حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 جان ستاروبنسكي ومفهوم الحضارة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فؤاد
فريــق العــمـل
فريــق العــمـل
فؤاد


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 786
معدل التفوق : 2214
السٌّمعَة : 22
تاريخ التسجيل : 17/12/2011

جان ستاروبنسكي ومفهوم الحضارة Empty
25122013
مُساهمةجان ستاروبنسكي ومفهوم الحضارة

جان ستاروبنسكي ومفهوم الحضارة Arton1386-9ad39


هذه الدراسة تستعرض بعض توجهات وأفكار البروفيسور جان ستاروبنسكي أستاذ جامعة جنيف الكبير واحد اواخر المتبقين من ذلك الجيل الفكري الرائع الذي أنجب كبار النقاد والفلاسفة الاوروبيين. كلهم ماتوا ما عداه. نقصد بذلك الجيل الذي ولد حوالي عام 1920 مثله. وبالتالي فعمره الآن سبعة وثمانون عاما..الدراسة لا يمكن اعتبارها عرضا لكتاب بعينه بقدر ما هي مناقشة لمجموع أفكاره المنبثة في مقالاته وكتبه...إنها دراسة عامة تحاول أن تربط الماضي بالحاضر وقضاياه الملتهبة من خلال مناقشة مفهوم واحد هو: مفهوم الحضارة. فلا يمكن أن نفهم معنى صدام الحضارات أو حوار الحضارات إلا إذا اتفقنا على مفهوم واضح لكلمة: حضارة. هذا ما تحاول هذه الدراسة القيام به.
يتحدثون كثيراً هذه الأيام عن صراع الحضارات، أو عن صراع الغرب مع الشرق، أو عن صراع “الحضارة الإسلامية” مع الحضارة الغربية، دون أن يخطر على بال أحد أن يطرح هذا السؤال البسيط: ما هي الحضارة؟ وهل يمكن التوصل إلى تحديد شامل مانع لها كي نتخذه معيارا نقيس على ضوئه كل الحضارات البشرية، أو كي نميز من خلاله بين ما هو حضاري وما هو غير حضاري؟ هذا هو السؤال الذي أجاب عنه الناقد السويسري الشهير جان ستاروبنسكي. والمؤسف أن هذا الإسم غير معروف حتى الآن في العالم العربي رغم أن صاحبه لا يقل أهمية عن رولان بارت، أو جاك دريدا، أو بقية فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، إن لم يزد. وأعماله عن جان جاك روسو، ومونتيني، وستندال، ومونتسكيو وعصر التنوير الكبير والنقد الأدبي بشكل عام أصبحت مراجع لكل الباحثين في الغرب والشرق. وقد ولد في جنيف عام 1920 وما زال حيا يرزق حتى الآن. وهو يتميز بتكوين علمي مزدوج. فهو خريج كلية الطب وبخاصة الطب النفسي من جهة، وخريج كلية الآداب والعلوم الإنسانية من جهة أخرى. بمعنى آخر فإنه جمع العلم من طرفيه: العلم النظري والعلم العملي. وكان أستاذاً للأدب الفرنسي في الجامعات الأمريكية قبل أن يعود إلى جنيف كي يصبح أستاذاً في جامعتها لسنوات طويلة. وفيما يخص مفهوم الحضارة يقول هذا الناقد والمفكر العميق ما يلي: يبدو أن أول مفكر فرنسي استخدم كلمة حضارة هو الماركيز دوميرابو عام 1756. وقد ورد هذا الاستخدام في كتابه المعروف تحت عنوان: صديق البشر. وكان مما قاله: الدين هو بدون شك الكابح الأول والأكثر فائدة للبشرية. إنه أول نابض من نوابض الحضارة. فهو يدعونا باستمرار إلى الإخاء والمحبة، ويهذّب قلوبنا أويصفي نفوسنا. وأما في اللغة الإنجليزية فيبدو أن أول مفكر استخدم كلمة حضارة civilisation هوآدم فيرغسون، تلميذ الاقتصادي الشهير آدم سميث. وقد ورد ذلك في كتابه: مقالة حول تاريخ المجتمع المدني، طبعة ثالثة، لندن 1768. ويبدو أنه كان أيضاً أول من عرض بوضوح المراحل الأربع التي تمر بها المجتمعات البشرية وذلك طبقاً لفعاليتها الاقتصادية ولأنماط عيشها. فهناك أولاً المرحلة البدائية المتوحشة حيث كان الإنسان يعيش على الصيد والقنص وقطف الثمار من الأشجار في الغابات. وهناك ثانياً مرحلة البدو الرحل. وهناك ثالثاً مرحلة المزارعين المقيمين أو المستوطنين. وهناك رابعاً وأخيراً مرحلة الأمم الصناعية والتجارية الحديثة. وهي الأرقى بالطبع من حيث المستوى الحضاري. وقد اتبع جان جاك روسو نفس التقسيم التطوري المتدرج من حيث رؤيته للتاريخ أو بالأحرى لفلسفة التاريخ. وربط نمط الحياة المعيشية بالنظام السلطوي الذي يتناسب معها. وأما ديدرو فقد ربط بين الحضارة والحرية وقال إن الحضارة هي مسار الحرية الصاعد والمتقدم إلى الأمام باستمرار.فأي مجتمع تتوافر فيه الحرية يعتبر حضاريا، والعكس صحيح أيضا. وفيما بعد راح كوندورسيه يتحدث عن تسع مراحل حضارية متتابعة، وذلك قبل الوصول إلى المرحلة العاشرة: مرحلة التقدم البشري الحقيقي. وبعده راح أوغست كونت، كما هو معلوم، يتحدث عن المراحل الثلاث التي تمر بها البشرية: المرحلة اللاهوتية الدينية، فالمرحلة الميتافيزيقية، فالمرحلة العلمية الوضعية التي تمثل خاتمة التطور البشري وذروة الحضارة في نظره. وهي التي وصلتها الشعوب الأوروبية أخيراً.
هكذا نجد أن هناك عدة فلسفات للتاريخ، وعدة معان لمفهوم الحضارة. فالماركيز دوميرابو كان يرى أن العامل الحاسم في تشكيل الحضارة أو بقائها هو الدين. وجان جاك روسو كان يرى أن قابلية الإنسان للاكتمال أو للتحسُّن والتقدم نحو الأمام هو العامل الحاسم.فالانسان هو الكائن الوحيد القادر على تغيير وضعه على عكس الحيوان الذي يظل كما هو منذ ملايين السنين والذي هو سجين العادة وقوانين الطبيعة أبديا. أما الآخرون من أمثال فولتير والموسوعيين فكانوا يرون أن التنوير الديني أو الفكري هو العامل الحاسم فيما يخص الحضارة..فالمجتمع المستنير حضاري على عكس المجتمع المحكوم من قبل الأصولية الدينية. وما إن ظهرت كلمة حضارة حتى ظهرت إلى جانبها كلمة تقدم. فالحضارة مرتبطة بالتقدم بشكل لا ينفصم. ولكن الإنسان لا يتوصل إلى الحضارة إلا بعد المرور بمراحل متعاقبة كما رأينا. فليس من السهل بناء الحضارات أو التوصل إلى نظام حضاري. ولولا ذلك لأصبحت كل الأمم حضارية فورا. ويرى بعضهم أن الحضارة تكررت عبر التاريخ عدة مرات. ولكنها في كل مرة كانت تنتهي إلى الانحطاط، فالزوال. فما بعد القمة إلا السقوط. هذا ما حصل للحضارة اليونانية، فالرومانية، فالعربية الإسلامية، فالصينية، الخ... وهذا يعني أن الحضارة لا تدوم أبدياً، وإلا لدامت الحضارة المصرية الفرعونية إلى يومنا هذا... كما أنها لا تستقر أبدياً في مكان واحد، وإنما تنتقل من هذا النطاق الجغرافي إلى ذاك..الحضارة متنقلة كالبدو الرحل إذا جاز التعبير. فالحضارة الآن غربية، ولكنها قد تصبح غداً صينية، أو هندية، أو عربية إسلامية، أو برازيلية وأميركية لاتينية... الحضارة لا تدوم لأحد. وحدهم العنصريون يعتقدون أن الحضارة هي حكر على الجنس الاوروبي ـ الاميركي الأشقر الجميل.. والغريب العجيب هو أنها قد تؤذن بالأفول ما إن تصل إلى مرحلة الذروة ونعتقد أنها أصبحت نهائية مضمونة. فكأنما ينطبق عليها قول الشاعر: توقع زوالاً إذا قيل تمّ!... ونلاحظ أن الماركيز دوميرابو الذي كان صديقاً لجان جاك روسو يلح على أهمية العامل الأخلاقي، فبدونه لا حضارة. وكل المعارف المتراكمة وكل العلوم والصناعات، وكل الأساليب الناعمة في التعامل لا تنفع شيئاً ولا تشكل حضارة إذا ما انعدمت الأخلاق. يقول مثلاً: لو سألت، ما هي الحضارة؟ لأجابني معظم الناس بأنها العمران، والتهذيب، ورقة الطبائع، ونعومة التعامل، وانتشار المعارف والعلوم في المجتمع... ولكن كل هذا لا يمثل في نظري إلا قناع الفضيلة، إنه لا يمثل وجهها الحقيقي. والحضارة لا تنفع المجتمع أبداً إذا لم تعطه مضمون الفضيلة وشكلها. أقول ذلك ونحن نعلم أن فساد البشرية ظهر في المجتمعات الناعمة، المترفة، البطرة... وهذا هو رأي صديقه وأستاذه جان جاك روسو الذي ربط بشكل وثيق بين التنوير والأخلاق. وفي مكان آخر نجد المؤلف يتحدث عن الحضارة المزيفة، بل ويتحدث عن بربرية الحضارات! وهو بذلك يلغي التضاد الكائن بين البربرية والحضارة. ثم يقول مردفاً: صحيح أن الأمم الأوروبية ذات حضارات مختلفة، ولكن حضاراتها خادعة. بمعنى أن مظاهرها الخارجية تخفي الأعماق الداخلية التي ما زالت قائمة على العنف البدائي الموجود في المجتمعات الهمجية. وهكذا يتم تغليف البربرية بمظاهر حضارية براقة. بالطبع فإن المؤلف كتب هذا الكلام قبل قرنين ونصف، فكان بالتالي يصف حضارة أوروبا في ذلك الوقت وكانت لا تزال في بداياتها. ومهما يكن من أمر فإننا نستخلص من كلامه ما يلي: إن الحضارة هي مجمل المؤسسات والتقنيات التي امتلكتها الأمبراطوريات الكبرى في لحظة ما من لحظات تاريخها، ثم وصلت بها إلى الذروة قبل أن تنحدر وتنحطّ... ويعترف هذا المفكر بأنه توجد مجتمعات مختلفة في بنيتها وتركيبتها ومع ذلك فهي تستحق جميعها لقب الحضارة. ثم يقول بأن مفهوم الحضارة ينطبق على المجتمع الفرنسي في زمنه رغم وجود تفاوت اجتماعي كبير بين الناس، ورغم أن القانون يُنْتهك أحياناً. في هذه الحالة الثانية تصبح الحضارة هدفاً للنقد، أما في حالة الحضارات القديمة وخاصة اليونانية والرومانية فإنها تصبح المثل الأعلى أو المعيار. إنها المعيار الذي نستخدمه من أجل التمييز بين الحضاري وغير الحضاري، أو بين الحضاري والهمجي. وهكذا نجد أنه يصوغ انتقاداته أحياناً ضد الحضارة، وأحياناً باسم الحضارة..
ثم يواصل البروفيسور جان ستاروبنسكي بحثه العميق عن مفهوم الحضارة قائلاً: لدى اليونان كانوا يدعون بربرياً من لا يتكلم اليونانية.. وعموماً فإن كل شعب من شعوب الأرض يعتبر لغته وعاداته وتقاليده بمثابة المعيار الأمثل للحضارة، وكل ما يقع خارجها فهو همجي متوحش!.. ولكن هناك معيار آخر للحضارة هو: التمدن العمراني. بهذا المعنى فإن سكان المدن هم وحدهم الحضاريون، وذلك على عكس سكان الأرياف والجبال الوعرة والبوادي... ومعلوم أن سكان المدن يحتقرون الفلاحين ويستهزئون بهم وبعاداتهم وملابسهم.. وينعكس هذا التمييز في القواميس الفرنسية التي أُلِّفت إبان العصر الكلاسيكي: أي في القرن السابع عشر. يقول أحدها، وكان قد ظهر عام 1964: الكياسة: هي الطريقة الشريفة، والناعمة،والمهذبة في التعامل مع الآخرين، أو في المحادثة داخل المجتمع. وينبغي أن نعامل جميع الناس بكياسة. ونعلّم للأطفال الكياسة الطفولية. وجميع الناس مهذبون وحضاريون ما عدا الفلاحين، الفظّين والخشنين في عاداتهم وسلوكهم...
أما كلمة حضّر أو أدخل في الحضارة فتعني حسب القاموس المذكور ما يلي: جعل الإنسان مدنياً، مهذباً، لطيفاً وقابلاً للتعامل والتعايش مع الآخرين. وتبشير الإنجيل هو الذي حضَّر الشعوب البربرية الأكثر همجية. أما الفلاحون فليسوا متحضرين كالبورجوازيين (أي سكان المدن، وهو المعنى الأصلي لكلمة بورجوازي في اللغات الأجنبية من بورج: أي مدينة). ويرى أحد القواميس المؤلفة في القرن الثامن عشر أنه ليس من السهل تحضير الشعوب البدائية. يقول: ليس ميسوراً صقل عقلية البرابرة وتحضيرهم ودمجهم داخل مجتمع إنساني ومدني. وشعوب الشمال الأوروبي كانوا سابقاً خشنين، فظين، ولكن الزمن والآداب تمكَّنت من صقلهم وجعلهم مثقفين. ويقال عادة غن البلاط الملكي يصقل نفوس الناس القادمين من الأقاليم البعيدة والمتخلفة. وبالتالي فعلى الفن أن يصقل ما خلفته الطبيعة خشناً أو فظاً. ومحادثة السيدات في الصالونات تجعل الشاب أكثر نعومة وأقل خشونة أو همجية...
وبالتالي فالصقل يعني جعل المرء أكثر حضارة في سلوكه، ولغته، وطريقة تعامله مع البشر. وهذا الصقل لا يمكن أن يتم إلا في المدن حيث توجد الثقافة، والرفاهية المادية، والحضارة. أفتح هنا قوساً وأقول إن هذا التحديد للحضارة والربط بينها وبين العواصم يذكر بقصة علي بن الجهم عندما قدم من البوادي البعيدة على الخليفة المتوكل في بغداد ومدحه بقصيدة مطلعها:
أنت كالكلب في الوفاء وكالتيس في قراع الخطوب
فاشمأز الخليفة وانزعج من هذا التشبيه وأمر بإخراجه فورا. فكيف يشبهه بالكلب والتيس؟ وهل هو يمدحه ام يهجوه؟ ولم يدرك انه كان يمدحه بحسب قيم البداوة ومعاييرها.. ثم بعد أن أمضى سنة في عاصمة العباسيين وتعرف على العالم ودخل الصالونات والمجالس وعاشر الآنسات الحسان رقت طباعه وعاد إلى الخليفة في العام التالي بقصيدة مختلفة تماماً، قصيدة “حضارية” إذا جاز التعبير. وهي المشهورة بمطلعها:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وهكذا رققت طباعه عيون المها البغداديات وجعلنه حضاريا..كيف لا وهي القادرة على أن ترقق الحجر الصوان أو الصخر الأصم؟
فالعواصم إذن ترقّق طباع الفلاح أو البدوي القادم من الأعماق، وما يقال في باريس عن ذلك يقال في عواصم العرب... ولكن هناك من يقول العكس. بمعنى أن سكان العواصم يخفون تحت طباعهم الرقيقة وتقاليدهم الناعمة الكثير من النفاق والازدواجية، وأن البدوي أو الفلاح يبدو أكثر أصالة لأنه لا يزيّن طبيعته ولا يزوقها بالألوان البهيجة، وإنما يبدو على حقيقته كما هو.. وبالتالي فهناك احتمال أن تؤدي الحضارة إذا ما زادت عن حدها إلى الكثير من الميوعة، والتخنُّث، والنفاق. ألم يقل شاعرنا الأكبر المتنبي هذه الأبيات الخالدة:
ما أوجه الحضر المستحسنات به كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الأرام ناظرة وغير ناظرة في الحسن والطيب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا خرجن من الحمام مائلة أوراكهن ثقيلات العراقيب
لاحظ أنه يتحدث عن الماكياج حتى قبل ظهوره بألف سنة!
ثم مباشرة يرد هذان البيتان الرائعان اللذان لا يقدران بثمن:
ومن هوى كل من ليست مموهة تركت لون مشيبي غير مخضوب
ومن هوى الصدق في قولي وعادته رغبت عن شعر في الرأس مكذوب
هكذا نلاحظ ان المتنبي انتصر للبداوة ضد الحضارة او للريف ضد المدينة باسم الصدق والبراءة ومحاربة التكلف والتملق والاصطناع. ولا أعتقد أن جان جاك روسو كان سيخالفه الرأي..
مهما يكن من أمر فإن مفهوم الحضارة راح يسود في فرنسا وعموم أوروبا بدءاً من القرن الثامن عشر: أي عصر التنوير. وأخذ يدل على قابلية الإنسان للاكتمال، والتقدم، والتحسن نحو الأفضل. ولم يعد مفهوم الحضارة يدل فقط على مزيج معقد مشكل من الأخلاق الظريفة، والتركيبة الاجتماعية المعينة، والأجهزة التقنية، وزيادة المعارف والعلوم وتراكمها. لم يعد كل هذا كافيا لكي نصبح حضاريين. وإنما أصبحت كلمة الحضارة محاطة بهالة مقدسة تجعلها تارة قادرة على تقوية القيم الدينية التقليدية، وتارة قادرة على الحلول محلها.
قطيعة التنوير الكبرى
لكن أستاذ جامعة جنيف الكبير يقول إن التنوير الذي حصل في القرن الثامن عشر هو الذي أسس الحضارة التي ما زلنا نعيش في ظلها حتى الآن، على الأقل فيما يخص الشعوب المتقدمة في أوروبا. وهي حضارة تجاوزت كليا “الحضارة المسيحية” السابقة وقطعت معها وجبّت ما قبلها. وهذا حدث خطير في تاريخ البشرية ولم يتحقق كليا حتى الآن إلا في الغرب المستنير. كيف حصل ذلك؟ على هذا السؤال يجيب جان ستاروبنسكي قائلا: لقد استطاعت فلسفة التنوير أن تحرر الاوروبيين من محنة الخطيئة الأصلية التي كانت تشلهم عن الانخراط في الحياة وتغيير العالم نحو الافضل. لقد فككتها مع العقائد اللاهوتية الأخرى وأقنعت الناس بأنها وهم أو أسطورة. فالانسان ليس مذنبا سلفا ولم يرتكب أي خطيئة قبل أن يولد.. ما هذا العبث؟ وهكذا حل التفاؤل بالطبيعة البشرية محل التشاؤم الأسود والادانة اللاهوتية المرعبة. على هذا النحو كسر الانسان الاوروبي قيوده وأصفاده وانطلق بكل قوة لاكتشاف قوانين الطبيعة وفتح العالم. لقد أعطى عصر التنوير الأولوية لمعطيات الحياة المحسوسة والعاطفة الانسانية في الوقت الذي استنهض فيه همم الإرادة الحرة المستنيرة للانسان كي يصنع قدره ومصيره ويحقق الحرية على هذه الارض. وكذلك لكي يحقق الجنة هنا والآن بدلا من أي يظل ينتظرها بكل تواكل وسلبية وخنوع في العالم الآخر.وعلى هذا النحو صاغ فلاسفة التنوير برنامجا حضاريا متكاملا وطالبوا البشرية الاوروبية بالانخراط فيه لتحقيقه على مراحل. واستطاعوا إقناع أغلبية الناس به بعد أن نجحوا في تفكيك الأصولية المسيحية وسحب المشروعية الفكرية من أيدي الكنيسة ورجال الدين. وبالطبع لم يتم ذلك إلا بعد معركة ضارية.FONT>
ولكننا نعلم أنه ما إن يتخذ مفهوم ما هيبة مقدسة ويصبح قادراً على تعبئة الناس وتجييش طاقاتهم، حتى يبتدئ بإثارة الصراع بين الفئات السياسية المتنافسة أو المذاهب الفكرية المتصارعة. فكل فئة تريد أن تحتكر مفهوم الحضارة لنفسها وتعتبر أنها هي التي تمثل الحضارة أكثر من غيرها... وبدءاً من هذه اللحظة التي أصبحت فيها الحضارة قيمة عليا مقدسة فإنه لم يعد ممكناً التحدث عن نواقصها. لم تعد لها أي نواقص أو عيوب لأنها أصبحت هي المعيار الأعلى الذي يحدد ميزات ونواقص كل شيء آخر. وكل ما يقاومها أو يعرقل طريقها أصبح يعتبر بمثابة الخطأ أو الشر المطلق. وبالتالي فالحضارة تخلع المشروعية على استخدام العنف من أجل القضاء على كل من هو غير حضاري، أو يعادي الحضارة. فالبربري، أو الهمجي، أو غير الحضاري ينبغي أن نمنع شروره عن طريق تصفيته واستئصاله إذا لم نستطع تثقيفه وتهذيبه وتحضيره.. نضرب على ذلك مثلاً خلع المشروعية على الحملات الاستعمارية من قبل بعض المفكرين أو نزع هذه المشروعية عنها من قبل مفكرين آخرين. فيما يخص فكر التنوير الذي روَّج للحضارة أكثر من غيره والذي أسس الحضارة بالمعنى الحديث للكلمة نلاحظ أن كوندورسيه (1743-1794) يدين الفتوحات الاستعمارية ويدين بشكل أكثر التبشير المسيحي فيما وراء البحار. ونلاحظ أن النعوت التي تُطْلق عادة على البرابرة يطلقها كوندورسيه هنا على المستعمرين، والمبشرين المسيحيين، وعموماً على جميع أولئك الذين ظلوا مرتبطين بالخرافات الدينية في أوروبا. من هذه النعوت: دموي، طغياني، ظلامي، غيبي... ولكن في ذات الوقت نلاحظ أن كوندورسيه، أي مبشّر التنوير الفرنسي الأكبر بعد فولتير وديدرو، يشير إلى ظهور مهمة جديدة على السطح تتمثل في تثقيف الناس، وتحريرهم من الخرافات الدينية، وتحضيرهم. وهكذا راحت قدسية الحضارة لديه تحل محل قدسية الدين لدى المبشرين المسيحيين الذين يهاجمهم ويتهمهم بالعدوانية والظلامية. ولكن الهدف في كلتا الحالتين يبقى واحداً: استيعاب كل الثقافات الأخرى أو تذويبها داخل ثقافة واحدة، هي ثقافة التنوير. فبعد أن يتم تثقيف جميع الشعوب المتخلفة خارج أوروبا فإن البشرية كلها سوف تدخل في الحضارة وتصبح مستنيرة. وهكذا حلت الحضارة بالمعنى العلماني للكلمة محل الحضارة بالمعنى الديني نهائيا في اوروبا. ولم يعد أحد يتحدث عن الحضارة بالمعنى الديني او المسيحي بعد عصر التنوير. على العكس اعتبرت هذه المرحلة من قبل فلاسفة التنوير بمثابة الاصولية المتزمتة التي ينبغي القضاء عليها أو التحرر منها بأي شكل. كان المؤرخ البريطاني ادوارد جيبون (1737-1794) قد بلور نظرية أكثر اعتدالاً حول تطور الأخلاق لدى شعب ما، أو حول نقله من الحالة الهمجية إلى الحالة الحضارية. وقال إن الشعوب البربرية في آسيا إذا ما قررت أن تتفوق على الأوروبيين يوماً ما، فإن عليها أن تتبنّى فنَّنا العسكري، وصناعتنا، وبكلمة مختصرة عليها أن تتبنّى حضارتنا... ونلاحظ أن كوندورسيه يستعيد نفس الفكرة ويقول إن الحضارة سوف تبعد الشعوب الهمجية والبدوية إلى أقاصي المعمورة لكي تنقرض هناك جسدياً وثقافياً، ولكي تعم ثقافة التنوير شعوب الأرض بأسرها. هكذا نلاحظ أن توسّع التنوير يظل بالنسبة له نموذجاً ديناميكياً ومشروعاً حتى بعد أن أدان الظاهرة الاستعمارية. ولكن بما أن الحضارة هي عبارة عن صيرورة وقيمة مقدسة في آن معاً، بما أنها تنوير في حالة توسع وإشعاع مستمر، فإنه يجدر بنا أن نعرف في أي مكان تتجسد حالياً. بالطبع فإن الفرنسيين الذين طابقوا بين ثورتهم الكبرى وبين الحضارة يعتبرون بلادهم مركز الإشعاع الحضاري بالنسبة للعالم كله. أليسوا هم أول من دشن الثورة الفرنسية وأصدر الاعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن بالمعنى الحديث والكامل للكلمة؟ ولكن انجلترا تنافسهم على نفس المنصب، وربما ألمانيا أيضاً، وبلدان أوروبية أخرى، بل وحتى أمريكا.. مهما يكن من أمر فإن كوندورسيه كان قد أشار إلى ذلك. ثم جاء بعده نابليون ورفع نفس الشعار وهو يتقدم جنوده لفتح أوروبا والعالم. يقول مثلاً: أيها الجنود ! سوف تقومون بفتوحات تترتب عليها انعكاسات هائلة بالنسبة للحضارة والتجارة في العالم كله. ولا تزال الحضارة حتى الآن تستخدم الاشعاع التنويري والقوة العسكرية الجبارة لإقناع الآخرين بصواب رأيها... وما يفعله بوش في افغانستان والعراق لا يختلف في شيء عما فعله نابليون بونابرت عندما غزا أوروبا الاقطاعية ومصر. وبالتالي فالصراع الجاري حالياً بين الأصولية البن ـ لادنية والغرب هو بشكل من الأشكال صراع بين الهمجية/والتنوير رغم كل الانتقادات التي يمكن أن نوجهها للغرب وللهمجية الاميركية على وجه التحديد. بمعنى آخر فإن الهمجية الاصولية المتخلفة واقعة في صدام حاسم وربما طويل الأمد مع الاصولية “الحضارية” اذا جاز لنا ان نعتبر بوش وديك تشيني وريتشارد بيرل وايهود اولميرت وايهود باراك وكل سفاكي الدماء حضارة!
وأنا شخصيا أفرق في الغرب بين تيارين: تيار متعجرف فقد كل نزعة انسانية ولم تعد له أي قيمة إلا تجميع الأموال وتوسيع الهيمنة والنفوذ واقتناص الملذات والشهوات إلى ما لا نهاية. وهذا التيار خان كليا أو جزئيا مبادئ التنوير والحضارة. إنني لا أستطيع أن أسمي حضارة أمما مترفة تسكت على تجويع مليار شخص في العالم و تتركهم يواجهون مصيرهم دون أن تحرك ساكنا..ولا أستطيع أن اسمي حضارة أمما تطمس الحقيقة أو تعكسها كليا في فلسطين أو غير فلسطين. قد تكون حضارة مادية تكنولوجية هائلة ولكنها ليست حضارة انسانية ولا أخلاقية.
وبالتالي فالهمجية “الحضارية” إذا جاز التعبير لا تقل خطورة عن الهمجية البدائية المتخلفة للأصوليين الظلاميين. بل إنها قد تزيدها فداحة لأنها مزودة بأحدث أنواع التكنولوجيا تقدما وأكثر أنواع الأسلحة فتكا واستئصالا للبشر. وهذا ما نرى نتيجته الآن في العراق وفلسطين بشك خاص. فأين هي اذن هذه الحضارة التي يتشدقون بها وبقيمها؟ أم إنها حضارة بلا قلب ولا ضمير ولا إحساس؟ إن كاتب هذا الكلام ليس عدوا للحضارة الغربية وبالأخص الأوروبية. على العكس تماما. فقد أمضيت حياتي في تقديم بعض صفحاتها التنويرية المشرقة الى العالم العربي. ولست آسفا على ذلك أبدا. ولكني مضطر في نهاية المطاف الى تسجيل الملاحظة التالية: وهي ان لهذه الحضارة وجهين لا وجها واحد كما قال الفيلسوف الالماني يورغين هابرماس. الأول هو وجه مضيء حقق انجازات عظمى لا يستهان بها للبشرية كالمخترعات الطبية والاكتشافات العلمية ودولة الحق والقانون والمؤسسات والمساواة بين المواطنين والتسامح الديني والحرية الفكرية والتعددية السياسية والتناوب السلمي على السلطة وحرية الصحافة والقضاء على الأخطبوط الاصولي ومحاكم التفتيش الخ..كل هذا يذكر ولا ينكر لحضارة الغرب الحديثة. ولكن هناك وجه آخر أيضا او هناك القفا كما يقال،أي قفا هذه الحضارة: وهو توسعي استغلالي أناني لا يشبع من الشهوات والماديات. وهو التيار الذي خان المبادئ الأساسية التي قامت عليها هذه الحضارة ذاتها منذ القرن الثامن عشر. انظر كتاب، خيانة التنوير، للباحث الفرنسي جان كلود غيبو. وبالتالي فانا لا أحاكم هذه الحضارة من خلال معايير عربية أو اسلامية أو أية مقاييس اخرى خارجية عليها وإنما من خلال معاييرها وقيمها هي بالذات. على هذا الأساس نحاكم بوش والمحافظين الجدد واليمين الاسرائيلي وكل قادة الغرب المتغطرسين. بالطبع يستثني المرء شخصيات إنسانية رائعة من أمثال ثاباتيرو الإسباني أو العديد من الشخصيات الأخرى في الاتحاد الأوروبي الذي يمثل اكبر معجزة سياسية في العصور الحديثة. وعليه تعقد الآمال لمساعدتنا على الخروج من المأزق الانحطاطي الخطير الذي نتخبط فيه. فهو بإشعاعه علينا من خلال عبوره البحر الابيض المتوسط قد ينقل الينا شيئا من وهج هذه الحضارة الذي نحن بأمس الحاجة اليه.
و لكن هناك تيار في الغرب لم يخن المبادئ التنويرية والحضارية التي نص عليها الفلاسفة الكبار وبخاصة روسو الذي كرس له البروفيسور جان ستاروبنسكي جل عمره تقريبا وكتب عنه صفحات تبقى.. ولكن نص عليها أيضا ديدرو وكوندورسيه وكانط وهيغل وماركس الخ..هذا بالاضافة الى جوهر الانجيل بالطبع. فهو يركز كثيرا على قيم المحبة والسلام حتى الاستسلام على عكس الرئيس بوش وصقور واشنطن وتل أبيب. نقول ذلك رغم أن بوش لا ينفك يردد أن مثله الأعلى وقدوته هو: يسوع المسيح! ولكن لا نعرف كيف؟ ولا بأي وجه؟ اللهم الا إذا كان يفهمه على عكس حقيقته تماما كما يفعل الأصوليون عندنا بالنسبة للقرآن والنبي محمد..أصولية مقابل أصولية. نحن نشهد الآن صراع أصوليات لا صراع حضارات. أقول ذلك رغم اني أعتبر أصولية القاعدة بمثابة الشر المطلق. وبالتالي فإن التيار الانساني الانجيلي التنويري لا يتمثل في بوش إنما في شخصيات من نوع عالم اللاهوت الكبير هانز كونغ او الرئيس جيمي كارتر والديموقراطيين في أميركا أو التيارات اليسارية والوسطية والمسيحية الانسانية المستنيرة في اوروبا . مهما يكن من أمر فإن التنويريين العرب يجدون أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه. انهم محصورون بين فكي كماشة: الفك الأول هو الأصولية المتزمتة بطبيعة الحال، والفك الثاني هو اليمين المتطرف الاوروبي الاميركي الصهيوني الحاقد سلفا ودون أي نقاش على كل شيء اسمه عرب أو اسلام. وبين هذين الفكين الشرسين يضيق مجال الحركة اكثر فاكثر، وكذلك هامش الحرية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

جان ستاروبنسكي ومفهوم الحضارة :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

جان ستاروبنسكي ومفهوم الحضارة

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
»  الترجمة ومفهوم الأصل
»  نصر حامد ابو زيد ومفهوم النص
»  حفرة الحضارة ...!
» حفرة الحضارة ...!
» محمد عابد الجابري .. ومفهوم النقد

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: