ريمي براغ فيلسوف وأستاذ مبرّز للفلسفة الوسيطة والعربية في جامعة باريس الأولى وأستاذ فلسفة الأديان الأوروبية في جامعة لودفينغ ماكسيميليون بميونيخ. من مؤلفاته “أوروبا، الطريق الروماني” وأخيرا أصدر “قانون الربّ” و“عن إله المسيحيين”.
تتحدّث الكتب المقدسة الثلاثة عن أصل العالم والإنسان دون أدنى فصل بينهما. وفي الحقيقة فقصصها حول الأصول لا تنفع في شيء في وصف العالم، فكيف ستفيد في تفسيره؟ ببساطة كان العلم - كما نفهمه منذ ديمقريطس وأرسطو وبالأخص منذ غاليليو ونيوتن - غير موجود أصلا في المرحلة التي حُرّرت فيها الحكايات التوراتية. أما في المرحلة التي أُلِّف فيها القرآن (القرن السابع والثامن.م.) فقد كان العلم اليوناني قائما ولكنه لم يكن معروفا في بلاد العرب.
ومن المغالطة أن نقارن بين الوصف العام الساذج للعالم الذي جاءت به الكتب المقدسة وصياغة العالم رياضيا في قوانين فيزيائية. ومن جهة أخرى فعلى سذاجة تلك القصص، فإنها تقدم ما لا ترغب ولا تستطيع تقديمه أدقّ العلوم ألا وهو ذلك التفسير لمكانة الإنسان الذي يفضي إلى معنى أخلاقيّ. كان هدف تلك الأديان براغماتيا عمليا قبل كل شيء ولذلك كان تركيزها منصبّا على الإنسان.
و ليس لأن الإنسان كان في حدّ ذاته أكثر مركزية وإنما لأن المشاكل الملموسة التي نطرحها لا تتعلق بما يجب أن تفعله الملائكة أو ما يفعل سكان المريخ من أجل الحصول على خلاصهم، ولكن ما ينبغي أن نفعله نحن بالضبط.
تعود النزعة المركزية-البشرية للأديان التي كثيرا ما تؤاخذ عليها الكتب المقدسة إلى نيتها في تحقيق هدف عملي : المسألة الأساسية بالنسبة لها ليست معرفة كيفية تكوين العالم ولا كيف نشأ وإنما المسألة هي في معنى حضور الإنسان في هذا العالم. وهو ما كان قد تنبّه إليه جيدا جون فيلوبون في إسكندرية بداية القرن السادس الميلادي (“خلق العالم” 1،2) أو إذا أردنا أن نستعمل الكلمات الأنيقة التي استعملها غاليليو في وقت متأخّر جدّا : لا تبحث التوراة أن تقول كيف هو حال السماء ولكن كيف نذهب إلى السماء(رسالة إلى كريستين اللورين،1615).
العالم ركح كان من الضروري أن يبنى في لحظة ما وفي مكان ما حسب الكتب المقدسة، ولكن الأهم هو الدراما التي تلعب فوقه.
التوراة العبرانية:
تبدأ التوراة العبرانية بقصتين مهيبتين، غذّتا خلال قرون تفكير الفلاسفة وحذق الشرّاح ومخيّلة الكتاب والفنانين. وهما مختلفتان في أسلوبهما وفي مرحلة كتابتهما وبيئة أصلهما.
للقصة الأولى (سفر التكوين،1-2) بناء هندسيّ في غاية الذكاء إذ تحت مظهر تكراريّ تبدي بروز عالم يتعقد من انفصال إلى آخر : نور/ظلمات، مياة تحت/ فوق السماء، جفاف/ رطوبة،أيام عادية/ أعياد، نبات/ ثمار، رجل/امرأة الخ. وهناك تفاصيل كثيرة ذات ثقل كبير: الكواكب مجرّد أثاث، مصابيح وضعت لتُنير لا أكثر(1، 14-18). فلا داعي لعبادتها إذن. والوحوش البحرية هي أيضا من مخلوقات الربّ(1،21). فلا مجال للحديث عن إله شرِّ إذن، فالكون جيّد في تفاصيله وجيّد جدّا في بنائه العام (1، 31). وفي النهاية فإنّ الإنسان هو صورة الربّ وشبيهه. وفي اليوم السابع يستريح الربّ(2،2-3)، أو بالأحرى يترك الخلق يستريح، بل يتركه حرّا بعد أن أعطاه كلّ ما يلزم. لا يهمل الربّ شيئا، وإنما يترك المجال مفتوحا لكلّ شيء حسب طبيعته. وهو ما يسمّى بـ“الحرية” لدى كائن يتمتع بالعقل كالإنسان.
أما القصة الثانية (سفر التكوين، 2-3) فإنها تشرح كيف استُلّت المرأة من ضلع الرجل وكيف هي ندّ له إذن.(2،18-24) وكيف أعطى الإنسان كل الحيوانات أسماء كان قد قدمها الله له (2،18-24). وتحكي القصة في النهاية كيف لم يطع الزوجان اللذان اسكنهما الربّ حديقة اللذات حينما حذّرهما من الثمرة الخطيرة فاضطرّا إلى المغادرة والشروع في العمل من أجل توفير لقمة العيش.
ومن جهة أخرى تتضمن التوراة إشارات إلى النشأة : بالكلمة خلق العالم (زبور 33،6) وهو مخلوق من أجل الكائن الناطق، الإنسان. وبذلك فهو معقول، أي مدرك بالعقل لا بالحواس. وكما أنّ الخلق ليس سديما وفوضى و إنما هو نظام محكم فكذلك لا يتكلم الربّ عبر وجد مبهم بل في لغة شفّافة واضحة) أشعياء،45،19-20). يتحمّس مؤلف المزامير ولكنه يقلل في نفس الوقت من مكانة الإنسان، “أقل بقليل من”ربّ“يكاد يكون [ملاكا بدون شك]” (زبور8، 6).
العهد الجديد
لا تقدم المسيحية أية إضافة حاسمة إلى قصص الخلق الموجودة سابقا في التوراة العبرانية، ما عدا التأكيد الشديد على أنّ الربّ قد خلق العالم انطلاقا من عدم. وكان النص العبراني قد بقي غامضا وربما كان ينبغي أن نفهم الكلمات الأولى هكذا: “وحينما بدأ الربّ في خلق السماء والأرض، كانت الأرض مهجورة خالية…” وهو ما لا يستبعد أنّ الربّ كان قد تمكّن من صنع العالم بتنظيمه لمادة أولية كانت موجودة قبلا. وقد أزالت السبعونية، ترجمة اليونانيين للتوراة في القرن الثالث قبل الميلاد كلّ لبس: “في البدء كان الربّ…”
تفكر المسيحية في المعنى العميق لبعض التفاصيل التي تركتها القصص التوراتية مضمرة والتي تساءل حولها المعلقون اليهود أنفسهم: “يكفي أن يتكلم الربّ لتكون الأشياء”. وهذا يعني أن في كلامه قدرات عظيمة. كلام أكبر من الكلمات المتبادلة بين البشر، إنه الكلمة ذاتها. وسيستخدم هذا المفهوم لاحقا في التفكير في طبيعة المسيح ابتداء من الإنجيل الرابع.
تقول التوراة أن الإنسان قد خُلق على صورة الربّ. فما هي تلك الصورة؟ تجدها “الرسالة إلى العبرانيين” في الابن الذي تكلم من خلاله الربّ(العبرانيون1، 3). أما فيما يتعلق بأصل العالم فقد قام القديس بولس بقراءة دقيقة للقصة الثانية للخلق وللسقوط، ووجد مفتاح التاريخ الإنساني والحاجة إلى الخلاص: فمن خلال آدم دخل الموت إلى العالم (الروم ،5،12-21).
القرآن :
يستعيد كتاب الإسلام المقدس فكرة الخلق التوراتية التي تقول بالأمر الإلهي إذ يكفي أن يقول الله “كن” وكلّ ما يريده أن يكون –عالم، إنسان أو وقائع– سيكون. بيد أن القرآن أكثر تعيينا في بنية العالم المخلوق: يذكر في مرات عدة سبع سموات وسبع أراض ( 14،71 وفي عدة مواضع من القرآن) كما يقدم إشارات عن ترتيب عملية الخلق: يبدو أن الأرض قد خلقت قبل السماء (41،11). لا يتحدث القرآن عن استراحة اليوم السابع إذ يرى فكرة إله يتعب ويكون محتاجا للنوم فكرة غير معقولة تماما. لقد ورث الإسلام من ذلك نزعة تفضيل فكرة مفادها أن العالم متكون من عناصر منفصلة وأنّ الله لا يضمن المحافظة على وجود هذا العالم فحسب بل في إعادة خلقه في كل لحظة. أعلن الله للملائكة نيته في جعل “خليفة” في الأرض في مناسبتين (2،30 و4،165). و لكن ليس “ممثلا” لله و إنما هو خليفة للملائكة ومن هنا إذن نفهم تمردها. فليس الإنسان هو الذي يسمي الأشياء بل الله هو الذي يوحي له بالأسماء والتي أخفاها في المقابل عن الملائكة (2،21). لا يملّ القرآن من الحديث عن الجميل الذي فعله الله تجاه الإنسان بوضع تحت تصرفه كل أنواع الحيوانات ليستفيد من لحمها وجلدها ووبرها وحليبها وعسلها، وما يؤكل من النباتات.
ما قبل وما بعد الخلق!
بقي “العهد القديم” صامتا فيما يتعلق بمرحلة ما قبل الخلق بينما أدان حكماء التلمود كل من اهتم بمثل هذه المسائل. أما “العهد الجديد” والقرآن فيغامران في العودة إلى الخلف بحثا عن الأصل المبدئي المطلق ولكن كل منهما بأسلوبه الخاص.
في العهد الجديد يضع القديس يوحنا نفسه في مجال أسمى وأسبق. “فوق السموات” و“قبل تأسيس العالم” قد باركنا الربّ واستدعانا (أفسس،1- 4). ولكن إجابة الإنسان لم تكن سابقة عن الخلق، فبالعكس تماما هي منتظرة في مسار التاريخ: التاريخ هو الأجلّ الذي يعطيه الربّ للإنسان كي تتمكّن إجابته من صياغة نفسها كقرار حرّ.
يحكي القرآن عن مشهد حدث في “ما قبل”مطلق، يستخرج فيه الله من أحشاء آدم كل ما يحدث له في مستقبله ويطلب منه الاعتراف بولايته. ويشهد كل الناس بذلك. فإجابة الإنسان هي إذن أيضا معطاة قبل خلق العالم. وبالتالي وإن كان الإسلام هو الوحي الأخير من الناحية الكرونولوجية، فإنه يعتبر نفسه كإعادة لحالة أشياء أولية نسيت أو شوّهت وينبغي إعادتها إلى نقائها الأصلي.