ساحة الحرية فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 902 معدل التفوق : 6211 السٌّمعَة : 25 تاريخ التسجيل : 11/12/2011
| | التغلغل الإسرائيلي في حوض النيل من "شد الأطراف" إلى "البتر" | |
مصطفى شفيق علام*(رئيس قسم العلاقات الدولية بالمركز العربي للدراسات الإنسانية) عمدت الاستراتيجية الإسرائيلية منذ نهاية الخمسينيات من القرن الماضي إلي تطويع مبدأ "شد الأطراف" Peripheral doctrine في تعاملها مع الدول العربية، والذي يتلخص في إقامة تحالفات غير رسمية مع الدول الواقعة على أطراف منطقة الشرق الأوسط لاستخدامها كأداة للضغط على تلك الدول في إطار الصراع العربي الإسرائيلي.ولقد ارتأت إسرائيل بنظرة استشرافية مبكرة أن حصر معركتها مع العرب في الجبهة الحدودية الضيقة لا يخدم مشروعها الاستعماري التوسعي، ولذلك فقد سعت باتجاه توسيع هذه الجبهة أو البؤرة الصراعية نحو دول المحيط العربي، ومن ثم فقد ارتبطت إسرائيل –ولا تزال وإن اختلفت درجة وشكل الارتباط - بالمثلث التركي -الإيراني - الأثيوبي شرقًا وشمالاً وجنوبًا على الترتيب.وبجانب علاقاتها الاستراتيجية الوثيقة مع أثيوبيا، فقد ظل التوجه الإسرائيلي نحو القارة الأفريقية ككل يشكل جزءًا من الصراع العربي الإسرائيلي من جهة، وجزءًا من نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على التفوق العسكري واكتساب الشرعية والهيمنة والتحكم في المنطقة من جهة أخرى، إلى جانب أهميتها الجيواستراتيجية في تطويق الدول العربية -خاصة مصر-وحرمانها من أي نفوذ قائم أو محتمل داخل القارة الأفريقية.ولقد شهدت العلاقات الإسرائيلية الأفريقية تطورًا ملحوظًا منذ بداية عام 2003م، ويرجع المحللون الإستراتيجيون جل أسباب هذا التطور إلى الغزو الأمريكي الغاشم للعراق واحتلاله، انطلاقًا من حقيقة مدركة مفادها أن إسرائيل هي الشريك الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة، الأمر الذي يوفر لها درجة كبيرة من حرية الحركة في تعاملها مع الدول الأفريقية ضمن إطار يسعى لتصوير تلك العلاقات على أنها جسر للتقارب مع القوة العظمى الكبرى المهيمنة في العالم(1).مصر والسودان.. شد الأطراف بالمياهويمكن القول إن منطقة شرق أفريقيا وتحديدًا دول حوض النيل كانت أحد أبرز مناطق النفوذ التي سعت الاستراتيجية الإسرائيلية إلى احتوائها والتمدد فيها حيث تحتفظ إسرائيل ببعثات دبلوماسية كاملة يرأسها سفراء في كل من إرتيريا وأثيوبيا وكينيا. كما أنها تمثل ببعثة دبلوماسية في جمهورية الكونغو الديمقراطية ويرأس هذه البعثة سفير مقيم في مقر وزارة الخارجية الإسرائيلية. أما باقي دول حوض النيل وهي أوغندة وتنزانيا ورواندا وبوروندي فإن إسرائيل تعتمد على سفرائها المقيمين في دول الجوار الأفريقية لرعاية مصالحها في هذه الدول(2).ولعل أبرز الأدوات التي استخدمتها إسرائيل في تغلغلها الأفريقي النيلي لتطويق مصر والسودان وشد أطرافهما هو ملف المياه، وذلك عبر إغراء دول المنبع في حوض النيل بإثارة القلاقل والاضطرابات مع دولتي المصب مصر والسودان بزعم ضرورة إعادة النظر في مسألة نسبة الموارد المائية المقررة لكل دولة من دول حوض النيل، وذلك لخلق حالة من الشلل في أطراف الدولة المصرية والسودانية، الأمر الذي يترتب عليه -وفقًا للدكتور حامد ربيع- "عدم قدرة الجسد على الحركة بكامل قدراته وقواه"(3).وتركزت مطالب دول المنبع في اجتماعهم الأخير بشرم الشيخ المصرية في عدد من النقاط القديمة التي طالما طالبوا بها أو أثاروا الجدل بشأنها بين الحين والآخر وفقًا لحالة العلاقات بين أطرافها من جهة والعلاقات المصرية الإسرائيلية من جهة أخرى، ولعل أهم تلك النقاط؛ إلغاء جميع الاتفاقات السابقة حول مياه النيل ابتداء لاسيما ما يتعلق منها بحصص كل دولة (تحدد تلك الاتفاقات حصة مصر بـ55.5 مليار متر مكعب و18.5 مليار متر مكعب للسودان)، واقتسام مياه النهر بنسب متساوية بين جميع دول حوض النيل دون أي اعتبار لعدد السكان أو المساحات الزراعية أو كميات المياه المطلوبة لمشروعات التنمية (4).بل إن الأمر تعدى مرحلة الخلاف على الحصص المائية إلى المناداة بمبدأ تسعير المياه كأساس جديد للتعاون بين دول حوض النيل وتحديدًا بين دول المنبع ودولتي المصب. حيث دعت كل من كينيا وأثيوبيا إلى ضرورة التعامل مع مياه النيل باعتبارها موردًا طبيعيًا شأنه شأن النفط، ومن ثم فإن دول المنبع مستعدة لشراء النفط من دولتي المصب –مصر والسودان- مقابل قيام الأخيرتين بشراء احتياجاتهما المائية من دول المنبع وفق تسعيرة يمكن التفاوض بشأنها لاحقًا (5).وهناك من يرى أن التطورات الجديدة في ملف الصراع المائي بين دول حوض النيل إنما يأتي في إطار مخطط أمريكي تنفذه إسرائيل، يسعى لانتزاع النفوذ في دول المنبع من أوروبا عمومًا، وفرنسا على وجه الخصوص، ولذلك فإن الإدارة الأمريكية توفر لإسرائيل المناخ اللازم للتأثير على تلك الدول لتنفيذ استراتيجيتها في المنطقة(6).من شد الأطراف إلى البتر أيًا كانت الاعتبارات، فإن رياح انفصال جنوب السودان التي تلوح نذرها في الأفق القريب تؤذن بتحول فارق في الاستراتيجيات الصهيو- أمريكية إزاء المنطقة، من اعتماد مبدأ شد الأطراف أو قرص الآذان للتأثير على هذه الدولة أو تلك إلى مبدأ البتر أو الفصل، وإذا ما قرر الجنوبيون الاستقلال عن السودان الأم فإن الأمر سيلقي بظلاله لا على الأمن المائي في مصر والسودان فحسب، بل إن الأمر سيتعدى ذلك إلى المساس بمنظومة الأمن العربي بمفهومه الشامل.ولا شك أن ما يواجهه السودان من تحديات ،لاسيما قضية انفصال الجنوب إنما هو في التحليل الأخير محاولة لتغيير هويته الحضارية الإسلامية في إطار تنافس قيمي بين رؤيتين متضادتين: الأولى ترى السودان جزءًا من محيطه الحضاري العربي الإفريقي الإسلامي، والثانية ترمي لربطه بإفريقيا فقط في إطار ما يسمى بـ "أفرقة الوجه الحضاري للسودان" ومن ثم ربطه بالعالم الغربي ومنظومته الفكرية ذات الصبغة المسيحية الأنجلوسكسونية(7).وإذا كان التغلغل الإسرائيلي -المدعوم أمريكياً- في دول حوض النيل، قد استطاع في غيبة الدور العربي والمصري خاصةً منذ أن قررت مصر الانكماش في سياستها الخارجية وبالذات مع أفريقيا التي كانت صاحبة الكلمة العليا والأولى فيها على مدى سنوات، أن يجعل من إسرائيل قوة لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة لتلك الدول لا سيما في مجال المشروعات المائية من إقامة سدود وقناطر و مشروعات زراعية وغيرها(8)، فإن مصر لديها من الوسائل والأدوات ما يمكن به استعادة زمام المبادرة في تلك الدول الأفرونيلية.ولعل الأدوات الفنية تمثل أحد أبرز تلك المفردات التي يمكن أن تحقق لمصر حضورًا إقليميًا قياديًا لا يخفى في أفريقيا عامة ومنطقة حوض النيل خاصة، وقد مثل التعاون الفني بين مصر وغيرها من الدول الأفريقية أحد أبرز عناوين حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إبان حقبة مصر "الثورية"، لاسيما في مجالات الصحة والصناعة والزراعة والري والصرف والمشروعات الهندسية وغيرها، ولقد كان حضور شركات مصرية في تلك الفترة من قبيل "المقاولون العرب" في بعض الحواضر الأفريقية مثلاً يفوق في كثافته – أو يعادل على أقل تقدير– حضور كبرى الشركات العالمية التابعة للدول المستعمرة السابقة للقارة السمراء.ومع تسليمنا بتراجع الحضور "الفني" المصري "الإقليمي" في الآونة الأخيرة لأسباب لا مجال لبيانها في هذا المقام، إلا أن لدى مصر من الوسائل والأدوات في هذا المجال ما يمكنها – لو توافرت الإرادة السياسية – من استرجاع دورها "القيادي" في هذا المضمار، مثل؛ المركز المصري الدولي للزراعة، ومركز بحوث ودراسات الشرطة، والصندوق المصري للتعاون الفني مع أفريقيا، ومعهد تدريب الإعلاميين الأفارقة وغيرها من الأطر والمؤسسات الفنية الفاعلة(9).وختامًا ينبغي التنبيه إلى أن إسرائيل–مع خطورة سلوكها إزاء العرب والمسلمين- ليست اللاعب الوحيد في منطقة حوض النيل، فإلى جانب إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية فإن هناك دولاً أوروبية وغربية عدة أقدمت على شراء مساحات شاسعة من الأراضي في أثيوبيا وأوغندا وكينيا بهدف استصلاحها وزراعتها بمياه النيل لتوفير احتياجاتها من الحبوب والمواد الغذائية، ولا يخفى ما في هذا المسلك من تأثير بالغ على موارد النهر ليس من الناحية الاقتصادية فحسب ولكن من الناحية السياسية من باب أولى. | |
|