بولس الرسول هو أشهر شخصية في أسفار العهد الجديد بعد يسوع المسيح. فمعظم مادة سفر أعمال الرسل يتحدث عن نشاطه التبشيري، كما أن رسائله الأربع عشرة كانت متداولة بين المسيحيين كتابةً منذ مطلع خمسينيات القرن الأول الميلادي، أي قبل تدوين وتداول الأناجيل الرسمية الأربعة. وقد وضعت هذه الرسائل الخطوط العامة للعقيدة المسيحية، وبدونها ما كان للمسيحية أن توجد، أو أنها وجدت بطريقة مختلفة تماماً عما نعرفه اليوم. وُلد نحو عام 10 أو 15م في مدينة طرسوس بمنطقة كليليكيا، بجنوب آسيا الصغرى من أسرة يهودية تحمل المواطنية الرومانية. وكانت لغته الأم هي اليونانية، ولكنه كان يتقن الآرامية لغة التعامل اليومي في سورية وفلسطين إبَّان ذلك العصر. وهو يصف نفسه في الرسائل بأنه يهودي من سبط بنيامين، وبأنه كان من أتباع الفرقة الفريسية (رومة 1:11، 2 كورنثة 22:11، فيليبي 5:3). ويضيف سفر أعمال الرسل على ذلك بأنه درس الدين على يد جمالائيل وهو واحد من أشهر معلمي الفرقة الفريسية خلال النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد (أعمال 3:22).
هذا التعليم الديني الذي تلقاه بولس دفعه في مطلع حياته إلى المساهمة في اضطهاد المسيحيين الأوائل. وقد كان حاضراً عندما سُفك دم استيفانوس أول شهيد مسيحي على يد اليهود في أورشليم، وقدم العون إلى من شاركوا في رجمه بالحجارة، بينما كان استفانوس يهجو اليهود وهو يتلقى ضرباتهم بأقذع الألفاظ: “يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان. أنتم دائماً تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم كذلك أنتم. أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟ وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار الذي أنتم الآن صرتم مسلميه وقاتليه (= يسوع)، الذين أخذتم الناموس من أيدي الملائكة ولم تحفظوه... فصاحوا بصوت عظيم وسدوا آذانهم وهجموا عليه بنفس واحدة، وأخرجوه خارج المدينة ورجموه. والشهود خلعوا ثيابهم عند رجلي شاب يقال له شاؤل (وهو الاسم العبري لبولس)، فكانوا يرجمون استفانوس وهو يدعو ويقول أيها الرب يسوع اقبل روحي... وكان شاؤل راضياً بقتله. وحدث في ذلك اليوم اضطهاد عظيم على الكنيسة التي في أورشليم... وأما شاؤل فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجرر رجالاً ونساءً ويسلمهم إلى السجن.” (أعمال 51:17-61 و 1:8-3).
وقد تحدث بولس في رسائله عن هذه الفترة من حياته: “فإنكم سمعتم بسيرتي قبلاً في الديانة اليهودية أني كنتُ أضطهد كنيسة الله بإفراط وأتلفها، وأتقدم أكثر أترابي من بني قومي في ملة اليهود وأفوقهم حمية على سنن آبائي.” (غلاطية 13:1-14). أما كيف حدث التحول الحاسم في حياة بولس/ شاؤل، فيحدثنا عن ذلك سفر أعمال الرسل 9. فقد عهد رئيس الكهنة في أورشليم إلى بولس مهمة الذهاب إلى دمشق من أجل تطهير الجماعات اليهودية المقيمة فيها من المسيحيين. وقبل الوصول إلى دمشق أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض خوفاً، ثم سمع صوتاً من مصدر البرق والنور يناديه قائلاً: شاؤل، شاؤل، لماذا تضطهدني؟ فقال بولس: من أنت ياسيد؟ فقال الصوت: أنا يسوع الذي أنت تضطهده. فقال بولس وهو يرتعد: ياسيد، ماذا تريد مني أن أفعل؟ فقال له الصوت: قم وادخل دمشق، وهناك يقال لك ماذا ينبغي أن تفعل. وعندما نهض بولس اكتشف أنه قد فقد البصر، فاقتاده المسافرون معه في القافلة وأدخلوه دمشق، وهناك سكن بيتاً في شارع يقال له المستقيم (سوق مدحت باشا حالياً)، وكان لا يأكل ولا يشرب. وكان في دمشق تلميذ مسيحي اسمه حنانيا، فجاءه وحي من الرب أن يذهب إلى مسكن بولس ويضع يده على عينيه فيبصر. فأتى حنانيا ووضع يده على عيني بولس فأبصر في الحال، وقام فتعمد بالماء على يدي حنانيا، ثم أكل فتقوى وراح في اليوم التالي يكرز بالمسيح. ولكن اليهود تشاوروا ليقتلوه، وراحوا يراقبون بوابات المدينة نهاراً وليلاً ليلقوا القبض عليه، ولكن التلاميذ أخذوه ليلاً وأصعدوه على السور ثم دلوه إلى الخارج في سلة.
بعد هربه من يهود دمشق، توجه بولس إلى الصحراء العربية حيث لبث هناك ثلاث سنوات يتأمل في مغزى حياة يسوع وموته وبعثه. وفي غمرة تأملاته خاض غمار تجربة صوفية هزت كيانه وغَيَّرته إلى الأبد، حيث تأكد له أن يسوع المسيح قد اختاره ليكون رسوله إلى الوثنيين ليكرز بينهم ببشارة الإنجيل، فاعتبر نفسه الرسول الثالث عشر الذي لم يلتقِ بيسوع حسب الجسد ولكنه عرفه بالروح، ومنه تلقى مباشرة المهام الرسولية. وبعد زيارة قصيرة إلى أورشليم التقى خلالها بالرسولين بطرس ويوحنا، انطلق للتبشير في العالم اليوناني مبتدئاً بأنطاكية العاصمة الثقافية اليونانية الثانية بعد الإسكندرية. وبعد مسيرة تبشيرية حافلة تعرض خلالها للجوع والعطش والبرد والغرق في البحر والسجن والرجم بالحجارة، استشهد في روما نحو عام 67م خلال حملة الاضطهاد الواسعة للمسيحيين التي جرت في عهد الإمبراطور نيرون.
فما الذي قاله بولس مؤسس المسيحية في اليهود واليهودية وشريعة العهد القديم؟
لقد فهم بولس تمام الفهم رسالة يسوع على أنها قطيعة كاملة مع التاريخ الديني اليهودي، وتركزت تعاليمه على الفصل التام بين العهد القديم الذي يدعوه بشريعة الحرف، والعهد الجديد الذي يدعوه بشريعة الروح: “إذا كان أحد في المسيح، فإنه خَلْق جديد. قد زال كل شيء قديم، وهاهو كل شيء جديد.” (2 كورنثة 17:5). “تلك ثقتنا بالمسيح لدى الله... فهو الذي مكننا من خدمة العهد الجديد، عهد الروح لا عهد الحرف. لأن الحرف يميت والروح يُحيي.” (2 كورنثة 4:3-6). لقد كانت الشريعة بمثابة لعنة حررنا منها يسوع المسيح بموته على الصليب: “المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب ملعون كل من عُلّق على خشبة. لتصير بركة إبراهيم للأمم في المسيح يسوع لننال بالإيمان موعد الروح.” (غلاطية 13:3-14). “ونحن نعلم أن الإنسان لا يُبرَّر لأنه يعمل بأحكام الشريعة، بل لأن له الإيمان بيسوع المسيح. بالشريعة مت عن الشريعة لأحيا في الله... وإذا كان لي حياة بشرية فإنها في الإيمان بابن الله الذي أحبني وضحى بنفسه من أجلي... ولو كان بالشريعة برُّ الإنسان لكان موت المسيح عبثاً.” (غلاطية 16:2-21).
ويتابع بولس فكرة شريعة الروح الجديدة التي حررت من شريعة الحرف القديمة في مواضع أخرى من رسائله: “فليس بعد الآن من هلاك للذين هم في يسوع المسيح، لأن شريعة الروح الذي يهب الحياة في يسوع المسيح قد حررتني من شريعة الموت والخطيئة. فالذي لم تستطعه الشريعة والجسد قد أوهنها، حققه الله بإرسال ابنه في جسد يشبه جسدنا الخاطيء كفارة للخطيئة، فحُكم على الخطيئة بالجسد ليتم ما تقتضيه منا الشريعة، نحن الذين لايسلكون سبيل الجسد بل سبيل الروح.” (روما: 1:8-2). “لم تتلقوا روحاً يستعبدكم ويردكم إلى الخوف، بل روحاً يجعلكم أبناءً وبه ننادي أبتاه... فإذا كنا أبناء الله فنحن الورثة، ورثة الله وشركاء في المسيح في الميراث (روما 15:8-17).”أما الآن وقد متنا عما كان يعتقلنا، فقد حُللنا من الشريعة وأصبحنا نعمل في نظام الروح الجديد لا في نظام الحرف القديم.“(روما 6:7-7). والمسيحيون اليهود الذين يصرون على المحافظة على أحكام شريعة العهد القديم قد انقطعوا في الواقع عن المسيح لأنهم رفضوا الحرية التي قدمها لهم:”إن المسيح قد حررنا لنكون أحراراً. فاثبتوا إذن ولا تعودوا إلى نير العبودية. هأنذا بولس أقول لكم: إذا اختتنتم فلن يفيدكم المسيح شيئاً. وأشهد مرة أخرى لكل مُختتنٍ بأنه ملزم أن يعمل بالشريعة جمعاء. لقد انقطعتم عن المسيح يا أيها الذين يلتمسون البر من الشريعة.“(غلاطية 1:5-4).
والشريعة اليهودية بما تفرضه من أحمال تفوق طاقة أي إنسان إنما تقود في النهاية إلى المعصية:”فما الشريعة إلا سبيل إلى معرفة الخطيئة. أما الآن فقد ظهر بر الله بمعزل عن الشريعة، تشهد له الشريعة والأنبياء؛ هو بر الله وطريقهُ الإيمان بيسوع المسيح.“(روما 20:3-21).”فالوعد الذي تلقاه إبراهيم بأن يرث العالم لا يعود إلى الشريعة بل إلى بر الإيمان. فلو كان الورثة أهل الشريعة لأُبطل الإيمان ونُقض الوعد. لأن الشريعة تورث الغضب، وحيث لا تكون شريعة لا تكون معصية.“(روما 13:4-14). كما أن الشريعة تورث اللعنة، وذلك لتقصير أهل الشريعة عن الوفاء بالتزاماتها:”إن دعاة العمل بأحكام الشريعة لُعنوا جميعاً. فقد ورد في الكتاب: ملعون من لم يثابر على العمل بجميع ما كتب في سفر الشريعة... فالمسيح قد افتدانا من لعنة الشريعة.“(غلاطية 10:3-13). لقد أغلق كتاب العهد القديم كل بوابات الرجاء حتى ظهور المسيح:”لو أُعطيت شريعة بوسعها أن تحيي لصح أن البر يُحصل عليه بالشريعة. ولكن الكتاب أغلق كل شيء، وجعله في حكم الخطيئة، ليوهب الوعد للمؤمنين لإيمانهم بيسوع المسح.“(غلاطية 21:3-22).
ويشبِّه بولس أهل الشريعة بالقاصرين الذين يحتاجون إلى مؤدب يشرف عليهم، أما المسيحيين فقد شبّوا على الطوق وليسوا بحاجة إلى مؤدب:”ولكن قبلما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس مغلقاً علينا إلى أن يعلَن الإيمان العتيد. إذاً قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان. ولكن بعد ما جاء الإيمان لسنا بعدُ تحت مؤدب، لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع. فإذا كنتم للمسيح فأنتم إذن نسل إبراهيم، وحسب الموعد ورثةٌ.“(غلاطية 23:3-29).
وسيراً على سنَّة يسوع، فقد حلل بولس كل الأطعمة، فلا يوجد بعد اليوم ما هو محرم على الأكل وما هو محلل:”وأما الأكل من ذبائح الأوثان، فنحن نعلم أن الوثن ليس بشيء في العالم، وأن لا إله إلا الله الأحد... ولكن المعرفة ليست لجميع الناس، فبعضهم جرت لهم العادة في الأوثان أن يأكلوا الذبائح كأنها حقاً ذبائح للأوثان فيتدنس ضميرهم لضعفه. ما من طعام يقربنا إلى الله، فإن لم نأكل لا نخسر شيئاً، وإن أكلنا لا نربح شيئاً.“(1 كورنثة 1:8-8). وأيضاً:”كل شيء حلال، ولكن ليس كل شيء بنافع... كلوا من اللحم كل ما يباع في الأسواق، ولا تسألوا عن شيء تورعاً، لأن الأرض وما عليها للرب.“(1 كورنثة 23:10-25). وأيضاً:”فكل ما خلق الله حسن. فما من طعام نجس إذا تناوله الإنسان وهو حامد، لأن كلام الله والصلاة يقدسانه.“(1 تيموثاوس 3:4-4).
وقد تحدث بولس عن اليهود بسخرية وتهكم، واستخدم في وصفهم تعابير مقذعة:”هنالك جماعة كثيرة، وقد كلمتكم عنها مراراً وسأكلمكم عنها اليوم باكياً، تسير سيرة أعداء الصليب، عاقبتهم الهلاك، وإلههم بطنهم (إشارةً إلى تحريمات الطعام)، ومجدهم عورتهم (إشارةً تهكمية إلى الختان)، همهم أمور الأرض. أما نحن فموطننا في السماوات، ومنها ننتظر مجيء المخلّص يسوع المسيح الذي يبدل جسدنا الحقير فيجعله على صورة جسده المجيد.“(فيليبي 18:3-21). وأيضاً: احذروا الكلاب (اليهود الذين يحاولون فرض عاداتهم على المسيحيين)[1]، احذروا عمال السوء، احذروا ذوي الجَب (أهل الختان). فإنما نحن ذوو الختان لأن عبادتنا بروح الله، وفخرنا بالمسيح يسوع.” (فيليبي 1:3-3). وهو يسخر من نواهي الشريعة اليهودية التي لا تني عن تكرار نواهي مثل لا تأخذ، لا تمس، لا تذق...إلخ: “فأما وقد متُّم مع المسيح متخلين عن أركان هذا العالم، فما بالكم لو كنتم عائشين في العالم تخضعون لمثل هذه النواهي: لا تذق، لا تمس، وتلك الأشياء تؤول كلها بالاستعمال إلى الزوال.” (كولوسي 20:2-21).
وبولس يعكس معنى قصة زوجة إبراهيم الحرة سارة وزوجته الأخرى هاجر الجارية. فاليهود هم العبيد أولاد الجارية، أما المسيحيون فهم الأحرار الذين ولدوا روحياً من الحرة: “هاتين المرأتين تمثلان العهدين، إحداهما هاجر من طور سيناء تلد للعبودية، وتعني أورشليم هذا الدهر، فإنما هي وبنوها في العبودية، أما أورشليم العليا (= السماوية) فحرة، وهي أمنا.” (غلاطية 24:4-26).
وهنالك مقاطع في رسائل بولس لا يمكن فهمها إلا على ضوء المفاهيم الغنوصية عن وجود إله أعلى هو الأب النوراني الذي أرسل يسوع من أجل خلاص البشرية، وإله أدنى منه مرتبةً هو الإله الديميرج، أي خالق هذا العالم الناقص والمليء بالشر، والذي يطابق الغنوصيون بينه وبين إله العهد القديم يهوه (راجع مقالتينا المنشورتين سابقاً عنالغنوصية والأسطورة الغنوصية)، ويدعونه بالأركون الأعظم أي الحاكم الأعظم، ويدعون معاونيه بالأراكنة، أو الأركان وفق الترجمة العربية للعهد الجديد. وقد كانت البشرية واقعة تحت سلطان هذا الإله إلى أن خلصها يسوع المسيح بموته على الصليب.
لذلك يقول بولس إن اليهود الذين تحولوا إلى المسيحية، وهو واحد منهم، كانوا أشبه بالقاصرين الواقعين تحت وصاية أراكنة، أو أركان، هذا العالم، وهم آلهة مزيفة ليسوا بآلهة حقاً، ولكن يسوع افتداهم وأدخلهم سن الرشد لكي يعرفوا الإله الحق: “حين كنا قاصرين، كنا عبيداً لأركان هذا العالم؛ فلما تم الزمان أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة، مولوداً في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبني. والدليل على كونكم أبناء الله، أن الله أرسل روح ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي ينادي يا أبتاه. فلستَ بعد الآن عبداً بل أنت ابن، وإذا كنت ابناً فأنت وارث بفضل الله. لما كنتم تجهلون الله، كنتم عبيداً لآلهة ليست آلهة حقاً. أما الآن وقد عرفتم الله، بل عرفكم الله، فكيف تعودون إلى تلك الأركان الضعيفة الحقيرة وتريدون أن تكونوا لها عبيداً كما كنتم سابقاً، تراعون الأيام والشهور والفصول والسنين (إشارةً إلى السبت وأعياد اليهود الدينية)؟ إني أخشى أن أكون قد تعبت عبثاً من أجلكم.” (غلاطية 3:4-11).
وفي الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة هنالك إشارة إلى “إله هذا الدهر”، وهذه العبارة تدل في الفكر الغنوصي على الأركون الأعظم، وذلك استناداً إلى سفر إشعيا الذي أطلق هذا اللقب على الإله يهوه: “أما عرفت، ألم تسمع؟ إله الدهر، الرب خالق أطراف الأرض، لا يكل ولا يعيا.” (إشعيا 28:40). وبولس يرى أن إله هذا الدهر هو إله الهالكين من اليهود الذين رفضوا يد يسوع التي امتدت لتخلصهم: “ولكن إن كان إنجلينا مكتوماً، فإنه مكتوم في الهالكين الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح.” (2 كورنثة 3:4-4).
خلاصة:
في هذه المقالة، والتي سبقتها (يسوع الثائر وموقفه من اليهود واليهودية)، عن موقف يسوع وبولس من اليهود واليهودية، جعلنا نصوص العهد الجديد نفسها ترد على المداخلات اليهودية المقحمة على كتاب العهد الجديد والغريبة عليه. فبولس قد أحدث قطيعة مع التاريخ الديني اليهودي لا يمكن وصلها، لأنه فهم حق الفهم أن يسوع قد جاء لينقض لا ليكمل، وأن رسالته جديدة كل الجدة عن رسالة العهد القديم، ولا يمكن اعتبارها بحال من الأحوال حركة إصلاحية يهودية ميزت نفسها تدريجياً حتى شبت على الطوق واستقلت. لقد كانت منذ البدء حركة مستقلة كما أراد لها يسوع عندما قال: “جئت لألقي على الأرض ناراً وكم أرجو أن تكون قد اشتعلت... أو تظنون أني جئت لألقي السلام على الأرض؟ أقول لكم لا، بل الخلاف.” (لوقا: 49:12-50). لقد أحدث يسوع شرخاً في المجتمع اليهودي والمجتمع الوثني على السواء، انطلاقاً من قناعته بأن الجديد لا يترسخ قبل تهديم كامل القديم: “فمنذ اليوم يكون في بيت واحد خمسة، فيخالف ثلاثة منهم اثنين، واثنان ثلاثة. يخالف الأب ابنه والابن أباه، والأم بنتها والبنت أمها، والحماة كنتها والكنة حماتها.” (لوقا 52:12-53).
لقد تخللت رسالة يسوع منذ البدء المجتمع كعاصفة تقتلع القديم لتزرع الجديد، ومنذ البدء ميز أتباعه أنفسهم عن محيطهم الثقافي، مشكلين النواة الأولى لواحدة من أهم الحركات الروحية في تاريخ الإنسانية. ولكن اليهودية قد أفلحت في زرع شوكة في خاصرة المسيحية مع انطلاقتها الكبيرة، عندما تم في أواخر القرن الرابع الميلادي الجمع بين كتاب التوارة العبرانية وأسفار العهد الجديد في كتاب واحد هو الكتاب المقدس المسيحي.