نقد التفكيكية ..
نقاط مختصرة عن جاك دريدا و التفكيكية ..
* بؤرة "التفكيكية" تتركز في اعتبار الحقيقة مفهوم نسبي يعتمد على موقف المثقف وإطاره المعرفي الذي ينطلق منه .. المثقف الذي لن يكون محايدا أبدا .. مثله مثل "الكاهن" الذي يرى بنور الله .. أو البرجوازي الذي يرى بعيون الشيطان (المال) .. أو السياسي الذي لا يرى أصلا ..
الكل يعتقد أن أحكامه ترتكز إلى مقدمات منطقية .. ومقنعة أيضا ..
الرد :
لا شك ان دريدا يريدنا ان نفهم افكاره بدقة ، مستعملا اللغة التي يقول انها غير دقيقة ولا تؤدي الى شيء .. هذا تناقض بين الهدف وبين الوسيلة ..
الفكرة الاولى : فكرة نسبية الحقيقة دائما ، هذا غير صحيح ، كأنها تقول : لا يوجد حقيقة ، لأن كلا يرى الحقيقة من وجهة نظره ، وهذا ادعاء للحقيقة بلا نسبية بحد ذاته ، و لو كان الامر كذلك لما وجد اي تفاهم ولا علم .. العكس تماما هو الصحيح والواقع ؛ لأن الحقيقة ثابتة يستطيع الجميع معرفتها والبعض يتحايل عليها ، أمكن وجود التفاهم ، و احتاج الناس لبعضهم ، و بحث الناس عن المعرفة والعلم يدل على وجود ثابت ؛ لانه لا احد يبحث عن حقيقة غير ثابتة . فغير الثابت والنسبي أصلا ليس بحقيقة . فكوننا في هذه اللحظة في الليل ليست حقيقة نسبية ، كون الماء اذا تجمد تمدد ليست حقيقة نسبية ، كون الشمس تظهر من المشرق ليست حقيقة نسبية ، كون العقل افضل من الجنون ليست حقيقة نسبية ، كون المحبة افضل من الكراهية ليست حقيقة نسبية .
لا مكان للنسبية مع وجود الحقيقة ، الحقيقة اذا اتضحت تقضي على النسبية كما قيل في الامثال : قطعت جهيزة صوت كل خطيب ، عندما كان الناس يختلفون في أن الفارس الفلاني قد مات والاخر يقول قد جرح والاخر يقول قد فر ، خرجت اليهم جهيزة وقالت : هو عندي في الخيمة وقد مات ، فسكت الجميع .. انتهت النسبية لما ظهرت الحقيقة .. وتوجد النسبية اذا لم توجد الحقيقة ، كأن نتحدث عن شيء غير موجود امامنا او نتحدث عن المستقبل أو الماضي البعيد ، فيكون لك رأي ترى انه هو الحقيقة و يكون للآخر راي يرى انه هو الحقيقة ، اما الحقيقة الموجودة فلا يختلف فيها اثنان . فلو لم تكن اللغة موضوعة للتعبير عن الحقيقة فما فائدتها اذن ؟ اللغة سمت هذا الجرم السماوي الذي يشرق على الارض بكلمة قمر ، هذه الثلاثة احرف عبرت عن حقيقة موجودة ، فكيف يقول ان اللغة لا تعبر عن حقيقة ، بل عن وجهة نظر عن الحقيقة ؟ هل يختلف اثنان اذا قلت : القمر طالع ؟ وهل للقمر صورة عندي غير الصورة التي عندك ؟ هل العيون ايضا تختلف ؟ واذا قلت لون احمر ، هل الاحمر عندك اصفر ، وعندي ازرق ؟ وعند الاخر بنفسجي ؟ لان كلا يعبر عن وجهة نظره باللغة ؟ هذه فكرة مترهلة سببها التعميم الغير جيد ، عمّمَ ما لم يثبُت على ما ثبَت .. وهو كلام على عواهنه خالي من التحقيق يفتقر الى الدقة العلمية والفلسفية ..
الامثلة التي ساقها تدل على انه خلط الامرين مع بعض : الحقيقة الثابتة والحقيقة غير الثابتة حينما تحدث عن المجلة وكلمة "وحوش" .. و هي قضية سياسية بالإمكان بالدراسة والتثبت ان يُحدد من من الطرفين يستحق كلمة وحوش فعلا ..
دريدا الان خاضع للفلسفة المادية النتشوية التي تريد ان تعظّم الفرد بحيث تجعله اكبر من الحقيقة حتى تبرر لنفسها فعل ما تشاء ، بحجة ان الحقائق نسبية . فما تراه ظلما يراه غيرك عدلا ، وما تراه قسوة يراه غيرك عقلا ، وهكذا لا توجد حقيقة ثابتة ، وبالتالي افعل ما تشاء فلا ذنب عليك ولا يؤنبك ضميرك .. (بل يريد الانسان ليفجر امامه) هذه قصة ان الحقائق نسبية : فكرة مادية الحادية مصلحية تبريرية بشر بها الماديون وحاول اثباتها اينشتاين في نظرياته عن النسبية و بوبر في منطق البحث العلمي . وكلها مضادة للعلم المبني على الحقيقة الباحث عنها ومضادة للعقل والمنطق الذي لا يعمل بلا حقائق ثابتة ، و مضادة للاخلاق التي لا تعمل بلا ثبوت الخير والشر والتفريق بينهما .
الفلسفة المادية ارادت اختلاط الامور لاجل الصيد في الماء العكر .. يبغونها عوجا بلا نظام ، ليبرروا افعالهم ويجنبوها التصنيف من حيث الحق والباطل والمنطق واللا منطق والاخلاقي واللا اخلاقي . قالوا : لا توجد حقيقة ثابتة ولا يوجد منطق ثابت ولا توجد اخلاق الا نسبية غير ثابتة واساسها المصلحة . والعقلية الغربية معتادة على مداهنة الباطل بدءا من المسيحية التي تبشر بالغفران لكل الخطايا بمجرد الايمان بالمسيح . وجاء دور المادية والالحاد ليقولا انه لا يوجد خطايا اصلا حتى تـُغتفر ، ولا حقائق ولا فرق بين الخير والشر . وكلها نسبيات غير ثابتة . فافعل ما يحلو لك في اطار الحرية ، حتى الظلم ليس ظلما ، بل هو نسبي .. والوحشية ليست وحشية بل هي نسبية ، ومع ذلك تدعي حقوق الانسان ، اليست الحقوق من الحقائق والحقائق نسبية ؟ والنسبي ليس معيارا ؟ تناقض عجيب يسنده عشرات التناقضات ..
* دريدا لا يخوض في البحث عن تفسير "صحيح" ..
إنه يرى تفاسير مختلفة .. تناولتها الأيدي بالتزييف والتحريف ..
قد يكون التزييف بإضفاء هالة خارقة كَـأنَ يعبر عن النص بمرجعيته لإله مثلا..
أو باللجوء لمصطلحات مقبولة .. وفي نفس الوقت غامضة .. مثل "المنطق" ..أو "الإنسانية" ..
الرد :
هو يتكلم عن التزييف ، والتزييف يعني حقيقة ثابتة زُيِّفت ، بينما هو ينكر الحقيقة الثابتة ! اضف الى ما سبق من تناقضات ..
* العلاقة بين اللغة والحقيقة ليست موجودة ..
وحتى إن وجدت .. فإنها ليست محل ثقة .. لأن بنية اللغة هي في نهايتها تصور ثقافي متوارث .. وليست سوى ذلك ..
الرد :
ليس صحيحا ، كلمات اللغة في اساسها مبنية على حقائق ، جرى عليها اشتقاقات واستعارات ، وهي ما يسمى بجذور اللغة ، فهي كلها حقائق يعرفها الجميع ، من الطبيعة المادية او المعنوية ، فكلمة "كلب" تشير الى الحيوان المعروف ، وليست مختلقة . وكلمة "حزن" تشير الى حقيقة تصيب النفس ، وكلمة "جبل" و"بحر" ، كيف يقول انه لا توجد علاقة بين اللغة والطبيعة ؟ على اي اساس يتكلم هذا الفيلسوف ؟
* الكل يعتقد أن اللغة هي مرآة للطبيعة ..
لكن هذا الافتراض عند دريدا وأتباعه ليس إلا وهما قد نذروا أنفسهم لاستئصاله ..
إنها سكرة من سكرات الخداع حين نعتقد بأن للكلمة معنى "حقيقي" في هيكل الوجود ..أو أن للكلمة إيحاء حياديا ..
الرد :
بل هو الذي يعيش وهما ، هو نفسه يخاطبنا باللغة ! ويستعمل كلماتها ! لو لم يكن لها وجود حقيقي لما فـُهم كلامه .
* شعار التفكيكية : لا شيء خارج النص ..
الرد :
هذا شعار مجنون .. لولا ما خارج النص لما فهمنا النص ، كل كلمة تجعلك تتصور و تنتقل عن النص لتتصور شيئا ، ولو لم تنتقل عن النص الى خارجه لكان طلاسم لا قيمة لها ، فاذا قال النص : وقع العصفور على الغصن ، لا تفهم هذه الجملة حتى تخرج عن النص وتتصور عصفورا رأيته يقع على غصن رأيته من خبراتك السابقة أو ركـّبته ، نعم لن يتفق الجمع على شكل العصفور ولا على شكل الغصن ولا نوعه ولا من اي شجرة ، لان النص لم يحدد .. لكنهم يتفقون على عصفور وعلى غصن ، والشيء يحدده ضده ، فاذا قلنا عصفور استبعدنا صقر و حمامة وبقية الطيور وهكذا ..
ثم : في كل نص ايحاء ايضا ، فالعصفور الذي على الغصن له ايحاء يحمله معه ، قد يختلف الايحاء من شخص لآخر ، لكن لا بد من الايحاء في اي نص ، ونقصد بالايحاء معاني اضافية تلصق بالصورة ، كأن يوحي بالسعادة أو يعيدك الى ذكريات طفولة او الى لوحة فنية رايتها الخ ، او يكون الغصن في بيت قديم او في الحديقة ، مع ان النص لم يذكر ذلك .. وقد يوحي بالكآبة لارتباطه بموقف معين او يحرك التداعي الى موضوع اخر . هذا بعض ما يفعله الايحاء الذي ينكر وجوده هذا الفيسلوف العجيب !
و لولا التصور والايحاء لما كان للادب قيمة ولا للقصة قيمة ولا متعة ، ولما قرأت الرواية . لأنها تنقلنا خارج النص ، اي عكس كلامه هو الصحيح ..
* دريدا لا يقول أن العلاقة بين الكلمة ودلالتها خطأ ..
وإنما ينتقد أن يكون للكلمة دلالة معروفة ..
وسبب ذلك أن الكلمة التي لها دلالة .. تتكئ في دلالتها على كلمات أخر ومفاهيم تعتمد النسبية ..
الرد :
قال قبل قليل انه لا علاقة بين الحقيقة واللغة ! فكيف لا يقول الان ؟ اضف الى ما سبق من تناقضات ..
مثال ذلك .. أن تكون جنديا أمريكيا في العراق .. فلكي تزعم أنك منطقي .. ساع لتحقيق العدالة .. ومحب للسلام .. فلابد أن تفترض أن المقابل الذي تصوب له بندقيتك .. ملعون .. خبيث .. عدو للشعوب.. حتى وهو يتلبط في دمائه ..
(أثناء الحرب الكورية .. خرجت مجلة التايم الأمريكية بصورة لجندي أمريكي يدوس أحد الجنود الكوريين المحترقين بالغاز .. وقد كتب على الغلاف "وحوش" .. ترى من كانوا يقصدون بالوحوش ؟؟ .. )
* حسب رأي دريدا .. أن منهج التفكيك هو الوحيد الذي يكفل تقويض ثقتنا في الأشياء المألوفة سياسيا وأخلاقيا ومنطقيا ..
وبما أننا مأسورون في قفص النظام اللغوي .. ولا فكاك من قبضته ..
فالكلمات .. وما يتبعها من "معلومات" و"معرفة" و"حكمة" لابد أن تفسر من خلال ارتباطها بالأنظمة الفكرية والثقافبة التي نبعت منها .. وبالتالي لا يمكن لها أن تعبر عن الحقيقة كما نرغب..
الرد :
والانظمة الثقافية والفكرية لماذا افترضنا انها كلها مبنية على خطأ واختلاف ؟ هو الان يهاجم العقل البشري وهو لا يدري ، العقل في حقيقته واساسه مشترك ، والمنطق مشترك ، و الاخلاق في اساسها مشتركة ، وليست كل ثقافة كما يتصور في كوكب اخر عن الثقافة الاخرى .. ما يشترك فيه البشر اكثر مما يختلفون فيه .. والدليل هو ان الاختلاف يذكر ، مما يعني ان الاصل هو الاتفاق بين البشر ، وهو بتركيزه على الاختلاف يؤكد على هذه الحقيقة دون ان يدري ..
"الكلمة" هي مجرد شفرة حفرت دلالاتها في اللاوعي الإنساني .. والمعاني بذلك ليس لها وجود !
الرد :
الذي ليس له وجود هو اللاوعي ، هذا اولا ، اما الكلمات فكلها في الاساس لها وجود مثل شمس وعين وحياة الخ ، او حاجة واجبة للوجود ، مثل الله والشيطان ، او وهم الوجود ، كالغول والعنقاء ..
* فقط أن ندرك أن الحقيقة شكل من أشكال الخيال .. وأننا لا نعيش الحقيقة بقدر ما نعيش داخل تصوراتنا لها ..
الرد :
هذه محاولة لانكار وجود الحقيقة ، كأنه في عداء معها ، هو خلطَ الحقائق التركيبية بالحقائق الجزئية وجعل الجميع غير موجود او نسبي الوجود ، وهذا تعميم قبيح . هناك حقائق ثابتة ، وهناك ما هو مختلف فيه ، و اللغة اداة تعبير مشتركة ، ولا يكون الشيء مشترك حتى يكون عند الجميع بالتساوي . و الا نكون لا نعرف اللغة ، بالتالي لا نستفيد منها .
ولولا وجود المشترك العقلي اللغوي لما استطعت تعلم لغة غير لغتك ، لانك تبني تعلمك هذا على لغتك ، مما يعني ان اللغات مشتركة في اساسها العقلي . وتفهم تركيب كلمات اللغة بالمنطق ، بحيث تعرف من هو الفاعل وما المفعول والحال والوصف والعطف ، بالمنطق اللغوي ..
هو يطبق المنطق في كتابته ويقول أنه غير موجود او غامض ! يستفيد من المشترك اللغوي الذي ينكر وجوده ! ماذا تفعل مع من يقول ما لا يفعل و يناقض نفسه بنفسه ؟
* التاريخ أصبح مجرد رواية قيدت نفسها بالأساطير والقصص والخرافات والاستعارات .. فمصادر هذه الرواية في نظرهم –مهما كان حيادها وموضوعيتها- كانت منهمكة في صنع حبكة روائية من نصوص وأحداث متسلسلة ..
من حق كل مؤرخ أن يروي لنا قصته .. ويختمها بـ "تمت" .. وليس لأحد أن يطالبنا بعد ذلك أن نعد ما رواه لنا هو "القصة" .. حتى ولو كان هو (أو هي) يرمي إلى ذلك ..
نعم ..ستكون لنا روايات بعدد المؤرخين .. و ستتنافس فيما بينها ..
ولأننا لا نملك العودة للماضي لاستكشاف الحقائق .. فلن يتبقى لنا إلا أن نتعايش مع الروايات المتصارعة بمبدأ النسبية .. حيث لا اعتقاد هو "أفضل" من اعتقاد آخر .."
الرد :
بناء على هذا فالخبر ليس خبر ، والعلم ليس علم ، وبالتالي حتى كلامه هذا ليس كلامه ! انما هو تصوره عن كلامه ! لاحظ انه اختار التاريخ ، لان الحقيقة ليست امامنا ، و لاحظ ايضا انه لم يتحدث عن الخداع والكذب والتزوير في حقائق التاريخ ، بل أرجعَ اختلاف المؤرخين الى مشكلة في اللغة ! و ليس مشكلة في معلوماتهم واهدافهم ! هناك مؤرخ كذاب ، و التاريخ دائما يكتبه المنتصرون .. لكن هناك اكثر من طريقة لتلمس الحقيقة ، حتى في الجريمة التي تختفي معالمها اكثر من التاريخ يمكن ان توجد خيوط تدل على الفاعل ، فلماذا اغلق الباب على اي تحقيق في التاريخ و بحثٍ عن الحقيقة فيه واعتبره كتابات ادبية تعبّر عن اصحابها ليس الا ؟ هذا تطرف .. فقط لانه وجد بعض الاختلافات والتضارب ، قد تكون الروايتين في بعض الحالات صحيحة ، لان كلا رأى الحدث من جانب لم يره المؤرخ الاخر ، وهذا يحدث حتى عند المراسلين و وكالات الانباء للحدث الواحد . فما ذنب اللغة في هذا ؟ ها هي وصّلت له ما يريد ! فلماذا لا توصل لغيره ؟ انه فيلسوف عجيب ! ها قد تفككت التفكيكية فلا تفكيكية ولا يحزنون