في “الأدب والارتياب” يفتح عبد الفتاح كليطو، في وقار هادئ، بابا على غرفة لا يريدها الوعي العربي السائد أن تنفتح؛ إنها مسكن قضايا ابن رشد. ففي محاورة عميقة يدخل في فضاء يصنع من خلاله تحيينا لقضية رجل هو أقرب إلى شخصية نص سردي.. بملامح تخلط بين التخييلي والخيالي. وكيليطو، من خلال هذا العمل الذي يستحضر فيه عقلانية أحد أكبر المتكلمين الذي عمل الخطاب التراثي على اعتباره أديبا فقط، ونقصد الجاحظ، الذي اعترف، واهتم بالقارئ العدو الذي يشركه في مشاريعه ويدعو ه، وفي كل لحظة يلتفت إليه ليتأكد من انتباهه ويذكي اهتمامه (عبد الفتاح كيليطو، الأدب والارتياب. دار توبقال - الطبعة الأولى، 2007 ص.10.)، لا يريد أن يقدم لنا صورة عن رجل، بقدر ما يهدف إلى تقديم صورة لقضية/قضايا. والارتياب المطلوب، هنا، هو نوع من اليقين الذي يتخلل الشك والقلق والمتاه والدوخة، بالمعنى الفلسفي العميق، التي طبعت شيئا كان من الممكن ألا يضيع..
فابن رشد يصبح متعددا بتعدد مفهوم الزمن من جهة، وتعدد المكان من جهة أخرى. إننا صرنا أمام شخصيات تسكن شخصا هو فيلسوف قرطبة الذي وضع للدورة اليومية محطات، بعضها لممارسة الحياة في بعدها الواقعي وما تحمله من دلالات تشتغل بالشرع؛ فهو قاض. ثم هناك زمن ليلي فيه يجد ابن رشد ذاته ويعود إلى المصالحة المشرقة مع عقله ليتأمل بحرية أسرار الكون ويسرُّ إلى عقله وقلبه كل ما يرتاح له.
العقل. والتعقل. لقاءات مع أرسطو ومجالسيه في حضرة متَّى، وبشر بن إسحاق. يجلس متأملا ما يحار في أمره . لكن ذات لحظة يدنو الليل من نهايته، فيتحول الزمن إلى لحظة البين-البين، حيث يغيب الوضوح ويتوقف الليل عن أن يكون زمنا خالصا، كما يضيع النهار عن أن يجلي وضوح نهاره. وهنا بالضبط تختلط الأمور على عراب العقل فتختلط عليه القضايا وينتصب واقفا في وجه رجل انتصر لتيار وحارب زندقة وكفر كل الإشراقات التي كان فيها العقل صحوا يبحث عن سر الأسرار، فيبحث عن اللحظة التي كان يتهافت فيها المتهافتون، وهم لا يميزون بين الليل والليل، بين الحقيقة والحقيقة، بين النهار وبين الليل، “في وقت امتزاج الليل بالنهار، اختلطت عليه الأمور، فرأى المختلف (التراجيديا والكوميديا) في صورة المألوف (المديح والهجاء)، ومن ثم رد الأدب اليوناني إلى الأدب العربي. لقد خرج من مكتبته عند المساء وذهب للقاء الآخرين، ولكنه عاد في النهاية إلى منزله، مع كل ما يعني المنزل من رسوّ في الماضي” (الأدب والارتياب؛ ص63).
لقد ظل وضل وانتهى إلى أرض غير التي انطلق منها، فهاجر إلى أزمنة وأمكنة لم تتوقف عن التوفيق والبحث عن الفرق بين العقل والنقل عن الفلسفة والشريعة، عن الكوميديا والتراجيديا. فهل ضل كل الطرق أم إنه ظل في نفس المكان، حائرا في الفصل بين القول والقول، وباحثا عن نقطة الوصل بين الشيء ونقيضه.
إن ابن رشد يتحول إلى مشهد لعدد من التقابلات التي تجسد الحيرة والمتاهة اللتين تشتغلان في ذهن ابن رشد الذي يبحث دائما عن معادلة للتوفيق بين كل هذه المفارقات، في محاولة لصناعة وصفة تذيب التنافر وتهزم التناقض بين الظاهر والباطن، والعقل والشريعة..
وانتهى إلى أن »كل شعر، وكل قول شعري فهو إما هجاء، وإما مديح« (تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر- الشرح الوسيط؛ ضمن: فن الشعر. ترجمة وتحقيق عبد الرحمن بدوي؛ دار الثقافة - لبنان. دون تاريخ. ص.201) وقد سقط في متاهة خطإ فهم للتراجيديا والكوميديا المترجمتين إلى »المديح« و »الهجاء« وهو سوء فهم تكرر طوال تاريخ ترجمة هذا العمل (فن الشعر) لأرسطو، الذي لو كتب له أن »يفهم على حقيقته وأن يستثمر ما فيه من موضوعات وآراء ومبادئ، لعُني الأدب العربي بإدخال الفنون الشعرية العليا فيه، وهي المأساة والملهاة، منذ عهد ازدهاره في القرن الثالث الهجري، ولتغير وجه الأدب العربي كله. ومن يدرى! لعل وجه الحضارة العربية كله أن يتغير طابعه الأدبي كما تغيرت أوربا في عصر النهضة«. (عبد الرحمن بدوي؛ فن الشعر(المقدمة)؛ ص.56).
وإذا كان ابن رشد قد ضل حقيقة المسرح من خلال ما جرته الترجمات السابقة التي اعتمدها في شروحاته للمعلم الأول، فإنه سعى إلى أن يجعل من كبرى قضاياه هي الحيرة التي دخلها حين عمَّ الظلام في زمنه الليلي. فتعلق بسر الليل وهو يبحث عن حقيقة الحكمة بين العقل والعقل، بين قرطبة ومراكش.. ولكنه في لحظة الفهم العميق ابتلي بنكسة موجعة أفقدته عقله وراح يهيم في ملكوت بلايا العقل العربي الذي لم يزدد إلا ظلاما ذات زمن لم يجد له مخرجا حتى اليوم. وحين مات ابن رشد، وبعد ثلاثة أشهر من دفنه حملت رفاته إلى ما وراء البحر لتدفن في قرطبة. وحضر ابن عربي جنازته وقال » ولما جعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر« ليدفن الجميع في رحم أرض أخرى هي أوروبا.
ماذا فعل ابن رشد في لياليه
لقد كان، حسب من ترجموا له، يشتغل بالليل، ولم يتوقف عن العمل إلا ليلة زفافه وليلة موت أبيه. فهو في وضح النهار يشتغل في وظيفة قاضي: النهار بالنسبة إليه زمن الشرع، وفضاء الشارع أو العالم الخارجي. أما أثناء الليل، فإنه يكرس جهده للفلسفة، أي لمادة شبه سرية، تدرس في الخفاء والستر، مما يقتضي العزلة، والانكماش على النفس، والانقباض في قرارة المنزل: إن الفلسفة جانبه المظلم« (الأدب والارتباب؛ ص.62)، فانشغل في لياليه بالبحث فيما بين الحكمة والشريعة من اختلاف واتفاق. وانكشف له أن الحق هو جهة من جهات الحقيقة، وإن الحقيقة هي المطلق الذي لا يبلغه إلا أولئك الذين رسخوا في البحث عنه في الليالي. ومن ثم لم تكن الشريعة سوى إحدى وجوه الحق الذي ينضج في السعادة بالمعرفة »بالله عز وجل وبمخلوقاته« ( ابن رشد؛ فصل المقال) وإن »الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له. وإذا كان هذا هكذا، فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به«. ( ابن رشد؛ فصل المقال.).
وابن رشد في زمنه الليلي، كان يرسم لمسار زمني سيحكم عليه بأن يبقى حبيس الليل العربي المظلم. وحقيقة الحقائق التي رسم ملامحها في ليالي مراكش وإشبيلية وقرطبة، ما كانت لترتكن في هدوء وصمت ذلك الزمن، فأشرقت شموس ضالة ورأت أن جنون ابن رشد لابد أن يُبحث له عن حل، ولابد لمرض الرجل من دواء حتى تنتهي آلام كل من ذاق مرارة حقيقته. لقد جُنَّ ابن رشد حين اعتبر الأرض كروية، ومرق حين اعتبر أرسطو معلما كبيرا، وضلَّ الطريق مرة أخرى حين رأى أن الفلسفة مصباح للبحث عن الحقيقة في عز الليل!
فالليل لا ينبغى أن تُنير جنباته إلا الظلمات، والأرض ينبغي أن تظل مسطحة كما أُرِيد لها أن تكون. وأرسطو لم يكن يتحدث في »شعريته« إلا عن المديح والهجاء، والمنطق زندقة ينبغي أن نضع حدا »لتهافته«!؟ فما الذي وجب فعله؟ إحراق الليل أم إطفاء مصابحه ليعم الظلام الأرض كلها. وكان الاختيار يراوح بين النار والموت والظلام... فتمت محاكمة ابن رشد بالجامع الأعظم بقرطبة، بعد أن طرد من الصلاة ذات يوم، بسبب تزندقه، مباشرة بعد انتصار المنصور على ألفونسو الثاني ملك البرتغال. وقال القاضي أبو عبد الله بن مروان الذي تولى الدفاع عنه، أن الأشياء الضارة في جهة قد تكون نافعة من أخرى مثلها مثل النار، وهو في ذلك يشير إلى فلسفة ابن رشد، التي إن بدت ضارة للبعض فلأنه لم يظهر لهم الوجه النافع منها... لكن تلك النار كانت هي مصير كتب ابن رشد التي صدر الحكم بإحراقها ونفيه هو إلى أليسانة ... فقط لأن كل ما يمكن أن يقع في الليل فإنه ينبغي أن يعدم لأنه وقع في زمن لابد له أن يحافظ على ظلاميته!
واجتهد المنصور وبعث رسالة إلى مراكش وباقي البلدان مدبجة بكتاب من كاتب سر الخليفة محمد بن عياش، الذي كان له الفضل في وضع حد للعمل في الليالي، ليجعل من الليالي العربية مساحة زمنية للمدام والمجون والغلمان والجواري.. لأن ذلك حقيقة لا تضاد الحقيقة التي دافعوا عنها، وإنما الخطر كل الخطر أن تبقى مؤلفات ابن رشد موزعة بين الناس ... وهوما سيؤدي إلى فساد عوام الناس وستفسد معه كل قصة الحضارة.
ومما أورده بن عياش في الرسالة: »قد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عوامهم بشفوف عليهم في الأفهام، حيث لا داعي يدعو إلى الحي القيوم، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلدوا في العالم صحفا ما لها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق، بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينهما تباين الثقلين، يوهمون إلى العقل ميزانها، والحق برهانها (..) ذلكم بأن الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلون بغير علم، ألا ساء ما يزرون! [...] ومازلنا نذكركم -وصل الله كرامتكم - نذكرهم على مقدار ظننا فيهم وندعوهم على بصيرة إلى ما يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى ويدينهم، فلما أراد الله فضح عمايتهم وكشف غوايتهم، وقف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذ كتاب صاحبها بالشمال [...]فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان حذركم من السموم السارية في الأبدان، ومن عثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه«. (د.توفيق الطويل؛ قصة الصراع بين الفلسفة والدين. دارالنهضة- الطبعة الثالثة. 1997 ص.ص.127/129 )
هكذا يلقى القارئ نفس مصير كل مؤلف سولت له نفسه أن يتجرأ على استخدام عقله للنظر في بواطن قلبه... فهل نحتاج إلى القليل من ابن رشد أم إلى كل العقل أم نحرق ما تبقى من الحقائق التي تشعل نيران حرائق العقل العربي!
وبين الليل وطلوع النهار تسكن كل أسرار الحكمة والحقيقة... فمن يجرؤ على ترقب اللحظة؟