إنّ “القصيدة الموضوعيّة” قصائد. قد يصعب أن نستخلص منها حكما عامًّا تصنيفيّا يستوعب الجزئيَّ والكلّيَّ معًا, لأنّ هذين، كثيرا ما يتدافعان. الأمر الذي يكاد يقتضي في كلّ نصّ, مراجعة ما استتبّ من قوانين, ونظرا آخر في كفايتها, فقد يجلّي لنا القانون, صفةً من صفات هذا أو ذاك, ولكنّه يحجب على أخرى من هذا أو ذاك في ذات الآن. وقد يذهبَنَّ في الظّنّ أنّ هذه النّصوص تنهض على قواعد لا على قوانين, وأنّ من كفاية القاعدة أن تحوز الجزئيَّ الخاصَّ أو المملوك اللّغويّ. ولكنّ القاعدة تستتبع الحكم بالصّواب أو الخطأ. فإذا تعارض معها الخاصّ الشّعريّ –وهو كثيرا ما يتعارض- عُدَّ خطأ أو شذوذا أو عدولا ونظاما من الكلام غير معياريّ.
القصيدة “الموضوعيّة” قصْدٌ في اللّغة وتوسّط (أي نوع من الاقتصاد اللّغويّ) يفضيان إلى نظام شعريّ صارم, ويجلّيان “حرَفيّة” في إدارة فنّ القول.
هي تجري إلى مستقرّ لها, أو هي تتبع نسقها بنية ونظاما وتَحْرِفُهُ جملةً وصورةً ، بحيث تَبْدَهُنا ذات الثّنائيّة: “أبولونيّة” من جهة, و“ديونيزوسيّة” من أخرى. الأولى تحدّ نظام القصيدة وتضبطه, والثّانية تطلق الصّورة في فضاء المتخيّل وترسلها. وكأنّ حرْص بعضهم على أن يفهم, لا يعادله إلاّ حرْص آخرين على أن لا يفهموا؛ أو أنّ مناهضة بعضهم لانسياح الشّكل, لا يعادلها إلاّ مناهضة الآخرين لتقييد الصّورة. والحقّ أنّ “الفهم” قد لا يكون ضروريّا، من منظور جماليّ خالص. ذلك أنّ الشّعريّة الحديثة مقارنة بالشّعريّة الأقدم، تقدّم “الانفعال” بالنصّ على الفهم.
غير أنّ هذه الثّنائيّة تتقوّض في نصوص أخرى؛ أشبه بـ“طاق زخرفيّ” هو مجرّد رسم في جدار قائم. أعني نافذة صغيرة مرسومة لا تفتح على شيء ولا على فضاء. لأقلْ نافذة عمياء! ليس لها من كلمة “نافذة” إلاّ الدّال, إذْ هي لا تخرق الحائط ولا تجوز منه ولا تخلص عنه. عتمة للعين وغشاوة, ما دام هذا الشّعر يجري وينعطف في مناطق الدّهشة والغرابة والمصادفة و“العشوائيّة”, حيث “ينهل الدّالّ من مدلول لا ينضب” أو من اللّغة التي لا ذاكرة لها إلاّ النّسيان. أشبه بنوافذ بودلير ومرايا مالارميه وأدونيس. عتمة لليد أيضا. لكلّ ما يستعصي على الاتّصال واكتناه المعنى.
***
لكأنّي وأنا أقرأ هذه القصائد أتملّى الميناء في ساعات الصّباح الأولى. أرى مراكب وزوارق صغيرة بألوان رماديّة مبلولة. أقول هي “هنا” مثلما هي “هناك” مثلما هي “هنالك”. أعني، إذا استنرْتُ بلغة المعاصرين، “وجودها في الكون” و“وجودها في كونها الخاصّ”.
ذلك هو بيت الشّعر الذي تسكن فيه الشّعريّة.
لكأنّي أنظر إلى صورتي في المرآة وأتملاّها وهي تنظر إليّ ولا تراني. مزيج من شفيف العين وعتمتها. أشبه بامرأة يانيس ريتسوس:
“فتحت المصاريع. علّقت الملاءات على عتبة النّافذة.
حدّق طائر في عينيها.
همست:”إنّني وحيدة“.
دخلت الغرفة.
المرآة –أيضا- نافذة.
لو قفزتْ منها لسقطتْ بين ذراعيّ.”
ذلكم هو كثير من الشّعر الحديث, من هذه القصائد الموضوعيّة تلتفّ على نفسها, ويلوي مجهولها على معلومها, وتتحوّل لغتها من أداة معرفة إلى موضوع معرفة. فبأيّ قانون؟ وعلى أيّة قاعدة, نحوز هذا المزيج المربك؟ هذا “الهُنا” و“الهُناك” و“الهُنالك”؟ أعني هذا القريب والمتوسّط والبعيدَ مكانا وزمانا في ذات الآن؟
إنّ اعتراض كثير أو قليل على أنّ هذا الشّعر غير مفهوم, اعتراض غير وجيه. صحيح أنّ بعضهم يستخدم تقنية في الكتابة, هي أقرب ما تكون إلى التّقنية المسمّاة “Dripping” (كما في اللوحة أعلاه-التحرير) المنسوبة إلى الرّسّام الأمريكيّ “بولوك”. وهي تقوم على أن يحمل الفنّان علب الألوان بعد أن يثقبها, ثمّ يمرّرها فوق اللّوحة, ويهزّها. فنحن نقرأ هذا الشّعر وكأنّنا نفكّ الخطّ المسماري أو الهيروغليف المصريّ. صحيح أنّ بعضهم يتعامل مع الشّعر من حيث هو حلم. والحلم –كما يقول المعاصرون- “شعر غير إراديّ”, بحيث يفضي إلى كثير من الشّبهة واللّبس. إلاّ أنّ ما يغفله كثير أو قليل, أنّه لا وجود في الشّعر العربيّ الحديث لمفهوم “القارئ”. وكلّ ما في الأمر أنّ هذا الشّعر يتخيّر “قرّاءَهُ”, أو ربّما كان من مقاصد أصحابه أن لا يتواصلوا مع أيّ كان. ومن ثمّ يرسم حدّا لصنف آخر من قرّاء الشّعر. والحدّ يصل على قدْر ما يفصل. إنّ طلب الفهم، أو البحث عن معنى، يفترض في الصّورة أن تؤدّيه، يحصر الأثر أو المفعول الشّعريّ في وظيفة بعينها هي زخرفة “واقع” معطى وتزيينه، واقع تنضاف إليه “تجربة شخصيّة معيشة” تتعلّق بما هو“خياليّ” أو “متخيّل”. وسواء كان ذلك بإلمامة خاطفة وبراعة بهلوان، أو بقوّة واختلاق وتكلّف، فإنّ الصّورة في هذا النّوع من المقتربات ليست إلاّ كلاما يلوي بكلام، ويخالف به عن جهته ومألوف استعماله. ونقدّر أنّ الصّورة فيما نبيّنه صيرورة وسيرورة.
أمّا القول إنّها صيرورة فليس المقصود منه أن يبلغ الشّاعر بالصّورة شكلا من التّماثل أو المحاكاة وإنّما العثور على منطقة تتجاور فيها الأشياء أو يتلبّس بعضها ببعض.
وأمّا القول إنّ الصّورة سيرورة، فالمقصود أنّها على غرابتها محطّ في محاطّ الشّعر العربي وليست انقطاعا في سيرورته، من جهة. فمثلما لا تتجلّى الأبديّة إلاّ ضمن الصّيرورة- بعبارة أهل الفلسفة- ولا يتبدّى مشهد طبيعيّ، إلاّ ضمن الحركة، فإنّ المحدث لا يتجلّى إلاّ في علاقة بالشّعر الأقدم منه، حتّى أنّنا نكاد نفتقد المحدث إذا افتقدنا القديم. فهو أشبه ما يكون بـ“النّبتة في البذرة”.
ولنلاحظ جيّدا كيف أنّ غير المألوف في القديم (مواقع الغرابة والحسن بعبارة القاضي) يغدو مألوفا في المحدث، وكيف أنّ المألوف في الأوّل يغدو غير مألوف في الثّاني. والمقصود بسيرورة الصّورة، من جهة أخرى، أنّها لا تملي على المادّة المعيش شكلا بعينه يتكرّر في كلّ صورة من هذه الصّور “المشكلة”. بل هي تنطوي على تركيبة انفلات تجعلها تتوارى حتّى على تشكّلها الخاصّ. وليس لنا من تفسير لهذه السّيرورة- الصّيرورة، سوى الإيقاع، وتحديدا إيقاع الصّورة من حيث هو حادث يقع في الأثر وبه، وليس وزنا منتظما ولا هو زمن مجسّد “موضّع” أو “متحيّز”منحصر في موضع من النصّ دون آخر، حتّى يمكن القول إنّه يتكرّر أو يتعاود؛ ومن ثمّ يتسنّى لنا إدراكه.
بل لعلّ الأصوب أن نقول إنّه ينضوي إلى إحساس يسبق فعل الإدراك. ومن هذا المأتى ذهب بعض المعاصرين إلى أنّ “الفنّ هو حقيقة المحسوس، لأنّ الإيقاع هو حقيقة الإحساس”. وإذا كان ذلك كذلك فإنّ الإيقاع يثبت لأيّ نوع من الإدراك الصّوريّ، ولا يمكن بأيّ حال أن نحوزه فضلا عن أن نقيسه. فهو يتّصل بكلّ عنصر من عناصر الجملة ويلابسه ملابسة، فهو جرسه الصّائت ومعناه المجرّد في آن: يحلّ حيث تحلّ اللـّفظة، ويجري حيث تجري الجملة، ويتوقّف حيث تتوقّف الفاصلة، أي هذه الحروف المتشاكلة في المقاطع التي “لا تخضع للضّرورة”، بخلاف القافية. ومن هذا الجانب فإنّ الإيقاع قائم في تآلف الحروف في النّغم وفي انتظام الجمل، مثلما هو قائم في الفواصل واطّرادها وتغيّرها من نسق إلى آخر. وهو، بعبارة مجازيّة، “في دوّامات الماء وليس في جريان النّهر”. ولذلك يظلّ عصيّا على الحدّ، فقد نلمّ بشروطه الفيزيولوجيّة والفيزيقيّة والنـّفسيّة الملازمة لظهوره وتحوّلاته وزواله. ولكنّ هذا كلّه لا يحدّ الإيقاع في ذاته. والذين يزعمون إمكان حدّه إنّما يخلطون بينه وبين الوزن.
أمّا إذا ميّزنا الإيقاع من الوزن وحرّرناه- وليس لنا إلاّ أن ننحو به هذا المنحى- فقد لا نجد له في العربيّة أفضل من مصطلح “النّظم” بالمعنى الذي استتبّ له في مباحث الإعجاز، وبخاصّة عند عبد القاهر الجرجاني.
والنّظم إنّما هو صورة اللـّغة وهي تتأدّى بطريقة فنيّة مخصوصة، وتحمل في فعل نشوئها حيث تتجلـّى، لحظة بداءتها. وهذه اللـّحظة لا تتعلـّق بالكلام وإنّما بالكلم أو بـ“الخطاب” إذا أردنا، وهو يصنع جزءا جزءا ببنى الأثر وهي تكون. والقاعدة هنا واضحة جليّة- على نحو ما بيّن عبد القاهر- ففي أثر فنيّ كالقرآن أو هذا الشّعر الذي نحن فيه، ليس ثمّة من عنصر حرفا كان أو صوتا أو جرسا أو كلمة، لا ينضوي إلى فضاء النّظم الكـلـّي. والنّظم- بهذا المعنى- هو فعل الشّكل بعينه أي الفعل الذي يتشكّـل به وفيه شكل ما. ولذلك يمكن أن نعدّه الإيقاع نفسه، لأنّ الإيقاع ليس قاعدة خارجيّة يخضع لها الشّكل الشّعريّ، أو يمكن استنباطها من هذا الشّكـل، وإنّما هو تكوّنه أو تولـّده الذّاتي. الإيقاع في النّظم والنّظم في الإيقاع. وهو أبعد من أن يكون خطّا مستقيما يحدّد وجهة اتّجاهه ومقدوره، إذ لا يكون إلاّ وهو يفتتح سبيله إلى تكوّنه الخاصّ، بحيث لا يمكن تعيينه أو إحصاؤه، مادام يبتدع نظامه في كلّ لحظة من تكوّنه.
وهذا ما يجعله يستعصي على أيّ نوع من الإدراك الصّوري، إذ تتظافر فيه الكتابة والتّعليق، تعليق الكلم وهو يتحرّك في خطّه الخاصّ ويتشكـّل ويعلق بعضه ببعض، في تحوّل دائم. وربّما وهمنا بسبب من القافية في الشّعر، أو الفاصلة في القرآن أن لا تحوّل، وإنّما عودة الشّيء عينه (الهو- هو). وهو فعلا وهم وانطباع خادع، فثمّة عودة لا شكّ، ولكنّها عودة متحوّلة تقع في“زواج الزّمن” وحركة الكلّ في الكلّ التي لا يقرّ لها قرار. وكأنّ قدر الإيقاع ـ النّظم أن يترجّح بين حدّين أو طرفين: فلا هو يسكن أو يهمد ولا هو يتبدّد أو يتشتّت. بل هو لا يمكن إلاّ أن يقع في ما وراء الظّواهر الفيزيقيّة وعناصرها المؤسّسة.
ومن المعاصرين من يذهب إلى أنّ الإيقاع في معناه الدّقـيـق “ميتا-فيزيقيّ”. وبما أنّه “نتاج” فإنّ المفهوم والحدث واحد لا ينقسم. وكذلك شأنه من حيث هو تلفـّـظ الزّمن بالزّمن تلفـّـظا وقتيّا، فإنّ النّـفسيّ والمعيش فيه واحد أيضا.