لإسلام و طرق الحكم:
في الحفل الإعلامي الدعوي الدائم، المقام للصحوة الإسلامية منذ ثمانينات القرن الماضي و حتى اليوم ، تجد الإصرار على تهيئة العقل المسلم لقبول فكرة شديدة البطلان ، مفادها أن الإسلام قد احتوى كل ما وصلت إليه الحداثة من مبادئ ، و قيم ، و حقوق إنسانية ، و عقد اجتماعي ، و أنظمة سياسية ديموقراطية ، و حرية فردانية مقدسة . . إلخ. .
فإذا كان المسلمون يملكون كل تلك الأدوات الحاكمة بين الشعب و الحاكم في مؤسسات دولة، بما أدى لإرادة شعبية واعية أصبحت هي الحاكم الحقيقي عبر انتخابات حرة، فلماذا نحن في قاع الأمم، بينما شعوب الغرب الكافر قد صنعت جنتها في بلادها في أرضها. إنها ذات قصة العلم و الإيمان أن نعيش وهمنا الخاص لنؤكد لأنفسنا أن كل قيم التحضر كانت موجودة لدينا لكننا لم نعرفها حتى اكتشفها لنا الغرب الكافر الملعون.
إن معظم هذه المفاهيم عن عقد اجتماعي و حريات و حقوق إنسان ديمقراطية علمانية، هي بنت زماننا، و لم يعرفها الإسلام لأنها لم تكن قد وجدت في القاموس الإنساني بعد، ومن يقول بغير ذلك، فهو كمن يقول إن الصحابة و الفقهاء عرفوا قيم العدل و التفوق و التحضر و لم يعملوا بها، و تركوا المسلمين تحت الاستبداد الخليفي و الإمامي، و هذه جريمة تاريخية لا تغتفر و لا تليق بالصحابة و لا الفقهاء.
لنأخذ واحداً فقط من هذه المفاهيم ( مفهوم العدل ( ، الذي يجمع عليه دعاة الدولة الإسلامية كقاسم قيمي مشترك لجميع التيارات ، فلا أحد سيختلف على العدل باعتباره قيمة حقوقية و اجتماعية و اقتصادية و سياسية ، فهو قيمة القيم جميعاً و أسها المشترك . المشكلة تواجهنا عندما نبدأ التعامل مع مفهوم العدل بتغير المكان و الزمان، و في زمان مختلف عن زماننا، و في مكان مختلف عن مكاننا، عاش أعدل حكام زمنه في الحجاز الخليفة عمر بن الخطاب، حتى صيغت حول عدله الأقاصيص و الأشعار الشهيرة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر، و هو من تحولت بعض أقواله قرآناً نزل به الوحي مؤيداً لما رأى عمر ، حتى روي الترمذي عن النبي ( ص ) : “لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر” ، و أجمعت الروايات أنه كان صلباً في دين الله لا تأخذه في الله لومة لائم .
كان من عدل عمر في زمانه أنه كان يوزع الأموال التي انهمرت على يثرب من البلاد المفتوحة، حتى لا يبقى في بيت المال درهم يحاسبه الله عليه. . . ماذا فعل به ؟ ، و كان أخشى الناس ـ فيما كان يردد ـ من مكر الله . فكثَر المال و نزح الخيرات الضنينة الموجودة في الجزيرة دون إنتاج مواز، فدخلت أعوام المجاعة المعروفة بالرمادة. لأن معيار الخليفة و همَه الأساسي كان اتقاء مكر الله، و أن يضمن لنفسه النجاة يوم البعث و الحساب، لأنه لم يكن رجل سياسة و اقتصاد ، فوقعت كارثة الرمادة رغم انهمار أموال الفتوحات .
صام الخليفة العادل عن أطايب الطعام و أكل الشعير الملتوت بالزيت حتى اسود جلده ، مشاركاً رعيته مصابهم الجلل ، و من ثم أرسل لعمرو بن العاص يستغيث ، فأرسل إليه بقافلة طعام و سوائم نفق معظمها في الطريق ، فاستشار ابن العاص المقربين منه من المصريين عن أسلم السبل و أسرعها لإيصال المؤونة إلى يثرب ، فأشاروا عليه بإعادة حفر قناة سيزوستريس التي تربط النيل بالبحر الأحمر ، لكن ذلك كان يعني بوار أرض مصر عدة أعوام ، نتيجة انشغال اليد العاملة في سخرة القناة ، فرد عليه الخليفة عمر : “اعمل فيها و عجل ، أخرب الله مصر في عمار مدينة رسول الله / الطبري ، وعلى اتفاق بين رواة السير والأخبار / كتاب التاريخ / بيروت / مجلد 2 ص509” .
و هكذا كانت منظومة ذلك الزمان ومنطقه أن على المهزوم أن يدفع ثمن هزيمته الدائم ، و أن عمر كان لا يرى المصريين ضمن رعاياه ، لأن رعاياه هم العرب المسلمون وحدهم ، لذلك شاركهم مصابهم ، و طلب لهم الغوث و لو بخراب مصر .
و عمر هو صاحب عهد الذمة المشهور الذي تعامل مع غير المسلمين في البلاد المفتوحة باعتبارهم عبيداً أنجاساً مناكيد ، يجب أن يعلنوا عن أنفسهم بلبس ما يغاير المسلمين حتى يعرفوا فلا يسلم عليهم و لا يتاجرون مع المسلمين ، قال مالك بن أنس : “بلغني أن عمر بن الخطاب كتب إلى البلدان ينهاهم أن يكون النصارى و اليهود في أسواقهم و أن يقاموا من الأسواق كلها” . و من ثم لم ير في هؤلاء رعية له، بل كانوا مجرد أشياء نافعة كالسوائم ، فهم مجلبة للفيء و الجزية ومصدرلهما مع تحملهم المذلة و الهوان طالما ظلوا غير مسلمين . وهو شأن غير شأننا اليوم ، لأن في بلادنا مواطنين غير مسلمين لا نستطيع أن نسلبهم حق المواطنة ، أو أن نعاملهم كأنهم في درجة أدنى في سلم البشرية .
و على مستوى جزيرة العرب حيث رعية الخليفة، فإن الخليفة إيغالاً منه في خلوص ضميره، قام يقسم الفيء الوارد من البلاد المفتوحة على عرب الجزيرة حسب منازل الناس في الدعوة ، ففرض لمن حضر بدراً خمسة آلاف ، لأنهم كانوا وقود النصر البدري و مفصل تحول محوري من ضعف إلى قوة ، حتى أن النبي ( ص ) قال بشأنهم : إن الله قد غفر لأهل بدر ما تقدم من ذنب و ما تأخر " و فرض لمن بعد بدر حتى الحديبية أربعة آلاف ، ثم من الحديبية إلى نهاية حروب الردة البكرية ثلاثة آلاف ، ثم لأهل القادسية و الشام ألفين ، و حتى اليرموك ألفا . .
و أدخل مع أهل بدر من ليس منهم، مثل الحسن و الحسين وأبا ذر و سلمان، بل وفرض للعباس عم النبي متألفا الهاشميين، و كان العباس كافراً حتى فتح مكة، خمسة و عشرين ألفا ، و أعطى نساء النبي من الفيء كل منهن عشرة آلاف عدا مملوكات النبي مثل ريحانة بنت عمرو بن خنافة . فتحزب نساء النبي و طلبوا المساواة بينهن في العطاء الحرة كالأمة، ففعل ثم زاد عائشة ألفين ردتها عليه . و هكذا في سبيل خلوص ضمير عمر ، قسم الناس رتبا و منازل فلم يعودوا رعية، وانعدمت المساواة بالمرة ، و هذا كله كان مقبولاً في زمنه لأنه كان يحكم بضميره الشخصي كصاحب للنبي و مستشاره عندما كان حياً . و ما عاد ممكناً أن يتم حكمنا اليوم بهذه الطريقة الإسلامية، لأن المساواة بين المواطنين هي الأس الأول لقيام دولة حديثة ديمقراطية. حتى لو وافقنا على كل ما يفصلها عن زماننا من اختلاف في معنى القيم ، و سلمنا بهذه القيم القديمة فإننا سنكون في هذه الحال بحاجة لعمر أو للنبي ليحكمنا لنسلم له رقابنا و نحن مطمئنون إلى عدله ، و ليس إلى القيمة نفسها ، و ليس بيننا اليوم من يمكنه أن يزعم هذا الزعم و يركب هذا المرتقى الصعب .
هذه المرجعية السياسية كانت زمنها في بيئتها ضرورة لا سبيل دونها لاستمرار تماسك هذا التوحد القبلي الكونفودرالي ، ومازالت هي المرجعية الإسلامية التي يريدها دعاة الدولة الإسلامية ، مرجعية لدولة يؤكدون أنها ديموقراطية !! فكيف يلتقيان ؟
كانت الخلافة طوال عصورها هي الاستبداد عينه، و الطغيان ذاته، و انعقاد البيعة كان يتم بالاستيلاء أولاً على السلطة، ثم سوق الناس لبيعة السلطان الجديد بالزواجر، و عندما امتنع آل بيت النبي من الهاشميين عن مبايعة أبي بكر، أرسل إليهم عمر بن الخطاب و معه نار يريد أن يحرق بيت فاطمة بنت النبي على المجتمعين بداخله، وكان أمر أبي بكر لعمر “إن أبوا فقاتلهم” . لا معنى هنا إذن لكلمة معارضة كما نفهمها اليوم، ولا علاقة لهذه البيعة بنظام دولة ديموقراطي أو غير ديموقراطي، كانت نظاماً خاصاً جداً، و كانت البيعة عبارة عن إعلان إذعان شعبي للحاكم الجديد، لأن الإمبراطورية الإسلامية قامت على مبدأ عنصري طائفي لا يعترف بأي تعددية و هو أمر لا علاقة له بالدين في حد ذاته، و بالتأكيد لو تعددت سلطات الطوائف لتفكك المجتمع و تحارب، هكذا منطق التاريخ القاهر الصانع لما يلائم الزمن و المكان، و هو ما حدث في العراق عندما جعلت كل ملة و كل مذهب من رؤيتها ديناً صحيحاً تحارب به الدين الباطل، و الباطل هو أي دين أو مذهب آخر حتى داخل الإسلام نفسه. فكانت مجازر مازالت قائمة، ندعواتقاء لها بألطاف الله حتى ينزل العراقيون الطائفة و الدين من أعلى سلم القيم، و أن يضعوا الوطن قبل الدين على سلم القيم الأساسية للمجتمع، حتى يتوقف نزيف الدم المفجع المهين. إن التعددية في المبدأ الديموقراطي القائم على قيمة الوطن العليا التي لا تدانيها قيمة، لأنها التي تجعل المرجعية هي المواطنة و الولاء لوطن يجمع الجميع على اختلاف مللهم و نحلهم و مذاهبهم في مساواة تامة تخلق حرية فتخلق ديموقراطية، تعددية مسالمة منتجة تقوم على الترابط وفق عقد اجتماعي قانوني تتحدد فيه الحقوق و الواجبات للجميع على حد سواء. هذه هي شروط قيام الدولة الديموقراطية، فأين هي مما رأيناه في الدولة الإسلامية المزعومة حسب شروطها الشرعية ؟ !
واقعنا بين الدولة الدينية و الدولة المدنية :
في معظم عالمنا الإسلامي ديكتاتوريتان تتصارعان على استمرار الديكتاتورية لا على إقامة الديموقراطية:
1. ديكتاتورية عسكر و أسر حاكمة وتمثل الخليفة الإسلامي التاريخي ، و تحاكي نظامه .
2. ديكتاتورية دينية إما حليفة للسلطة أو معارضة لها ، و يمثلها الإمام أو الشيخ .
و كلاهما سواء الحاكم أو الخليفة ، و الشيخ أو الإمام ، في حالة صراعية حول من يأخذ نصيبا أكبر من الفريسة ، لكنهما لا يختلفان مصيرياً و لا منهجياً ، إنه صراع الإمام و الخليفة منذ فصل معاوية بين سلطة الحكم و إمامة الصلاة و عين للصلاة الجامعة شيخاً إماماً .
— كلاهما لا يؤمن بمبدأ التداول السلمي على السلطة ، كلاهما لا يؤمن بحرية الفكر و الرأي و النقد ، كلاهما يهدر كرامة المواطن بحرمانه من حقوقه كل بطريقته الخاصة ، كل منهم يدعم نفسه بقوة جبارة : واحد بالقوة العسكرية و واحد بالدين و ربنا ، كل منهما يريد الإنفراد بالفريسة و لا تشغله مصالحها . العسكريون يمتهنون كرامة المواطن بالسوط و المعتقل، و الدينيون يمتهنون عقله، و يقمعونه بالتكفير و القتل و تضليل هذا العقل بالخرافات والأساطير و فتاوى بول الناقة و بول النبي و رضاع الكبير والحجامة والجن، الحكومات تقوم بمصادرة الكتب و الصحف، و رجال الدين يصادرون بقدر أكبر، مفتي الحكومة يجرم فيلما،
— ومفتي الجماعة يكفر كتاباً ، الحكومات و أدعياء الدولة الدينية ضد حرية الاعتقاد ، و ضد الشيعة في المناطق السنية ، و ضد السنة في المناطق الشيعية ، و ضد الأقباط ، و ضد الأمازيغ ، و ضد الأكراد ، و ضد البهائية ، الحكومات تجلد الناشطين الإسلاميين ، و المجلودون يشرعون الجلد إسلامياً و هو فقط للبغال ، يذهب المواطن إلى قسم الشرطة يهينونه ، يذهب إلى الجامع يهدرون كرامته و يحملونه كل خيبات أمة المسلمين .
— أصحاب فكرة الدولة الإسلامية يقولون بالعودة للسلف، و هو ما كان صالحاً لهذا السلف في زمنه، فلو كان فيه خيراً لنا اليوم أو كان عندهم سبباً لتقدم سياسي حقوقي لظلوا متقدمين و هم على قلب المسلمين من زمان ، و لصرنا صناع الحضارة و حقوق الإنسان و التكنولوجيا ، و لأمسينا أعضاء مجلس الأمن ، و لأصبح الغرب هو النامي المتخلف يتلقى منا المساعدات زكاة و صدقات على اليتامى و أبناء السبيل من مشردي نيويورك ولندن.
— الإسلاميون يعرضون أنفسهم باعتبارهم الإسلام مع فتاوى يكون عصيانها إثما ، و هو ما يعني أن اختيار غيرهم جريمة دينية ، عندهم وسائل دعائية كبرى منذ الصحوة و السادات ، و قبلها منذ عسكر يوليو و ناصر مستعينين بالدين ، كل كتبهم و قراراتهم تدعو للسلف و الخلافة ، والدعاة أحباب الله فكيف يرفض الناس انتخابهم ؟، لذلك يتم الانتخاب على أساس ديني لا ديموقراطي ، لذلك فإن من نجح منهم في الاقتراع قد جاءت بهم الطائفية الدينية لا الديموقراطية ، لأن الديموقراطية تأتي بالأكفأ أداء سياسياً
— و إدارياً و الأوعى بالصالح العام للمجتمع ، بينما الانتخابات عندنا تحولت إلى طقس عبادة يظهر به المؤمن مدى حبه لربه و ولائه لدينه بانتخاب الأكثر تقوى أو زاعماً لها ، أصبحت جهازاً يقتلون به و يقتلون أمام الصناديق .
— لقد جعلوا الانتخابات السياسية خياراً بين الإيمان و الكفر نتيجة مزج الدين بالسياسة، و من ثم سيفضل الناس الرب على الديموقراطية التي يتم هنا دفنها فوراً، الانتخابات في بلاد المسلمين أصبحت استجواباً موجهاً إلى المسلم البسيط: هل أنت مؤمن بقدرة الرب على حل مشاكلك كلها ؟ هل تؤمن أن الإسلام مكتمل يحوي كل الحلول و أنه هو الحل ؟ . . الإجابة