“العقل هو صورة المعقول في نفس العاقل... والإنسان أشكل عليه الإنسان”
أبو حيان التوحيدي
كلمة “كلب” لا تنبح، ولا تعض، على رأي علماء اللغة؛ لكنها تحيل على واقع عياني، على كائن معين، ينبح، ويعض، وتحيل على الاختلاف، إنها صورة الكلب، بل شكله، في ذهن من يعرفه، بل في نفس من يعرفه، بغض النظر عن الشعور أو العاطفة والانفعال والاستجابة والانطباع والحكم... ، التي ترافق عملية المعرفة ولا تنفصل عنها. وكلمة عطر لا رائحة لها، ولكنها تحيل على ما لا حصر له من الروائح الطيبة؛ وكلمة علم ليست عالمة، وكلمة جهل ليست جاهلة، وكلمة خير ليست خيِّرة، وكلمة شر ليست شرِّيرة... ولكنها جميعاً كلمات، مفاهيم وكليات، هي أسماء العالم وأدوات معرفته وتعقله و“تعقيله” وإنشاء صورته في الذهن.
الكلمة عقل (لوغوس) أو فكر. “في البدء كان الكلمة، والكلمة هي الله”. أما “ألفاظ” الوعي الشقي (القومي والإسلامي، و“القومي الإسلامي”) وأصواته، أعني مفاهيمه ومقولاته ومصادراته ورموزه ومجازاته وبلاغاته وبهلواناته ... فلا تحيل على شيء سوى الصوت، وليست أدوات لمعرفة الواقع الحاضر والراهن، لأن شكلها هو عين محتواها، بلا فروق ولا حدود ولا تعارضات. وحين يصير الشكل هو عين المضمون يسقط الحدان الجدليان معاً (الشكل والمضمون)، وينتفيان معاً، فيتوقف الجدل، الديالكتيك، ويبطل عمل العقل، ويخلي مكانه للعواطف والرغبات والمشاعر والحدوس، وللغرائز أيضاً، وتصير الكلمات أوثاناً وملائكة وشياطين. ذلكم هو “التراث”، وتلكم هي “الأصالة”.
المعرفة والإدراك أو الوعي والفهم والفكر أو العقل هي إدراك وفهم وعقل في العالم وفي التاريخ، أي في المكان والزمان، وهما كالنهر، الذي لا يمكن أن نسبح في مائه ذاته مرتين؛ (التراث هو وعي الماضي وفهمه وعقله). ليست الحقائق والمبادئ العقلية والأخلاقية وحدها عابرة للزمان والمكان، بل الأباطيل والرذائل أيضاً. والوعي الشقي، الوعي الأيديولوجي، الثنوي والحلولي والوثني، التراثوي والأصالوي... هو باطل الأباطيل، لأنه يسوِّي بين المبادئ العقلية والأخلاقية وبين الأباطيل والرذائل، ولا يخلو أن يعد الأباطيل والرذائل حقائق عقلية وأخلاقية، ويعد الجرائم الموصوفة، كالغزو والاحتلال والإخضاع والإتباع والإذلال والاسترقاق والاستعباد والنهب والسبي...، أمجاداً وبطولات.
الخطاب التثريبي، العربي وغير العربي، يصف العرب بأنهم “ظاهرة صوتية”، وهذا حكم عام، ينطوي، كغيره من الأحكام العامة، على تفصيلات خاطئة ومغلوطة. العرب ظاهرة صوتية في حقل السياسة فقط، بل في حقل السياسة بما هي أدلوجة فحسب، السياسة، لدى معظم أهل السياسة وأهل العقائد والمذاهب والملل والنحل السياسية من العرب حكاماً وسادة ومعارضين وتابعين، هي أدلوجة لا تربطها أي صلة بالواقع الحاضر والراهن، نسق من الأفكار والمصادرات والرؤى والتصورات عما يجب أن يكون عليه العالم، لا عما يمكن أن يكون عليه، إنها بالأحرى فعل إيمان واعتقاد وتصديق وتسليم، فهي من ثم فن التصويت، فن الخطابة الفارغة والعنتريات وصفّ الكلام الخاوي من المعاني، وحين يكون الأمر كذاك يصير “التصويت”، أي الانتخاب أو الاقتراع عملاً بلا معنى، لأن التصويت هو التصويت، وكذلك الاستفتاء والاحتكام إلى “الجماهير”. ثمة بون شاسع بين التصويت والكلام. التصويت هو إنتاج الأصوات رخيمة أو رقيقة، جهيرة أو مهموسة، على تفاوت في النبر والمد، بحسب اتقاد المشاعر وجيشان العواطف؛ أما الكلام فهو إنتاج المعنى، والكتابة هي إعادة إنتاجه. والمعنى هو العقل، هو صورة المعقول في نفس العاقل.
العرب المحرومون من حياة سياسية سليمة، في بلدانهم، يتكلمون ويكتبون وينتجون ويبدعون، وفي كلامهم وإنتاجهم وإبداعهم غير قليل من الآثار الضارة والمحبطة، التي تتسبب بها السياسات السلطانية المحدثة، أو التسلطية، الاستبدادية، وقد كانت هذه السياسات، ولا تزال، تحول دون جعل الكلام والإنتاج والإبداع قيماً مجتمعية عامة، ومرتكزات موضوعية لنموذج ثقافي وأخلاقي حديث وحياة مدنية لا تعوزه ولا تعوزها قوة العمل وعناصر الخلق والابتكار. ما يعني أن العيب ليس في العرب أو في المسلمين، وليس في العروبة أو في الإسلام، بل في السياسة، بالمعنى الواسع والعميق للكلمة. العيب في السياسة بما هي اجتماع مكثف واقتصاد مكثف وثقافة مكثفة وأخلاق مكثفة، لا بما هي فن الاستيلاء على الحكم والاحتفاظ به، ولا بوصفها “فن إدارة البشر والأشياء”، وفق منطق لا يفرق بين البشر والأشياء، فهذه لا عيب فيها، من وجهة نظر ميكيافلية، كلبية (سينيكية). محمد على باشا لم يستفد من أمير ميكيافلي، لأن حكمته كانت قائمة أساساً على مبدأ الاستبداد، أي على فصل السياسة عن الأخلاق، لا عن “الدين الوضعي”. وسلاطين العرب المعاصرون، الذين بزُّوا جميع أسلافهم في الاستبداد، أقل حاجة إلى أمير ميكيافلي من محمد علي باشا، وأكثر حاجة منه إلى “الدين الوضعي”، لأن سياستهم قامت على قطع أي صلة بالفكر والأخلاق، ولأن “الدين الوضعي”، (دين المشايخ والملالي والفقهاء والمفتين و“المجاهدين” و“المقاومين” ووعَّاظ السلاطين ونجوم القنوات الفضائية)، الذي يستقوون به ويتخذون منه غطاء لكلبيَّتهم، يقوم هو الآخر على قطع أي صلة بالفكر والأخلاق. السياسة السلطانية والدين الوضعي وجهان لعملة واحدة لا يقوم أي منهما بغير الآخر، كلاهما اغتيال للمعنى وإزهاق للروح وإهانة للكرامة الإنسانية، والتقرب إليهما والتبرُّك بهما، كـ“التبرُّك بالبول والغائط”، إهانة للكرامة الإنسانية.
السياسة السلطانية المحدثة هي لا هوت الاستبداد والإرهاب، هي “سماء الشعب”، بتعبير كارل ماركس، سياسة تغرف من أدلوجة قومية أو إسلامية أو اشتراكية لا ينضب لها معين، لأنها تشقق الكلام من الكلام. الأدلوجة هي المبدأ والغاية. المبدأ هو الوجود الخالص: الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، أو الأمة الإسلامية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، أو البروليتاريا الأممية الواحدة ذات الرسالة الخالدة. والغاية هي الوجود الخالص ذاته، والوجود الخالص عدم خالص. وبين المبدأ والغاية ثمة التخبط والاعتساف وامِّحاء الحدود والصراع الضاري على السلطة والثروة، و“كل شيء مباح”، وثمة الاحتكار والاستبداد والإرهاب والوصاية على عقول الناس وضمائرهم، وثمة النهب والفساد وتحلل القيم. الاستبداد والإرهاب توسُّط بين عدمين هما المبدأ والغاية، وسيلة يسوغها المبدأ وتبررها الغاية. منذ خمسين عاماً والعدم ينمو في بلاد العرب، ولا سيما عدم الحرية وعدم المساواة وعدم العدالة وعدم الكفاية وعدم القانون وعدم الأخلاق وعدم الحب وعدم الرحمة وعدم تقوى الله وعدم التورع، على كل صعيد.
الإيديولوجيون، القوميون والإسلاميون والاشتراكيون على السواء، مغرمون بالوجود، لا بالموجود، مغرمون بالمصدر والأصل، لا باسم المفعول “موجود”، فهم وجوديون بامتياز وأصوليون بامتياز؛ عقيدتهم هي عقيدة الوجود الماهوي الذي لا يلابسه عدم والإثبات الذي لا يساوره نفي والثبات الذي لا يعتريه تغير والاحتكار الذي لا يقبل نداً ولا شبيهاً ولا شريكاً، ناهيك بالمختلف والمعارض.
مبدأ السياسة السلطانية المحدثة الوحيد يتلخص في: كل شيء مباح وكل شيء ممنوع. كل شيء مباح للسلطان وحاشيته وأتباعه ومواليه وضباط أمنه وعيونه ومخبريه وكعوب أحذيته و“المتمجدين بمجده”، بتعبير الكواكبي، الذين يتألف منهم هرم الاستبداد، الذي لا يقوم إلا بهم وعليهم، وكل شيء ممنوع على غيرهم، إلا بإذنه أو بإذن أي نسخة عنه. مبدأ الاستبداد يتلخص في: لا قانون سوى إرادة المستبد وهواه، ولا مبدأ سوى طاعته والامتثال لأوامره وتوجيهاته ونواهيه. قال ديستويفسكي على لسان أحد أبطاله: “إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح”. فحيثما يكون الاستبداد لا يكون الله موجوداً؛ ومن ثم فإن الاستبداد هو مملكة الشيطان، الذي أُوكل إليه الفساد والإفساد. الوعي الشقي هو قناع الاستبداد وبرقعه وزينته وتسويغه “الأخلاقي”.
الثقافة السلطانية، أي “الثقافة الجماهيرية”، لأن السلاطين لا يحتاجون إلى ثقافة، إلا لقيادة الجماهير، هي ثقافة العدم، الذي قلنا إنه ينمو باطراد في بلاد العرب، أيديولوجات مغلقة وحقائق ناجزة، أيديولوجيات صاغها مثقفون، ثم أمَّمها القادة والسادة والأمراء وأعادت أقلامهم وألسنتهم وكعوب أحذيتهم بناءها على صورهم وأمثلتهم، فأتت على ما كان فيها من عناصر عقلية وأخلاقية، وأفرغتها من أي مضمون. ومثقفوها، كالسلاطين، بلا عقل وبلا قلب وبلا ضمير، لأنهم ليسوا أكثر من أبواق السلاطين وصناجاتهم وببغاواتهم. فالثقافة الجماهيرية تُستنفَد في وظيفتها فحسب، أعني في قيادة الجماهير إلى مراعي الفردوس الاشتراكية وزرائب “النضال في سبيل أهداف الأمة العربية، في الوحدة والحرية والاشتراكية”، وإلى مسالخها.
مراجع “الفكر السياسي” (العربي الإسلامي) ومصادره ومعايير صوابه أو انحرافه عن جادة الصواب، في أيامنا، هي أقوال القادة وأقوال السادة وأقوال الأمراء وأحاديثهم ومأثوراتهم ومآثرهم، وهي المادة الوحيدة لمثقف السلطة ومثقف الحزب ومثقف الجماعة، وهي الحجج الدامغة لإخماد الخصوم والمعارضين وكشف ضلالاتهم وأباطيلهم وافتضاح تآمرهم على أمتهم. منذ عقود وهؤلاء المثقفون يصكون آذاننا بأقوال القادة والسادة والأمراء، ولم نسمع مرة قائداً أو سيداً أو أميراً يستشهد بقولٍ لأحد المثقفين، لا لأن معارف هؤلاء القادة والسادة والأمراء وعلومهم تامة فقط، بل لأن تبعية أولئك المثقفين وعبوديتهم ودونيتهم تامة أساساً. “السياسي” من هؤلاء هو ملهم “المثقف” من أولئك وولي نعمته وأستاذه ومثله الأعلى، بل هو سيده، بكل ما تنطوي عليه السيادة من معاني، والممسك برسنه ولسانه والوصي على عقله وضميره.
“الوعي هوالعالم مدركاً” على نحوٍما، هو الواقع مدركاً ومحوَّلاً في الرأس، أي إنه صورة العالم في ذهن كل فرد على حدة، يستمد منها الفرد ما يسميه أفكاره وآراءه وتصوراته ويقينياته الخاصة، ويحدد، في ضوئها، مواقفه من الطبيعة ومن المجتمع والدولة ومن الإنسان. فثمة صور للعالم بقدر ما في العالم من أفراد، لا يشك أي منهم في صحة إدراكه وسلامة معرفته وقوة فاهمته وصواب رؤيته، وفي أنه قد أوتي كفايته من العقل، فالعقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، كما قال ديكارت، وليس في الناس من يحب أن يكون على خطأ، أو على ضلال، إلا المرضى والمجرمون. ذلكم هو أصل الغنى والثراء في معارف كل أمة على حدة، وفي ثقافتها، وفي معارف الجماعة الإنسانية وثقافتها. ولكن الواقع العياني، ببعديه: الكوني والتاريخي، الذي هو مصدر المعرفة والوعي ومرجعهما، شيء، والواقع المُفترَض، الذي يخرجه الإيديولوجيون من رؤوسهم، شيء آخر. الأول قابل للتعرف والإدراك والتعقل والفكر، أما الثاني فليس قابلاً لأن يعرف ويدرك ويعقل، ولذلك يحتاج إلى التصديق والإيمان، لأنه من شؤون العاطفة، لا من شؤون العقل، مثله في ذلك مثل الدين. ولا ينكشف شقاؤه إلا حين يصطدم حاملوه بالواقع الفعلي وحقائقه، فيذهبون إلى مطلب تغيير نظام العالم بدلاً من العمل على تغيير أفكارهم وطرح أوهامهم. تلكم هي الإيديولوجيات الثورية، وذلكم هو الوعي الشقي، الذي يريد تغيير العالم، لأنه لا يعرفه، ولأن الواقع لا يستجيب لرغباته وأهوائه، وتغيير العالم هنا لا يزيد على إلغاء القانون والخروج على أي نظام وعلى أي بنية عقلية وأخلاقية. ما يجعل من السياسة فن اجتراح المعجزات، وفن الحرب على المجتمع.
والوعي الاجتماعي هو القسمات والملامح والعناصر المشتركة بين هذه الصور المعطاة لنا بالحياة، في كل مجتمع على حدة،لا يعرف أحد،على وجه الدقة والضبط، كيف تتشكَّل وعياً اجتماعياً يوجه مدارك الأفراد ويحدد سلوكهم، ويعيِّن طرائق المعرفة ويؤطرها، أويشكِّلها نسقاً/أنساقا تصبغ وعي الأفراد بصبغتها، حتى ليكاد أن يختفي الطابع الفردي للوعي والمعرفة والعمل والإنتاج والإبداع. بل إن هذه الأنساق تتحكم بعملية اكتساب المعارف الجديدة، فتغدو أطراً اجتماعية للمعرفة، ومنظومات اجتماعية للقيم، ومحددات اجتماعية للسلوك؛ فالعمل والإنتاج يصيران اجتماعيين، على الرغم من واقعهما الفردي، وكذلك الإبداع، ويصيرالوعي الاجتماعي نفسه موضوعاً للفكر.ومن ثم فإن الفكر لا يستطيع مقاربة الواقع، كماهو، من دون أن يخترق هذه الأطر التي تحجبه، أو تحوِّره، أو تخفي بعضاً منجوانبه، والتي هي عقبات كأداء ف يطريق تعرُّف هكما هو، بقدرما تثابرهذه الأطر، ولا سيما الإيديولوجية منها، علىترشيح (فلترة) المعارف والأفكار والتصورات والمناهج والقيم الجديدة، والكشوف العلمية الجديدة أيضاً، فتقبل بعضها وتدرجه في نسقها الخاص على تأوي لما، وترفض بعضها الآخر، وبقدر ما تعمل على تأويل الأفكار والوقائع، القديمة منها والجديدة، لإنتاج خطاباتها.
من هذه الأطر، التي تتعلق بموضوعنا، إطار “الفكرالقومي العربي” أو منظومة“الفكر القومي العربي”، و“الخطاب القومي العربي”، وإطار أو منظومة “الفكرالإسلامي”. وقد شغلت هاتان المنظومتان: القومية والإسلامية، معظم الحقل الثقافي العربي، وتحولت كلم نهما، جرَّاء ثباتها وانغلاقها وتماميتها بإزاء تغير الواقع وانفتاحه على ممكنات شتى، إلى أيديولوجية لا يمكن كشف مفارقاتها وتعرية أوهامها إلا بمعارضتها بالواقع العياني الراهن.
ليس بوسع البشر أن يتخلصوا من التوتر الدائم ومن التعارض الجدلي المقيم بين الوعي والوجود، بين الفكر والواقع، وليس بوسعهم التوصل إلى حقائق نهائية وناجزة في أي مسألة، ما دام نهر الحياة يجري، ولا يستطيع أحد أن يسبح في مائه مرتين. لكن المشكلة التي نحاول مقاربتها تكمن في انفتاح الوعي والفكر على حقائق الواقع المتغير، وعلى منجزات المعرفة البشرية، ومعطيات الخبرة العملية، أو عدم انفتاحهما، وفي طرائق المعرفة ومناهجها، وفي زاوية النظر إلى العالم. هنا تواجهنا مشكلة الأيديولوجية، بوصفها قناعاً وحجاباً يحجب عنا الواقع، وفكراً كف عن مجاراة الحياة، وموقفاً ذاتياً خالصاً من قضايا المعرفة وقضايا الواقع وقضايا الإنسان.
نحن لا نقلل من شأن الذاتية، بما هي استقلال وحرية، استقلال الوجدان وحرية الفكر، ولكننا نفرق بين ذاتية حية وخلاقة وتفاعلية وتواصلية، تضع ذاتها في العالم عملاً وإبداعاً، ثم تستعيد موضوعية العالم في ذاتها مرة تلو مرة، وبين ذاتية هامدة وخاملة ومنغلقة على ذاتها وقانعة بحقائقها ويقينياتها ومطلقاتها ومسبقاتها ورؤيتها الخاصة. ولا نقلل بالقدر ذاته من قيمة الإيديولوجية بوصفها تطلعات البشر ومطالبهم وأشواقهم ورغباتهم وقناعاتهم ومعتقداتهم وإيماناتهم، بل نحاول أن نعيد الاعتبار للإيديولوجيا بوصفها علم الأفكار، بحسب دلالتها اللغوية وموقعها في تاريخ الفكر، وتاريخ أي علم هو تاريخ أخطائه، بحسب فيلسوف العلم، كارل بوبر. ونحاول من ثم أن نعيد الاعتبار لمبدأ جهاد المعرفة، وجهاد النفس الأمارة بالسوء، وللنزوع الإنساني الأصيل لمعرفة الحقيقة والتضامن معها، ولفضيلة الاعتراف بالخطأ، وندافع عن مشروعية الخطأ غير المقصود وغير المتعمد، بوصفه ظل المعرفة البشرية، وظل العمل، وعن قابلية الإنسان للتعلم من أخطائه، وقابليته، من ثم، للتجاوز والتحسن والتقدم إلى ما لا نهاية، وتلكم هي غاية التاريخ، إذا كان له من غاية، وتلكم هي لانهاية التاريخ، الذي لا نهاية له إلا بنهاية الجنس البشري، وهذا ممكن، أو بنهاية الحياة، وهذا محال.
ونفترض أن ثمة صلة سببية وثيقة، بين الإيديولوجية، بوصفها حجاباً ووعياً شقياً وعقبة كأداء في طريق تشكل ثقافة وطنية ووعي حديث، وبين التشدد والتطرف والإرهاب، التي وسمت جميع الحركات والتجارب الراديكالية في التاريخ. فنعارضها بمبدأ التوسط والاعتدال، لأننا نعتقد أن ثمة علاقة وثيقة أيضاً بين الديمقراطية والاعتدال، وأن مثالب الديمقراطية وعيوبها وأخطاءها إنما تنبع جميعها من الإفراط والتفريط، أي من التطرف في الاتجاهين. مع أن أسباب التطرف والإرهاب لا تُستنَفد في الأسباب الأيديولوجية، ولكن الأسباب الأيديولوجية تلازم جميع أسبابهما الأخرى وتخالطها، سواء كانت هذه الأسباب اجتماعية اقتصادية (طبقية) أم سياسية أم معرفية. ونفترض أيضاً أن ثمة صلة سببية وثيقة بين الأيديولوجية والاستبداد، لأنه ما من إيديولوجية مغلقة إلا وتتسم بالتمامية والكمال واحتكار الحقيقة، والاحتكار هو جذر الاستبداد وأساسه.
الإيديولوجية القومية، التي تتبناها الأحزاب والتنظيمات القومية، فتتغذى منها وتغذيها، والتي عملت هذه الأحزاب على تعميمها وجعلها ثقافة “الجماهير”، حيثما تسلمت السلطة، والإيديولوجية الإسلامية، التي تتبناها الجماعات الإسلامية، وتتغذى منها وتغذيها أيضاً،هيشبكة منالأفكار والمصادراتوالرؤى والتصوراتوالأحلاموالقيم والأهداف والتطلعاتنُسجَتحول نواةصلبةهي “الأمةالمباشر، العياني،فيالعالم وفيالتاريخ، ومن وجود المسلمين المباشر في العالم وفي التاريخ.ومنهذاالوجودالمباشرذاته تستمدكل منهما معقوليتها، فتبدو لحامليها نسيجاً متماسكاً من الحقائق الواقعية والتاريخية. لكن المعقول لدى الإيديولوجية القومية والإيديولوجية الإسلامية ليس الوجود العياني للعرب وللغة العربية وللثقافة العربية، أو للإسلام والمسلمين والمذاهب الإسلامية، بل هو الوجود الماهوي أو الجوهري المطلق للأمة العربية والقومية العربية، وليس الوجود العياني للمسلمين والتطور التاريخي للإسلام، بصفته ديناً في العالم وفي التاريخ، بل الوجود الماهوي المطلق للإسلام وللأمة الإسلامية. فإذا كان المعقول، أي موضوع العقل أو التعقل، شيئاً آخر غير الواقع وغير العالم الواقعي، يغدو من الضروري أن نتساءل: كيف هو العاقل، وأن نتساءل عن معنى العقل وعن معنى الوهم. العربية” و“الأمة الإسلامية”؛ تنبع صلابة هذه النواة من وجود العرب
لذلك كان السجال“النظري” بين القوميين العرب وخصومهم يدور حول وجود الأمة العربية أوعدم وجودها، بغض النظر عن أشكال هذا الوجود الواقعية أو تعيُّناته الواقعية. وقد استغرق هذا السجال معظم خمسينات وستينات القرن الماضي، واستنجد القوميون في مساجلة خصومهم بجميع ما يسمى “النظريات القومية”، ولا سيما “النظرية” الألمانية. وليس بوسع المرء أن يجزم بعد بنتائج هذا السجال، الذي خفت، ثم تلاشى، مع وصول أحزاب قومية إلى السلطة بانقلابات عسكرية سميت ثورات قومية، مالبثت أن تحولت إلى نظم شمولية، استبدادية، استقر في وعي محازبيها وجماهيرها أن “الأمة قيد التحقق، إن لم تكن قد تحققت هنا وتحتاج إلى أن تتحقق هناك. في حين ظلت”الأمة العربية“في وعي معارضي هذه النظم منالقوميين، كما هي في وعي الأحزاب الحاكمة،مفارقاً لوجود العرب الاجتماعي والسياسي، يكشف تناقض خطاب هذه النظم وممارساتها، فلا تستطيع أن تتبين مسائل الخلاف بين هؤلاء وأولئك، سوى في مسألة الاستئثار بالسلطة والثروة، أي في مسألة الحاكمية والولاية على البشر. وكلما كان الواقع يزداد تردياً كان المثال يزداد توهجاً وسطوعاً. فلا يزال القوميون المعارضون يعتقدون أن العيب كامن في أشخاص الحاكمين وبطانتهم من رفاق الأمس وحلفاء الأمس، لا في البنى الإيديولوجية والسياسية بوصفها محصلة سائر البنى الاجتماعية. ذلكم ما يقتضي فحص ما يسمى الوعي القومي ونقده بدلالة الواقع القائم بالفعل وبدلالة الحاضر. العربية”قد قامت بالفعل،وأن أهدافها باتت مثالاً
تحت هذه الحيثية يمكن أن نضع “المؤتمر القومي العربي”، الذي صار “المؤتمر القومي العربي الإسلامي”، ونحا إلى قومنة الإسلام، لجعل “الإسلام”، إسلام المتكلم، لا الإنسانية ولا العقلانية ولا العلمانية ولا الديمقراطية، روح الأمة العربية وماهيتها وجوهرها، (الإسلام روح الأمة العربية والأمة العربية مادة الإسلام، والأمة العربية لا تقوم إلا بجناحيها: العروبة والإسلام) وإلى أسلمة القومية العربية، التي يفترض أن تتعين في حركة/حركات سياسية وثقافية علمانية وديمقراطية، ووضعها في مصاف الإسلام السياسي قداسة ومعصومية ونأياً عن العلمانية وعن قيم الحداثة الأخرى ومناهجها، بل عمد إلى حل مفهوم الأمة العربة ومفهوم القومية العربية في مفهوم المقاومة والجهاد والشهادة،ونحا إلى التصالح مع الأنظمة القومية الشمولية ومال إلى ممالأتها ومناصحتها، ما دامت متمسكة بـ“الثوابت القومية” وتدعم جماعات المقاومة الإسلامية، وجعل من رموز الاستبداد ورموز الإرهاب رموزاً قومية عربية/إسلامية