لا يخلو مجتمع بشريّ راهن من وجود أقلية أو أقليات، مقابل أكثرية وأكثريات. فالحدود الحالية للمجتمعات البشرية، دولا وأوطانا وقوميات ـ وهي ليست نهائية طبعا ـ تشكلت كصيرورة تاريخية طويلة عبر الغزوات والفتوحات والتنقلات الجماعية والقوافل التجارية، القديمة، كما عبر الحروب الاستعمارية في الزمن الحديث، وما رافقها من تجارة رقيق وتهجير قسريّ مع إبادة أو طرد سكان أصليين. أو نتيجة هجرة طوعية بسبب الفقر أو الاضطهاد، أو بحثا عن ظروف بيئية واجتماعية أفضل. ثم أدّى تشابك المصالح الاقتصادية للعالم في الزمن الرأسماليّ الحديث منذ أواخر القرن التاسع عشر مع فتح آفاق جديدة واسعة ومتنوعة للإنسان في شتّى بقاع الأرض، إلى تكثيف هذا النوع من الهجرات الطوعية. لذلك يمكن القول هنا إنّ تعدّد الأقليات وعددها داخل كلّ مجتمع يعود إلى أسباب عديدة أهمّها: كيفية نشوئها وأسباب وجودها.
تذكر الموسوعة العربية على الإنترنيت Arab Encyclopdia أنّ الدراسات تقدر “وجود 223 جماعة إثنية ـ أقلية كبيرة في العالم مجموع أفرادها يقرب من900 مليون نسمة، تخضع للتمييز في المعاملة والتصنيف الدوني بأسلوب أو بآخر. ولا تشمل هذه الدراسات الأقليات والجماعات الإثنية المتوسطة والصغيرة في عقد التسعينات، وهي كثيرة لانعدام الأقاليم والبلدان والدول ذات الانسجام والتجانس الإثني”.
لذلك تذكر بعض المصادر الأخرى أنّ الدراسات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان تقدّر “وجود ما يقارب 8000 أقلية دينية وقومية كبيرة وصغيرة في العالم يتجاوز مجموع أفرادها المليار نسمة تخضع للتمييز والاضطهاد والقتل بشكل مستمرّ من قبل الأكثرية”، كما ورد في مقال على موقع (الحوار المتمدن ) على الإنترنيت للكاتب فائز حيدر بعنوان ( سايكوجيا الفكر القومي العربي تجاه الأقليات).
ومع ذلك يمكن القول هنا أن مستوى العلاقة الراهنة بين الأقليات والأكثرية ليس واحدا في مجتمعات ودول العالم. حسب تحضّر كلّ مجتمع ومستوى حداثته الفعلية المتحققة فيه. بل يمكن القول إنّ المعيار القبلي القديم الضيق للأقلية والأكثرية تراجع أو همّش لصالح المعيار الحداثي النسبيّ المتحرّك والمتبدّل، أو ذاب فيه. ولم يعد له إلا وجود شكليّ فولكلوريّ، في مجتمعات العالم المتحضّر والمتقدّم. باستثناء عالمنا العربيّ وبعض العوالم المتخلفة الأخرى.
الأقلية والأكثرية في عالمنا العربي:
سأبدأ بالمثال التالي وقريب العهد بالنسبة لي: فقد روت لي ابنتي التي تتابع هي وزوجها دراساتهما العليا في جامعة “برونل” بلندن، حكاية الاهتمام الفائق، والمجاني، بها وبمولودها الجديد أثناء ولادتها في أحد مشافي لندن الحكومية، وحتى بعد خروجها من المشفى إلى البيت، لمدة ثلاثة أشهر. رغم أنه لم يكن قد مضى على وجودها في لندن أثناء ولادتها، شتاء العام الحالي، أكثر من أحد عشر شهرا. فهي عربية سورية، مسلمة، لا تتمتّع بالجنسية البريطانية أو حتى بحقّ الإقامة الدائمة. وميزتها الوحيدة أنها طالبة موفدة للدراسة مع زوجها فقط.
فالإنسان هناك، على ما يبدو، كما في كلّ مجتمع حضاريّ متقدّم، هو قيمة عليا بحدّ ذاته، بغضّ النظر عن دينه أو شكله أو لونه أو جنسيته، ورغم الحساسية التي قد تكون موجودة داخل هذا المجتمع تجاه هذا الدين أو تلك الجنسية. مسلم، عربيّ، زنجيّ.. إلخ.. ولا غرابة في الأمر إذا كان أغلب الكادر الطبي المشرف، كما أكّدت لي، هو من جنسيات مختلفة من العالم، يدرس أو يقيم في لندن، وقس على ذلك جميع مستويات الحياة اليومية، والعلاقات العامّة هناك.
وبالمقابل حدّثتني هي وزوجها بمرارة عن صدمتهما الجارحة من الأقليات العربية والمسلمة المقيمة هناك، والتي تتعامل حتى مع بعضها البعض هناك وفق تفكير أقلّوي ضيّق. إذ تعرّفت عليهما جارتهما في السكن، وهي امرأة بريطانية متوسّطة في العمر، وصار بينهما سلام وكلام، أمّا زوجها المسيحيّ اللبناني، من منطقة جزين، كما عرفت هي عنه، فقد رفض حتى تبادل التحية العابرة معهما أو النظر إليهما عندما عرف أنّهما سوريان. وكانت دهشتهما أكبر عندما التقيا ببعض أفراد العائلات والطلبة من العرب والمسلمين ولاحظا أنّ بعض الرجال السوريين ومن طائفتهما، يرفضان حتى مصافحة المرأة يدا بيد، أو النظر إليها أثناء لقاء التعارف العائلي، مع أنّ هذا ليس من تقاليد الطائفة في الأصل. وكذلك فإنّ بعض أفراد مختلف الأقليات يرفضون فكرة التزاور مع الغرباء، أي من يكون غير طائفتهم حتى ولو كان من بلدهم.. وثمّة أمثلة عديدة أخرى تشير إلى أي مستوى متخلّف وضيّق وصلت مجتمعاتنا إليه وهي تهوي، ويصرّ أفرادها بحمل هذا المستوى إلى مجتمعات العلم والنور، كهوية يفاخرون بها بين الأمم. والمفارقة المرة أنّ تلك المجتمعات تستوعبهم بكلّ تناقضاتهم الصعبة بين بعضهم، من جهة. وتناقضهم مع ثقافتها وهي تحاول تأهيلهم علميا، من جهة ثانية. أمّا هم ، على ما يبدو، فلا يهضمون أو يتمثّلون تلك العلوم أو الثقافات التي يتلقونها هناك، خارج مضمونها التقنيّ أو الجانب الإجرائي لها فقط. الأمر الذي يفقدها قوة إعادة توظيفها في أداء دور تنويريّ مفترض لهم في مجتمعاتهم الأصلية. لكن كيف حدث ذلك ولماذا؟. السطور التالية محاولة في مقاربة الجواب بإيجاز شديد من وجهة نظر شخصية.
فمنطقتنا العربية كانت عبر تاريخها الطويل بوّابة، ومعبرا، وساحة، لكلّ أشكال الحراك التاريخيّ، لا سيما من العراق شرقا وحتى المغرب الأقصى غربا. لذلك يمكننا أن نلحظ مرحلتين تاريخيتين لتشكل الأقليات فيها. فعبر تاريخها القديم وحتى منتصف القرن التاسع عشر. أدّت الغزوات والفتوحات والحروب الداخلية والخارجية إلى قيام وتحلّل ممالك وإمبراطوريات عديدة أدّت بدورها إلى حراك ديمغرافيّ كبير نتج عنه تحولات أنتروبولوجية عديدة، إثنية عرقية ودينية طائفية رسمت حدودا واضحة بين أقليات، دينية وعرقية قديمة بقي لها أتباع عديدون، وأقليات طائفية جديدة نشأت نتيجة الانشقاقات المذهبية والدينية الحادثة في إطار الإمبراطورية العربية الإسلامية، تجاه أكثرية عربية مسلمة، سنية، عموما. لأنّ الحامل الأيديولوجي والاجتماعي الأكبر لهذا الحراك سواء عن طريق الفتوحات أو عن طريق صدّ الحملات الخارجية، كان الإسلام ممثّلا بالخليفة والفقهاء الشرعيين الذين يدورون في فلكه. وكان يتمّ حسم أمر التعامل مع الأقليات في تلك المرحلة التاريخية إمّا عبر استيعابها في إطار الدولة الإسلامية كأهل ذمّة. وإمّا عبر القتل والتطهير العرقي والديني الطائفي. وذلك كان معيار التعامل مع الأقليات في العصور الوسطى في إطار الإمبراطورية العربية الإسلامية ومن بعدها العثمانية.
أما في التاريخ الحديث فإنّ عوامل موضوعية جديدة وظروف مستجدة أنعشت وجود الأقليات ورسمت حدودا واضحة وفاعلة لشخصيتها في المجتمع، بدأت مع نظام الملل العثماني الذي ظهر مع بداية ضعف وتحلل الإمبراطورية العثمانية، مضافا إلى ذلك تدخّل القوى الإقليمية الكبرى آنذاك لتوظيف حمايتها للأقليات في خدمة مصالحها وأطماعها في تركة (الرجل المريض) الإمبراطورية العثمانية المنهارة. الأمر الذي أثار حفيظة الأكثرية السنية. وبدأت تظهر وتتعمق الحساسيات والحساسيات المضادة بين الأكثرية والأقليات، بل أيضا بين أقليات عديدة باتت تتنافس فيما بينها لصعود اقتصادي واجتماعي وسياسي جديد. لذلك فمنذ منتصف القرن التاسع عشر بدأت تظهر دورات الحروب الأهلية الطائفية الحديثة في المنطقة العربية التي بدأت في جبل لبنان الكبير منذ عام 1840، بين الفلاحين الموارنة والإقطاعيين الدروز. والتي استمرت وما تزال في دورات صراع متتالية مع دخول طوائف أخرى وتحالفات جديدة تحت شعارات سياسية وطنية وقومية تارة وإسلامية ممانعة للشيطان الأكبر (أمريكا وإسرائيل) تارة أخرى. لكن المضمون القروسطي المذهبي والطائفي القديم لهذه الحروب والصراعات التي تشغل المنطقة العربية في أكثر من ساحة اليوم. ما يزال هو هو.
لنلاحظ هنا أن رسم حدود واضحة لأقليات كبيرة في منطقتنا جاء نتيجة أمرين أساسيين أولهما: بداية ضعف وتحلل الإمبراطورية العثمانية التي كان الدين الإسلامي (السنّيّ) هو اللاحم الاجتماعي الوحيد والقوي فيها. وثانيهما: تدخّل مراكز القوى الدولية الكبيرة آنذاك، في ذروة المدّ الاستعماري تجاه العالم الثالث، واقتسامها حمايتها لبعض طوائف الأقليات وما رافق ذلك من صراعات وحروب بين تلك القوى، مع ما يعني ذلك من إذكاء للحساسيات العدائية بين هذه الأقليات الطائفية بين بعضها أولا وبينها وبين الأكثرية السنية ثانيا. كل ذلك شكل عائقا كبيرا ساهم مع أمور عديدة أخرى، أمام تشكل وقيام طبقة اجتماعية اقتصادية موحدة كبيرة قوية وقادرة على حمل مهمة تحديث المجتمع بنيويا وسياسيا، وإرساء مفهوم ومؤسسات المواطنة. لذلك بقي موضوع الأقلية والأكثرية في العالم العربي إشكالية مستعصية بامتياز، وقنبلة موقوتة جاهزة للانفجار، تهدد السلم الأهلي في أية لحظة. فهي تعبير عن أزمة بنيوية عميقة وقوية في مجتمع لم يستطع الانتقال بعد من ثقافة القبيلة إلى ثقافة ورحابة الزمن الحديث، لذلك فإن فكرة الإصلاح الديني المزعومة في الإسلام، كما يقول بها البعض، حتى لو نجحت فهي لا تستطيع التعامل مع أزمة بنيوية بهذا العمق. فحركة الإصلاح الديني المسيحي في أوروبا كانت في أحد أسباب نجاحها على صعيد الكنيسة والمجتمع، صدى وفعلا موازيا لولادة طبقة جديدة صاعدة في أوروبا هي البرجوازية، وليست مجرد رغبة في الإصلاح عند رجل دين مصلح ومتنور. وهذا ما تفتقده مجتمعاتنا العربية في العصر الحديث.
وحدها مرحلة النضال ضد الاستعمار الغربي وما رافقها من قيام الكيان الصهيوني الذي أدى إلى اغتصاب أرض فلسطين وتشريد شعبها بالكامل تقريبا. هيأت المناخ المناسب سياسيا لتراجع الهوية الأقلوية عند مختلف الأقليات والأكثريات لصالح الهوية الوطنية والقومية الجامعة، خصوصا مع تحول الفلسطينيين المشردين، مسلمين ومسيحيين، إلى أقليات وطنية لاجئة وموزعة على أغلب دول الجوار الفلسطيني. ومن ثم اعتبار قضية اللاجئين الفلسطينيين قضية إنسانية على صعيد الأمم المتحدة.
وبذلك بدأ يظهر معيار سياسي جديد حداثي في مفهوم الأقلية والأكثرية، وإن على خلفية نرجسية واضحة ومنغلقة لفكرة القومية العربية، التي ظهرت أول ما ظهرت كردّ فعل على نرجسية متعالية لفكرة القومية التركية أوائل القرن العشرين، التي حاول الأتراك من خلالها اتباع سياسة تتريك كبيرة في الولايات العربية آنذاك. لكن هذا المعيار الحداثي بكل إيجابياته وسلبياته، بدأ يتعثر ويتراجع لصالح إعادة إنتاج المعيار القروسطي الأقلوي الضيق لأسباب عديدة يلخصها عدم وجود حامل اجتماعي جديد لحداثة سياسية في المنطقة العربية. فالمشروع الحداثي الليبرالي سقطت أوراقه بالكامل منذ نكبة 1948، والمشروع القومي التحرري العربي المقترن بمشروع التحرر الاجتماعي بدأت أوراقهما بالسقوط مع نكسة حزيران 1967. وحدث الفراغ الكبير الذي ملئه وما يزال الأصوليون الإسلاميون، والمتطرفون الدينيون لدى كل الطوائف، وجماعات التكفير الإرهابي.
الأقلية الحقيقية هي نحن عابري الطوائف وخارجها -: والأكثرية الحقيقية هي عصبوية الجمهور العام، المتمادية، لدى كافة الأعراق والطوائف، بتحريض من زعماء الجمهور الروحيين والزمنيين. وبتقديري الخاص فإن المشكلة سوف تتفاقم أكثر إذا لم نستطع تجاوز الحديث عن الأكثرية والأقلية بالمعيار الأقلوي الضيق لهما ( الطوائف والأعراق ). لأننا بذلك نعيد إنتاج ليس فقط مدلولهما القروسطى بل صراعاتهما أيضا، خصوصا أن كل أقلية أو أكثرية لها جرحها الخاص من الأخرى وبالتالي مشروعية ثأرها القبلي القديم. وما يحدث في العراق اليوم بشكل فاضح وعلني يكشف عما هو مضمر أو متحفز في مناطق عديدة من عالمنا العربي، أيضا.
وهذا يعني ضرورة الارتقاء في الحديث عن الأقلية والأكثرية إلى مستوى معيارها الحداثي ومدلولها النسبي والمتبدل، كتعبير عن حراك اجتماعي مدني وسياسي في المجتمع. حتى ولو كان مستوى هذا الحراك ضعيفا، أو مهمشا من قبل الأنظمة الحاكمة. وتلك مسؤولية النخب الثقافية ومنابرها الكثيرة والمتعددة، الورقية منها أو الافتراضية التي تتيحها لنا ثورة الاتصالات الراهنة والشبكة العنكبوتية.
وهنا أقترح ضرورة مراجعة جدية وجذرية لفكرة العروبة كما تم إنتاجها سابقا، وضرورة مقاربتها من جديد، وإعادة إنتاجها كفكرة جامعة عبر تحريرها من مفهوم الهوية الثابت والمغلق، وتحميلها معاني مستقبلية جديدة أكثر رحابة على أرضية التعدد الثقافي والعرقي الموجود في مجتمعاتنا العربية وضمن شعوبها. فالعروبة على هذا الأساس تكون تتويجا لعملية انتقال من حالة بداوة رعوية قديمة تعبر عن ذاتها بهويات إثنية مغلقة باردة وجافة، قاتلة، إلى حالة مجتمعية حضارية خصبة فاعلة ونشيطة.
إنها كيمياء مجتمعية ثقافية جديدة تتفاعل فيها ثقافات وإرادات كل العناصر المؤلفة، كل بقدر حجمه وإمكاناته وكفاءاته المميزة، لتؤلف عنصرا جديدا أقوى وأجدر بالبقاء. وهذا ما أعتبره بناء شخصية مجتمعية جديدة باتجاه المستقبل، تجمع بين الوحدة والتنوع، وتغتني بقدر ما تتفاعل فيها عناصر جديدة مكونة ومتعددة، تعطي وتأخذ دون أن تذوب فيها نهائيا.