يركن العالم العربي في لجّة الانقطاع عن التطور،حيث يعمّه التخلف في كل المناحي،فيغرق في التجزئة ويستبطن القطرية أمةً (سوريةً،عراقيةً،مصريةً،الخ( ويكتفي بالتجارة، والخدمات والمال اقتصاداً، وبالدولة مصدراً للثروة والنهب والقمع. فيه تنهار القيم فلا مشروع نهضويا يُعمل له، ولا مستقبل واقعيا ومتقدما يُحفرَ له. إنه العيش في الماضي أو في الحاضر مع عين مفتوحة نحو التلاشي. هذا العالم، نظامه السياسي مفوّت : فهو إما طائفية سياسية وإما يتجه نحو ذلك (جهادية إرهابيةً أم أصولية “وطنية”).وبالتالي، نعتبره خاضعاً وتابعاً للخارج بأشكالٍ يستفيد منها الخارج ويتجوف فيها الداخل؛ في علاقة لا تسمح بالقول بداخل وخارج إلا من باب التحليل. ولأن الأمر كذلك، يُعمّر فيه الفراغ قصوراً من الأوهام وتبنى على رماله مدن الظلام ويتحرك اله الموت سيداً متجولاً مقداماً وشاهراً سيفه لا تهدر له عزيمة وكلّه نشاط وحيوية.
لا ريب أن هذا العالم، الكثير التذرر، يحتاج إلى الكثير الكثير من الروابط والجمعيات والمنظمات والأحزاب العقلانية والعلمانية، رفداً لاستنهاض مشروع نهضوي ديمقراطي لا يراكم بقدر ما يمتاز بكونه دريئة لإطلاق الرصاص وربما تلعب هذه الرابطة، راطة العقلانيّين العرب، دوراً في هذا المسعى القديم الجديد، مسعى الحداثة بكل تجلياتها وثوراتها. وهذا ما فرضَ عليّ عدم تجاهل هذا البيان خاصةً أنه يُقدم نفسه ضمن هذه السيرورة.
البيان المنشور في أكثر من موقع، لم يحظ بتغطية نقدية فعلية، ربما يحتاج الأمر إلى وقت، وربما لا يأتي الوقت، ولكنه حدّد وقته ومضى إلى العمل، وهذا الخيار هو بالضبط :اعمل ودع الآخرين يقولون ما يشاؤون، أو لا يقولون.
أدخل في النقد : البيان حدّد لحظة التحولات الارتكاسية في العالم العربي بهزيمة حزيران 1967 والسؤال : أهذه الهزيمة لحظة مقطوعة من التاريخ -رغم أهميتها كلحظة- أم إن شروطاً تاريخيةً أوصلت العرب إليها؟ وهل ما تحقق من منجزات حداثية – سابقة أو تالية لمرحلة الاستقلال الوطني- كان يشي بالتطور المستقل والطبيعي؟ ولو افترضنا صحة ذلك، هل من المعقول أن تتلاشى تلك المنجزات في أقل من عقدين، مع الهزيمة؟ ألا يستدعي هذا التلاشي – وهذا ما نتفق عليه جزئياً- بحثاً معمّقاً عن أسباب الارتكاس؟
أحدّد هذه الأسباب بدايةً، في افتقاد العرب لدولتهم القومية الممثلة للأمة بشكلها الحداثي أي العلماني، وعدم بناء اقتصاد صناعي أساسي. وان سبب ذلك قبل الاستقلال، الاستعمارات التقليدية والامبريالية. والعلاقة الناشئة بأثرها، أثناء وبعد تلك الاستعمارات. وهذا هو ما أثّر على تشكّل العالم العربي عالماً مجزءاً وتابعاً ومتخلفاً وأصولياً وتقليدياً تكرارياً حتى في نزعاته القومية أو الشيوعية أو الأصولية والآن الليبرالية. أي أنه يفرز عقلاً أحادياً يمتلك الحقيقة المطلقة، للنفس وللآخر. وهي تعيد -العلاقة وآثارها- إنتاج ذاته بصورية كاريكاتورية ومثيرة للسخرية إذا ما قارنّا حداثتنا بحداثة الغرب اقتصادياً وسياسياً ومعرفياً وثقافياً وأدبياً. وهذا ما انعكس على طبيعة التحوّلات وارتكاسها وأدى إلى الفشل الذريع في المعارك “القومية” ضد إسرائيل وتحولت نكبات وهزائم وتحركات.
ومن نتائج الفشل الاعتراف الصريح والمعلن بالدفاع عن حق الدولة الصهيونية في الوجود كما هي كدولة صهيونية. وهذا كان منذ البدء من قِبل الأنظمة العربية (أي منذ التقاعس حين نشأت دولة إسرائيل) وقد أصبح الأمر علنياً وجماعياً كي لا“يزعل” أي زعيم عربي ، في المبادرة العربية المشهورة.
على كلٍ، المنجزات الحداثية التي يقول بها البيان، لو كانت حقيقة فعلية ومجسدة مادياً وعبر الطبقات المسيطرة لحققت مهماتها التاريخية التي يسألها التاريخ عنها وهي تحاول التصدي لها. ولتشكّلت دولتنا الجامعة ككل القوميات المتقدمة. ولكنها، ولأنها لم تكن إلّا أثرا كما أشرت لوحدة عالمية إمبريالية لم تستطع مواجهة مهماتها فحدثت الثورات والتحولات الوطنية والثورية والعسكرية وأصبحنا محكومين بقبضة الدول الأمنية وبالتفتت الداخلي الانعزالي وفق قيم العشيرة والطائفة والمذهب والإقليم والجهاديات الإرهابية والأصوليات.
الوضعية العربية بعد الارتكاس هي نتيجة لما سبق، ونضيف بأنه وبإشراف دولتي عربي وأمريكي بصورة خاصة -القاعدة- برزت“التيارات الإسلامية التي تكفر الفكر والمعرفة والإبداع والتراجع المتصاعد لدور المثقف النقدي إلى تخوم الاستقلال والتلاشي”. وهذا المثقف لا يملك قدرة التغيير وتلك التيارات لا يعنيها الأمر -والأغلب يعنيها إيقافها- بل ربما تجد أن هذا المثقف“الأهبل”هو مشكلتها، فتكفّره، وتحلّ دمه في الشوارع.وهنا يخطئ المثقفون التنويريون والحداثيون اعتبار هذه التيارات وحدها مشكلتهم. لأن مشكلتهم مركبة معقدة عالمية ومحلية في آن.. ولذلك نحلّل.
يشير البيان إلى ضرورة “الثقافة النقدية” وأن من مهمات الرابطة العقلانية“السعي إلى تفسير الخراب العربي” و“إعادة بناء ما خرب بوسائل عقلانية..أخذت بها الشعوب التي نأت بمصيرها عن المصائر العربية”. هذه الجملة ملتبسة، وكنت آمل لو تمت الإشارة إلى تلك الشعوب، وأية وسائل ساعدت على التطور. ولكن العبارة متضمنة أن العرب هم وحدهم المسئولون عن مصيرهم.ولو كان ذلك كذلك،لماذا أتت الاستعمارات التقليدية لتمديننا؟ ثم ما هو أثر تمدينها علينا؟وما هي الوظيفة التاريخية لدولة إسرائيل إمبريالياً ؟وما تأثير الأخيرة في ديمومة أنظمتنا التسلطية؟ ولماذا هي تسلطية؟ وما الذي تفعله الدولة الأمريكية في العراق والخليج وفي علاقاتها المميزة مع كثير مع دولنا في الوقت الذي تُطرد جزئياً من حديقتها الخلفيّة “أمريكا اللاتينية”؟ الاسترسال هنا ضروريٌ لكشف الباطن الراغب في التحرر وهذا من ميزات كل بيان! فكيف إذا كان بيانا لـِ“رابطة العقلانيين العرب”.
ولذلك أؤكدّ مجدّداً أن مصائر العرب هي نتائج عالم موحد تسيطر فيه دول من شعوب أخرى أخذت (بالصناعة والاستعمار وقيم التنوير...) وطورّتها على حساب العرب وغير العرب.
أشار البيان إلى مطالب الحداثة ولم يقف عند الدعوة المجردة لحق المواطنة، وأكساه مما تراكم في التاريخ الحداثي الأوربي. فأشار إلى“حقوق المواطنة الاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية والمدنية”وحسناً فعل، خلافا لكثير من كتّابنا العرب الليبراليين الذي يشيرون إلى المواطنة كتجريد أو كمسألة قانونية وإلى حقوق الإنسان كحقوق سياسية فقط وكأنها ممكنة التحقق بلا ملحقاتها “الاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية والمدنية”. ولكن تقدم كتلة الحقوق ليس من أصل الحداثة الليبرالية فقط بل هو كذلك نتاج تراكمات تاريخية لعبت فيها الإضرابات والثورات والاحتجاجات العمالية وحتى وجود القطب الاشتراكي دوراً أساسياً، وكرد فعل ضدها. وهذا ما تجلى بصفة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية ممثلاً بدولة الرفاه في الدول المتقدمة. وكان يجب إيلاء مسألة البيئة وضرورة الوعي بها أهمية في إطار تلك الحقوق حاضراً ومستقبلاً وبشكل مستدام، فهي تعتبر من أخطر قضايا العصر بلا منازع.
تؤكد الوثيقة على أن“سيرورة الحداثة لا تنطلق من الجماعة والجموع المتجانسة بل من الفردية المستقلة الحرّة”، والسؤال هل كانت الحداثة نتاج فردية مستقلة أم نتاج جماعات منتظمة في حراك مؤطر وغير مؤطر ويمثل الأفراد؟ وهل الانتظام في جماعات كالنقابات والأحزاب والجمعيات غير ذات فعالية؟ ولو تخلينا عنها، ماذا يبقى من مؤسسات الدولة الحديثة؟ ثم ألم تكن هذه الجماعات هي التي عمّقت قيم الفردية المستقلّة وساعدت مثلاً المرأة في تحصيل حقوقها وإن تأخرت في نيلها؟ وهذا من نقائص الحداثة الأوربية.
وإذ يرفض البيان مفاهيم“الأكثرية والأقلية وروابط الدم” بمعناها الديني السياسي وأنها غير صالحة لبناء دولة المواطنة أو الوعي المواطني الحداثي، وهذا صحيح، فإن البيان يقع في الخطأ بخصوص التعددية بمعانيها “إثنية ودينية وثقافية”. فالتعددية الثقافية أمر صائب وكذلك الاثنية ولكن التعددية الدينية ماذا تعني؟ أليست تعزيزا للايدولوجيا الدينية والطائفية؟ وأقصد أن التعددية إما أن تكون حداثية وإما أن تكون تعددية ماضوية وعندها نقع في الدوران المميت. وبالتالي فالمساواة تكون فقط على أرضية الحداثة و فصل المجال السياسي عن المجال الديني. والتعددية : لا إطلاقية فيها في المجال السياسي وبالتالي هي متعددة ومشروطة ومحددة في المجالات الثقافية والسياسية (ليبرالية وقومية واشتراكية) وفي هذه القضايا أيضاً. وأما ما عدا ذلك ولا سيما الدينية أو الاجتماعية فهي مجالات خاصة للأفراد أو للجماعات ولهم حق ممارستها بغض النظر عن الدين أو الجنس أو القومية، وهذا الوضع يتم فقط في الدولة الديمقراطية العلمانية.
أستغرب أخيراً أن تؤكد الرابطة أن انطلاقتها من“موروث عربي سابق له إسهاماته العقلانية المتعددة”. والسؤال هل هذا الموروث، موروث حداثي أم موروث عقلاني دون أدنى شك ولكنه مرتبط بتاريخ مضى وانقضى ولا بد أن يعاد إنتاجه نقديّاً، استناداً إلى المعطيات المنهجية الحداثية للحضارة الرأسمالية، ولرافضي هذه الحضارة لكونها ضد الحداثة، ومن أجل حداثة تنسجم بالفعل مع إنسانية الإنسان وتعتمد تطورات الفلسفة والمنطق والعلم في كل المجالات الطبيعية والإنسانية والاجتماعية والأدبية وغير ذلك .وبالتالي عقلانية موروثنا لا يمكن التعامل معها إلا بوصفها موضوع معرفة سواء كان الموضوع : النص الديني أو الفكر أو الفلسفة أو العلوم أو التصوف. أما ضرورة تأكيد أهميتها التاريخية فهي كونها جزءا من تاريخنا المميّز. وعندها نرتبط بماضينا من اجل الحاضر وليس العكس ونؤسس للمستقبل بحلقات مترابطة.
الأخذ بالفكرة المنقودة يعني أننا لم نتجاوز إشكالية النقل ـ العقل الشهيرة في الفلسفة العربية الإسلامية. وبالتالي لسنا بحاجة إلى ابن رشد ولا إلى ابن خلدون ضد الغزالي وابن تيمية ولا ضد أصوليات تأخذ بأقوال هذين الأخيرين، بل لا بد من القطع مع هذه الأشكال من الإشكاليات. فنحن إشكاليتنا إشكاليات متعددة، تتحدد بصورة عامة بحداثة مجتمعاتنا وكيفية ذلك وفي كل مستويات البنية الاجتماعية العربية. وبالتالي حاجتنا الآن وهذا يشمل القرن العشرين على أقل تقدير وقرننا الحالي إلى مشروع حداثة جديد ومتميز؛ يميز مشروع الحداثة الأوربية والاشتراكية المخفقة ويتجاوز عثراتها وأزماتها . فهو إذن لا يكتفي بديكارت ولا بكانط ولا هيغل ولا ماركس ولا بكل النتاجات الفلسفية العظيمة. بل وكذلك بكل إنجازات العلم الحديث. وعندها ربما نبدأ الدخول في التاريخ الحداثي.
أحتفي أخيراً بهذه الرابطة وبدورها، فقد تابعت موقع الأوان على مدى الأشهر السابقة وكان متميزاً رغم نقدي لكثير من المنهجيات أو الأفكار التي وردت فيه. وأما ما قرأته من نقد بعض المثقفين فأنا آخذ ما له علاقة بالنقد المعرفي وأحاوره وهو ضروري وأما غير ذلك من النقد الماهوي والتخويني فأعتبره من نقائص المعرفة ولوازم المصالح وعقلية التسييس. وربما له أهداف أخرى لا يجب الوقوف عندها. ففي حالة التكفير أو التخوين هناك القانون الذي يتولى مهمة التحقيق.
قضية احتكار العقلانية قضية مثيرة للأهمية فالموقع كان متعددا إلى حدٍ ما، وإن كانت سمته الغالبة اللبرلة وهذه سياسة خاصة بالموقع وهذا أمر طبيعي، فكل موقع في الكون له سياسة كما حال الأحزاب والبشر وكل شيء. وبخصوص العقلانية، النص ينطق بما فيه وبوضوح هذه المرة ودون باطن، فيقول إن الرابطة “لا تحتكر القول ولا تدعي الأسبقية في شيء”، بما فيه العقلانية، وبالتالي لماذا توجيه النقد بالاحتكار وكأن الرابطة شركة احتكارية متعددة الجنسيات وتنزعها عن غيرها؟ أما قضية التمويل فوفّق المُعلن عنّه في موقع الأوان قديماً وحديثاً فإنه واضح في هذه القضية ومحدد بشخص معروف. فلماذا هذا التشكيك بالنوايا؟ نعم مشكلة التمويل كارثة حقيقية لكثير من المنظمات، وهي تستقطب أفضل النخب في العالم العربي بعد أن تخلت عنهم أنظمتهم. ولكن في حالة الأوان هي واضحة، ومن يريد أن يتهم فليكن الأمر واضحاً ومحدّداً وببيانات، وإلا فإننا سنقول إنه جزء من تهم معروفة ومشهورة في عالمنا العربي وهي كثيرة أكثر من الهم على القلب كما يقولون وأضيف من القلب نفسه.
—