أخي العربي المسلم، إذا كانت الداروينية علما بمعنى منظومة من أجل الوصول إلى إجابات وليس مجموعة من الإجابات النهائية، فماذا تقول حتى تزعجك وتضعك في صفّ أعدائك الإنجيليين الأمريكان، وعلى رأسهم الرئيس السابق بوش؟ لماذا تقبّلها الكاثوليك، إخوانك في التوحيد؟ ألم يؤكّد البابا يوحنا بولس في 1996 ما قالته الكنيسة في الخمسينات أنّ الارتقاء نهج علميّ صحيح بالنسبة لتطوّر الإنسان. ألا تفكّر كنيسة انكلترا في الاعتذار لداروين عمّا لاقاه من الكنائس المسيحية من إجحاف لمدّة طويلة؟
هل لأنّهم وصلوا إلى اقتناع بفصل الإيمان عن العلم فصلا نهائيا بينما لا زلت أنت تمزج بين إيمانك والعلم؟ هل لأنهم أصبحوا يرون في الدين بحثا عن طمأنينة ما بينما تبحث أنت عن الحقيقة في الدين؟
أعرف أنّك ستهزأ من رسالتي لأنّك مطعّمٌ ضدّ العلم في الوقت الحاضر، لكنّني لا أفقد الأمل في أن تتغلّب فيك قوّة المنطق على كلّ القوى الأخرى، في يوم من الأيام. دعني أقل لك بمناسبة مرور 150 سنة على صدور كتاب داروين أنّه لم يفعل من خلال تجاربه وملاحظاته الدقيقة سوى ردّ تنوّع الكائنات إلى تغيّرات بطيئة تحدث للعضويات مع مرور الزمن، واستنتاج أنّ الأنواع الحالية مترابطة فيما بينها وتجمعها أصول واحدة. وهي فكرة أصبحت اليوم فرضية علمية لا يمكن قيام كثير من العلوم دونها، إذ باتت نظرة الإنسان المعاصر إلى نفسه مستحيلة بعيدا عن فكرة التطوّر الداروينية. فإلى متى ترفض البداهة؟ لا تدع رؤساءك وملوكك وأمراءك ومن يفتون لك يخدعونك ويؤلّبونك على العلم الحديث، ويحرمونك من نِعَمِ المعرفة المعاصرة. أولائك الذين يهرولون نحو مستشفيات أوروبا وأمريكا عند أبسط ضربة زكام ليعالجوا على أيدي من يؤمنون بنظرية داروين. أعرف أنّه من الصعوبة أن تتحمل فكرة تزعم أنك لست أنت سيّد الكائنات الحيّة ولا أنبلها. ولا تريد أن يصل إلى أسماعك أنّ الحيوانات الأخرى تشاركك نفس الأسلاف. ربما هي أوجع ضربة لنرجسيتك، وإن سبقتها ولحقتها ضربات أخرى لا تقلّ إيلاما كضربة كوبرنيك التي جعلتك تعي أنّك لست مركزا لأيّ شيء وضربة فرويد التي أعادت النظر في وعيك باكتشاف لاوعيك.
بغضّ النّظر عن التأويلات الخاطئة الكثيرة للنظرية، والتشويهات التي يمكن أن يلحقها بها علماء دينك وغيرهم من الروافض، مرّة عن قصد وأخرى عن جهل، ما هو أكيد هو أنها تعيد النظر جديا في مُسلّمتين رسّخهما فيك الدّين، الأولى متعلّقة بأصل الكون وما إذا كان له خالقٌ، والثانية تتعلّق بغاية هذا العالم، وما إذا كان وراء هذا الخلق مهندسٌ ما يخطّط لدفع النوع البشريّ نحو الكمال؟
نسفت فكرة التطوّر فكرةَ خلقِ الأنواع الحيّة كلّها دفعة واحدة وفي شكلها الحالي وجعلِ الإنسانِ تتويجا للطبيعة، وبهذا أعادت النظر جذريا في تصوّر طبيعةٍ منظّمةٍ تنظيما مسبقا، وأدخلك صاحب “تدرُّج الإنسان والانتقاء المرتبط بالجنس” في التاريخ الطويل لتطوّر الأنواع معيدا النظر في خلق الإنسان والكون في أبدع تكوين.
“ينحدر الإنسان من القرد”، هكذا اختُزِلت في البداية نظريّة من أعقد النظريات العلمية في تاريخ البشرية، بل ارتعدت فرائسُ كثيرٍ من علماء اللاهوت آنذاك فشكّكوا في الأمر، وطلبوا من الله ألا يكون صحيحا، وتضرّعوا إليه كي لا يصل الخبر إلى الناس إن صحّ. ها هي 150 سنة تمرّ، ولم يصحّ الأمر فحسب بل وصل الخبر إلى الدنيا كلّها وصدّقته الإنسانية جمعاء، ولم تبق سوى أنت متماديا في رفض العلم، إرضاء لتراثك اللاعقلانيّ ومعك بعض المجانين الأمريكان، الذين يريدون تقليدك في طرد داروين من مناهج التعليم واستبدالها بنظرية الخلق المستلّة من سفر التكوين، تلك المسروقة بدورها من الأسطورة البابلية. بالمناسبة، حاول الأستاذ العفيف الأخضر أن يشرح لقرّاء إيلاف “كيف تطوّر القرد إلى إنسان؟”، في مقال من أجمل ما قرأت بالعربية في الموضوع. لكن سرعان ما أحزنتني تعاليق القراء الدالّة على أننا ما زلنا نتخبّط في مستويات عليا من الجهل، وعلى أنّ ثقافة أغلبنا ما زالت قائمة على الخرافات والأساطير الموروثة..
لا تصمد الأصناف الأقوى ولا الأذكى، بل تصمد تلك التي تتكيّف بشكل أفضل مع التغيير، يقول الملعون داروين محقّا في الفصل الخامس من “أصل الأنواع”. فلا أنواع ثابتة ودائمة، ولا غاية محدّدة لها مسبقا، ولا انتصار يرتجى لخرافة “القصد الذكيّ” الإيديولوجية أمام فرضية ’’الانتخاب الطبيعي’’ العلمية.