[1]
شخصياً، لا أرى وُجُوداً بدون صيرورةٍ. لا يمكن فهم ما يجري، دون وَعْيِ هذا التَّدَفُّقِ الدَّائِم الذي جَرَتْ به كينونة الأشياء.
حين أعُودُ للتاريخ، لا أقرأه بالمعنى المُسْتَقِرّ، أي باعتباره أحداثاً ووَقَائِع تَمَّتْ في زَمَنٍ ما، ثُمَّ انْتَهَت. فأنا أنظر إلى هذه الأحداث والوقائع باعتبارها تَصَيُّراً لِما قبلها، وهي أيضاً نَبْضٌ لِما هو تَـالٍ. لا شيء يَتِمُّ أو يحدُثُ إلاَّ بهذا التَّصَيُّر الدَّائم؛ هذا النهر الذي لا يفتأُ يسيرُ، ويُغَيِّر ماءَهُ باستمرار.
[2]
حين تَتِمُّ نظرتُنا للأمور وفق هذا المنظور، أو الوعي بالأحرى، فلا شيء يحظى، في تصوُّرنا، بِأَبَـدٍ ما، أو باستقـرار نهائـيّ. أعني ما يُصبِحُ أو يصيرُ قانوناً، أو قاعدةً لا تقبل التغيير، أو التبديل. كل شيء قابل للحركةِ والتَّمَوُّج، ولاشيء راسخٌ بما في ذلك “الأصول!”.
[3]
يَجُرُّني هذا إلى الحديث عـن أولئك الذين غَيَّروا مجرى الفكر البشريّ. ولعلَّ داروين أحد هؤلاء. فهـو لم يضع وُجُـودَ الإنسان مَوْضِعَ شَكٍّ، وفق ما كانت المُعتقدات الدينية تذهبُ إليه، في تصوُّرها للوجود، بل إنه غَيَّر مجرى الأمور بشكل جذري، وأعاد مجرى الأمور في سياق علمي عقلي، لا يطمئن للقَنَاعات، أو المُعتقدات الدينية، بل يجعـل من الفكـر والنظر آلةَ الإنسان، أو مرآته في النظر إلى نفسه.
فداروين، حين أقْدَمَ على البحث في أصل الإنسان، فهو كان يبحث في أصل وُجُودِهِ هو، أي باعتباره إنساناً غير مُكْتَفٍ بمصير آتٍ من الغيب، أو مُقَدَّرٍ، بصورة، ربما هي أقرب من السِّحر منها إلى الحُدوثِ. فهو في تأمُّله لذاته، لهذا الكائن المُتَّسِمِ بالحركة والفكر، وبما به يمتاز عن غيره من أنواع الموجودات الأخرى، أدْرَكَ أن وُجُوداً، بكل هذه الخصال، ليس وُجُودَ حُدوثٍ بِأَمْرٍ.
لا بُدَّ أن يكون الأمر، وفق ما يفترضُه التصوُّر العلمي للأشياء من وُجُودٍ سابق، وَحُدُوثٍ، لعبت الصيرورة، أو التَّصَيُّر، في حُدوثه دوراً، جعل الأمـور تَخضع لقانون الحركة، و ِما تتَّسِـمُ به من نُمُـوٍّ، أو تطـوُّر أو نُشوءٍ.
[4]
لا أرى في نظرية داروين، في النشوء والارتقاء، نظرية وَضَعت المُعتقدات في حَرَجٍ، أو جعلتها تُواجه مأزقَ فَهْمِها لمعنى الوُجود البشري، أو لِلْخَلْق، بشكل عام، بقدر ما أرى فيها نوعاً من التفكير العلمي، الـذي وَاجَـهَ نفسه أولاً، باختبار قُدرتِـه على وَعْيِ وُجُـوده، وباختبار ذَكائه، في وَعْيِ علاقته بأصله، أي بأوَّل أمْرِه، كوُجودٍ تحقَّقَ وفق قانونٍ، في سياقهِ آلَ وَضْعُ الإنسان إلى ما هو عليه اليوم، لا إلى ذلك الحُدُوث الذي تَمَّ دُفعةً واحدةً وانتهى. أي الحُدوث التَّامّ والنِّهائي، الذي لا يمكن أن يقبل غيره من أشكال الحُدوث الأخرى.
فالمعرفةُ تحدُثُ بالتجديد، لا بالتقليد. نتذكَّر هنا نظرية سُقوط الأجسام التي كان أرسطو جازماً في الفرق بين ثقل الأجسام وسرعة سقوطها، قياساً، طبعاً، بالأجسام الخفيفة. غاليلي لم يَسِر في نفس طريق أرسطو، بل اختار طريق التجريب، ما أكَّد خطأ نظرية أرسطو، التي أصبحت صلاحيتُها مُنْتَهِيَةً، في مقابل صلاحية تصوّر جديد، قام على النظر إلى الأشياء، وفق منظور جديد، لم يقتنع بالمسلمات، أو ما كان بداهَةً، عند مَنْ صدَّقوا أرسطو.
[5]
هذا، في تصوُّري هو جوهر مفهوم الصيرورة. فداروين ليس شخصاً جاء لِيُشَكِّكَ في المعتقدات، أو ليطعنَ فيها، فهو كان يُفكِّر في الصيرورة، في حَرَكِيَة الوُجود، وفي هذا المدى الذي بلغه الإنسان، بما قطعه من أشواط، منذ لحظة انبثاقه، ‘ إلى ما هو عليه من ذكاءٍ، ومُؤهِّلاتٍ، جعلت منه كائناً مُفَكِّراً، مُتَكَلِّماً، شَاكّاً، وجاحِداً أيضاً، كُلَّما دَعَتِ الضرورة للجُحُود.
[6]
إن أهمية داروين اليوم، لا تكمُن في هذا الاتِّجاه الأُحادي الذي يذهب إليه المُعتَقِدون، أي في التعارُض الكُلي بين تصوُّره العلمي، والتصور الديني، بل إن أهميتَه توجد في خروجه من إطار القناعات والمُسلمات، وفي النظـر العلمي، في ما كان من قبـل، يُعتبر أمراً لا يقبل التفكير أو النظر. وهذا في تصوّري، هو ما أتـاح اليوم، وإن بشكل مُضْمَرٍ، أو غيـر مباشـر إعادة قـراءة ما يجـري، واختبار كـل المفاهيـم والتصورات في ضوء ما أصبحت اليوم تُتِيحُه العلوم المختلفة مِنْ إمكاناتٍ للنظر في ما كان يُعتَبَر حقيقةً لا تقبلُ شَكّاً، أو لا يدخُلُها باطِلٌ بالأحرى.
[7]
هذا ما أعْتَبِرُهُ عند داروين، ومَنْ خاضُوا مثله، في المُسلَّمات، وفي الأُسُس، وأعادوا مُساءلتها، وفق ما تقتضيه ضرورة المعرفة الطارئة، أو الحادثة، ووفق ما يقتضيه النظر العقلي، الفكر المُتَحَرِّك اليَقِظ، الذي يَتَّسِمُ بالقلق الدائم، أعني الفكر المُتَرَنِّح الذي لا يسْتَكِين، ولا يطمئن. هذا ما أعمل على خَوْضِه في رؤيتي لِما يجري في مجال عملي، لأنَّ كل استقرار هو تعتيمُ، ومُشاركة في تعميـم المعتقدات، و ترسيخ ثوابتها، أو هو إيمانُ بالتَّسْلِيم، وليس إيماناً بالمعرفة و التأمُّل، أو إعمال النظر، بتعبير ابن عربي.