ليس التنوير “عقيدة” أو إيديولوجيا“يؤمن بها الإنسان بهذه الصفة أو يكفر بها. بل التنوير هو”حالة" تاريخية أدركها الإنسان وانخرط فيها بعد طول معاناة وتطوّر تاريخيين.
إنها حالة بلوغ الإنسان رشده ووعيه بمسؤولية ما يفعله وما يفكّر فيه: فلا سلطة إلا سلطة العقل ولا رقابة إلا رقابة العقل على ذاته!
وهكذا انخرط الإنسان في مغامرة التحديث والحداثة، وأبدع أعمق المفاهيم و أنبل القيم.
ولكنّ الواقع عنيد ولا يطاوع بسرعة.بل إنه قد لا يطاوع بالكامل أبدا.كما أنّ العقل البشريّ نفسه إنمّا يطوّر نفسه بنفسه...بطيئا...متعثرا.ومن هنا حدوث تعثّرات بل ومآسي في مسيرة إدراك الإنسانية لكامل ومطلق “الحرية والعقلانية والتقدم” [وهذا هو مضمون التنوير بامتياز].
لكنّ “التعثّر” الكبير و“المأساة” العظمى يكمنان في شيء خفيّ ومراوغ: بداية تشكيك العقل في العقل لصالح قوى “أسطورية” و“غيبية” قديمة/جديدة. وبالتالي إعادة إنتاج “لا عقلانية” قديمة/جديدة تحت مسمّيات “حداثية” و“ما بعد حداثبة” مزعومة. وهذا ، على ما يبدو، أخطر من كلّ دعوة سلفية قديمة أو جديدة تعادي العقل والعقلانية وتسعى إلى فرض رقابة فظة وفجة في هذا الصدد.
بتعبير آخر: إنّ المسألة-هنا - لا تتعلق بإقرار نوع من “المطلقية” للعقل مقابل “نسبية” ما سواه مثلا.ف“نقد” العقل –على غرار ما دشّنه وافتتحه الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط- هو –وبمعنى من المعاني- لجظة افتتاح وتدشين عصر التنوير الإنساني العظيم.والمسألة بالتالي تكمن في خصوصية هذه اللحظة النقدية وضرورة بقاء روحها حية ومتوهجة...أي بقاء واستمرار العقل “ناقدا” و“منتقدا” للعقل...وهذه هي “الرقابة” الوحيدة المقبولة والتي هي في آخر المطاف نوع من “تنوير التنوير” المستمر والدائم.