دلالات المتخيل الاجتماعي عند كاستورياديس
زهير الخويلدي
" لا يكون أي شيء داخل أي مجتمع ما لم يكن في آن معا حضورا غير مدرك لما لم يعد كائنا وحدوثا موشكا غير مدرك كذلك لما ليس بعد".[1]
استهلال:
حلم
الإنسان بعالم يسوده العدل والمساواة وتتركز فيه قيم الخير والحرية وتعطى
فيه الحقوق لأصحابها وتنقشع عنه سحب الظلم وتزول منه بعض من أشكال الحيف
والاستغلال هو حلم مشروع وتجربة يتوق إليها كل كائن بشري ومثال تطمح إليه
كل طبقة ناشئة ،ولكنه قد يتحول إلى نوع من الخيال العلمي و يصطدم بواقع
مرير وبوضع تاريخي صعب يكشف أن كل مشروع ثوري هو يوتوبيا وكل جهد تغييري
ينتهي إلى التعثر والتراجع أمام ضربات القدر ومكر التاريخ وصلابة القيم
التقليدية التي تتحكم في المجتمع. ولعل خير مثال هو انهيار إيديولوجيات
الجنات الموعودة وفشل تجارب التحرر من ربقة الهيمنة والاستغلال العولمي.
ولكن
لسائل أن يسأل: لماذا هذا التعثر في الارتقاء بالمجتمعات نحو الأحسن وفي
تحريك أشكال الوعي التاريخي لدى الأفراد نحو التحفز؟ ومن أين يستمد الواقع
التاريخي والاجتماعي قدرته على مقاومة كل ثورة وتجديد وتغيير؟ وهل ما تزال
قائمة إمكانية التغيير الراديكالي للمجتمعات؟ وما السبيل إلى مثل ذلك؟
والى أي مدى تساعد اليوتوبيا الحالمة في تحقيق هذا الهدف؟ لكن ما طبيعة
الحالة ما قبل الاجتماعية التي يكون عليها الناس؟ من أين ينبثق البعد
الاجتماعي التاريخي؟ وكيف تؤسس المجتمعات نفسها؟
وماهي هوية مجتمع من المجتمعات؟ وكيف يحافظ على وحدته وتماسكه؟ وبأي معنى
يوصف التاريخ بكونه خلق من لاشيء؟ وما الفرق بين المجتمع المؤسس والمجتمع
المؤسس؟ وكيف تكون عملية تأسيس المجتمع هي من فعل هذا المجتمع نفسه؟ وأي
دور يلعبه المتخيل الراديكالي في هذا التأسيس؟ وهل هو مقولة تحليلية نفسية
أم مقولة تاريخية اجتماعية؟ وهل يمثل العنصر التاريخي الاجتماعي نقطة وصول
أم نقطة انطلاق؟
هذه
بعض من أسئلة طرحها كورنيليوس كاستورياديس (1922-1997) المفكر اليوناني
والناقد البارز للرأسمالية والماركسية على السواء والطامح إلى تجاوزهما
بعد الاستفادة مما تركاه من تأثير في اللغة والأفكار والواقع. وقد حتمت
عليه الظروف الهجرة إلى فرنسا مع بولانتزانس وبابايونو وإصدار مجلة:"إما
اشتراكية أو بربرية" واختيار النضال ضد البيروقراطية الحزبية وضد الحرب
والقمع والتموقع ضمن المجموعات التروتسكية والانتليجنسيا اليسارية وذلك من
أجل امتحان الطبيعة الثورية للطبقة العاملة ومدى قدرة النظرية الماركسية
على تقديم رؤية تحليلية موضوعية عن المشهد التاريخي المعاصر ولكن مشاركته
في ثورة الطلاب عام 1968 وما آلت إليه من نتائج وخيمة جعلته يبتعد نسبيا
عن عالم البراكسيس إلى عالم التنظير الفكري ويعتم بالتدريس الجامعي
والتحليل النفسي. ولعل مفهوم "المتخيل الاجتماعي" وقدرته على الخلق
والإبداع هو أهم ابتكار أنجزه كاستورياديس تأثرا بصداقته لادغار موران
وفيدال ناكيه ، وربما أهم رهان وضعه هو الاستقلالية بالنسبة إلى الفرد في
علاقة بالمجموعة والتفرد للمجموعة في علاقة بالمجموعات الأخرى وهو ما دفعه
إلى الانطلاق من راديكالية متجددة تنقلب على الإيديولوجيا التروتسكية
نفسها وعلى النزعة الماركسية الاقتصادوية التي تحصر التقدم في تطور القوى
المنتجة وانتهت تجربتها في البناء الاشتراكي إلى تكون طبقة بيروقراطية
تستغل العمال بدل تحريره و تقمع المجتمع بدل تنميته.
فكيف
سيعمل كاستورياديس على إعادة ترتيب العلاقة التي كانت قائمة بين العقلي
والتخلي والنظر والفعل بحيث يسمح لنشوء تصور جديد للبراكسيس مغاير للسابق؟
1- مفهوم جديد للبراكسيس:
"إن السياسة الحقيقية والتربية الحقيقية والطب الحقيقي ،جميعها إن كانت قد وجدت أصلا، تنتمي إلى البراكسيس"[2].
الأطروحة
التي يدافع عنها كاستورياديس تتمثل في الربط الدائم بين النظر والعمل
والبين الفكر والفعل والبحث الدائم بواسطة الفلسفة عن الحرية في مجال
الفكر وعن استقلالية الذات على الصعيد الفردي ودفاع السياسة النشطة
والمتبصرة على هذه الاستقلالية على الصعيد الاجتماعي بالعمل على بناء
مجتمع يتكون من مجموعة من الأفراد الأحرار الذين يسيرون أنفسهم بأنفسهم
بطريقة ديمقراطية نابعة من متخيلهم الراديكالي وجامعة بين حقوق الفرد
وحقوق الجماعة.
يرفض
كاستورياديس انقسام المجتمع إلى عدة طبقات متصارعة ويرى أن الصراع يحدث
بين فئة تساير السائد وترضى بالمألوف وتقبل حياة التبعية والخضوع وفئة
ساخطة ومتطلعة تؤمن ب"الثورة كلحظة وعي مجتمع لذاته ونجاح في تأسيس ذاته
بذاته" لاسيما وأن مسرح التاريخ هو نهر متدفق من أشكال الخلق وأن المجتمع
يؤسس ذاته بذاته وأن الحياة هي ديناميكية العنصر الاجتماعي- التاريخي.
لا
يتوقف المجتمع على توفر معقولية ومنطق معينين فقط ولا يحتاج إلى العلوم
والنظريات والتصورات فحسب بل هو رمزية ومتخيلات ويحتاج إلى دلالات وقيم
تسمح بالحلم وتخيل لمجتمع أفضل.
على
هذا النحو يكون الإنسان كائنا متخيلا واليوتوبيا هي طاقة تغييرية هائلة
والمجتمع يولد بالاعتماد على دلالات تخيلية والتاريخ هو إبداع لامحدود.
ثمة مفارقة بخصوص الفرد يكشف عنها كاستورياديس وتتمثل في كونه يطمئن إلى
الجماعة التي ينتمي إليها ويفضل التقوقع في الحشد ويحركه في ذلك مبدأ
الهوية من جهة ولكنه من جهة ثانية قادر على تحقيق الاستقلالية والتمرد عن
طريق المتخيل الراديكالي وذلك بالتصعيد والمساءلة والسير في اتجاه إعادة
بناء الهوية بشكل انفتاحي يستفيد من لقائه بالآخر.
فإذا
كانت المعقولية الرأسمالية هي معقولية جافة واستهلاكية وحسابية سببت أزمة
معنى وأشاعت قيم مادية وساهمت في إنتاج مخيلة عقيمة وتماثلية ذررت الأفراد
وأضرت بالبيئة وشوهت الديمقراطية فإن تجاوزها يشترط إنتاج معقولية جديدة
أكثر انفتاح وقادرة على إبداع مؤسسات سياسية جديدة يمسك فيها المثقفون
صناعة القرار وزمام المبادرة. إن التغيير يبدأ حسب كاستورياديس من خلال
إبداع تخيلي جديد ينتج بمقتضاه مجتمع ما دلالات ومقاصد ومشاريع مغايرة
للأنماط والرؤى القديمة تعيد تنظيم العمل والسياسة والاقتصاد بشكل يسمح
بتفجير الطاقات الإبداعية للأفراد وهو ما يساعد على ميلاد ديمقراطية
تشاركية تعمل على تثقيف الرأي العام وتمزج بين التربية كسياسة للأفراد
والسياسة كتربية للجماعات.
يجدد كاستورياديس
في مفهوم البراكسيس ويرفض أن تكون هناك نظرية شاملة للإنسان والتاريخ وأن
يكون البراكسيس مجرد تطبيق لمعرفة مكتملة وممتلكة بشكل تام ومسبق بل هو
مشروع يراعي السياق الذي يطرح ضمنه ونشاط يستند إلى معرفة مجزأة دوما
ومؤقتة ويدعو إلى التأسيس الموازي للنظرية والتطبيق العملي ويشجع على
التفكير في الفعل بناء على المتخيل.
"ما نحن ندعوه براكسيس ذلك الفعل الذي يتم التطلع ضمنه إلى الآخر أو إلى الآخرين على أنهم كائنات مستقلة بذاتها"[3].
إن تطوير استقلالية الآخرين هو الأمر المميز الذي ينبغي فعله لاسيما وأن
ذلك متوقف عليهم وأن البراكسيس ليس نهاية بل بداية ولا يمكن اختزاله إلى
ترسيمة غايات وحساب للوسائل و بل هو نشاط واضح وواع يأخذ بعين الاعتبار الشبكة المعقدة للعلاقات وينتصر عليها.
اللافت
للنظر أن كاستورياديس تنبأ بوقوع أزمة اقتصادية كبرى كالتي حدثت في 1929
بسبب وضع سيبرنيطيقية الاقتصاد الشامل في خدمة الإدارة الجماعية للبشر
يعقبها تحول جذري في البنية الاجتماعية وفي مواقف الناس من بعضهم البعض
وفي تصوراتهم للكون وتنهي أسطورة ضمان الرفاه للجميع ، بقوله:" هناك إذن
في داخل المجتمع الحديث معضلة اقتصادية كبيرة تستبطن أزمة محتملة"[4].
لكن
أهم مصدر للثورة ليس رفض مبدأ الواقع والإيمان بمبدأ الحلم والواجب وذلك
بتملك الوهم بوجود عالم خال من النزاع يكون فيه الجميع في تصالح مع الجميع
ويكون فيه كل واحد متصالحا مع ذاته، بل على خلاف ذلك "يجد المشروع الثوري
جذوره ونقاط ارتكازه في الواقع التاريخي الفعل ، داخل أزمة المجتمع القائم
وداخل معارضته من قبل الأغلبية العظمى للبشر الذين يعيشون فيه"[5].
إن
الأزمة لا تطرح فقط في مستوى اقتصادي بل في مستوى قواعد السلوك وقيم
الحياة وتخيل المجتمع وعالم الدلالات كونها أزمة معنى والحل هو الاستقلال
الذاتي بوصفه نمط وجود الإنسان، إذ يقول في هذا السياق:" إن هذا التطلع
إلى الاستقلال الذاتي مثله مثل الوعي هو مصير الإنسان وهو لكونه حاضرا منذ
البدء يشكل التاريخ أكثر مما يشكله التاريخ"[6].إن
الاستقلال الذاتي لا يعني نفي البعد الاجتماعي بل تأكيده ولا يفيد التصادم
مع الآخر بل يشترط التواصل معه وليس قطيعة بل عودة متبصرة للذات التي
يخترقها العالم والآخرون من كل جوانبها.
من هذا المنطلق ينظر كاستورياديس
إلى السياسة الثورية بمعنى جديد وهي البراكسيس الذي ينظم المجتمع ويعيد
توجيهه نحو ضمان الاستقلالية للبشر والسماح لهم بأن يفجروا إمكانياتهم،
وتتخذ السياسة شكل برنامج عمل يتمثل التحول المنشود ويتفادى الوقوع في
الاطلاقيات والاغتراب. كما ينجز بحثا أركيولوجيا يغوص من خلاله في جذور
المشروع الثوري ويكشف عن كل مجتمع مؤسس يتضمن شقوقا وتصدعات وأزمات
ونزاعات تسمح بولادة مجتمع جديد من رحمه وأن هذه التشققات يعبر عنها
المتخيل الراديكالي وتتجسد الطموحات الأجيال الناشئة في حلم يوتوبي جميل
معارض لماهو سائد.
على
هذا النحو:"إن فكرة وجود نظرية نقية هي هنا وهم متهافت...إن كل تفكير في
المجتمع وفي التاريخ ينتمي إلى المجتمع والى التاريخ...التاريخ هو أساسا
إبداعاpoièsis وليس
شعرا محاكيا، بل خلق وتكون أنطولوجي عبر ومن خلال فعل وتمثل قول البشر
وينتصب هذا الفعل وهذا القول تاريخيا أيضا بدءا من لحظة ما بوصفه فعلا
مفكرا أو فكرا يتكون"[7].
يدعو كاستورياديس
إلى قتل الأب باعتباره فعل لازم من أجل التطوير ونقد الشخصنة و ويرى أن
"التقسيم الأرسطي إلى نظرية وممارسة عملية وإبداع هو تقسيم مشتق وثانوي".
كما أنه يشير إلى ارتباط تأسيس مجتمع معين بإبداع عالم من الدلالات وأن
التفكير في تغيير المجتمع يمر لامحالة بتغيير عالم الدلالة الخاص به
المرتبط بالمتخيل الاجتماعي. لكن ماهي علاقة المتخيل بالرمزي ؟
2- الرمزي والمتخيل:
التخيل
هو الابتكار وذلك بالانفصال عن الواقعي سواء بالزعم والكذب أو بالقص
والحكي الروائي عنه والعلاقة بين المتخيل والرمزي هي علاقة غامضة وملتبسة
وتتراوح بين السيطرة والتقاطع ،إذ "ينبغي للمتخيل أن يستخدم الرمزي من أجل
التعبير عن وجوده، كما أن الرمزية تفترض القدرة التخييلية. غير أن الجديد
عند كاستورياديس هو "التحدث عن متخيل نهائي أو راديكالي بوصفه جذرا مشتركا
للمتخيل الفعلي وللرمزي"[8].
من
البين إذن أن كل المؤسسات تجد منبعها في المتخيل الاجتماعي وأن كل ثقافة
تتضمن متخيلا مركزيا يحتوى على الرموز الأولية ويساهم في تنظيم المجتمع
الذي تنتمي إليه، يقول حول هذا الموضوع:" وقد توجب على هذا المتخيل أن
يتقاطع مع الرمزي وإلا لما كان في مقدور المجتمع أن يستمر في الوجود"[9].
من
جهة أخرى يقوم كل مجتمع ويستمر باستمرار جملة من الدلالات المتخيلة وإذا
تآكلت هذه الدلالات وفقدت بريقها فأن هذا المجتمع يبدأ في الانحسار
والتلاشي. وترتبط هذه الدلالات المتخيلة بالشبكة الرمزية التي لا تفهم
المؤسسات الاجتماعية إلا من خلالها. تساعدنا هذه الدلالات المتخيلة على
فهم طبيعة المجتمع والأسباب التي تجعله يختار هذا السلوك دون الآخر
وتمكننا من إدراك شكل ردود أفعاله والعلامات التي يبصر من خلالها ذاته
وعلاقتها بالأجوار.
" القول بأن هذه الدلالات المتخيلة الاجتماعية بأنها مؤسسة أو القول أن تأسيس المجتمع بوجه عام هو
تأسيس عالم الدلالات المتخيلة الاجتماعية، يعني أيضا أن هذه الدلالات
مستحضرة أو مصورة داخل ومن خلال فعلية الأفراد والأفعال والموضوعات التي
تضفي عليها هذه الدلالات معنى. إن تأسيس المجتمع يكون ما يكونه ومثلما
يكونه بوصفه "يجسد ماديا" صهارة من دلالات متخيلة اجتماعية، يمكن لأفراد
وموضوعات أن يكونوا، بالرجوع إليها فقط، مدركين بل وحتى موجودين، وهذه
الصهارة لا يمكن كذلك أن يقال عنها بأنها كائنة بمعزل عن الأفراد
والموضوعات التي تكونها."[10]
"
من المستحيل فهم ما كانه وما يكونه التاريخ الانساني خارج مقولة المتخيل.
فما من مقولة أخرى تتيح التفكير في هذين السؤالين: من الذي يطرح الغائية
التي من دونها تظل وظيفة المؤسسات والسيرورات الاجتماعية غير متعينة؟ من
الذي يعين ضمن لاتناهي البنى الرمزية المحتملة منظومة رمزية ويبني
العلاقات القانونية السائدة ويوجه ضمن اتجاه من اتجاهات لا تحصى ممكنة
كافة المجازات والكنايات القابلة للإدراك بصورة مجردة؟"[11]
هنا يثمن كاستورياديس
الرمزي على الصعيد الفردي والاجتماعي لأن لا أحد يستطيع أن يمتلك أي شيء
خارج ذلك الرمزي. والرمزي هنا لا يوجد فقط داخل اللغة بل إن المؤسسات
الاجتماعية وما تحيل إليه من أفعال واقعية ومنتجات مادية تشكل شبكة رمزية
ويرى أن الرمزية لا يمكن أن تكون محايدة ولا متلائمة كليا بل هي مرتبطة
بتشكل المجتمع، لاسيما أن "المجتمع يكون في كل مرة نسقه الرمزي"[12] و"كل رمزية تنبني على أنقاض بناءات رمزية سابقة لها وتستخدم موادها"[13].
من
البين إذن أن كل مؤسسة لها رمزية معينة مثل البرلمان أو النقابة أو الحزب
وأن المجتمع حينما يمنح لنفسه رمزية معينة فهو يمنح معقولية منفتحة أي
مجموعة قواعد لمؤسساته وغايات لنشاطات أفراده. وهكذا فإن "الرمزية
المؤسسية تعين محتوى الحياة الاجتماعية" والغريب أن كل مجتمع يشكل رمزيته
بطريقة خاصة به سواء من خلال الطبيعي أو التاريخي أو الديني أو اللغوي.
"إن البراكسيس يخلق على الدوام معرفة جديدة ذلك لأنه يجعل العالم يتكلم
بلغة هي في الآن نفسه فريدة وكونية"[14].
إن
الرمزي لا يمثل سلطة مطلقة ومن السهل التحكم فيه إلا إذا تحول إلى رمزية
مؤسسية تحيل إلى أمر متعال عنها وتدافع على المجتمع المؤسس وتمانع ضد تشكل
رمزية جديدة لمجتمع مختلف.
"إن
المؤسسة هي شبكة رمزية مقرة اجتماعيا يتشارك فيها بتناسب وعلاقة متغيرين
مركب وظيفي ومركب متخيل. أما الاغتراب فهو استقلال لحظة متخيلة بذاتها
وسيطرتها على المؤسسة والذي يتسبب في استقلال المؤسسة بذاتها وسيطرتها
بالنسبة إلى المجتمع"[15].
إن
الأوهام الذاتية التي يسقط فيه الفرد أو المجتمع وتقوده إلى التركز حول
نفسه والانحباس تكون متولدة عن المتخيل الراديكالي بماهو نواة دلالية
للمعقولية السائدة وان الدلالات المتخيلة مرتبطة أشد الارتباط بحاجات
المجتمع وصورته عن العالم. إن دور الدلالات المتخيلة هو تقديم تحديد نسبي
لهوية المجتمع الذي تعبر عنه وتقديم إجابة على هذه الأسئلة:" من نكون
كمجموع؟ من نكون نحن بعضنا بالنسبة إلى البعض الآخر؟ أين وضمن أي شيء نكون
نحن؟ ما الذي نريد، ما الذي نرغب به، ما الذي ينقصنا؟"[16]
"كل
تفكير في المجتمع وفي التاريخ ينتمي في حد ذاته إلى المجتمع والى التاريخ.
وكل تفكير، أيا كان وأيا كان موضوعه، ليس سوى كيفية وشكل لفعل اجتماعي
وتاريخي... وما أدعوه بالتوضيح هو العمل الذي يحاول البشر من خلاله
التفكير بما يفعلونه ومعرفة ما يفكرون به. وذلك أيضا هو خلق اجتماعي-
تاريخي."[17]
ليس المتخيل عند
كورنيليوس كاستورياديس قائم على علاقة بالتصورات الشائعة التي يعرضها علم
التحليل النفسي والتي تربطه بالمأوي والانعكاس والمتوهم وتعتبره انطلاقا
من صورة عن شيء ما في المرآة، وإنما هو صورة في نظرة الآخر، و خلق دائم
وغير محدد من لاشيء يعتمد على عناصر اجتماعية وتاريخية ونفسية تكون في شكل
هيئات وصور وأخيلة.
"ما
دعوته منذ العام 1964 بالمتخيل الاجتماعي...وما أدعوه بنحو أكثر عمومية،
بالمتخيل ليس له علاقة بالتمثلات الشائعة عادة تحت هذا العنوان. وبنحو
خاص، ليس له علاقة ب"المتخيل" الذي تعرضه بعض تيارات التحليل النفسي، أي
ب"المرآوي" الذي ليس هو بالطبع سوى صورة لشيء ما، صورة معكوسة، أو بعبارة
أخرى انعكاس، أو بكلام آخر أيضا نتاج غير مباشر للأنطولوجيا الأفلاطونية،
حتى وان كان أولئك الذين يتحدثون عنه يجهلون مصدره. لا يكون المتخيل
انطلاقا من الصورة في المرآة ولا في نظرة الآخر، بل بالأحرى إن "المرآة"
ذاتها وإمكانيتها، والآخر كمرآة، هما من آثار المتخيل، الذي هو خلق من
لاشيء"[18].
يدعو كاستورياديس
إلى تأسيس المجتمع تخيليا بالاعتماد على المخزون الرمزي وما تتضمنه
المؤسسات من دلالات اجتماعية تخيلية وذلك بأن يخدم المتخيل الاجتماعي
المؤسسة وتخدم المؤسسة هذا المتخيل لاسيما وأنه:" قد توجب على هذا المتخيل
أن يتقاطع مع الرمزي وإلا لما كان في مقدور المجتمع أن يتجمع ،كما توجب
عليه أن يتقاطع مع الاقتصاد الوظيفي وإلا لما كان في مقدور المجتمع أن
يستمر في الوجود."[19]
يعلق المترجم في مقدمته العربية للكتاب على الأهمية الرمزية للمتخيل الاجتماعي بقوله:"هذا الإبداع التخيلي الجديد
ما يزال بعيدا جدا عما ينشغل الناس حاليا وما يفكرون ويرغبون فيه –وهنا
بالذات تكمن المأساة كما قدر- فقد بقي كاستورياديس مصرا على أنه ما من
طريق أمام الكائن الذي يستحق فعلا اسم إنسان وكل الذين التزموا مشروع
الحرية الشاملة سوى أن يسمروا في التعبير عن أنفسهم وأن ينتقدوا علنا هذا
السباق المحموم نحو التلف وان يعملوا جاهدين على إيقاظ وعي مواطنيهم كي
يخرجوا من سباتهم المعاصر ويشرعوا في السير صوب الحرية شريطة أن يدركوا أن
البشر هم الذين سيخوضون النضال في البحث عن حلول لمشكلاتهم وهم الذين
سيبتكرون مجتمعهم الجديد"[20].
غير
أن الإشكال الذي يطرح في هذا الصدد يتعلق بعلاقة الهوية بالزمان ودور
المتخيل الاجتماعي في تثبيت الهوية لدى الأفراد، ويمكن صياغته على هذا
النحو: هل تظل الهوية متأثرة في مستوى دلالتها بالزمن المؤسس؟ وهل يمكن أن
يلعب المتخيل الراديكالي دورا حاسما في إثبات الهوية؟
3- الزمن الهوياتي والزمن المتخيل:
"
ينبغي للزمن أن يكون وسيطا خالصا متجانسا محايدا...حتى يمكن للدلالة
المتخيلة الرئيسية لهذا المجتمع أي العقلنة الزائفة أن تظهر ممتلكة حدا
أدنى من التماسك بحسب معاييرها الخاصة." [21]
يتطلب تأسيس المجتمع التمييز بين زمنين هما الزمن الهوياتي والزمن المتخيل.
الأول هو زمن تأسيس وتعليم وتقويم وقياس والثاني هو زمن محدود ويمر بعدة
مراحل ويكون معلقا بين بداية ونهاية ، وآيتنا في ذلك أن "الزمن المؤسس
بوصفه هوياتيا هو الزمن بوصفه زمن تعليم أو زمن-علامة وزمن علامات. أما
الزمن المؤسس بوصفه متخيلا ( متخيلا اجتماعيا طبعا) فهو زمن الدلالة، أو
الزمن المعبر عن دلالة."[22]
يكشف كاستورياديس
عن علاقة التلازم والإحالة والتضمن القائمة بين الزمن الهوياتي والزمن
المتخيل لاسيما وأن "الزمن المؤسس كزمن للدلالة...يحافظ على علاقة تضمين
دائري دوما موجودة دوما ما بين البعد التجميعي – الهوياتي وبعد الدلالة".
ويقصد أن الزمن المتخيل لا يكون شيئا خارج الزمن الهوياتي وبالمثل يفقد
الزمن الهوياتي روحه إذا لم يشر إلى زمن متخيل. إن التخيل يسمح للناس بأن
يعيشوا مراحل زمنية بوصفها بداية نشاط إنتاجي معين ويمنحهم فرصة معايشة
لحظة انبثاق العالم. أما الزمن الهوياتي فهو يعيد صهر الناس مع الدلالات
المتخيلة المؤسسة للمجتمع الذي ينتمون إليه. فهل يعني حضور البعد الزمني
التزام المتخيل الاجتماعي بالبعد التاريخي؟
"إن
التاريخ هو تكوين أنطولوجي ليس بوصفه إنتاجا لأنصبة مختلفة للماهية مجتمع
ولكن بوصفه إبداعا داخل ومن خلال كل مجتمع لنموذج آخر من الكون-
المجتمع..."[23]
يرفض
كاستورياديس أن يتأسس الزمن أو العالم بشكل هوياتي خالص ويدعو إلى
الاعتماد على التخيل لاسيما وأن التنظيم التجميعي للعالم يتوقف على تشغيل
الدلالات المتخيلة الاجتماعية. إن زمن التأسيس هو زمن التمثل الاجتماعي
أين يكون الفعل الاجتماعي ممكنا عبر الإسناد الطبيعي.
هنا
يرفض الكاتب عقدة التمركز على الذات عند الغرب ورغبته في فرض تصور واحد
للتاريخ بالقوة على بقية ثقافات العالم عندما يقول:"إن المشروع الغربي
لتكوين تاريخ كلي من أجل فهم وتفسير شامل للمجتمعات السابقة وغيرها يحتوي
بالضرورة في جذوره على بذرة الفشل"[24].
لكن
من أين لنا بقوة الفهم العظيم التي تحدث عنها هيجل حتى نتفهم زمانية وجود
الآخرين وخصوصيات فعلهم؟ وبماذا يتميز زمن الفعل عن زمن التمثل؟ وكيف يمكن
لمن يكون حقا أن يتعلق بالزمن حقا؟
زمن
الفعل مخالف لزمن التمثل الاجتماعي ويتميز بالتفرد ويتغذى من معايشة
اللحظة الحرجة والحدث والعارض والطارئ والمفاجئ واللامتوقع والاعجازي
والغريب والخلاب والمدهش ويعمل على صيانة الغيرية وتحمل الملغز . إن
التأسيس المتولد داخل الزمن وعبره يطرح معيار الهوية الثابتة ويطرح نفسه
خارج الزمن ويرفض الغيرية ويسترسل في التخليد الذاتي للمؤسس ويرفض أن يكون
التغير سبيلا إلى التأسيس ويسقط في المنطق الهوياتي ويبتعد عن إبداعية
المتخيل الاجتماعي. المنطق الهوياتي هو منطق تجميعي يشكل بعدا جوهريا
وعصيا على التصفية ويرسم حلقة دائرية بالضرورة. "إن كل منطق هوياتي ليس
سوى استخدام للعمليات الهوياتية المؤسسة داخل ومن خلال اللغة بوصفها رامزة"[25].
فهل يقودنا ذلك إلى القول بأن "التاريخية هي صفة جوهرية من صفات المجتمع وأن المجتمعية هي مفترض جوهري للتاريخ"؟
4- البعد الاجتماعي – التاريخي:
" إن المجتمع إذن وعلى الدوام عبارة عن تأسيس ذاتي للاجتماعي التاريخي ولكن هذا التأسيس الذاتي بوجه عام لا يعرف ذاته بصفتها هذه..."[26]
إن
السؤال المثار هنا هو:" لماذا يؤسس المجتمع ذاته فيما هو يؤسس عالما من
الدلالات؟ لماذا يكون انبثاق الاجتماعي- التاريخي انبثاقا للدلالة بوصفها
مؤسسة؟"[27]
الجواب الذي يقترحه كاستورياديس
يتضمن حلقة دائرية هي أن المجتمع لا يكون إلا بوصفه مؤسسا نفسه وتأسيس
الفعل الاجتماعي لا يمكن تصوره من دون دلالة، فما العمل للخروج من هذه
الدائرة؟
"إن
الحياة الأكثر حضورا لمجتمع تدور دائما ضمن الإحالة الظاهرة والضمنية إلى
الماضي، مثلما ضمن انتظار وإعداد ما يكون مؤكدا اجتماعيا ولكن أيضا ضمن
يقين اللايقين وأمام افتراض الغيرية اللامنظورة واللامتوقعة"[28].
إن
الحل هو إلغاء البعد الهوياتي التجميعي والاعتماد على البعد الدلالي
التخيلي أي تجاوز الآلات والأدوات لقربها مما هو وظيفي تصنيعي والاقتراب
من الغايات والدلالات المتخيلة للمجتمع لما تحدثه من اعتراف وصهارة في
الفعل الاجتماعي وما تمثله من معقولية فعلية ونشيطة اجتماعيا. على هذا
النحو:"إن تأسيس المجتمع هو تأسيس لعالم من الدلالات – الذي هو بالتأكيد خلق بصفته هذه، وخلق نوعي في كل مرة."[29] لكن ما علاقة المجتمع بالتاريخ؟
إن
المجتمع هو نتاج تاريخي لا يظهر إلا بعد عملية متراكمة من التحولات
والتفاعلات وان التاريخ هو إطار زمني غير منفصل عن النشاط الاجتماعي وعن
قيم المجتمع وعادته وتصوراته للكون وبالتالي هناك تعايش واقعي بين الظواهر
الاجتماعية والظواهر التاريخية تضبط المخيلة الجذرية إيقاعه وفصوله.
"تتمثل
المخيلة الجذرية في: ليس تخيل ما ليس كائنا بل تخيل/تصور شيء عبر شيء آخر،
إمكانية أن نرى داخل ماهو كائن ما لا يكون فيه، عرض أو استحضار شيء من
خلال شيء آخر"[30].
ما
نلاحظه هو وجود دلالات متخيلة اجتماعية مركزية تحيل إلى المؤسسات ومتعلقة
بالقانون والدولة والاقتصاد والأسرة والتربية وهناك دلالات متخلية
اجتماعية ثانوية تحيل إلى مؤسسات بالمعنى الثاني تساعد على التمثل
الاجتماعي وتوجه الفعل نحو مرجع من الوقائع وتستهدف احترام جملة من القيم. إن
هذه الدلالات الاجتماعية المتخيلة تؤسس نمط كون الأشياء والأفراد وتبحث عن
التوافق وسط التنافر وان كل شيء سواء تفكير أو كلام أو فعل لا يجد شرط
إمكانه إلا في هذه الدلالات المتخيلة الاجتماعية.
"إن
الدلالة المؤسسة شيء في مجتمع معطى هي ما يجعل بالنسبة إلى الأفراد
الأشياء مدركة أو التمثلات الإدراكية ممكنة، وما يحدد في كل مرة من تكون
الأشياء وماذا تكون"[31].
إن الدلالات المتخيلة الاجتماعية بعيدة كل البعد عن أن تفيد الشعور الجمعي
أو اللاشعور الجمعي، وهي أيضا ليست التمثل الجمعي ولا كذلك التمثل
الاجتماعي بل هي تتجلى وحاضرة حضورا فعليا وشخصيا في تمثلات الأفراد. "إن
هذه الدلالات هي التي بناء عليها وانطلاقا منها يتشكل الأفراد بوصفهم
أفرادا اجتماعيين، قادرين على الاشتراك في الفعل والتمثل... والتصرف
والتفكير بطريقة متناغمة متماسكة ومتضافرة حتى ولو كانت تنازعية"[32]. لكن كيف يتعايش الأفراد ويتكاملون في ظل التنازع والاشتباك؟
إن
الدلالات الاجتماعية المتخيلة تشير إلى المعاني و النماذج المثالية
والمقاصد الذاتية والمحايثة للكيان التاريخي الاجتماعي، وهي تلعب دورا
بارزا في إعادة إنتاج وبناء هذا المجتمع في كل مرة ضمن إطار علائقي دائري
بين تمثلات الذوات البشرية وما يوجد خارجها من عوامل وقوى ضاغطة.
يرفض كاستورياديس أن تكون
الدلالات الاجتماعية المتخيلة مجرد نسخة لاواقعية لعالم واقعي ولا نظام
تراتبي من المفاهيم أو منظومة من العلاقات المفروضة على الذوات ويرى أنها
"وضع أول تدشيني ... يستحضر ذاته ...كتأسيس للعالم والمجتمع"[33].
كما يرفض فيلسوفنا وضع أي تعريف نهائي لكل من الاجتماعي التاريخي أو
المتخيل الاجتماعي ويرى أن الصعوبة ليس في إيجاد الألفاظ البديلة
المترادفة بل في المعاني والمضامين والفهم والكون الذي تحيل إليه هذه
التسميات. إن ما يقودنا إليه هذا المتخيل الاجتماعي هو: تصور شكل كون على
حدة لهذا العالم –لهذه العوالم- له من الدلالات في خصوصيته وأصالته دون أن
نجعل منها جوهرا حتى مجازيا ولا أن نحولها إلى ذوات نظام آخر"[34].
إن
المتخيل الراديكالي يكون نهرا مفتوحا على الاجتماعي والتاريخي ويتميز
بكونه كائن حي التدفق والقصدية وينبثق من الواقع الحاضر ويمثل تأصيلا
مستمرا للغيرية واستحضارا للدلالات الاجتماعية ويستحضر المعنى ويكون دائما
داخل علاقات من الانتظار والاستقبال والتغير الذاتي المستمر.
"إن
مشروعنا حول إنارة الأشكال السابقة لوجود الإنسانية لا يكتسب معناه الكامل
إلا كلحظة ضمن مشروع إنارة وجودنا نحن الذي هو بدوره لا ينفصل عن فعلنا
الراهن."[35] فهل يحق لنا أن نغير حاضرنا بأن نعيد خلق ماضينا؟ وألا نرتكب حينئذ حماقة أكل لحم بشري روحيا بعدما عجزنا عن إنتاجه فعليا؟
في نهاية المطاف يطرح كاستورياديس سؤالا
واسع الأبعاد وخطير العواقب قد لا يجد له عقل مفكر واحد أي سبيل إلى
الاهتمام به هو الأتي:"هل يمكننا الذهاب إلى ماهو أبعد من مجرد الإقرار
بحدود هذا المنطق الهوياتي والأنطولوجيا المتشاركة معه في الجوهر وتجاوز
الأنطولوجيا البسيطة السالبة وفتح سبيل (أو عدة سبل) للتفكير بماهو كائن
دون الاكتفاء بالقول كيف لا ينبغي التفكير به؟"[36]وهل القول بوجود معقولية في التخيل وتخيلي في العقلانية هو السبيل الذي يساعدنا على الرد على هذه الاستعصاءات