في المثل الرائج بأقطار المغارب “صلاة القيّاد الجمعة والأعياد”.
و’’صلاة القياد’’ نعت يطلق في بلاد المغرب الكبير على ممارسات ممثلي الدولة المخزنية في الجهات حين يعمَد بعض حكام المقاطعات (العمّال) في سالف الأزمان إلى إشهار الصلاة والورع خلال مدة زمنية محدودة وخاصة بإقامة الصلاة العلنية في المساجد الجامعة طيلة أيام رمضان أو أيام الجمعة وأحيانا في العيدين والواعز طبعا ليس الدين وحده بل الخوف من الرعية عسى ألاّ تشكك في تديّن المسؤول المخزني أو ترتاب إزاء استقامته الروحية فتكون صلاة التراويح خاصة فرصة لإشهار التمسك بالمناسك.
لم تنقطع هذه الممارسة المخزنية اليوم و لكنها تجددت وأخذت ثوبا حديثا وتوسعت في رحاب البلاد العربيةو الإسلامية.
فيتسابق ’’القياد الجدد’’ لإقناع ’’الرعية الجديدة ’’ التي وسموها ’’بالمواطنة’’بعفّتهم وصلاحهم وليس ثمة من محك أفضل من أداء الفرائض الدينية.
يقبل العديد -و ليس القياد فقط - في شهر رمضان على إقامة الصلاة وإشهار الصوم وممارسة عدة طقوس مصاحبة على رأسها الغضبوالعبوس والإنفاق التبديدي وإرهاق الموائد والمواقد.
وعادة ما ينتهي المشروع الإشهاري للتدين بعد يوم 27 من رمضان.فيأخذ ذلك ’’العزم’’ في الخفوت مع اقتراب أيام العيد حين يفوح في الذاكرة عبق روائح أخرى لا علاقة لها بطيب الصلاة وعطر التدين.
’’صلاة القياد’’ نعت عبقري ابتدعه التعايش مع نمط ممارسات رجال المخزن لكنه أصبح مستعملا لنعت ظاهرة سلوكية متفشية تشمل كل مقبل على الصلاة بصفة مناسباتية سواء في شهر رمضان أوخلال المناسبات الدينية الكبرى. ومن المفارقات إن أساسيات التدين الشعبي في بلاد المغارب (خاصة تونس والجزائر والمغرب) تقيم وزنا كبيرا لشهر رمضان وتعتبر العامة هذا الشهر“محرارا” للتدين فلا يثير ترك الصلاة عبر أيام السنة أي استغراب أمّا تركها والسهو عنها خلال الشهر الفضيل فهو من الكبائر في التمثّل العامي وكذا الصّوم في تلك الربوع فهو أعلى مراحل إشهار الانتماء للدين الإسلامي.
تختزل ’’صلاة القياد" في آخر الأمر وصفا لاذعا وذكيا لعلاقة السلطة بالمجتمع من خلال آلية الممارسة الطقوسية الإشهارية.
وغني عن البيان أن هذه الممارسة ليست حكرا على إسلام الحاكم ولا المحكوم وهي ليست ممارسة خاصة بالتدين الرسمي ولا بالتدين الشعبي بل هي من تجليات التدين السائر الذي هو مزيج بين هذا وذاك وهو في غير تناغم مع الإسلام الأصولي طبعا فتجلياته حمّالة لطابع مخصوص تتجمّع فيها تلك المعتقدات والطقوس ماقبل الإسلامية مع غيرها من’’بدع’’العصر.
ما يستوقنا هنا ليس الحكم الديني أوالأخلاقي على الظاهرة فالمسألة الإيمانية هي حسب المظنون مسألة فلسفية روحانية شخصية ومسألة التدين في بعدها الثيولوجي أوالاجتماعي هي مسألة خاصة بالأفراد من دون شك. و دساتير بلدان المغارب مثل أغلب دساتير العهد المعاصر تضمن حق ممارسة الشعائر ولاتعاقب تاركها.
إن إثارتنا للموضوع لا تندرج في خانة ’’التشهير’’ بتارك الصلاة ولا الإشهار لممارسها بصفة انضباطية ودائمة. هذا ليس من مشمولات الأداء العقلاني لقد نصّب ’’الإكليروس’’ الديني الجديدد -والإسلام دين بلا إكليروس في الأصل- نفسه للقيام بهذه الأدوارعبر قنوات الورع النفطي والدّعاة الجدد والوعّاظ المنتصبين في كل ركن من أركان الإعلام الرقمي.
إن المقاربة التي تستحثني هي مقاربة أنثروبولوجية لحالة تدين الحاكمية المتقرّبة للعامّة، فـ“صلاة القياد” كظاهرة مسترسلة إلى الآن هي ظاهرة هيكلية لا ظرفية وهي بلا شك ممارسة قديمة وواسعة الانتشار وترتكز على تدين ممثل الحاكم لنيل رضا المحكوم.إن إدراك الظاهرة والإلمام بخصائصها يعمّق فهمنا بالمجتمع السائد وتجليات حياته اليومية.
إن ظاهرة ’’صلاة القياد’’ في عرف الدًّول المخزنية العتيقة بشمال إفريقيا ممارسة تؤشر لجملة من التقاطعات ولرُكام من الرواسب وتؤذن بتجلّي الإرث القديم المكبوت.
وبما أنها ممارسة مسترسلة فقد نجحت في إعادة إنتاج ذاتها بل توسعت عبر مشابهاتها، من ذلك ظاهرة المزج بين الصلاة واحتساء الخمر على أمل تغلّب الخير على الشر أو بحجة ’’تخفيف الذنوب’’ و’’محاولة تعديل الميزان وتخفيفه’’، ومن صنوها أيضا ظاهرة إيهام الخليلة قبل ممارسة الجنس بعقد زواج شفوي عرفي بينها وبين العشيق فقط لا يحضره ثالث إلا سلطان الغرام.
تتطلب هذه ’’الظاهرة’’ مزيدا من التعمق الأنثروبولوجي وهي للنظر والتحقيق المتأني بدون انفعال.
تتيح عملية الاقتراب من فهم تجلياتها الإحاطة بعوائق ضعف المد العقلاني في هذه المجتمعات مثلما تؤدي أيضا إلى تكشّف محفّزات ومبررات أداء ’’عقلاني براغماتي’’ يقيم وزنا للدين من ناحية وللدنيا وملذاتها من ناحية أخرى فيجمع الأضداد بلا إفراط ولا تفريط.
وحتى لا نصفه بأنه شعبيا ولا مخزنيا –لأنه نمط مشترك من’’ ابتكار’’ المجتمع الشامل- فإن هذا التدين السائر ببلاد المغارب يتداخل فيه العرف القديم مع الشرع الرسمي في رحاب الدولة المخزنية العتيقة المتجددة وقد أضفت عليه مؤثرات الحقبة الاستعمارية خبرة الاحتكاك بالوافدات الاستهلاكية الجديدة –سلعة كانت أو فكرة- فجاء تديّنا حاملا لمعنى الكلّية والأضداد به ماشئت وما لاتريد،فهو معتدل ومتوسط مثل البحر الذي يشاطئ تلك البلدان شرقا و شمالا