يعتبر الخطاب بوجه عام شكلا من أشكال التعبير عن الواقع. أي أحد صور وعي هذا الواقع ولكن ما يهمنا من هذه الخطابات هو الخطاب السياسي العربي الحاكم ونعنى بهذا النوع من الخطاب جملة الاطروحات المكتوبة والشفهية، التيتتضمن المفاهيم والتصورات والحلول لإشكاليات الواقع كما يراها صاحب الخطاب، كذلك نعنى بالسياسي، كل ما يتعلق بحكومة الدولة فقط وليس ذلك المتعلق بالمؤسسات الأخرى كالنقابات والمدرسة والأسرة... ولذا فقد اخترنا لوصفه مصطلح “الخطاب السياسي العربي الحاكم” تمييزا له عن الخطابات التي يستخدمها علماء السياسة والباحثون أو التنظيمات والأحزاب السياسية الساعية إلى السلطة.
لقد استخدمنا مصطلح“الخطاب الحاكم” وليس مصطلح “خطاب السلطة” لأنه في نظرنا يعد خطابا صادرا عن حاكم فرد يتمتع بنفوذ، أما خطاب السلطة فيصدر عمّن فوضته أغلبية الجماعة في تعاقد حر خال من الإذعان، بأن يتحدث باسمها.
إن الأزمة التي يعانى منها هذا الخطاب ليس المقصود بها عدم القدرة على تحويل مفردات الخطاب إلى واقع وانما هي عدم مطابقة مفرداته للواقع كما يراه ويعتقده المتلقي أي المواطن، ومدى تمتع صاحب الخطاب أي الحاكم، بالصفة التي تخوله إنتاج هذا النوع من الخطابات.
إن المقصود بأزمة الخطاب السياسي للحاكم العربي تكمن في عدم مصداقيته. فأزمة المصداقية في أي خطاب تبدأ عندما يسود الاعتقاد لدى المتلقي بأن مفرداته تترجم الواقع كما يراه ويعتقده صاحب الخطاب، وليس كما يراه ويعتقده المتلقي، وهذه في نظرنا هي الأزمة التي يعانى منها الخطاب السياسي العربي الحاكم وهى ناتجة عن عدم توافر جملة من الشروط في الأركان الثلاثة للخطاب والمتمثلة في موضوع الخطاب وصاحب الخطاب والمتلقي، فالخطاب ينشئ بالضرورة علاقة بين طرفين، هما صاحب الخطاب والمتلقي، كما تترتب على ذلك نتائج تتحقق لدى طرفي العلاقة، غير أن طبيعة هذه النتائج ومدى ملاءمتها لتوقعات صاحب الخطاب ولما ينتظره المتلقي تتوقف جميعها على جملة من الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الطرفين وفي موضوع الخطاب، ولعل أهم هذه النتائج هي مصداقية الخطاب والتي هي في حقيقة الأمر، حكم المتلقي على الخطاب لأن ذلك يؤثر على ردود أفعاله.
سنحاول البحث عن جذور هذه الأزمة في الركنين الأولين أي موضوع الخطاب وصاحب الخطاب مرجئين الحديث عن المتلقي إلى مقال قادم.
أولا:- موضوع الخطاب
ليس في مستطاعنا أن نخوض في كل المفردات التي يمكن أن ترد في الخطاب السياسي للحاكم العربي ولذلك سنقتصر على نموذجين من المصطلحات التي لا يخلو منها أي خطاب سياسي، وهما الدولة والوطن بحيث يجمع الباحثون في العلوم السياسية وعلم الاجتماع العربيين على أن هذين المصطلحين لا يحملان في واقع الأمر المعاش ذلك المعنى الذي ولد معهما في الغرب، وهو المعنى ذاته الذي يحاول ظاهر الخطاب السياسي الحاكم أن ينسبه إليهما، فالمؤسسة العربية بوجه عام لا تجد مرجعيتها في سيادة الأمة أو الدولة بل تستمد هذه المرجعية من العصبة وسلطة الحاكم الفرد وليس كما يحاول أن يقدمها الخطاب الحاكم كمؤسسة جماعية تستمد وجودها وشرعية تصرفاتها من إرادة الجماعة. فعندما يتطرق الخطاب الحاكم إلى الولاء-مثلا- مقرونا بالحديث عن الوطن فان ذلك والحالة هذه لايعنى شئنا آخر سوى الولاء لصاحب الخطاب، أما المؤسسة فهي عمليا غائبة وتنوب عنها القوة التي تتمظهر في القدرة على القمع وهو قمع لمصلحة صاحب الخطاب وليس في خدمة المؤسسة الجماعية التي يجرى عنها الحديث في ظاهر الخطاب، وبالتالي فان هذا الحديث عن مؤسسة الدولة أو الوطن يصبح معرضا لأن يفقد مصداقيته لدى المتلقي لأن الخطاب لا يصف حقيقة الواقع كما يراه هذا الأخير، بل يزوّره على صعيد اللغة ولم يعد ترجمة للواقع تستند على النقل الدقيق للمعلومات إلى المتلقي وانما تزييف للمعلومة وإعطاؤها صفات ومعان أخرى لأجل الإقناع الخداعي.
فالمؤسسة التي يتناولها الخطاب هي في حقيقة الأمر هيكل ينفخ فيها صاحب الخطاب من روحه فتدور لتوزع القيم كما يقررها هو ولذا فإن أي وظيفة تؤديها هذه المؤسسة ولا تكون مصلحة صاحب الخطاب فيها هي الأولى بالاعتبار، فإنها وظيفة يمكن الاستغناء عنها مهما بلغت حيويتها بالنسبة للوطن والجماعة.
أن هذه النظرة من قبل صاحب الخطاب إلى مؤسسة الدولة قد تجد بعضا من جذورها كما يرى البعض في التراث السياسي العربي “فالمدينة اليونانية بناها الجمهور وبالتالي تطور الفكر في هذا الاتجاه .. بينما المدينة العربية هي مثل المدينة الفاضلة إي أنها على غرار النظام الإلهي”1
هذا يعنى أن هناك صانعا واحدا ومصنوعات ولعل هذه الصورة المستعارة عن الخالق ومخلوقاته قد أثرت في الفكر السياسي العربي وجرى على ضوئها تكييف العلاقة بين الحاكم ومحكوميه، فهو صانع المدينة كالإله الأحد، ورغم أن الفكر السياسي قد تطور والمؤسسة تعصرنت وأصبح الخطاب السياسي يطلق عليها اسم الدولة أو الوطن إلا أنها ظلت في الواقع العياني ملكا لصاحب الخطاب وليست دولة الجمهور ومن هنا فان الخطاب الحاكم حينما يتحدث عن مؤسسة الدولة بمرجعيتها الجماعية يكون على الأغلب فاقدا لمصداقيته لدى المتلقي الذي يدرك بأن الحديث عن الدولة أو الوطن هو في الحقيقة حديث عن صاحب الخطاب نفسه، وعندما يعلن هذا الخطاب بان الدولة أو الوطن في خطر فان المتلقي يفهم – في أحيان كثيرة- بأن المقصود بذلك هو أمن ونفوذ صاحب الخطاب نفسه رغم أنه قد توجد في الواقع أخطار حقيقية تستهدف الوطن.
إن الاختلاف بين رؤية المتلقي “المواطن” للواقع وبين مقاصد ظاهر الخطاب قد أثبتته الخبرة التاريخية للعلاقة بين الطرفين. ففي مرات عديدة تجرى فيها هزيمة الوطن ويحتل جزء من أراضيه ويعتبر المواطن ذلك هزيمة وخطرا محدقا بالوطن، بينما يصوغها الخطاب السياسي الحاكم على أنها انتصار باعتبار أن المستهدف الحقيقي من العدوان كان هو الحاكم وبما أن ذلك المسعى لم يتحقق للعدو فانه ليس ثمة هزيمة.
فالمفارقة التي تقع في الغالب بين المعني المصرح به والمعني المضمر لمصطلح من المصطلحات في الخطاب السياسي تؤدى إلى مفارقة أخرى بين ما ينتظره صاحب الخطاب من ردود أفعال من جانب المتلقي وما يأتي به هذا الأخير من استجابة مغايرة، فعندما يستخدم الخطاب السياسي الحاكم في لغته أفعال السلطة كالحث والتحريض والدعوة للتصدى لخطر يهدد الدولة أو الوطن فانه ينتظر ويريد من المتلقي أن يأتي بأفعال وسلوكيات بناء على اعتقاده الجازم بأن الخطر يهدد فعلا الوطن أو الدولة، غير أن المتلقي قد يفهم - بحكم خبرته مع الحاكم- المعنى الذي يعتقد أنه الحقيقي أي المضمر وليس المصرح به وبالتالي فمن المحتمل أن تأتي ردود أفعاله على غير ما يريد وينتظر صاحب الخطاب وهذا يعد في نظرنا نتيجة متوقعة لأزمة المصداقية التي يعاني منها الخطاب السياسي.
أن أزمة المصداقية في مضمون الخطاب السياسي ليست متأتية فقط من تفسير صاحب الخطاب للمعنى الذي يحمله مصطلح المؤسسة، بي تجد بعضا من أسبابها أيضا في الكيفية التي يوظف بها الخطاب جملة من المصطلحات الأخرى المتعلقة بالممارسة السياسية “فقد جرى تقبل بعض المفاهيم مثل تقدم، تنمية ، ديمقراطية ، علمانية دون تقبل مرجعيتها الأوربية”2
فالديمقراطية –على سبيل المثال- وحسب مفهوم العقد الاجتماعي الذي ولد في الغرب نتيجة لممارسة الحياة السياسية بحرية وفق تصور أنتجته مسيرة الفكر والواقع في تلك المجتمعات، تعني علاقات تفاعل متكافئ واعترافا بغيرية الآخر، ولكن الاعتراف بالاختلاف بين الذات والآخر في المجال السياسي وما يترتب على ذلك من نتائج تتعلق بالسلطة لايمكن أن يتعايش مع ظاهرة الزعامة الأوحدية آو مع أحقية توارث الحكم كحق مطلق غير قابل للتصرف.
فمثل هذا التوظيف لمصطلحات سياسية نمت وتطورت في أحضان فكر سياسي آخر نتج عن تطورات اجتماعية وسياسية لم يحدث مثيلها في الواقع العربي- جعل صاحب الخطاب السياسي يستخدمها وهو يدرك بأنه لا يستطيع ولا يريد تطبيقها ولكنه مضطر لتضمينها خطابه لأسباب على الأغلب خارجة عن إرادته- سنعود للحديث عنها- وفي المقابل فأن المتلقي يدرك بدوره بأن ما يقوله صاحب الخطاب لا ينطبق في حقيقة الأمر على واقع العلاقة بينهما وهنا أيضا تكمن المفارقة والازمة معا
ثانيا :- صاحب الخطاب
لكل صاحب خطاب صفة يعتقد أنها تؤهله لأن ينتج هذا النوع أو ذاك من الخطابات، غير أن هناك نوعا من الخطابات التي تتوقف مصداقيتها على قناعة المتلقي بالصفة التي يحملها صاحبها ومن بين هذه الخطابات الخطاب السياسي“فليست سلطة الكلام إلا السلطة الموكولة لمن فوض إليه أمر التكلم والنطق بلسان جهة معينة والذي لا تكون كلماته أي فحوى خطابه إلا شهادة من شهادات أخرى على ضمان التفويض الذي وكل إلى المتكلم”3
يعتبر تفويض المتلقي لصاحب الخطاب شرطا أساسيا في الخطاب السياسي لكي يحوز على مصداقيته في مواجهة المتلقي نفسه، لأن التفويض هو الذي يضفي على صاحب الخطاب الصفة التي تخوله إنتاج مثل هذا النوع من الخطابات فصاحب الخطاب “لا يستطيع أن يؤثر عن طريق الكلمات على أعضاء آخرين ويؤثر في أعمالهم إلا لأن كلامه يكثف الرأسمال الرمزي الذي وفرته الجماعة التي فوضت إليه الكلام أوكلت إليه أمر النطق باسمها وأسندت إليه السلطة”4. لاشك أن صاحب الخطاب السياسي العربي الحاكم يملك نفوذا فعليا وأيضا يتكلم باسم المؤسسة كما يفهمها ويريدها، إلا أن شروط التفويض وإسناد السلطة إليه من الجماعة لا يبدو أنها متوافرة فيه، فمؤسسة الدولة- كما ظهرت وتطورت في الغرب- تتطلب توافر جملة من الشروط في من ينبغي أن يتكلم باسمها لكي يحوز على صفة الشرعية في مواجهة الجماعة التي تضمها المؤسسة. وهذه الصفة لا بد أن تضفيها على صاحب الخطاب الجماعة نفسها والتي تتمتع بحرية منحها أو حجبها عنه.
ولكننا إذا بحثنا في شرعية صاحب الخطاب السياسي العربي فأننا نجد بأن صيغ الحكم الثلاث التي يتم بها الوصول إلى السلطة في الدولة العربية، خالية من مفهوم التفويض الديمقراطي، فإن اتفق غالبيتنا على المعنى السياسي الذي يمتلئ به مفهوم الديمقراطية فأنه يعني من بين ما يعني الحرية السياسية التي تتمثل في تعددية الرأي وحرية التعبير وما يترتب على ذلك من نتائج مثل تداولية السلطة ومعارضتها والمشاركة فيها، فإذا حاولنا أن نبحث عن هذا المفهوم فلا نجده في هذه الصيغ الثلاث، فالصيغة الأولى هي الحكم بمقتضى الشرعية الثورية والتي لا تعني –بصرف النظر عن دوافعها- سوى أن الحاكم قد وصل إلى السلطة مستخدما أدوات العنف وأنه يستمر فيها معتمدا على الوسيلة ذاتها وليس على رضا الجماعة المبني على صيغة التعاقد الحر. وهى صيغة لاتقبل بانتقال الحكم إلا في حالة الوفاة أو انتزاعه بشرعية ثورية أخرى .
كذلك الصيغة الثانية وهي الشرعية الوراثية وليس ثمة ما يمكن قوله عن الديمقراطية بخصوصها، أما الصيغة الثالثة فيصعب وصفها بأنها صيغة انتخابية لتداول السلطة ديمقراطيا لأنها في معظم حالاتها تفتقر إلى التنافس الحر والمرشح الوحيد فيها هو القابض على مقاليد الحكم، فهذه الصيغة الثالثة هي أقرب إلى بيعة يزيد بن معاوية داخل المسجد في ظل سيوف بنى أمية، منها إلى عملية انتخاب حر تتعدد فيه الخيارات وتتعارض فيه الاطروحات.
تلك هي الصيغ والكيفيات التي بأحدها غالبا ما يتبوأ الحاكم العربي سدة الحكم ومن هنا يبدو لنا من خلال ذلك بان الشرعية السياسية لصاحب الخطاب السياسي العربي الحاكم أمر – على الأغلب- مشكوك فيه بالنسبة للمتلقي.
إن الشك في شرعية الصفة التي يحملها صاحب الخطاب السياسي العربي الحاكم لا يحول في الحقيقة دون اعتبار خطابه خطاب نفوذ وسلطان أي إنه قادر ويستطيع أن ينتج هذا النوع من الخطاب ولكن هذه القدرة ليست متأتية عن التفويض والإسناد من قبل المتلقي، بل ناتجة عن استحواذه على المورد السياسي والمتمثل في احتكاره لوسائل العنف ووسائل العيش داخل الإقليم وتلك هي الأداة التي يستخدمها للحصول على خضوع المتلقي.
ولذلك فإن ما ينتج عن الخطاب من أثر في نفس المتلقي هو- على الأغلب- الخوف من صاحبه وليس القناعة بشرعيته.
يتميز الخطاب السياسي بميزتين يضاعفان من أزمة مصداقيته وهما:-
انه غير قابل للنقد والاعتراض وأن كل ما يحتويه من تصورات واطروحات ليس إلا ترجمة لادراكات صاحبه الذاتية للواقع الذي قد لا تدركه غالبية المتلقيين بالكيفية ذاتها، فهو في واقع الأمر عبارة عن قناعات ذاتية يفرضها فرد على جماعة.
اقتناع غالبية المتلقيين- أن لم يكونوا جميعهم- بان الخطاب هو بالدرجة الأولى في خدمة مصلحة صاحبه وان توسل إلى ذلك بالحديث عن الخطر والتقدم والسلام والوطن أمن المواطن.
فلو تعارضت مصلحة الوطن والجماعة مع مصلحته كحاكم واقتضت جملة من الظروف ضرورة تخليه عن دفة الحكم، فإنه- على الأغلب والتجارب أيضا لم تثبت عكس ذلك- لن يتخلى طالما أن الخيار له.
أن هاتين الميزتين تؤثران بالضرورة على قناعة المتلقي بمدى صدق اطروحات الخطاب المعلنة ولكنه يدرك صوابا أو خطأ بأنه أضعف من صاحب الخطاب وأن هذا الأخير يملك القدرة على استخدام القسر المادي لإضفاء المصداقية على تهديداته في حالة عدم الإذعان والقبول، لذلك فإن المتلقي يعترف “بسلطة” صاحب الخطتاب ولكنه اعتراف يعبر عن ضعفه وإذعانه وليس عن رضاه، لأنه، أي المتلقي، يعلم بأنه ليس هو الذي منح هذه “السلطة” لصاحب الخطاب وأنه بالتالي لا يستطيع أن يسحبها منه لو شاء ذلك في حالة عدم رضاه عن أطروحات الخطاب.
* جامعي ليبي
—
المراجع:
1-د مصطفي حجازي “نحو عقل عربي مستقبلي على ضؤ تحليل ألبني الاجتماعية العربية الراهنة”
ندوة العقلانية العربية / منشورات المجلس القومي للثقافة العربية / الرباط 1992
2-أنور عبد الملك:“المجتمع المصري والجيش”؛ دار الطليعة بيروت 1974 .
3- محمد عابد الجابرى “العقلانية العربية والسياسة ، قراءة في أصول المعتزلة”ندوة العقلانية العربية / منشورات المجلس القومي للثقافة العربية / الرباط 1992
Bertrand badie ( les deux etats : pouvoir et societe en terre d,islam)
Fayard 1986 paris.