شتاء 2004 قمنا بزيارة أولى للمشفى في لايدن/ هولندا، لفحص الحمل. استقبلتنا الموظفة المسؤولة مبتسمة، وكعادة الأوروبيين يضعون كدسة أوراق أمامك كي تملأها.كان أول سؤال سألتنا إياه: هل أنتما متزوجان؟ نظرنا إلى بعضنا باستغراب، فأجبتها موضحة:
ـ نحن هنا لأنني حامل.
كأنها لم تسمع ما قلت، أعادت سؤالها:
ـ هل أنتما متزوجان؟
رجعنا نتضاحك من أسئلة الأوروبيين.
علمنا بعد ذلك أن عدد المواليد لأبوين غير متزوجين هم أكثر بكثير من عددهم لآباء متزوجين.
تلتقي المرأة بالرجل، يحبان بعضهما، يقيمان علاقة، ينسجمان، يقرران العيش معا. قد يسكنان في بيت واحد أو يبقى كل في بيته، بينهما رابط إنساني لا يضبطه إلا مدى حبهما لبعضهما، وهذا يكفي بالنسبة إليهم. وحين يشعران أن الحب خبا، يمضي كل منهما في سبيله بعد أن يقوما بتصفية ما بينهما بالقانون، والكل يخضع للقانون، لأنه ربهم وسماؤهم.
قالت فتاة لصديقتيها وهن خارجات من المدرسة:
ـ يوم الأحد عرس أمي وأبي. اشتريت ثوبا أبيض وسوف أحمل الشموع خلفهما..
قالت الثانية:
ـ سآتي أنا وأمي وصديقها لحضور عرس أبويك.
علقت الثالثة:
ـ حتى الآن لم يتزوج أبي من أمي. تقول أمي ليس لديها وقت لحفل العرس.
في السويد توجد أشكال لعلاقات عديدة، وكلها يضبطها القانون، اجتماعياً واقتصادياً. علاقات التعايش، التساكن، الزواج.. حتى علاقات المثليين الذين يسعون الآن لإجبار القانون على الموافقة على الزواج الرسمي، والموافقة على تبني طفل، معضلتهم الوحيدة هي: لمن سيقول الولد بابا ولمن سيقول ماما!
نعم مجتمعات وعادات ما زالت بعيدة جداً عن تصورنا نحن أبناء الشرق.
فتاة من بلادنا ولدت وعاشت ودرست في مدارس الغرب، وحين كبرت أحبت شاباً أوروبياً وتزوجته من دون موافقة أهلها، ماذا حدث؟ تكالبت عائلتها عليها وترصدت لها، ثم قام أخوها بقتلها. ثارت ضجة في كل أنحاء أوروبا، تلفزيونات وجرائد وفي الشوارع، لم يبق مسؤول إلا وعبر عن أسفه الشديد: إذ كيف تحدث مثل هذه الجرائم وكيف تقع في أرض الحرية والأمان، ويقال إنهم سيقيمون تمثالاً لذكراها، وأهل الفتاة الذين علموا بأمر الجريمة ولم يبلغوا عنها قبل وقوعها، أخضعوا لعقاب وعلاج نفسي حسب القانون.
جرائم الشرف
منذ أحداث مدينة حماة في سوريا عام 82، لم يتجرأ أحد أن يقتني سلاحاً ولو لصيد الطيور، لكن في عام 1998 حدث هذا، حين دخل رجل إلى مشفى، سحب سكينه وقطع أصغر إصبع من أصابع يده فوق رأس ابنته الجريحة وأفرغ مسدساً في وجهها، وراح يبكي.
مهنة الرجل بيع اللبن في مدينة اللبن والجبن والأغنام في منطقة “الحاضر القديمة”، التي يزهر فيها التعصب. ابنته متزوجة من قريب لها، قيل إنها لم تكن تحبه. ذهبت في مشوار مع أحد الرجال الذي تبين أنها تعشقه خارج بيتها، ورافقتها رفيقتها مع عشيقها أيضاً، قضوا وقتاً في الريف القريب وفي طريق الرجعة تدهوروا جميعاً بحادث سيارة، وفضحت القصة.
الرجلان ماتا والمرأتان رجعتا بجروح كثيرة، إحداهما امرأتنا هذه التي قتلها بائع اللبن، أبوها، والأخرى ربما هربت. لم نعهد في المدينة مثل هذا التواصل والثرثرة بين الناس كما حدث خلال تلك الأيام. تجريم المرأة حتى بعد قتلها. وحين كنت أحاول أن أناقش أحدهم/إحداهن في أمر القتل المشين، كان الجميع يرتاب:
ـ هل أنت مع الخيانة الزوجية؟
كنت أدافع عن حق البني آدم بالعيش:
ـ فليطلقها زوجها، ويهجرها أهلها.
علمت أن المرأة كانت ترجو الممرضة أن تشتري لها دواء منوماً لأنها تريد أن تقتل نفسها.
إذن فقد كانت نيتها أن تدفن فضيحتها. فهي إذن لم تفعل ما فعلت إلا لأن هناك ما يدفعها لذلك. لكن لم يكن مقبولاً أي نوع من النقاش بعد فعل الخيانة الزوجية كما يسمونه.
في سوريا وغيرها من بلاد العرب: هدى، منى..... قتلن، واللواتي سيقتلن أيضا قادمات، والأعراف هي المجرم الحقيقي. حين تتزوج إحداهن رجلا من غير دينها، أو يفتضح أمر علاقة، فإن الأهل يقررون قتل البنت. يوجد الكثير من الحالات التي علم الأهل بقصة الفتاة، وتكتموا على الخبر، ما دامت القصة محفوظة مستورة، لم يلجأوا للقتل لعلاج الحالة، لأن العار لم يقع ما دام الخبر لم ينتشر. إذن البلاء في أعراف المجتمع، وليس في أن كل الناس مهيئين لفعل القتل ولديهم نزعة الإجرام. فهدفنا إذن هو هذا العار وهدفنا هو هذا الدود الذي يسمى “كلام الناس”.
يوجد بعض المواقع وبعض المجموعات التي تستصرخ الناس أن يحاربوا جرائم الشرف. مهمة هذه المجموعات هي فضح جرائم قتل الفتيات أو النساء باسم الشرف.
من البديهي أن الهدف نبيل والدور هام وضروري، ولكن كيف السبيل؟
يطالبون بإيقاف قتل النساء، مستخدمين عبارة واحدة مكررة، كأن النساء “ستة سبعة على النبعة”. وهن في بلادنا أكثر من نصف العدد وبتأثيرهن هن كل العدد. صار التحدث عن جريمة الشرف في هذه المواقع مثل برنامج “حكم العدالة”، الذي كان البرنامج الوحيد الذي يصغي إليه الجميع من الراديو السوري في الثمانينات، السائق وصاحبة البيت والتاجر وأحياناً مديرة المدرسة والبنت والشاب، كان يجذب الجميع، لأسباب سيكولوجية كثيرة يصعب شرحها هنا، المهم ظل هذا البرنامج، لفترة، متنفس الناس عن لهفتهم إلى الغريب العجيب. ثم مالبث أن بدأ يذوي نجمه حين صار هناك إمكانية لمشاهدة تلفزيون لبنان مثلاً.
بدأت هذه المجموعة بالمناداة لمنع جرائم الشرف، حين قتلت إحدى الفتيات التي تزوجت من رجل من غير دينها. كلنا تأثرنا شديد التأثر وكرهنا أن يكون مجتمعنا في هذه الدرجة من سلم الحياة.
ثم ما لبثت هذه المجموعات أن صارت تستقصي من مخافر الشرطة في المدن والقرى والنواحي والبوادي، عن كل جريمة قتل بحق فتاة. كل هذا مقبول ومشجع، ولكن أيضا كيف السبيل؟
مهمة هؤلاء الأشخاص هي محاولة منع هذه الجرائم من الحدوث، أو التوعية ضدها، ولكن طريقة جلب الخبر وصياغة الخبر والتعليق على الخبر ومن ثم تحليله: سكين الغدر، دمها البريء.. وكأن الغدر هو المرفوض وليس القتل، يتنادون: إنها بريئة من التهمة، يعني لو ثبت أنها لم تكن بريئة من سبب قتلها، فقتلها سيكون محللاً!
ذلك لأن الجيران والأقارب يعرفون أنها لم تكن “بريئة”، فكيف يطلقون صك البراءة، الذي يشبه تماماً صك الإدانة.
يستصرخون: حاربوا الجريمة، حاربوا القانون، حاربوا مرتكب الجريمة، سلطوا أسلحتكم.. إلخ.
لغة التخاطب التي يستخدمونها، تأخذ عباراتها من موضوعها، ولا ندري من يخاطبون. ترى ذلك الأخ أو الأب المهيأ لقتل البنت، مهيأ حقاً نفسياً وثقافياً ليدخل إلى مواقع الانترنت ويقرأ تلك الجمل المكررة؟ ومن ثم يمتنع عن القيام بجريمته ويقبل بأن تتزوج ابنته من غير دينها أو تقيم علاقة خارج الشرع؟
حملة لمحاربة جرائم الشرف، والهدف مخاطبة القانون كي يتشدد في العقاب، كأن مجتمعنا ينقصه التشدد.
المهمات الصعبة، وهي التوعية الميدانية، لا يتطرقون إليها، ذلك لأن السلطة الأمنية تمنع أي محاولات من أن تتم، لأنها ستتم عبر تجمعات قد يشتبهون بإمكانية تطرقها للسياسة والرياسة..
هل نحتاج حقاً إلى تشديد القانون؟ أم أننا نحتاج إلى القانون؟
بظني أن من يقدم على قتل الفتاة أو المرأة التي لبسها العار، لن يكون في ذهنه ولا في أفقه، تخيل للعقاب أو السجن أو الإعدام، ذلك لأن حياته واستمراره بالعيش بين الناس صار مستحيلاً مع العار. إذن القضية هي العار، والقضية هي تغيير طريقة غسل العار، والهدف هو تفكيك هذا العار وتفكيك هذا المفهوم، وليس تشديد القانون، فالتشديد معروف في كل مدارس علم النفس يعني ضخ المزيد من العنف، المزيد من الخضوع، المزيد من الأمراض..
أترى مع الحرية والأمان، ألا نجد كثيرات متطوعات ومن كل المناطق لتشكيل جمعيات أهلية مهمتها حماية الضحية قبل أن تصبح ضحية، وحوار القاتل قبل أن يصبح قاتلاً؟
ولكن كيف السبيل؟ في مكان ضاغط ولا هواء فيه.. ستبقى الجمعيات، جمعيات لسقط العتب.
أكاد أرى القراء السوريين يتضاحكون قائلين: “لا، وصلتو!”. وهم يقرأون، خطاب هذه المجموعة الموجه إلى الجهات التالية:
السيد رئيس الجمهورية.
مجلس الشعب.
رئاسة مجلس الوزراء.
وزارة العدل
نقابة المحامين
وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالميةالمتاحة.
يوجد في آخر بند: التنبيه إلى عدم اللجوء إلى أي شكل من أشكال الاحتجاج الميداني: “اعتصام، مسيرة، أو غيره..”
نعم هم يريدون العنب. المشكلة أن الناطور ليس لديه عنب ولم يكن يوماً لديه عنب.
ملاحظة: هذه المواقع، التي تنشط كي تحارب جرائم الشرف، ترفض بشدة نشر أي مقالة تتحدث عن قتلى الحروب ولو كانت هذه الحروب بيد إسرائيل مادامت مقالتك أيها الكاتب تتطرق من باب التلميح إلى معارضة السلطة الأمنية.
فمن يذهب بنا إلى لب الأشياء، إلى منبع الشر كي نمضي معه نسده معاً ونستريح..