هناك تاريخ لا يرى للحدث معنى إلا إن هو حشره ضمن منطق كلي، وأذابه داخل حركة متصلة تسير نحو غاية هي التي تعطي للكل معناه.
وهناك تاريخ يحاول أن يبرز الحدث في تفرده ووحدته. و الحدث هنا هو علائق قوى تنقلب، وسلطة تنتزع، وهيمنة تضعف، وحرارة تفتر... هذه العلائق لا تحشر ضمن حركة متواصلة متناغمة كي تبدو أشكالا متعاقبة لمقصد أساس، وإنما تظهر كغليان لحوادث تخضع لصدف الصراع.
هناك تاريخ يأبى إلا أن ينقل نظرته نحو الأزمنة البعيدة، نحو أكثر العصور ازدهارا، وأحسن الفترات إشراقا، وأكثر الأبطال شهرة، نحو “العصور الذهبية”، “عصور الأنوار” بعيدا عن عصور“الظلام” و“الانحطاط”.
مقابل هذا التطلع نحو اللحظات المشرقة، وهذا التعلق بالبعيد، يقوم تاريخ يقصر نظرته على ما هو شديد القرب، ويوجه نظرته نحو الجسد والأمراض والموت وأنواع الغذاء..و لا يأبى النظر إلى أسفل، لكنه ينظر من أعلى.
هناك تاريخ يعمل كل ما في وسعه للتنكر لتاريخيته، و إلغاء كل ما يخون في معرفته الموقع الذي ينظر منه، والزاوية التي يطل منها، والمنظور الذي يرى من خلاله.
وهناك تاريخ يأخذ في حسبانه النافذة التي يطل منها، والوضع الذي يشرطه، فيأخذ على عاتقه تاريخيته، ويعترف بأنه “علم منظاري”