في زمن تقلصت فيه ميزانيات الأخبار الخارجية، وتناقص الطلب عليها في الصحافة، سلكت "إليزا جريسوود" مهنة تسير عكس التيار. فبعد الهجمات 11\9 الإرهابية، تركت مباشرة وظيفتها كنائبة رئيس التحرير في مجلة "فانيتي فير"، وحلت في بغداد، ثم بدأت العمل كمراسلة صحفية مستقلة، وكتبت تقارير من بعض الأماكن الأكثر توتراً في العالم. وأعدّت موضوعات مطولة عن آكلي لحوم البشر في كونغو، والقرصنة الصومالية، والحرب الأهلية في سودان، وإلى جانب هذا كانت تمارس في الوقت نفسه مهنة ثانية كشاعرة. خلفية "جريسوود "هي أيضاً مثيرة للاهتمام: فوالدها هو رئيس الأساقفة السابق للكنيسة الأسقفية في الولايات المتحدة. وقد صدر كتابها الجديد "خط العرض العاشر: تقارير من خط الصدع بين المسيحية والإسلام" ، وعلى ما يبدو، فأنّها محصلة منطقية لكل من نسبها الغريب ومهنتها الصحفية الجريئة والحرة المرتحلة: يتبع الكتاب رحلة، على مدى أكثر من ست سنوات، على طول خط العرض الذي يمتد نحو 300 ميلاً إلى الجنوب من منطقة خط الاستواء – حيث تصطدم المسيحيّة والإسلام.
لقد برعت جريسوود في تأليف كتابٍ حيوي، حيث تتضمن فصوله التاريخ، والمقالات التفصيلية المصوّرة، والتحقيق في الدين كقوة موحدة وفتّاكة في الوقت نفسه في مجتمعات العالم الثالث. يدور المحور الرئيسي في تقارير جريسوود حول أفريقيا، حيث "انفجار المسيحية" على مدى السنوات الخمسين الماضية، تقول جريسوود، " لقد زادت المخاطر على غالبية أتباع الديانتين على حد سواء، الذين يتساوون في التفوق العددي في البقاء على قيد الحياة." وهناك الآن 417 مليون مسيحي يعشون في خط العرض العاشر وإلى الجنوب منه – ما يشكل خمس إجمالي سكان العالم المسيحي – وتقريباً نفس التعداد للمسلمين الذين يعيشون في خط العرض العاشر وإلى الشمال منه. حيث تلتقي كلتا الديانتين في ما يسمى بالحزام الأوسط، وهناك حوالي 200 ميل من الأراضي العشبية الواسعة تغطي معظم أنحاء القارة، وهذا يشمل أراضي السود(1) – التي ينتشر فيها مرض ذبابة تسي تسي tsetse fly السيئة الصيت – والمستنقعات الموبوءة التي حالت دون انتشار الإسلام إبّان الحقبة الاستعمارية.
"في هذه المنطقة الهشّة" تقول جريسوود، "لقد حلّت الوطآت نتيجة تزايد عدد السكان... الذي يزيد بدوره التوترات." ثم تضيف، "يتعارك أتباع كلتا الديانتين ليس على الدين فحسب بل على الأرض والغذاء والنفط والمياه."
ويحتدم ذلك الصراع في السودان أكثر مما في غيره من الأماكن، ترى جريسوود، أن الحرب الأهلية المستمرة منذ عقود بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي تمّ، أخيراً ، احتواؤها، ويعود الفضل جزئياً في ذلك إلى الدبلوماسية الأمريكية – واحدة من السياسيات الناجحة القليلة لإدارة جورج بوش السابقة. فالاستفتاء الشعبي حول استقلال جنوب السودان في طريقه إلى الإجراء، عام 2011، كما تفقدت أيضاً المنطقة المحيطة بأبيي، وهي بلدة غنية بالنفط التي تمتد على جانبي حدود السودانين، حيث الاشتباكات الدامية تنذر بتجدد وشيك للصراع. وتصف لقاءً لها لا ينسى مع فرانكلين غراهام، الرجل الجماهيري والمبشر بذخيرة المسدس ومؤسس جماعة الإغاثة (صندوق السامري الخيري Samaritan’s Purse of Boone)، (وهو كذلك ابن المبشر التلفزيوني بيلي غراهام)، الذي دفع عزمه على كسب المرتدين إلى المسيحية في عمق مناطق المسلمين إلى إثارة الشكوك والعداوات. ثم تنضم جريسوود إليه في جولة تبشيرية إلى الخرطوم في 2003، وتصف لقاءً غربياً جرى بين بيلي غراهام والرئيس السوداني عمر بشير – الإسلامي المتعصب الذي اتهم لاحقاً بجرائم الحرب في دارفور – الذي ينكّت مع المبشر غراهام حول إرسال طائرات حربية سودانية لتفجير ملجأه الخيري في الجنوب المسيحي.
إن المعركة من أجل الأرواح – والثروات – هي أيضاً في قلب الصراع في نيجيريا ، أكبر دولة أفريقية من حيث عدد السكان، تتفقد جريسوود أرض كنعان، وهي قطعة أرض مساحتها 565 فدان يرتكز عليها مقر كنيسة الإيمان الحي Living Faith Church، التي هي واحدة من أشرس التبشيريات في حركة العنصرة النيجيرية Pentecostal Movement. ثم تكتشف بعد ذلك نظيرتها الإسلامية (نصر الله والفتح)، التي تشتمل مشاريعها على شركة المشروبات غير الكحولية، وبرنامج توعية السجن، وحتى خدمة العلاقات الزوجية. "فالنجاح والنصر والمجد كله من عند الخالق" يضيف أحد أعضاء الجماعة الإسلامية فئة الشباب، الذي يثير الضجيج للفت الانتباه على غرار بعض نظرائه الكادحين المسيحيين. إنّه بإمكان المسلمين والمسيحيين أصحاب المشاريع في نيجيريا أن يجدوا أرضية مشتركة، لكن البلاد تعاني أيضاً من الاشتباكات التي يؤججها الدين في معظم أنحاء القارة، والتي تترك عادة مئات القتلى. وكان من المفارقات، هو انهيار إحدى الدكتاتوريات العسكرية الأكثر وحشية في العالم في عام 1999، التي أطلقت العنان لأشرس إراقة دم: وقد حوّلت الانتخابات الديمقراطية هذه المنطقة المدقعة فقراً والمنكمشة ثرواتها إلى المعادلة المصيرية الصفرية (2) Zero Sum Game التي لا يمكن (في هذه الحالة) لأي الطرفين أن يحصل على استحقاق على حساب الطرف الآخر.
وبعد أن تجتاز جريسوود المحيط الهندي لتصل إلى آسيا، تكتشف أن الموضوعات نفسها تكتمل في الأرخبيليات النائية وجزيرة "الفراديس." ثمّ تتبع الزّناة في انتظار جلدهم في سجن بمدينة باندا آتشه، في جزيرة سومطرة – حيث استغل الأصوليون الإسلاميون الفوضى التي أعقبت تسونامي في عام 2004، لإقرار قوانين الشريعة في أندونيسيا. وتروي محنة تراجيدية لزوجين أمريكيين من جماعة تبشيرية، اختطفهم متشددون إسلاميون من منتجع جزيرة بالفلبين. (ومن الصعب القول فيما إذا كان الزوجان مستهدفين على وجه الخصوص بسبب انتمائهم العقائدي أم لأنّهما كانا غربيين سهلي المنال؛ لكن في أعقاب قتل الزوج، اعتبروه كشهيد لأجل القضية المسيحية.) ثمّ تزور جريسوود جزيرة سولاويسي الإندونيسية النائية برفقة شخص إسلامي متشدد يفترض أنّه تائب في طريقه إلى بيته بالقرية. وهنا، تجد منطقة مزقتها الاشتباكات المروعة بين العصابات المسيحية والإسلامية، وكل واحدة منها عازمة على دحر الأخرى من الجزيرة. وفي مرتفعات سولاويسي المسيحية، تلتقي الكاتبة بفتاةٍ اسمها نوفيانا ماليوا، الناجية الوحيدة من هجوم المليشيات على مدرسة بنات مسيحية حيث قطعوا رؤوس ثلاثة من أصدقائها المقربين على غرار النموذج الطالباني. "كان يبرق على خدها الأيمن أثر جرح عميق." ثم تضيف، "وكانت ترتدي سوارا مطاطيا ورديا مكتوبا عليه "إنّه عائد!" (أي المسيح)، ويمشي شرطي من وراءها بتثاقل حاملاً كلاشينكوف من طراز AK-47 وهو يبعث رسائل نصية. "على الرغم من أن الكاتبة تتعقب الكثير من التوترات على طول خط العرض العاشر إلى انفجار الإسلام المتطرف في السنوات الأخير، فأنّها تجعل من الواضح، أنّ كلا الطرفين لا يحتكران استخدام العنف والوحشية: فالعصابات المسيحية التي قابلتها في سولاويسي والفلبين ونيجيريا تتحول إلى شريرة ومنتقمة بمقدار نظيراتها الإسلامية.
إنّ كمية الأحذية الجلدية التي أنفقتها "جريسوود" على هذا المشروع هي كمية استثنائية، وهذا سبب كاف لقراءة كتابها. ولا تزال تميل من حين لآخر عن محورها الرئيسي: ففي فصلٍ مطول عن الصومال، على سبيل المثال، تتناول فيه غزو أثيوبيا المسيحية عام 2006 للبلد الذي يسوده الفوضى، ثمّ يدار على يد الأصوليين الإسلاميين، إلّا أنّ هذا الفصل تمّ كتابته بإتقان كتقرير صحفي عن بلد سحيق. لكن الكتاب أيضاً يعوزه الخط السردي، وهو مفصل أكثر على شكل سلسلة من المقالات المحترفة. وعلى الرغم من أن الكتاب مكتظ بكثير من الشخصيات والمشاهد والحكايات النادرة، فهناك شيء غير مفاجئ بشأن هذا الصراع المستعصي على الحل. لقد قطعت "جريسوود" آلاف الأميال لتوثيق ما يمكن التنبؤ به في النهاية: فالتطرف الإسلامي، والتبشير الإنجيلي، والتنافس على الثروات المنكمشة قد صعّدت حدة الصراع الذي جرى ويجري منذ قرون.
تختتم جريسوود كتابها بملاحظة متفائلة، بعد لقاء مع إمامٍ وقسيس في بلدةٍ صغيرة في الحزام الأوسط في نيجيريا الذين يعملون جنباً إلى جنب لتعزيز الانسجام الديني في منطقتهم التي تشهد أعمال العنف، وهي مستلهمة من إمكانية المصالحة. "الصراع الديني حيث يلتقي المسيحيون والمسلمون هو صراع حقيقي وقاتم،" وتضيف، "لكن التاريخ الطويل من المواجهات اليومية لأتباع مختلف الأديان تحمل أعباء كل شيء معاً، وفي نفس الوقت فأنّهم يتبعون ديانات مختلفة، مع أن الأمر يبدو مفاجئاً، لكنه حقيقي." فللأسف، وعلى الرغم من ذلك، فأنّ معظم المواجهات اليومية التي وثّقتها جريسوود في رحلتها الماراثونية (الطويلة) تترك بصيصاً من الأمل وهو أنّ الغلبة سوف تكون للمتصالحين.