كشفت دراسة سوسيولوجيّة جديدة عن ارتباط العنف ببنية ثقافيّة ذكوريّة تقاوم التّغيير، كما أن مستويات العنف تظل ثابتة وحاضرة بقوّة بمدينة الدّار البيضاء“. الدّراسة التي قدمها أوّل أمس السبت السوسيولوجي المغربي جمال خليل بالمركب الاجتماعي والثقافي بعين السبع، أكدت وجود اختلاف واضح بين الرّجال والنّساء بخصوص واقع العنف، فكلاهما لا يعيش تجربة العنف بنفس الشكل سواء على المستوى الفردي أو الجماعي”.
الدّراسة التي أعدها خليل، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني، وتم تقديمها في ندوة نظمتها الجمعيّة المغربيّة لمناهضة العنف ضدّ النّساء، وحركة جمعيّة أحياء شباب الدّار البيضاء الكبرى، حركة نساء أحياء شباب الدار البيضاء الكبرى، همت مجال البرنوصي سيدي مومن، واستهدفت، عبر تقنيتي المجموعة البؤرية والمقابلات غير الموجّهة، الكشف عن التمثلات التي تحملها عيّنة من الجيل الثاني والثالث لموجة الهجرة القرويّة إلى الدار البيضاء.
وحول جدوى الدّراسة قالت فاطمة الزّهراء الشّاوي رئيسة الجمعيّة المغربيّة لمناهضة العنف ضدّ النّساء في كلمتها التقديميّة “أنّ اختيار هذا الفضاء يعود إلى عدّة اعتبارات، من بينها ديناميّة هذا المجال وما يحتوي عليه من ظواهر”.
وعزا خليل ، العضو المؤسس للمركز المغربي للعلوم الاجتماعية، في عرضه التقديمي ، اختياره للمقاربة الكيفية إلى أن الظاهرة اجتماعيّة معقّدة وذات أبعاد يتداخل فيها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني والثقافي، مما يجعل طابعها الكيفي ملحا ومن ثمة فإنّ الاهتمام بتمثلات الفاعلين المعنييين ومواقفهم مباشرة بالعنف قد يكون أكثر فعالية في فهم الظاهرة".
وعن هذه التمثلات كشفت الدّراسة “أن النساء تعانين في البيت من العنف سواء الرمزي، الاقتصادي أو الجنسي، غير أن هذا العنف يظل مرتبطا بالمجال الخاص (المنزل) في حين أن الرجال يدركون العنف من خلال تمظهراته في المجال العام”.
وإذا كان البرنوصي “حيا سكنيا” تتعايش فيه أجناس متنوعة، داخل فضاء ممتد وشاسع، ويعرف انتشارا واسعا لكل أشكال العنف. فإن ملاحظة أشكال مختلفة من العنف في المناطق الهامشية تطرح سؤالا حول مدى تمثيلية هذا العنف لما تعرفه المدينة من ديناميكيات اجتماعية؟
وفي جواب عن هذا السؤال خلصت الدراسة إلى أنه “صحيح أن المجالات تختلف من حيث العنف، وقد يكون بعضها أقل حدّة في بعض المجالات الحضرية لكنّه حاضر بمستويات متعددة ويبقى ثابتا في حياة مدينة متروبولية من حجم الدار البيضاء”.
إلى ذلك ربطت تمثلات المبحوثين بين العنف والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي يعرفها المجتمع المغربي، والتي تركت آثارا هامّة على مستوى بنيات الأسرة ونموذجها التقليدي. فمن نموذج الأسرة الممتدة المبني على قيم التضامن إلى سيادة الأسرة النوويّة المؤسّسة على القيم الفردانيّة، يعاني الأفراد من عدم القدرة على التخلص من بنيات تقليديّة خاصّة في مجال العلاقات بين الجنسين.
وهكذا رصدت الدّراسة ارتباط العنف ببنية ثقافية ذكوريّة حيث أن “ولوج النّساء إلى المجال العام أحدث خللا في وضع تقليدي يتّسم بسيطرة الذّكور، حيث كان المجال العام وموارده حكرا على الرّجال”. وزادت "أن تمظهرات العنف التي تتعرض لها النساء سواء في المجال العام أو الخاص، تجد تفسيرها في الثقافة والقيم السّائدة داخل المجتمع، فلا زال الحس المشترك ينظر إلى المرأة ككائن يهدّد حضوره النّظام الاجتماعي في حالة تخلي النّساء عن أدوراهن التقليديّة في رعاية الأطفال والاهتمام بالبيت.
وهكذا يظهر حسب يعض نتائج الدّراسة “أن حضور النّساء يزعج الرّجال في المجال العام، خاصّة إذا كان هذا الحضور ليس باعتبارهنّ موارد بل باعتبارهن فاعلات ومنتجات للثّروة، ممّا يجعل حضورهن أكثر شرعيّة”. وعزت الدّراسة استهداف النساء بالعنف إلى “أنّ التمثل العام للنساء لا زال يعتبرهن جزءا من الموارد التي يجب السيطرة عليها باعتبارها وسيطا ضروري للإنتاج وتعزيز الجماعة وتكثيرها، الأمر الذي يجعل الرّجال يتحسرون سواء بوعي أو دونه على السياق الذي سمح بفتح المجال العام للنساء”.
وحول دوافع العنف كما تتمثله العينة المستجوبة، قالت الدراسة أنه ينتج عن وجود فروقات داخل الفضاء الحضري، بطالة الشّباب وتفشي المخدّرات. كما ينظر المستجوبون إلى العنف كرد فعل على العنف الذي تمارسه الدّولة، فيما يرى آخرون أنّ عوامل العنف يمكن إجمالها في مشاكل البنية التحتيّة، وتقاعس المصالح الأمنيّة عن أداء أدوارها، بالإضافة إلى تراجع في الأدوار التربويّة والإصلاحيّة لمؤسسات المجتمع".
ولم يفت الدّراسة التأكيد على أن دورة العنف تخضع لخطاطة معقدة لأن “محاولة محاربة العنف عن طريق مزيد من العزل الاجتماعي، يمثل في نفس الوقت نتيجة وسببا للعنف المنتشر بالمدينة والذي يؤشر على الديناميكيات التي تعرفها الدار البيضاء كمجال متروبولي”.
وحول الحلول الممكنة للعنف أفادت تمثلات المبحوثين “أن المقاربات الأمنيّة انتهت إلى تحويل المدينة إلى مجالات معزولة عن بعضها البعض، أي أن تقليص العنف حسب هذا التصور ينبني على تحجيم الولوج إلى الفضاء العام، كما أن سياسات تدبير المجال تخضع إلى”مبدأ عام يسعى إلى إرضاء الرأي العام".
وفي السياق ذاته أوصت الدّراسة بأن “حضور النساء هام لأن تمثلاتهن عن المجال تبقى مختلفة ويمكن أن يقدمن رؤى جديدة للتعامل مع الظاهرة، كما سجل البحث بداية قبول حضور المرأة في الفضاء العام باعتباره تطورا طبيعيا بينما يرفضه الآخرون، ويعتبرونه اقتحاما غير مشروع من دون اللجوء إلى العنف، فيما يعبر آخرون عن رفضهم لهذا الحضور بممارسة العنف اتجاه كل امرأة تلج المجال العام”.
وفي سياق متصل، ربطت العينة المدروسة بين العنف الممارس في المجال العام والعنف الداخلي حيث “يمكن أن يؤثر العنف الخارجي على الرّجال لينقلوه معهم إلى الفضاء الداخلي، كما أن العنف الذكوري الممارس في الخارج سببه الرئيسي، تقول عينة الدراسة، محاولة التملك واستعمال الموارد والسيطرة على المجال”.
وتجدر الإشارة إلى أن جمال خليل، الذي قام بإنجاز هذه الدراسة، أستاذ للسوسويولجيا بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وعضو مؤسس للمركز المغربي للعلوم الاجتماعية، ويشغل مستشارا علميا بعدد من المنظمات والهيئات العلمية الدوليّة، كما سبق وأن أجرى عشرات الأبحاث والدراسات الميدانيّة تهم عددا من القضايا السوسيولوجيّة خاصة بمدينة الدار البيضاء.