جرح التّفضيل الإلهيّ
كانت حصّة ابن الزّنا في فرنسا تعادل نصف حصّة الأبناء الشّرعيّين، إلى أن تمّ تعديل القانون الفرنسيّ سنة 2000 ، امتثالا للمعايير التي تعتمدها المجموعة الأوروبّيّة في العمل بمبدإ المساواة. وعملا بآية المواريث التي تنصّ على أنّ “للذّكر مثل حظّ الأنثيين” (النّساء، 11)، ترث الابنة التّونسيّة “الشّرعيّة” اليوم نصف ما يرثه أخوها الذّكر. فتونس لم تشهد بعد الإصلاح القانونيّ الذي يسوّي بين الورثة بقطع النّظر عن الجنس ونوعيّة البنوّة. ولكنّ اللاّفت للنّظر على كلّ حال، هو أنّ ابن الزّنا في نظام ميراثيّ نظير البنت الشّرعيّة في نظام آخر.
هذه المقارنة بين نظامين قانونيّين مختلفين قد تبدو خلطا غريبا، ولكنّنا نرى فيها نوعا من “التّرجمة” التي تمكّننا من الكشف عن طريقة اشتغال الأنظمة الميراثيّة وعلاقتها بأجهزة السّلطة التي تقوم عليها المجتمعات التّقليديّة، أي تسمح لنا باكتشاف اللاّمفكّر فيه واللاّمصرّح به في هذه الأنظمة، ككلّ عمليّة ترجمة بين الثّقافات. فالتّمييز في حصّة الميراث طبقا للجنس والتّمييز طبقا لطبيعة البنوّة يشتركان في أمر مهمّ : إنّهما ناتجان عن الخوف نفسه من “الشّائبة” التي تشوب التّسلسل المطّرد لنسل الأب وتشوب نقلة أملاكه. ولد الزّنا هو “ابن الحرام” المنحدر من الغريبة، والبنت وإن كانت شرعيّة فإنّها تظلّ الغريبة التي تتزوّج غريبا يمدّ يده إلى ميراث الأب. المرأة هي الغريبة التي تدخل الغريب إلى بيت الأب، رغم أنّها تمثّل في الوقت نفسه حافظة للهويّة وللشّرف في النّظام الأخلاقيّ. فما يبدو مولّدا لهذين النّوعين من التّمييز في الميراث هو نوع من عبادة الخاصّ والمحض والعصبة، أي القرابة من جهة الأب، والملكيّة الخاصّة العصبيّة والنّسب الأبويّ والاسم الأبويّ.
وهذه “التّرجمة” من شأنها أن تكشف أيضا عن العنف البارد الصّامت المنجرّ عن التّمييز عندما يكون مؤسّسيّا، وعندما يستند إلى تنظيمات اجتماعيّة ضاربة في القدم، فيكون بديهيّا مسلّما به، ويكون التّشكيك فيه كالتّشكيك في قرص الشّمس الطّالع في وضح النّهار. ورغم ذلك، فإنّ قسمة الميراث كما نعيشها اليوم لحظة غريبة تتكثّف فيها معاني الوجود والنّصيب، بحيث يمكن أن تهمس البنت الشّرعيّة أو كلّ من يرث نصف حصّة إخوته : “أنا أساوي حصّتي، حصّتي نصف حصّة لأنّني نصف بشر”... ففي اللّحظات الحرجة التي يمثّلها الحداد والافتراق والقسمة يدرك هذا الصّنف من البشر أنّ لعنة ما تبصمهم بالغرابة والهجنة، وأنّهم يتحمّلون وزر إثم لم يقترفوه، هو إثم تلويث النّسب وميراث الأب.
ولكنّ هجنة المرأة تبدو لنا أكبر من هجنة ولد الزّنا، بما أنّها ليست ناجمة عن ملابسات حياة الأب، بل هي نتاج مباشر لكينونة المرأة باعتبارها امرأة. فليس من الغريب أن يكون المحرّم المتعلّق بالميراث منظّما اليوم حول المرأة، بما أنّ الابن غير الشّرعيّ المولود من أب تونسيّ يمكن أن يرث كبقيّة إخوته إذا قبل الأب بالأمر، في حين أنّ المساواة في الميراث بين الرّجال والنّساء تواجهها معارضة عنيفة ومتنامية، ليس أدلّ على ذلك ممّا قرأته مؤخّرا في بعض مدوّنات شيكة الأنترنيت، فقد اعتبر بعض المدوّنين العرب مطالبة التّونسيّات بالمساواة في الإرث من أشراط السّاعة لا أكثر ولا أقلّ.
إنّ التّناظر الذي أقمناه بين الابن غير الشّرعيّ والبنت وإن كشف لنا بعض أبعاد المعاملة القانونيّة المهينة، فإنّه لا يفسّر لنا سبب تواصل المحرّم ومحاولات تأبيده عندما يتعلّق الأمر بالنّساء المسلمات. هجنة المرأة قد تكون معطى أنتروبولوجيّا ناجما عن الصّيغة العتيقة لمنطق تبادل النّساء، ولكنّ لعنة المرأة المسلمة لها أسباب أخرى تضاف إلى هذه المعطيات العامّة نسبيّا.
فعمليّة التّرجمة تفضي بنا إلى عمليّة حفر في الذّاكرة وفي أرشيف النّصوص، لمحاولة إحلال مبدإ “للذّكر مثل حظّ الأنثيين” في سياقه التّاريخيّ والعقائديّ، مقتصرين على مسألة ميراث الأبناء، دون الدّخول في تفاصيل علم الفرائض وفي تفريعاته المعروفة والمنشورة قي كتب التّراث، فليست هذه غايتنا من هذا المقال.
يبدو أنّ العرب في الجاهليّة لم يعرفوا نظاما ميراثيّا موحّدا، بحيث كانت المٍرأة ترث في بعض القبائل ولا ترث في بعضها الآخر. ولكن يمكن أن نستنتج من القرآن ومن الجهاز التّفسيريّ المحيط به أنّ مبدأ التّفضيل على أساس المشاركة في الحرب كان معمولا به لدى هذه المجموعات القبليّة التي يمثّل فيها الغزو وتحصيل الغنيمة وسيلة للإنتاج : يقول الواحديّ : “وكانوا في الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكراً، إنما يورثون الرجال الكبار، وكانوا يقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وحاز الغنيمة.” (أسباب نزول القرآن، ص 50، موقع الورّاق). وقد تعامل الإسلام على نحو مختلف مع هاتين الفئتين المحرومتين من الميراث. أمّا الصّبيان، فهم اليتامى الذين أنصفهم القرآن، ومنحهم حقّ الميراث في الآية الثّانية من السّورة التي جاءت فيها آية المواريث المشار إليها، وهي سورة النّساء : “وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدّلوا الخبيث بالطّيّب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنّه كان حوبا كبيرا.”
أمّا النّساء، فشأنهنّ أكثر تعقيدا، لما تفيده الأبحاث التّاريخيّة من وجود نظامين ميراثيّين مختلفين : نظام مكّيّ يمكّن النّساء من الميراث، ومن ميراث أزواجهنّ خاصّة، وهو ما يفسّر ثروة خديجة زوجة الرّسول الأولى، ونظام مدنيّ كان فيه النّساء لا يرثن، بل يتوارثن أحيانا. فحصيلة ما فعله القرآن في ما يتّصل بميراث المرأة يتمثّل فيما يلي :
1-النّهي عن توارث النّساء رغم عدم رضاهنّ، كما جاء في الآية 18 من السّورة نفسها : “يا أيّها الَّذينَ آمَنوا لا يَحِلُّ لَكُم أَن تَرِثُوا النِساءَ كَرها”. وتحريمه في الآية 22 : “وَلا تَنكِحوا ما نَكَحَ آَباؤُكُم مِّنَ النِساءِ...”. وهذا التّحريم يعني أنّ الإسلام لطّف من قسوة منطق تبادل النّساء بجعل النّساء الحرائر لا يتوارثن كالعبيد.
2-استبدال مبدإ التّمييز في الميراث على أساس القدرة في المشاركة في الحرب بالتّمييز على أساس النّوع، بما أنّ الصّبيان أصبحوا يرثون كالكهول، وظلّ عامل التّفرقة الأساسيّ في أحكام الميراث هو الاختلاف بين الذّكر والأنثى، وبين العصبة وذوي الرّحم، وهم الأقرباء من الأمّ.
3-إيجاد حلّ وسط بين حرمان النّساء من الميراث وتوريثهنّ مثل الرّجال، عن طرق مبدإ التّنصيف.
ربّما يكون هذا الحلّ الوسط نوعا من التّوفيق بين النّظامين المكّيّ والمدنيّ، ولكنّ مبدأ التّنصيف ذاته يجب أن يساءل على ضوء الأحكام الأخرى المحدّدة لمنزلة المرأة في الإسلام، وهذا ما سنحاول تبيّنه، دون أن نحاكم المؤسّسة الإسلاميّة النّاشئة بمعايير العصر الحديث، ودون أن نتبنّي الموقف الدّفاعيّ التّمجيديّ الذي يترك التّاريخ جانبا ليرى ما يريد، مستسلما إلى الحلم بالفردوس المفقود.
لم تكن المساواة بين المرأة والرّجل مطروحة في العصور القديمة بالوعي الذي تطرح به اليوم، وداخل السّياق المفاهيميّ نفسه. ومع ذلك، فيمكن أن نذهب إلى أنّ تساوي نصيب المرأة والرّجل في الميراث-لكي لا نستعمل العبارة الحديثة : “المساواة في الميراث”- لم يكن أمرا لامفكّرا فيه في عهد النّبيّ، بل كان إمكانيّة مطروحة في أفق المجموعة النّاشئة بما يعتمل فيها من طموح ما إلى تحقيق نوع من العدالة. كانت هذه الفترة فترة تحوّل واهتزاز للمؤسّسات القديمة، جعلا بعض النّساء الجسورات يطالبن النّبيّ بما سيصبح منعه شيئا فشيئا من الثّوابت المجمع عليها. يقول الواحديّ في تفسير أسباب نزول الآية “وَلا تَتَمَنَّوا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعضَكُم عَلى بَعضٍ” : أخبرنا إسماعيل بن أبي القاسم الصوفي، أخبرنا إسماعيل بن نجيد، حدثنا جعفر بن محمد بن سوار، أخبرنا قتيبة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله تعالى (وَلا تَتَمنوا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعضَكُم عَلى بَعضٍ)". (ص50، موقع الورّاق).
في منطق هذه المرأة المكّيّة التي كانت إحدى زوجات الرّسول، لم يعد القتال مزيّة للرّجال تجعلهم جديرين بالميراث، بل أصبح مزيّة للرّجال تضاف إلى القتال مع ما يتبعه من غنيمة. فالسّؤال الذي طرحته هو : كيف يمكّن الرّجال من وسيلة إنتاج هي الجهاد، ومن وسيلة انتقال للثّروة هي الميراث؟ لماذا يفضل الرّجال على النّساء بالجهاد وبالميراث؟ لماذا يفضّل اللّه الرّجال على النّساء؟
وهناك رواية أخرى تبيّن أنّ النّساء طالبن أيضا بالجهاد : “أخبرنا محمد بن عبد العزيز، أن محمد بن الحسين أخبرهم عن محمد بن يحيى بن يزيد، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عتاب بن بشير، عن حصيف، عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد، فقلن: وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فأنزل الله تعالى (وَلا تَتَمَنَّوا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعضَكُم عَلى بَعضٍ)”.
ربّما كان لمطالبة النّساء بالميراث تأثير في القرار الإلهيّ بعدم حرمان النّساء من الميراث حرمانا تامّا، ولكنّ عدم الحرمان كان يدخل في إطار الإنصاف لا المساواة. إنّ مبدأ الإنصاف غير مبدإ المساواة، لأنّ الإنصاف يعني تلطيف العلاقة بين الفاضل والمفضول دون إلغاء علاقة التّفاضل، وهذا ما فعله الإسلام في ما تعلّق بالرّقيق وفيما تعلّق بأحكام النّكاح. بل يمكن أن نذهب إلى أنّ الإنصاف من شأنه أن يبرز الأفضليّة ويؤبّدها، وهو ما يظهر من خلال دعوة القرآن إلى التّدرّج في معاقبة الزّوج زوجته معاقبة تصل إلى حدّ الضّرب، ففي ذلك تأكيد لمبدإ قيام الرّجال على النّساء، وحدّ من الإسراف الذي يمكن أن تؤدّي إليه متعة الرّجال المطلقة بطاعة الزّوجات لهنّ. فنحن نتّفق مع أنصار “النّسويّة الإسلاميّة” في اعتبار الحدّ من تسلّط الزّوج إنصافا للمرأة ورحمة بها، إلاّ أنّنا لا نتّفق معهم في الخلط بين الإنصاف والمساواة، بل نرى في هذا الإنصاف دعما لعلاقة السّيّد بالمسود، وإطالة لها بجعلها في حدود المحتمل. الإنصاف في المنظومات الاجتماعيّة القديمة هو ما يجعل العبد لا يفكّر في الأبوق، وما يجعل المرأة تتحمّل شروط النّكاح وطاعة الزّوج، ومؤسّسة الحجاب وكلّ آليّات المراقبة المسلّطة عليها.
وما نستنتجه رغم تعدّد روايات أسباب نزول الآية المذكورة، هو أنّ النّساء ذهبن في مطالبتهنّ إلى أبعد الحدود، وكان الرّدّ عليهنّ رادعا إلى أبعد الحدود. كان الرّدّ عليهنّ قاطعا وجازما، رابطا بين النّصيب في الإرث وبين قيمة الإنسان. إذا كان نصيب النّساء أقّلّ من نصيب الرّجال، وإذا كان الرّجال ينفردون بمزيّة الجهاد والغنيمة، فلأنّهم بكلّ بساطة أفضل من النّساء.
كان الجواب قرارا إلهيّا، وكان تأسيسا لمبدإ أنطولوجيّ وقانونيّ سيحدّد سقف الممكن، وسيحدّد نصيب النّساء من الميراث ومنزلتهنّ ودورهنّ في المجتمع طيلة قرون طويلة تمتدّ إلى اليوم. هذا القرار بأفضليّة الرّجال على النّساء لم يرد ضمنيّا أو مفترضا، أو “مشكلا”، بل كان صريحا لا غبار عليه، وهكذا فهمه القدامى رجالا ونساء حسب ما تفيده نصوص التّراث. وقد تكرّرت صيغ هذا القرار : أعيد التّذكير به في الآية 34 من السّورة نفسها : “الرّجال قوّمون على النّساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم...” ونجد تذكيرا به في الآية 228 من سورة البقرة : “... ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف وللرّجال عليهنّ درجة، واللّه عزيز حكيم”.
كان العصر عصر الأفضليّة لا عصر المساواة، وكان أقصى ما يمكن أن يؤنسن به نظام الأفضليّة هو حماية المفضول من إفراط الأفضل في العسف أي إنصاف المفضول لإدامة نظام الأفضليّة. كان لا بدّ من وضع حدّ لهذه المطالبة بالمساواة في عصر لم يكن فيه للمساواة بين الذّكر والأنثى وبين الأحرار والعبيد، والمسلمين وغير المسلمين مكان.
فنظام المواريث لم يكن اعتباطيّا بل كان مساوقا للمراتبيّة الاجتماعيّة التي كانت محكومة بأفضليّات ثلاث : أفضليّة الرّجال على النّساء، وأفضليّة الأحرار على العبيد، وأفضليّة المسلمين على غير المسلمين. وهذا ما يؤدّي إلى الأصناف التّالية من الورثة والموروثين : الوارث التّامّ، وهو الذّكر، والذي يرث نصف نصيب الذّكر ونصف نصيب الأنثى، أي نصيبا ينقصه ثلث، وهو “الخنثى المشكل” حسب أغلب الفقهاء، و“نصف الوارث” وهي البنت الأنثى، والذين لا يرثون، وهم غير المسلمين، وأطفال الزّنا، والقتلة، والذين لا يورثون، وهم المرتدّون، والذي يتوارثون ولا يرثون، وهم العبيد.
إلاّ أنّ مقدار نصيب المرأة لم يكن اعتباطيّا كذلك، لأنّ مبدأ التّنصيف كان ملاحقا لها منذ ولادتها إلى موتها. فـ“عقيقة” البنت، أي الوليمة التي تقام عند ولادتها يذبح فيها نصف ما يذبح في عقيقة الذّكر (شاة واحد مقابل شاتين للذّكر)، وشهادة المرأة تساوي شهادة نصف رجل، ودية المرأة، أي ثمن دمها إذا قتلت واختار أهلها العقل بدل القصاص هي نصف دية الرّجل حسب إجماع كلّ الفقهاء، وهو إجماع يستند إلى حديث يضعّفه بعض فقهاء اليوم، متغافلين عن مبدإ الأفضليّة الذي ينصّ عليه القرآن. ونجد في بعض النّصوص ربطا وثيقا بين نصيب المرأة من الميراث وقيمة ديتها، فقد جاء في لسان العرب : “وفي حديث ابن المسيب : المرأَة تُعاقِل الرجل إِلى ثُلُث ديتها، فإِن جاوزت الثلث رُدَّت إِلى نصف دية الرجل، ومعناه أَن دية المرأَة في الأَصل على النصف من دية الرجل كما أَنها تَرِث نصف ما يَرِث ما يَرِث الذَّكَرُ، فجَعَلَها سعيدُ بن المسيب تُساوي الرجلَ فيما يكون دون ثلث الدية.” (مادّ ع ق ل).
فلئن كان نصيب الابنة في الميراث نصف نصيب الذّكر، فمردّ ذلك يعود إلى أنّها ببساطة تساوي نصف رجل. إنّها بحكم أنّها نوع من الملك يسمّى “مالكيّة غير المال”، وبحكم طبيعة عقد النّكاح، ذات منزلة هجينة : إنّها وإن كانت حرّة، فهي في منزلة وسط بين الحرّيّة والعبوديّة : إنّها تنتمي إلى صنف الأحرار بحكم أنّها لا تورث ولا تستأجر ولا توهب ولا تخضع إلى البيوع كبقيّة المال، ولكنّها تنتمي إلى صنف العبيد لأنّها “تباع” إلى الزّوج بمقابل هو الصّداق. ولهذا السّبب يقول حجّة الإسلام الغزالي عن النّكاح والزّوجة : “والقول الشّافي فيه أنّ النّكاح نوع رقّ، فهي رقيقة له، فعليها طاعة الزّوج مطلقا في كلّ ما طلب منها في نفسها ممّا لا معصية فيه…” (إحياء علوم الدّين، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1986، 2/ 62-64). وليست الهجنة التي ذكرناها في أوّل المقال سوى راسب من رواسب هذه الهجنة العتيقة التي بصمت تاريخ المرأة بالعبوديّة.
وهكذا نفهم سرّ همس المحرومة من حظّها الكامل من الميراث : أنا أساوي حصّتي، حصّتي نصف حصّة لأنّني نصف بشر. وما هذا النّصّ الذي كتبناه سوى رجع الصّدى لهذا الهمس الذي سمعناه مرّات، من نساء حائرات جازعات، يؤول بهنّ الأمر إلى الصّمت والرّضا بالمقدور الآتي من بعيد.
كيف يمكن للّه أن يفضّل قسما من خلقه على قسم آخر؟ إذا كانت المرأة في الإسلام مخلوقا مكلّفا وذا روح، كما يقول أنصار النّسويّة الإسلاميّة، فلماذا تكون دون الرّجل، بل ولماذا تساوي نصف رجل، ويساوي دمها نصف دم الرّجل؟ هل يمكن التّسليم بهذا المبدإ دون دكّ مبدإ العدل الإلهيّ؟
هذا الحرج هو ما شعر به إخوان الصّفاء في انتفاضة حاولوا بها إنقاذ العدل الإلهيّ : “واعلم يا أخي أن كثيراً من العقلاء الذين يتعاطون الفلسفة والنظر في المعقولات، إذا فكروا بعقولهم في أحكام الناموس، وقاسوها بآرائهم وتمييزهم وفهمهم، يؤدي بهم اجتهادهم وقياساتهم إلى أن يروا ويعتقدوا في كثير من أحكام الناموس أن العدل والحق والصواب في خلافه، كل ذلك لقصور فهمهم وقلة تمييزهم وعجز معرفتهم عن كنه أسرار أحكام الناموس. مثال ذلك أنهم إذا فكروا في حكم المواريث، أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فيرون أن الصواب كان أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، لأن النساء ضعفاء قلائل الحيلة في اكتساب بالمال، ولا يدرون ولا يبصرون أن هذا الحكم الذي حكم به الناموس يؤول الأمر به إلى ما أشاروا إليه وأرادوه، وذلك أن الناموس لما حكم للذكر مثل حظ الأنثيين، حكم أيضاً أن المهر في التزويج على الرجال للنساء، فهذا الحكم يؤول الأمر به إلى أن يحصل للأنثى من المال مثل حظ الذكرين.مثال ذلك لو أنك ورثت من والدك ألف درهم وورثت أختك خمسمائة درهم، فإذا تزوجت أخذت مهرها خمسمائة درهم أخرى، فيصير معها ألف درهم، وأنت إذا تزوجت وأمهرت خمسمائة درهم بقي معك من المال نصف ما مع أختك.” (رسائل إخوان الصّفاء، ص 629، موقع الورّاق).
تختلف هواجس المتفلسفين عن هواجس الفقهاء. فما فات إخوان الصّفاء هو أنّ مهر المرأة ليس نظيرا لنصيبها المشطور من الميراث، فالمهر هو الأجر الذي يدفع مقابل استمتاع الرّجل بجسدها في النّكاح، وهو ما تنصّ عليه الآية 24 من سورة النّساء : “... وأحلّ عليكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة”.
لم يكن الفقه هاجس هؤلاء المتفلسفين، ولم يكن هاجس الفقهاء العدل الإلهيّ، ولم يكونوا يبالون بـ“ناموس” الفلاسفة، بقدر مبالاتهم بالأحكام التي تضمن استقرار المجتمع وتواصل سلطة الأسياد.
أفضليّة الرّجال على النّساء كانت قرارا إلهيّا ومبدأ تشريعيّا بديهيّا في عصر الرّقّ والقوامة، أمّا في عصرنا الحاضر، فقد تحوّلت إلى جرح منسيّ وغير مندمل، كما سنبيّنه لاحقا. اكتفينا في هذه الحلقة بالتّرجمة إشارة إلى اللّعنة المبهمة، واكتفينا بالحفر في الذّاكرة لربط عدم المساواة في الميراث بهذا الجرح.
قد لا يكون هذا المقال قابلا للاستعمال السّياسيّ في الجدل الحاليّ حول المساواة في الإرث، وقد لا يجد قبولا لدى أعداء المساواة في الميراث وأنصارها، ولكن كان لابدّ لي من كتابته، لأنّ جرح التّفضيل الإلهيّ يفغر فاه مع ولادة كلّ طفلة في عالم الإسلام، ولأنّ النّضال من أجل المساواة لا يمكن أن يقتصر على المطالبة بالحقّ، بل يجب أن تصاحبه عمليّة تذكّر وبحث في أسباب حضور الماضي في حاضرنا وأسباب بقاء أشباحه حائمة حولنا. لا بدّ من معرفة ركام الضّحايا الذين بنت أديان التّوحيد صرح عبادة الأب على أجسادهم، ربّما لكي تقهر سطوة الأمّهات العتيقات والآلهة المؤنّثة، ربّما لأسباب وجيهة في تلك العصور الغابرة... أمّا اليوم، فلا بدّ من البحث وراء اللّعنة المبهمة عن الجرح، وتحويل الجرح إلى قدرة على التّجاوز والنّسيان. هذا أحد الدّروس التي تعلّمتها من التّحليل النّفسيّ. هكذا يمكن أن نطرق باب المستقبل عساه ينفتح