إن الألتراس كمفهوم، يستخدم في الأدبيات لوصف
الجماعات من المشجعين المتشددين الذين تقترب أطرهم الفكرية والحركية من
الحركات الفاشية التي ظهرت وسادت في أوروبا في القرن العشرين.
ويختلف الدارسون في تحديد تاريخ ظهور حركات الألترا أو الألتراس في
أوروبا، باعتبارها المهد الأول لها. فبينما يرد البعض تاريخ الظاهرة
إلى العقود الأولي من القرن العشرين في المجر، يري آخرون أنها ترتبط
بالستينيات مع تبلور الحركة في إيطاليا، والتي يؤكد البعض محورية
دورها في تبلور حركة الألتراس وتصاعد الاهتمام بها.
ويمكن القول إن الاهتمام بكرة القدم، كواحدة من أهم الألعاب شعبية
في العالم، ووجود عدد من المشجعين المخلصين للعبة أو لنواد معينة، هو
قديم قدم اللعبة نفسها. فخبراء كرة القدم والمهتمون بها عادة ما كانوا
يرصدون عددا من المشجعين الذين ارتبطت اسماؤهم بفرق أو بلاعبين معينين،
أو الذين عملوا على تشجيع فرقهم بشكل دائم ومستمر، بل وحتي السفر معهم
إلى أماكن إقامة المباريات الخاصة بهم.
ويمكن تحديد عدد من السمات الرئيسية التي تميز جماعات الألتراس عن
غيرهم من المشجعين العاديين. تتمثل السمة الأولي في ولائها غير
المشروط للنادي، بغض النظر عن نتائج الفريق أو أدائه. وتتمثل السمة
الثانية في استقلاليتها الكاملة، التنظيمية والمالية، عن مجالس إدارات
النوادي وروابط التشجيع التقليدية، والتي كانت تخضع لعدد من التوازنات
الاقتصادية والسياسية داخل النوادي لصالح لاعب أو عضو مجلس إدارة. كما
تعتمد جماعات الألتراس على تبرعات الأعضاء لتغطية المصروفات المطلوبة.
وتتعلق السمة الثالثة بالتشكيل العمري لهذه الجماعات. فمعظم أعمار
أفراد الألتراس تقع فيما بين 16و25 عاما، في حين أن جمهور المشجعين
التقليدي يتسع ليضم فئات عمرية تصل إلى الستين، كما أن مجموعات
التشجيع النشطة قد يصل متوسط أعمار أفرادها إلى الأربعين.وتنصرف السمة
الرابعة إلى أن حركة الألتراس ارتبطت بشكل عام بموقع جغرافي محدد من
الاستادات الرياضية، كأن تكون خلف المرمي، نتيجة انخفاض أسعار التذاكر
في هذا الموقع بالمقارنة بغيرها من المواقع في الاستاد. كما ارتبطت
بسلوكيات معينة ترتبط بالتشجيع الدائم والمستمر للفريق طوال مدة
المباراة، دون الاهتمام بالمشاهدة الفعلية لأحداث المباراة.
وتتعلق السمة الخامسة بأنه لا يمكن فهم تطور حركة الألتراس دون فهم
السياق السياسي المصاحب. فعلى سبيل المثال، لا يمكن فهم تطور
الألتراس في أوروبا دون فهم التطورات السياسية التي سادت فيها، بدءا من
الستينيات، والتي ارتبطت بما أطلق عليه البعض موت السياسة، أو
التطورات السياسية التي ارتبطت بانهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينات،
وهو ما عرف بموت الأيديولوجيا. فهذه التطورات خلفت قطاعات عريضة من
الشباب خارج الأطر التقليدية للمشاركة، كالأحزاب، والنقابات،
ومنظمات المجتمع المدني، وذلك في الوقت نفسه الذي شهد تصاعد السياسات
الرأسمالية وأزمات المجتمعات الحداثية.
وتتعلق السمة السادسة بأن السمة الغالبة لجماعات الألتراس هي أنها
جماعات لا سياسية. فمن ناحية، لا تتبني هذه الجماعات أيديولوجية حزبية
معينة، أو تنتمي لأحزاب بعينها. ومن ناحية أخري، تصور جماعات
الألتراس كلا من أجهزة الأمن ووسائل الإعلام على أنهما العدو الأول لها.
فخبرة التفاعل مع أفراد الأمن حملت دائما ذكريات عنيفة ومحاولات من جانب
الأمن للسيطرة على تحركات الألتراس وتجمعاتهم.
كما أن جماعات الألتراس تنظر إلى وسائل الاعلام على أنها الحليف
التقليدي والطبيعي لرموز صناعة لعبة كرة القدم، وتغليب الأفكار
الرأسمالية في إدارتها، وهو ما يراه الألتراس من أهم المثالب التي
ظهرت وأثرت في اللعبة الشعبية الأولي في العالم. كذلك، تتعامل وسائل
الإعلام مع أعضاء الألتراس على اعتبار أنهم فوضويون، وأنهم السبب في
كثير من حالات العنف في الملاعب بين المشجعين، وفي الوقت نفسه ترى في
تغطية أخبارهم وتحركاتهم مادة صحفية وإعلامية دسمة.
وهذا الانفصال بين القوى السياسية والألتراس لا يعني غياب اهتمام
الألتراس بالقضايا السياسية أو بالشأن العام. فعلى سبيل المثال، رفعت
بعض تنظيمات الألتراس الإيطالي بعض الشعارات حول رفضهم للمشاركة في الحرب
على العراق.
الألتراس في مصر .. صدام الشارع مع الدولة ؟ يرجع أول ظهور للألتراس في العالم العربي إلى التسعينات من القرن
العشرين في منطقة شمال إفريقيا، ويري البعض أن ليبيا هي أول دولة ظهر
فيها الألتراس. وقد تأخر ظهور الألتراس المصري إلى عام 2007? حين
تشكل الألتراس الأهلاوي، والألتراس الوايت نايتس. وبالرغم من قلة
الدراسات أو ندرتها عن الألتراس في مصر، فإنه يشترك في العديد من
السمات مع تجمعات الألتراس في العالم والتي سبق مناقشتها.
ارتبط تشكل الألتراس في مصر خلال 2007 بالسياق السياسي المصري.
فخلال هذا العام، حاول الرئيس المخلوع تمرير حزمة من التعديلات
الدستورية، كان ظاهرها إضفاء بعض السمات الديمقراطية على النظام دون
جوهر حقيقي، وذلك في الوقت الذي خلت فيه الساحة السياسية من أي قوى
حقيقية تستطيع اجتذاب الأعداد المتزايدة من الشباب المتعلم الذي يبحث عن
فرصة حقيقية للمشاركة، حيث لم يكن مقتنعا بأي من التيارات الموجودة
على الساحة. كما لم تشكل الحركات الاجتماعية، مثل حركة كفاية التي
نشأت منذ 2004? ملاذا لهم، حيث تلخصت مطالب كفاية في رفض مشروع توريث
الحكم إلى جمال مبارك، دون أن تستطيع بلورة بدائل سياسية وقيادية
للجماهير ، مما أثر في نهاية الأمر في قدرة الحركة على التجذر في
الشارع.
كما لم تكن العلاقة بين الألتراس، بمختلف انتماءاته الكروية،
وأجهزة الأمن ووسائل الإعلام علاقة إيجابية، على الرغم من أن النظام
السياسي قد استفاد من وجود الألتراس في تحقيق أجندات تخصه، حيث استطاع
استخدام كرة القدم والمعارك المرتبطة بها، كتلك الخاصة باتحاد كرة القدم
والفساد، وبالتنافس بين الفرق، وبالشغب في الملاعب، وغيرها من
القضايا، في خلق أجندة إعلامية تصرف المواطنين، وتستهلك طاقاتهم خارج
المجال السياسي، وإن بقيت في مجال الشأن العام.
فعلى سبيل المثال، أديرت مواجهات على صفحات الجرائد وشاشات القنوات
الفضائية بين أندية مصرية، وأخري بين المنتخب المصري ونظائره من الفرق
العربية. كما استخدم ولاء أعضاء الألتراس لفرقهم في تصعيد الأزمات
الثنائية بين الدول، وفي إدارة أزمة مثل أزمة مباراة مصر والجزائر في
تصفيات كأس العالم 2009.. وفي الوقت نفسه، هاجمت العديد من وسائل
الإعلام جماعات الألتراس، ووصفتها بالجماعات الداعمة للفوضي، والتي
تخالف روح التشجيع الحقيقية في الملاعب.
كما تكررت المواجهات بين جماعتي الألتراس الوايت نايتس والألتراس
الأهلاوي، وقوات الأمن، سواء داخل الملاعب أو خارجها، بسبب إصرار
الأمن على فرض السيطرة على هذه الجماعات، ورفضها لدخول عديد من الأدوات
التي يستخدمها أفراد الألتراس في التشجيع، كالأعلام، والدفوف،
والشماريخ، واللافتات. وكان يترتب علي هذه المواجهات القبض على عدد
من شباب الألتراس، والدخول في جولة من المفاوضات والضغط بغرض الإفراج عن
هؤلاء الشباب تحججا بصغر سنهم، وقلة خبرتهم.
وقد تزايد في الشهور التالية على انفجار اللحظة الثورية الأولي في
25 يناير دور الألتراس في المواجهات مع قوات الأمن، وهو الدور الذي
قوبل بردود فعل متباينة. فمن ناحية الإعلام الرسمي، سواء الرياضي أو
السياسي، نظر لأعضاء الألتراس على أنهم دعاة فوضي، وأن التسامح مع
سلوكياتهم في مواجهة قوات الأمن إنما هو أمر يهدد هيبة الدولة، بل
ويهدد استمرار الدولة نفسها.
أما من ناحية الشارع الثوري، فقد نظر لأعضاء الألتراس على أنهم خط
الدفاع الفعال في صراع الشارع مع قوات الأمن. وقد ظهر هذا الدور بداية
منذ 28 يناير وما جري فيه من مواجهات عنيفة في شارع قصر النيل وداخل
ميدان التحرير، وبعدها فيما عرف بموقعة الجمل، ثم ما تبع ذلك من
اعتداء على أهالي الشهداء والمصابين أمام جلسات محاكمة مبارك في
أكاديمية الشرطة، ثم أحداث السفارة الإسرائيلية، ثم الجولة الاخيرة
من المواجهات في ميدان التحرير في نوفمبر الماضي، أو ما عرف بمعركة محمد
محمود.
دور سياسي للألتراس ؟ اتجه البعض للمبالغة في الدور السياسي الذي من الممكن أن تلعبه
جماعات الألتراس في مصر، باعتبارهم جماعات ممثلة لسياسات وقوى في
الشارع، في مواجهة القوى السياسية التقليدية، وفي مواجهة التيارات
الدينية الصاعدة. ولكن التعامل مع هذه المسألة يتطلب الحذر، وذلك
لعدة عوامل.
يتعلق العامل الأول بأن الألتراس المصري بمختلف فصائله يصر على
الطابع اللاسياسي لحركته، وعلى التزامه الدائم بمواجهة كل من وسائل
الإعلام وقوات الأمن في الوقت نفسه. وهذه المواجهة لا ترتكن إلى أسباب
سياسية أو أيديولوجية بالأساس، ولكن إلى خلفية الصراع بين الألتراس
كجماعة ترى في نفسها المدافع الأول عن الرياضة الشعبية، وعن رفض تحولها
لصناعة وسلعة يستفيد منها الأندية واللاعبون على حساب جمهور الكرة
الحقيقي، في مواجهة وسائل إعلام تعد هي الذراع الأولي لهذه الصناعة،
وفي مواجهة قوات أمن ترغب في فرض هيمنة الدولة على قوة ترى في فوضويتها
مصدر قوتها وإلهامها الأول.
ويتعلق العامل الثاني بأن ما يبدو ظاهريا، حتي الآن، أن النظام
الذي سقط رأسه عبر 18 يوما من التظاهرات والاعتصامات والدعوات إلى
العصيان المدني، مع تنامي الصراع بين قوى الشارع والدولة، ممثلة في
الثوار بتنوعاتهم والألتراس، يحاول الإبقاء على علاقات وتوازنات القوى
التقليدية التي سادت منذ 1952? وتجذرت خلال الأعوام الثلاثين الماضية،
مع التضحية ببعض رموز هذا النظام، من خلال إخضاعهم لمحاكمات يدور
حولها كثير من الشك. وبالتزامن مع ذلك، يتأكد يوميا عجز النخبة
السياسية التقليدية المعارضة، والقوى السياسية التقليدية، عن إدارة
هذا الصراع بين الشارع والدولة، بشكل يضمن إعادة رسم العلاقة بين
الشارع والدولة، لصالح الحفاظ على كيان الاثنين، في إطار نمط علاقات
التعاون السابق الإشارة إليه.
وفي هذا الإطار، يمكن فهم سلوكيات جماعات الألتراس التي تظهر كمخلص
للجماهير، في مواجهاتها غير المتكافئة مع قوات الأمن في حالات معينة،
وفي حالات أخري تقترب من القوى السياسية التقليدية والتيارات الدينية،
التي لا ترغب في معظم الحالات في إعادة رسم العلاقة بين الشارع والدولة،
بل تهدف إلى مجرد تهذيب الشكل القديم للعلاقة بينهما.
ويمكن القول إن جماعات الألتراس، بحكم تكوينها وقناعاتها الفلسفية،
يمكنها هدم الأطر القديمة على المستوي الفكري، وتقديم نوع من الحماية
للفئات الأضعف في مواجهاتها مع قوات الأمن، ولكنها غير قادرة على
تقديم بدائل بناءة لرسم العلاقات الجديدة بين الدولة والشارع.وبالتالي،
قد لا تكون قادرة على التحول إلى قوة سياسية، ولكنها قد تكون مفيدة
لقوى سياسية موجودة، أو ستنشأ، تستطيع استيعاب المطالب السياسية
والاقتصادية والاجتماعية للشارع، والتعبير عنه بشكل حقيقي. فقوة
الألتراس بالنسبة لها ستكون مفيدة، لاعتمادها على العدد والتنظيم غير
الهيراركي، وهي عناصر مهمة في مواجهة تصلب وتسلط أي نظام سياسي.
إن قدرة المجتمع والنظام السياسي المصري على تطوير بدائل فعالة
لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والشارع والقوى السياسية والاجتماعية
والاقتصادية الموجودة فيه، وأن تكون هذه البدائل قادرة على اجتذاب أعداد
من الشباب المتحمس والمتعطش للمشاركة في صنع مستقبله، من الممكن أن تقلل
من حالة الزخم والاحتقان المرتبط بالألتراس، دون أن يعني هذا انتهاء
كيان الألتراس الذي سيظل، حسبما يذكر أحد الكتاب "ويبقي منظر
الألتراسي المبتهج الصغير، وهو يشعل شمروخه ويردد أناشيده، أحد
مصادر الإلهام في مجتمع يصبح ويمسي على رتابة اللابهجة، وإكسسوارات
الأمان في حضن صاحب الجلالة المحترم المألوف" .