الإسلام هو “فطرة الناس في هذه المناطق” كما يقول أحد سكان الحي‘ انه حقاً “فطرة الناس هنا” فالمسجد يتقدم في أولوياتهم على منازلهم وهذا الأمر ليس جديداً وليس جزءاً من حركة تدين وأسلمة واضحة تعبر فيها المنطقة بأسرها. يقتضب حازم الأمين في كتابه الجديد (السلفي اليتم)‘ منطقة رأس العين في العاصمة الأردنية وسكانها الفلسطينيين بالغالب, في سياق هذا الكلام عن مكانة الجامع ليس في ثقافة الناس فحسب‘ بل في وعيهم الفطري وممارسة حياتهم اليومية. ما يرمي إليه الأمين من خلال هذا الكلام هو الحديث عن البيئة السوسيو-مكانية التي عمل وتربى فيها صاحب فتوى سميت بــ“عظيمة الشأن” أهدرت بموجبها دماء نساء رجال الأمن, و أطفالهم في الجزائر, وهو “أبو قتادة”. وللوصول إلى ذلك المنزل الذي كبر فيه عمر أبو عمر “أبو قتادة”, يصور الكاتب رأس العين من خلال درج بين الشارع العام وبين أعلى التلة في تلك المنطقة‘ وهذا الدرج إذ كان على أبو قتادة أن يقطع نصفه كي يصل إلى بيت أهله الواقع بين كتل عمرانية كونكريتية‘ هو واحد من خمسة أدراج خصصتها أمانة عمّان للسكان المقيمين على تلتين متقابلتين ومتوازيتين.
وفي مخيم عين الحلوة في لبنان الذي أصبح ملاذاً متأخراً للسلفية وبؤرة لإرسال “الجهاديين” إلى العراق, كان يتولى المسجد التابع لجماعة “عصبة الأنصار” السلفية خبر “إستشهاد” الإنتحاريين في العراق دون ان تتبنى عصبة الأنصار نفسها نشر تلك الأخبار . يتميز مخيم عين الحلوة الذي يرجع تاريخ تأسيسه إلى عام ١٩٤٩ والذي استمد إسمه من قرية عين الحلوة في الجليل الأعلى في فلسطين وتعود إليه أصول عائلة مؤسس “العصبة” هشام الشريدي, عن رأس العين في عمّان بالإرتجال والفوضى العمرانية والتنوع السكاني من مشارف إجتماعية وثقافية مختلفة بغلبة فلسطينية.
وفي شمال شرق العاصمة عمّان على بعد 20 كيلو متراً, في مدينة الزرقاء تحديداً, يدخل حازم الأمين إلى مشهد إجتماعي آخر تشكل الثقافة الجهادية مظهره الإجتماعي والعمراني. فعكس ذلك التنظيم الكونكريتي في رأس العين, نرى أنفسنا في الزرقاء التي تتداخل مع مدينة الرصيفة وعمّان لتشكل المدن الثلاث تجمعاً سكانياً ضخماً, أمام بيوت و كتل عمرانية مرتجلة, لا تلوح فيها الحياة اليومية إلى الإرتجال في البناء وإبراز كتل كونكريتية كمعالم للإزحام البشري فحسب, بل إلى التداخل بين الفوضى العمرانية التي يرتبط جزء كبير منها بنزوح الفلسطينيين إلى الزرقاء في مراحل تاريخية مختلفة وبين التوريط الإجتماعي في دائرة السلفية ليس كخيار فردي بل كنمط للحياة. مدينة الزرقاء التي تأسست في العالم الثاني من القرن العشرين من قبل مهاجرين شيشان نزحوا من حروب العثمانيين والروس, أصبحت في نهاية النصف الأول من القرن ذاته بؤرة لسكان جدد نزحوا من الحروب والتشريد أيضاً, وهم الفلسطينيون, وتعنون ذاتها بالـ “الوطن البديل” لعدد كبير من المجرّدين من الوطن ليس كمفهوم جغرافي فقط, بل كمفهوم سياسي وإنساني.
ما يربط هذه الأمكنة ويقرّبها من بعضها ليست مقاسات معمارية, بل هي مقاسات إجتماعية وإقتصادية وثقافية من جانب, و وأوطان مؤقتة سميت بالمخيمات, استرد فيها النازحون ذواتهم دون مقدمات تلوح للبقاء والإستقرار, إنما بقوا!. فالشباب الذين قَتلوا أو قُتلوا في أفغانستان والعراق بحثاً عن “الشهادة”, كان من الممكن أن يكونوا في أية دولة أوروبية أو أمريكا, ولكن وطن “القاعدة” المُتَخَيَل يتقدم على غيره من الأوطان الواقعة خارج المخيمات والمدن المرتجلة.
ليس الكتاب تالياً عن رأس العين والزرقاء والسلط وعين الحلوة ومخيم البارد, بل هو عن الوجوه الفلسطينية في منظمتي “الجهاد الإسلامي” و “القاعدة” من خلال التقصي عن خيوط تربط هذه الأمكنة التي كبرت ونشأت فيها بعوالم “الجهاد” والثقافة الإنتحارية في باكستان وأفغانستان والعراق. وهو في ذات الوقت بحث عما يميز تلك الأمكنة المتعددة المرتجلة والمنتظمة في فوضاها الإجتماعية والعمرانية فيما خص دورها البارز في تشكّل الوعي السلفي “المتعولم” في رحم هوية وطنية متلاشية في الشتات.
هناك شبه واضح بين تلك الأدراج الكونكريتية التي تربط الشارع بمنازل رأس العين في عمّان وبين تلك المراحل التي أوصلت الفلسطينيين إلى هرم منظمتي “الجهاد الإسلامي” و “القاعدة”‘ ونكتشف ذلك في كتاب “السلفي اليتيم” بما يحمل في صفحاته من معلومات وسير عن شيوخ السلفية وبيئاتهم الإجتماعية والتاريخية. فكل من صالح سرية ومحمد سالم الرحال وعبدالله عزام وأبو مصعب الزرقاوي وأبو محمد المقدسي وأبو أنس الشامي وقادة آخرين في الجهاد الإسلامي و القاعدة‘ كانوا من بيئات فلسطينية “شتاتية” شبيهة بذلك الشارع الذي يمكن تسميته بالعالم السفلي لتلة رأس العين. فمن هناك‘ حيث كان يبيع والد أبو قتادة “عمر أبو عمر” الفول والحمص‘ كان يتم رصد ما يمكن رصده من الفقر والإضطراب والفوضى الصوتية بين البيوت الكونكريتية المتلاصقة والمتصاعدة نحو قمة التلة. في مشهد الفوضى الإجتماعي والإنتظام المعماري القسري, يتطرق الكاتب إلى تحول يتميز بنوع من الغرابة في مجتمع رأس العين الفلسطيني, هو سرعة تبدل القيم والقواعد, “فبدل أن يورث الآباء المحبطون أبناءهم شيئاً مما ورثوه واستقدموه معهم من فلسطين يتولى الأبناء زرع القيم الجديدة في نفوس آبائهم. حصل هذا مع والد أبو قتادة صاحب مطعم الفول والفلافل على الشارع العام في رأس العين, والذي تحول لمؤذن ثم لإمام مسجد على يد إبنه, بعد ان كان مسلماً غير ممارس للطقوس اليومية”. ويحصل ذات التحول في مخيمات لبنان أيضاً إذ يطغي حوار المجتمع الفسلطيني الجديد والمتشكل في رحم الشتات على نوستالجيا المجتمع القديم إن صح الإستخدام. فيمكن الحصول على صورة للجليل الأعلى في ذاكرة جيل النازحين الأول, أما الأجيال الجديدة فتقتضب مصائرها في المساحات الواقعة بين بلدان اللجوء والإقامة وبين بلدان “الإستشهاد”, إما ذاك البعيد المنال أو هذا القريب وسهل المنال.
ما يمكن ملاحظته وقراءته وراء الكتابة السردية التي يعتمدها الكاتب لوصف البيئات الإجتماعية والمكانية للرموز الفلسطينية داخل الجهاد العالمي والقاعدة قبل الحديث عن الرموز ذاتها, هو تداخل سوسيولوجي بين ما يسميه علماء الإجتماع بسوسيولوجيا العموم والسوسيولوجيا السياسية, ذاك انه بتناوله مستويات متعددة من العلاقات السوسيو-تاريخية والسياسية والدينية, يدخل الى حوار إجتماعي لطالما بقي غائباً في الكتابات السوسيولوجية العربية. فالولوج إلى مساحات إجتماعية وتاريخية بين الفلسطينيين أنفسهم بدءً من النزوح وتشريدهم من وطنهم عام ١٩٤٨ من جانب وتأسيسهم لتجمعات بشرية مرتجلة وعلاقتهم بالمجتمعات العربية الأخرى “المضيفة” في الخليج والأردن ولبنان وسوريا والعراق, هو إبراز حوار إجتماعي يحمل على متنه جميع تلك المراحل التي مرِ بها الفلسطينيون قبل ان يكون كتابة تاريخية عن دور الفلسطينيين في الجهاد العالمي والقاعدة. فجميع تلك الصور المكانية والبشرية التي تشكل التمثل الفلسطيني في الكويت والسعودية والعراق والزرقاء والسلط ورأس العين في الأردن ومخيمات عين الحلوة والبارد في لبنان دون فلسطين, وفيها, الأبعاد الإجتماعية والإقتصادية والثقافية, جسدت تاريخ ما بعد النزوح الممزوج بالنظام السياسي والإجتماعي للوطن البديل, أي الشتات.
وفي ذات السياق الذي نسميه بسوسيولوجيا العموم, استوجب غياب الوطن والهوية الوطنية, إيجاد عالم هلامي يتداخل فيه العموم الشتاتي بالسياسة. ولأن الولوج في تفاصيل العلاقات السوسيو-عمرانية المرتجلة والإقتصادية والثقافية لسكان المخيمات, هو بحث عما يمكن تسميته بالوطن المتخيل أو الوطن العالمي كما رسمت “القاعدة” معالمه, تبرز معطيات الشتات السياسية من خلال حكايات النزوح وإعادة “التوطين” في مناخات قسرية إن جاز الإستخدام. على هذا النحو, تدخل السياسة في صلب تلك الفضاءات الشتاتية التي يمكن تسميتها بسوسيولوجيا الهامشيين, وفيها, تتشكل عوالم “السلفية”. ولا يمكن بطبيعة الحال حصر ما نسميه بسوسيولوجيا السياسة في دائرة “السلفية”, ذاك ان لجميع تلك الأسماء التي وسعت من دائرة “الجهاد الكَوني” صلات وروابط بالحركة الوطنية الفلسطينية, وبمنظمة “فتح” تحديداً, ناهيك عن الصلات بمناخات المُوَلِد الأكبر أو الرحم الأوسع للحركات السلفية وهو “الأخوان المسلمين”.
تالياً‘ كان الشتات الفسطيني‘ في الأردن والخليج تحديداً‘ هو الحاضنة الأولى لولادة سلفية جديدة قطعت روابط الصلة مع السلفيات غير الراديكالية بتبنّيها الجهاد المسلح وتكفير الحكومات العربية وقوى إسلامية أخرى‘ وكونَنَة الجهاد. وما يمكن ملاحظته فيما خص فلسطينية كل تلك الأسماء التي يتحقق حازم الأمين من بيئاتها الإجتماعية والثقافية والدينية قبل إختياراتها السياسية‘ هو غياب فلسطين كوطن وذاكرة وحضور “اللامكان” كوطن بديل أو كمساحة متخيلة ومتمثلة ببلاد مثل باكستان أو أفغانستان أو أي مكان آخر يمكّن رسم البطولات الجهادية فيه. ويرجع الكاتب سبب ذلك إلى ذوبان الهوية الوطنية الفلسطينية في هويات شتاتية لم تساعد على إسترجاع ذلك الفراغ الكبير الذي تركه النزوح من جانب وإنعدام هوية وطنية وإجتماعية واضحة المعالم لتنظيم القاعدة.