لم يتجاوز عمره آنذاك الثالثة والثلاثين، ولكنّ أحلامه كانت أكبر من سنّه بكثير. إنّه النحّات الفرنسيّ فريديريك أوغست بارتولدي (1834-1904) Frédéric Auguste Bartholdi الذي قرّر في لحظة جنون أن يشيح بوجهه عن أوروبّا وأن يحزم حقائبه باتّجاه الشرق وتحديدًا باتّجاه مصر…
كانت مصر يومَها أمّ الدنيا حقًّا ومحطّ أنظار العالم فقد فرغت للتوّ من إضافة إنجاز جديد إلى رصيدها الحضاريّ، إنجازٍ أكبر من الأهرامات ومن تمثال أبي الهول، إنجازٍ غيّر الجغرافيا وأعاد صناعة التاريخ… إنّه قناة السويس التي أُنفق في حفرها أكثر من 350 مليون فرنك فرنسي ونَـفَـقَ بين مائها وثراها أكثر من 125 ألف روح بشريّة.
كان الحدث عظيما بمقاييس ذلك الزمان، وقد أراد النحّات الفرنسيّ فريديريك أوغست بارتولدي أن يُخلّده فسعى إلى مقابلة الخديوي إسماعيل (1830-1895) وعرض عليه في مناسبَتَيْن متتاليتَيْن (سنة 1867 ثمّ سنة 1869) فكرة إقامة تمثال سيّدة تحمل مشعلاً يُلقي بأنواره على الشرق كلّه، واختار أن يكون اسم التمثال: “مصر تجلب النور إلى آسيا”.
رفض الخديوي إسماعيل الفكرة متعلّلاً بقلّة ذات اليد!! ومن يدري، لعلّه لم يوافق لأنّ التمثال يجسّد امرأةً لا رجلاً؟! وحتّى إن كان التمثال تمثال رجل، فهل كان سيقبل أن يُطلّ رجل غيره على إفريقيا وآسيا؟!
ولأنّ للتاريخ تصاريفَه وأحكامه وصدفه التي ترقى إلى درجة العبث واللاّمعقول، غادر النحّات الفرنسيّ فريديريك أوغست بارتولدي الشرق دون رجعة وحمل مشروعه إلى حكومته التي استحسنت الفكرة وعهدت إليه بتنفيذها ثمّ أهدت التمثال إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة بمناسبة احتفالها بمائويّة تأسيسها الأولى.
انتقل المشروع من حيّز جغرافيّ إلى آخر، من الشرق إلى الغرب، فكان حتميًّا أن تتغيّر الرؤية وأن يتبدّل العنوان وأن تصبح لتمثال “مصر التي تجلب النور إلى آسيا” يافطة أخرى أكثر مناسبةً للمقام، فصار اسمه “تمثال الحريّة”.
تلك قصّة التمثال، “تمثال الحريّة”، وقليلٌ منّا يعرفها ويعرف أن رمز الليبيراليّة الغربيّة الشامخَ المشرفَ على خليج نيويورك يُخفي أصولاً شرقيّةً. ولكن، هل استطاعت أمريكا بلد الحريّات أن تتخلّص، حقّا، من رواسب الاستبداد الشرقي لا في تمثالها فحسب، بل في أقوى صناعة لديها، صناعة السينما، أم أنّها ظلّت هي أيضًا حبيسة القيود؟
على امتداد أكثر من مائتي صفحة شملت البيبليوجرافيا والفهارس يقدّم لنا الكاتب الأمريكيّ المقيم ببرلين أوبراي مالون Aubrey Malone إجابة على هذا السؤال، إجابة هي في عمقها قراءة لمائة عام من الإنتاج الهوليوديّ فكّك الكاتب من خلالها طبائع الاستبداد السينمائي وأصوله.
سينما البدايات… القُـبْـلة والقـنْـبُلة!
بالرغم من أنّ الصدفة وحدها هي التي قادت كريستوف كولومبس إلى اكتشاف أمريكا وفي ظنّه أنّه سلك طريقا أخرى إلى الهند، فإنّ مستعمري الأرض الجديدة، أو البعض منهم على الأقلّ، لم يتركوا شيئا للصدفة. لقد أرادوا أن تكون أمريكا جنّة الله على الأرض فكان لا بدّ من لعن الشيطان وإخراجه بعيدًا عن أرض الميعاد الغربيّة. وفي ضوء مثل هذه التصوّرات المغالية في الطهارة والصفاء، هوجمت بعض الأعمال الأدبيّة والمسرحيّة بدعوى أنّها خادشة للحياء لا تراعي الأخلاق العامّة ولا تحترم الفضائل التي ينبغي أن تسود المجتمع. كان ممتهنو الكتابة ومحترفو المسرح في أمريكا البدايات موضوع احتراز أخلاقيّ، فقد نُظر إليهم كمسمِّمي أفكار وناشري رذائل!
ولئن نجحت الأعمال الأدبيّة، بشكل عامّ، وبعض الأعمال المسرحيّة الطلائعيّة، بشكل خاصٍّ، في الإفلات من القيود الأخلاقيّة الصارمة، فإنّ السينما كانت أقلّ حظًّا، لا لشيء إلاّ لأنّ مادّتها الصورة. وهل أكثر من الصورة برهانًا على الكبائر إذا ارتُكبت وعلى الذنوب إذا اقتُرفت؟
كانت السينما ضحيّة المادّة الأولى التي هي قوام كينونتها وذلك ما جعل منها فريسة سهلة لدعاة الفضيلة والطهارة. ولم ينتظر هؤلاء كثيرا، فبعد سنوات قليلة شهدت انتشارا متسارعًا لقاعات السينما في معظم أحياء المدن الأمريكيّة كان شريط “القُـبلة”(The kiss) للمخرج ويليام هايس (William Heise) الذي عُرض سنة 1896 قـنـبلة مدوّية نجح حُـماةُ الأخلاق في نزع صمّام أمانها. نزعوا صمّام الأمان ولم ينظروا للشريط بمعايير الفن بل جلدوه بسياط الفضيلة واعتبروه تجسيدًا وقحًا للرذيلة؛ وكان ذلك إيذانًا بانبثاق مسار كامل هو مسار الرقابة على الأفلام.
وأعجب ما في الأمر أنّ شريط “القبلة/القنبلة” (بمعايير أيّامنا هذه) قد لا يرقى حتّى إلى مستوى الشريط، وقد لا يستحقّ صاحبه ويليام هايس صفة المخرج. فحيّزه الزمنيّ لا يتجاوز الدقيقة الواحدة، أمّا المشهد الذي يقوم عليه من بدايته إلى منتهاه فهو عبارة عن قبلة مطوّلة جمعت الممثّل جون سي. رايس (1858-1915) John C. Rice بالممثّلة ماي إيروين (1862-1938)May Irwin ، قبلة ربّما اتّفقنا مع الكاتب أوبراي مالون على أنّها عنوان براءة ولكنّ المتشدّدين اعتبروها آنذاك إغراقًا في الرذيلة، وإن سجّلها النقّاد على أنّها أوّل قبلة في تاريخ السينما العالميّة.
وبصرف النظر عن الأحكام السالبة أو الموجبة التي تعلّقت بـ“القبلة/القنبلة”، فالأهمّ -في نظرنا- أنّ الشريط/المشهد لم يكن هو المستهدف في ذاته، وأنّ الأخلاق العامّة لم تكن موضع الإشكال الحقيقيّ، بل إنّ الأمر يتعلّق بما هو أعمق من ذلك بكثير. لقد كان المتشدّدون من متزعّمي الدفاع عن الأخلاق العامّة يعبّرون عن حالة خوف مبهم وعن شعور حدسيّ هو أقرب إلى التنبّؤ… كانوا يتوجّسون خيفة ويتوقّعون توقّع يقين أنّ الصورة -وقد صارت متحرّكة على نحو قريبٍ ممّا تراه العين شبيهٍ بما يجري في الواقع- ستفلت حتمًا من السيطرة وتكتسب قوّة تجعل منها أداةً خطيرةً في يد من يُتقن التصرّف فيها. ولذلك كان من الضروريّ -في نظرهم- أن يتمّ الإجهاز عليها وخنقها في المهد. ولكنّ هذا المولود الجديد الذي أراد المتشدّدون وأده فلم يقدروا عليه، وخنقه فلم يستطيعوا إليه سبيلاً سرعان ما جوّد أدواته الفنيّة وأضحى ناطقًا بعد صمت… فأفلت منهم -أو كاد- وواصل طريقه نحو تكريس سلطانه، سلطان الصورة والصوت. وكيف لا يقدر على ذلك وقد صار الاشتغال بالسينما وإنتاج الأشرطة مدخلاً إلى مراكمة الدولارات ومجالاً لتنافس الحالمين بالثروة؟
لا أرتكم هوليود مكروها!
سنوات معدودات لم تتجاوز العشرين على أقصى تقدير صَدَقَ فيها حدسُ المدافعين عن الفضيلة وصحّت نبوءتهم التي لم يفصحوا عنها… سنوات معدودات أدرك فيها المنتجون خطورة الرهان فكان لزامًا عليهم أن يدافعوا عن مصالحهم وأن يجدوا سبيلاً إلى التوافق مع المتشدّدين أخلاقيّا، هؤلاء الذين ظلّوا يشنّعون على كلّ الأشرطة السينمائيّة التي بدت لهم مُخلّةً بالآداب وعلى بعض الممثّلين والممثّلات الذين كانت حياتهم الشخصيّة ونهاياتهم المأساويّة مادّةً للفضائح والتشهير الصحفي والإعلامي كالممثّلة فيرجينيا راب (1895-1921) Virginia Rappe التي توفّيت إثر حادثة اغتصاب وقتل اتّهم فيها زميلها الممثّل النجم روسكو آربيكلو (1887-1933) Roscoe Arbuckle.
كان الرهان حينها واضحا والمصالح يومذاك أكثر وضوحًا:
فالمنتجون، من ناحية، يديرون أعمالهم ويشكّلون حولها قاعدة صلبة تضمّ كتّاب السيناريو صانعي الأحلام، والممثّلين نجوم الشاشة مجسّدي الأوهام، والتقنيّين الذين أوكلت إليهم مهمّة الإيهام.
والمتشدّدون، في الناحية المقابلة، يلوّحون برايات الفضيلة وبيارق الأخلاق العامّة ويرفعونها عاليا فوق الرؤوس ساعين بشتّى الوسائل إلى التذكير بضرورة الدفاع عن القيم الجمعيّة حتّى وإن اقتضى الأمر اللّجوءَ إلى القضاء الفيديرالي واستعمالَ كلّ وسائل الضغط الممكنة لدعم جهود المجلس القومي لمراقبي الأفلام The National Board of Film Censors (1908) الذي أضحي يُعرف بعد سنوات قليلة بالمجلس القومي للمراجعة The National Board of Review (1916).
والجمهور العريض، في موقع الممزّق بين الفريقَيْن: فريق يدفعه دفعًا إلى الحُلم ويغذّي فيه وَهْمَ التعلّق بنجوم الشاشة والتماهي معهم، وفريق يسحبه نحو فضائل القيم الجمعيّة آخذًا على عاتقه مهمّة الدفاع عنها دون أن يكلّفه أحدٌ بذلك حقًّا.
وفي خضمّ الصراع بين المصالح والمبادئ فَعَلَ التاريخُ فعله عندما أفاقت أمريكا على الحقيقة المفزعة، حقيقة أنّها ليست جنّة الله على الأرض ولا أرض الميعاد الغربيّة وأنّ على مواطنيها أن يواجهوا تبعات “الانهيار الكبير” الذي عصف بوول ستريت شارع المال والأعمال ذات يوم من أيّام سنة 1929.
كانت الأزمة الاقتصاديّة امتحانًا للجميع لأنّها لم تستثن أحدًا. وفي سياق السنوات السود، سنوات الثلاثين سطع نجم السيناتور ويل هايز (1879-1954) Will Hays الذي كان مُـخَـلِّصًا بأتمّ معنى الكلمة.
كان ويل هايز من طينة أولئك الذين يتقنون الجمع بين المتناقضات، فقد وضع حيّز التنفيذ سنة 1934 قانونا للرقابة على الإنتاجات السينمائيّة حاز رضا الجميع، قانونا لم يَجُعْ فيه الذئب ولم يشتك الراعي. ولكن من الذئب في هذه الحالة ومن الراعي؟! هل كانت هوليود هي الذئب بمنتجيها ومخرجيها وممثّليها وتقنيّيها أم إنّ الذئب هو القوى المحافظة التي كانت تتوجّس خيفة من مشاهد القبلات والأجساد المتبرّجة في فتنتها؟!
ليس لهذا السؤال من معنى ولا سيّما لدى أهل هوليود، فهم متعوّدون على تبادل الأدوار ولا يعنيهم إن قاموا بدور الذئب أو بدور الراعي!! الأهمّ بالنسبة إليهم أن يطمئنّوا إلى أنّ أفلامهم ستجد حظوتها لدى عامّة الناس “العاديّين” ولدى دعاة الفضيلة المتشدّدين ولدى ذوي الحساسيّة المفرطة العصابيّين. المهمّ بالنسبة إلى هوليود أن تكون السوق نافقة والبضاعة رائجة… ولكلّ امرئ ما نوى وما على المنتج إلاّ أن يُـرِيَكَ، عزيزي المشاهد، ما تُريد أن ترى وفي جميع الأحوال، فإنّ هوليود (التي أضحت متمكّنة من صناعتها) لن تُـرِيَـكَ مكروهًا ولن تُجاهر بما قد يُعتبر منافيًا للحياء.
في ضوء هذه التوافقات البراغماتيّة الدقيقة، وفي سياق أزمة الثلاثينات الاقتصاديّة التي كان من الممكن أن تعصف بالسينما صناعةً وفنّا اهتدت هوليود إلى أمثل الحلول، فاستبطنت الرقابةَ حتّى صارت من صميم الإبداع ذاته. كان الأمر في البداية محاولة ظرفيّة للتوفيق بين شرطَيْن متقابلَيْن: إمّا الخضوع لمنطق السوق والقبول بانهيار السينما التي نجحت بالكاد في إثبات جدارتها كصناعة؛ وإمّا مواجهة الفورة الأخلاقيّة الدينيّة التي اعتبر المتشدّدون فيها أنّ انحلالَ القيم هو سبب الأزمة التي تمرّ بها الأمّة الأمريكيّة.
وبين الخيارَيْن الأقصَيَيْن، لم تجد هوليود بُـدًّا من أن تنهج مسلكا وسطًا. فقبلت (مستسلمةً طائعةً أو مرغمةً مُجبرةً) بوضع قائمة نصّصت فيها على المحرّمات التي ألزمت نفسها بعدم التطرّق إليها:
أن لا تُنتج أفلاما فيها تَـعَـدٍّ على القيم الأخلاقيّة.
أن لا تُبدي الأفلام التي تُنتجها أيّ تعاطف مع المجرمين أو المنحرفين أو أصحاب الشرور والخطايا.
أن لا تقدّم إلاّ أنماطًا بشريّة سويّة تُخضع حياتهم لمقتضيات الدراما أو الترفيه.
أن لا تستهزئ بالقوانين الطبيعيّة أو البشريّة ولا تشجّع على التماهي أو التعاطف مع الشخصيّات التي قد تشكّك في تلك القوانين أو تطعن فيها.
أن لا تقدّم مَشَاهِدَ تتضمّن جريمةً أو قتلاً بغرض إثارة مشاعر التعاطف معها أو الرغبة في تقليدها.
أن لا تُظهر طُرِقَ الجريمة ووسائلها بشكل مباشر يسمح للمشاهد بمعرفة تقنيات السرقة والسطو ووضع المتفجّرات والحرق العمد.
أن تُقلّل قدر الإمكان من استعمال الأسلحة الناريّة.
أن لا تصوّر مشاهد تتضمّن اتّجارا بالمخدّرات أو استهلاكا لها.
أن تعكس الأعمال السينمائيّة قداسة مؤسّستَيْ الزواج والأسرة وأن لا تُظهر بشكل فجٍّ مباشر مشاهد الزنا أو التعدّي على المحارم وأن لا تُبرّر مثل هذه الممارسات ولا تُحرّض عليها.
أن تتجنّب القُـبَلَ الحارّة المبالغ فيها وأن لا تُظهر المداعبات والملامسات الجسديّة التي تتضمّن دعوة صريحة إلى الإخلال بالآداب العامّة.
أن لا تزدري الأديان وأن لا تسخر من أيّ شكل من أشكال الإيمان والاعتقاد وأن لا تُظهر رجال الدين في مظهر كوميديّ أو في مظهر إجراميّ وأن تجسّد شعائر كافّة الديانات تجسيدًا قائما على الإجلال والاحترام.
أن تُظهر الأعلام والرايات الوطنيّة في شكل محترم وتقدّم الشخصيّات القوميّة (الأمريكيّة والأجنبيّة) بكامل الحياد.
تلك هي أهمّ الوصايا التي ألزمت بها هوليود نفسها من سنة 1934 إلى سنة 1966… وصايا قد تبدو اليوم في نظر المدمنين على السينما عمومًا وعلى السينما الأمريكيّة خصوصًا مدعاةً إلى الاستغراب أو ربّما مدعاةً إلى السخريّة!! فذاكرتنا ما زالت تحتفظ بعديد المشاهد التي تخرج خروجا صريحا عن هذه القيود وتتحدّاها، ومن أهمّها -دون شكّ- المشهدُ الذي اختارته دار النشر لتوشّحَ غلاف الكتاب، مشهدُ الممثّلة الفاتنة شارون ستون صحبة الممثّل القدير مايكل دوغلاس في شريطهما الشهير “غريزة أساسيّة” Basic instinct (1992).
ومع ذلك، فإنّ ما يحملنا اليومَ على الاستغراب أو على السخريّة لم يكن كذلك في حينه. فعلى امتداد سنوات متتالية دفع عديد المخرجين الأمريكيّين ثمنًا باهظًا مقابل محاولاتهم رفع سقف الحريّة والإبداع. تكفي الإشارة، في هذا المقام، إلى حالَتَيْن خاصَّتَيْن: حالة المخرج جوزيف لوسي (1909-1984) Joseph Losey الذي اضطرّ إلى مغادرة أمريكا والاستقرار في أروبا والعمل بها تحت اسم مستعار حتّى يضمن عرض أشرطته السينمائيّة في بلاده؛ وحالة مواطنه جيل داسان (1911-2008) Jules Dassin الذي تجرّأ وجهر باعتناقه الشيوعيّة في بلد العمّ سام فأدرج اسمه ضمن القائمة السوداء قائمة الماكرتيّة ممّا دفعه، هو أيضا، إلى قضاء فترة طويلة من حياته السينمائيّة في فرنسا واليونان.
دع عنك لومي!
إنّه الصراعُ ذاته يتكرّر منذ آلاف السنين شرقًا وغربًا، صراعٌ يضع وجها لوجه نفوسًا هشّةً حائرةً قَـلِـقَةً تروم ارتياد السبل المجهولة وتتوق إلى الحريّة تجربةً ومغامرةً وتتمنّى أن تتقاسم مع الآخرين هشاشتها وحيرتها وقلقها وطعم المغامرة الحرّة على لسانها، تتقاسم ذلك كلّه عبر قبلة بريئة لا غير، “قبلة” لم يخطر ببالها أبدا أنّها “قنبلة”…
ونفوسًا صلدة صلبة واثقة من ذاتها لا ترى أبدا ما حولها فتستغرق في ما يتراءى أمامها من سُبل مسطورة ممهّدة وترضى طوعا بالقيود والأغلال على يديها، ثمّ تبيح لنفسها أن تتكلّم باسم الآخرين وأن تدّعي أنّهم راضون هم أيضا بالقيود والأغلال. والحقيقة أنّها لا تملك في ما تدّعيه وما تزعمه وما تُقْـدِمُ عليه أيّ تفويض من الجماعة التي لم تُوكِّـلْها، أصلاً، للنطق باسمها.
لقد قالها أبو نواس (ت. 198هـ - 813 م.) منذ زمن بعيد:
دَعْ عنك لومي فإنّ اللّوم إغراءُ/ وَدَاوِنِي بالتي كانت هي الداء
قالها في زمن لم يكتشف فيه العالم أمريكا، بَعْدُ، ولم يتنبَّأْ بما ستصير إليه هوليود. ولكنّ أبا نواس أدرك بحدس الشاعر أنّ اللّومَ/الرقابة لا تلبث أن تنقلب إلى إغراء/إبداع، خاصّة إذا أفرط اللاّئم في لومه وفي رقابته…
تلك هي المعادلة الكيميائيّة الصعبة التي لن تجد أبدًا من يصوغها في شكل قانون رياضيّ صارم… معادلةٌ يضحي فيها الداء دواءً والتحريم تحليلاً… أَلَـمْ تَـقُـلِ العربُ قديمًا (وقولُها الحقّ!): كُلٌّ ممنوع مرغوب… فَـلْـنَـقُـلْـهَا اليومَ ملء شفاهنا ومِـلْءَ القُـبَـل: حَـرِّموا ما شئتُم فإنّكم بقدر ما تُحرِّمون تُـرَغِّبون