abdo ثـــــــــــــــائر
الجنس : عدد المساهمات : 68 معدل التفوق : 176 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 28/01/2012
| | "المجتمع المدني" بين السياق الكوني والتجربة المغربية | |
"المجتمع المدني" بين السياق الكوني والتجربة المغربية رشيد جرموني توطئةهناك شبه إجماع بين جميع المراقبين والباحثين والمتخصصين والأكاديميين في شتى حقول المعرفة العلمية وخصوصا العلوم الإنسانية، إن المجتمع المدني أضحى أحد الركائز الأساسية في بناء الدولة الحديثة ليس في مجتمعات دول الشمال، بل حتى في دول الجنوب، رغم الاختلافات الجوهرية الواضحة والسياقات التاريخية و السوسيوساسية والاجتماعية والاقتصادية لنشأة المجتمع المدني في كلتا المجموعتين.من جهة أخرى تعزز حضور المجتمع المدني في هيكلة وشكل الدولة الحديثة، بما أصبح يساهم به في مجهودات جبارة في رفد عملية التنمية الشاملة.ولعل من الأسباب الطبيعية، التي بوأت المجتمع المدني هذه المكانة هو تراجع الدولة وكذا الأحزاب المشاركة في تدبير الشأن العام وفشلها في بعض التجارب في النهوض بأعبائها الكاملة،وخصوصا في القضايا الأساسية ذات الصبغة الاجتماعية.بالموازاة مع ذلك،فقد كان لانتشار قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بين دول العالم، الأثر الكبير في بروز المجتمع المدني وتعاظم دوره ليس إقليما بل عالميا أيضا، وقد كشف مرصد المجتمع المدني التابع لمدرسة لندن الاقتصادية وجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس في تقريره السنوي الذي يرصد تطور المجتمع المدني بالعالم أن هذا الأخير عرف تطورا ملحوظا ما بين سنتي 1993 و2003 بنسبة 50 %، بالإضافة الى تزايد عدد مكاتب مؤسسات المجتمع المدني حيث انتقل من 12547 سنة 1993 إلى 17952 سنة 2003. ويضيف هذا التقرير أن بلدان أوربا الشرقية وأسيا تعرف أيضا نفس التطور في عدد جمعيات المجتمع المدني، بينما تأتي في مرتبة أخيرة بلدان إفريقيا والشرق الأوسط [1] وقد عرف المغرب بدوره صعودا معتبرا للفاعلين غير الحكوميين وغير المتحزبين في قلب الحياة الجمعوية خلال الثمانينيات وبشكل أوضح في التسعينات من القرن الماضي، حيث أبان هؤلاء الفاعلون الجدد عن قدرتهم في الإسهام بكيفية ملموسة، وفعالة في المجهود التنموي، وفي دمقرطة النقاش العمومي بالبلاد[2] .ونحن نباشر التعاطي مع هذا الموضوع الحيوي، تتقاذفنا مجموعة من الأسئلة المفصلية والجوهرية أولا عن المفهوم في حد ذاته ما هي دلالة " المجتمع المدني " Société Civile "؟ وكيف تبلور هذا المفهوم ضمن السياق التاريخي والسوسيوساسي في البلاد الأوربية؟ ثم ماذا عن الظروف والملابسات التاريخية والسوسيوثقافية لميلاد المفهوم داخل تربة البلاد العربية الإسلامية؟ ثم ماذا عن مميزات المجتمع المدني كمفهوم حديث في حقل التداول السياسي والثقافي في هذه البلاد ، وهل يختلف عن المجتمع الأهلي الذي تشكل كوظيفة دفاعية وتأطيرية وأيضا تنظيمية للمجتمعات العربية والإسلامية؟ وبعد هذا كله نتساءل عن التجربة المغربية باعتبارها غنية في هذا المجال – كيف تشكل بها " المجتمع المدني " وما هي المسارات التاريخية التي مر منها هذا المفهوم؟ وأيضا ما هي الآفاق المستقبلية التي سيعمل المجتمع المدني على تحقيقها لكسب رهان التنمية المنشود؟تلك إشكالات وغيرها سنسعى لمقاربتها ضمن رؤية تمتح من التاريخ وعلم السياسة وعلم الإجتماع والأنثروبولوجيا على اعتبار أن الموضوع خصب وتتقاطع فيه عدة حقول معرفية. وعليه فإن المحاور التي تتأطر ضمنها الإشكالية العامة لهذا الموضوع، تتفرع إلى أربعة محاور.I- المجتمع المدني " المفهوم والدلالة الاشتقاقية "II- السياق التاريخي والسوسيوسياسي لميلاد والمجتمع المدني في البلاد الغربية.III- السياق التاريخي والسوسيوسياسي لميلاد والمجتمع في البلاد العربية والإسلامية.IV- المجتمع المدني بالمغرب: التشكل – المسار – الآفاقI- المجتمع المدني: المفهوم والدلالة الاشتقاقية:كما هو مقرر لدى الدارسين لعلم المصطلحات، لا يمكن لأي مفهوم مصطلح أن يدرس خارج إطار السياق التاريخي الذي تكون ونشأ فيه، وعليه فالمعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية تؤثر بالغ الأثر في تحديد مفهوم المجتمع المدني، لذلك نجد الباحث المقتدر محمد الغيلاني في كتابه القيم " محنة المجتمع المدني: مفارقات الوظيفة ورهانات الاستقلالية " يعترف بأن البحث في جذور المجتمع المدني (الحفريات) يكاد يكون مستحيلا بالنظر إلى الطبيعة المعقدة والمتداخلة للتحولات والانتقالات التي رافقت أعمال وجهود ترجمة النصوص التأسيسية للفكر الفلسفي والسياسي والاجتماعي ".ويضيف قائلا:" تاريخ المجتمع المدني، يعد أطول وأقدم التواريخ كلها.ذلك أن تحول المفهوم من لغة إلى أخرى، وما واكب ذلك من انتقال لمضامين مجمل السياقات السوسيوسياسية، والملأى بالتنوع والتعدد حد التناقض والتنافر، عبر تاريخ طويل ومعقد، يضعنا، بالنظر إلى كل هذه الحيثيات، أمام مفهوم تاريخي شديد الحساسية إزاء التعريفات الإجرائية، والتي ربما تقلل من أهميته النظرية والمعرفية، ورغم هذه المحاذير الإيبستمولوجية التي أبداها الباحث محمد الغيلاني،([3]) فإن الإمساك بهذا المفهوم يقتضى من الناحية العلمية والمنهجية، تحديدا واضحا يرفع كل لبس عنه، ويساعد على الإقتراب منه أكثر فماهي دلالة المجتمع المدني ؟1-1 الدلالة الاستقافية للمفهوم :يتتبع ويتفحص ما ذكره الباحث أحمد الغيلاني عن مفهوم المجتمع المدني، يمكن إجمال أهم ما توصل إليه، كون civil في اللاتينية مرادف Political في الإغريقية كما أن Polis الإغريقية civilas اللاتينية لايؤديان الدلالة نفسها . فمفهوم Polis له وجود له مستقل بصرف النظر عن العلاقات التي تنسجها مكوناتها ومع ذلك لا يبدو واضحا ما إن كان لهذا التمييز تأثير على التعارض القائم في أزمنتنا المعاصرة بين civil society و Political society هذا وينتقل الباحث إلى الإقرار بأن مفهوم المجتمع المدني له أصل فيما تركه أرسطو 350 ق.م ويحتمل أن يكون المفهوم الترجمة المفترضة لمفهوم Kononia Potiliké الذي ورد في كتابي أرسطو Politiqué و ‘Ethique aNicommaqué’ وقد ظهرت أول تجربة أول ترجمة للكتاب الأول إلى اللاتينية سنة 1260م ومنها إلى الإنجليزية والفرنسية وباقي لغات أوروبا.وضمن هذا التعريف العام لمفهوم المجتمع المدني، انتقل بنا المؤلف إلى الحفر في دلالته في اللغتين الألمانية والفرنسية فالنسبة للأولى وجد أن مفهوم Purgerliche Gesellschaft ينطوي على دلالتين : أما الأولى تعني المجتمع المدني، وأما الثانية فتحيل على المجتمع البورجوازي ويحيلنا كل من مفهوم civil ومفهوم Burger على التعارض مع الدين ،ولذلك فالمجتمع المدني مجتمع لائكي بطبيعته وفي جوهره، وهو الذي قام على أساس مناهضة الكنيسة ومجتمع الإكليروس ... بل يمكن القول إن مسار العلمنة الذي تعرضت له laïcité في الغرب، والذي طبع نهاية العصر الوسيط ويبدو كما لو أنه البداية الرسمية لتطور المجتمع المدني، كما كان الشأن مثلا مع لوك". الذي نادى بالتسامح في قلب المجتمع المدني مميزا إياه عن المجتمع الديني.هذا عن دلالة المصطلح في اللغة الألمانية فما هي دلالته في اللغة الفرنسية ؟ برز أول ظهور لمصطلح المجتمع المدني في اللغة الفرنسية مع ترجمته كتاب « somme de théologie » عن اللاتينية وكان في ذلك سنة 1546 حيث يبدو مفهوم المجتمع المدني كمرادف للمجتمع السياسي، أي بصفته نظام قائم على التشريع لتجمع من المواطنين، وقد كان الفضل في إقرار الترجمة MELANCHTON من KOINONIA POLITIKE بمصطلح sociétas civilis أو societe civile ونجد أيضا تعبير [4] « compagnie de citoyens» .ربما يظهر أن هذه اللمحة السريعة عن تجذير المفهوم داخل التربية الغربية الأوروبية على الخصوص لا يساعدنا في تكوين صورة واضحة لذلك فربط المفهوم بالسياق التاريخي يبدو جد مهم في هذا الباب ، وعليه فمع نهاية القرن الخامس عشر جاءت ترجمة ليونارد بروني Leonardo Bruni d’arrezzo لكتابي أرسطو Polotique 1438و Ethique a Nicomaque بين 1416 و 1417 لتدشين مرحلة انتشار مفهوم societas civilis وتعزيز وجوده في لغات أوروبا مستفيدا من التطور الذي عرفه في الطباعة ....وقد عرف بروني بنزعته الإنسانية، وهي نزعة ارتبطت بما كانت تواجهه فلورنسا من تهديد من طرف مملكة ميلانو، وإن ترجمة كتاب أرسطو "السياسة" تأتي كرد فكري على هذه الأحداث .فمحاولة بروني وغيره من معاصريه، الذين عملوا على ترجمة نصوص أفلاطون وأرسطو، تعبير إيديولوجي وفلسفي عن اندراج فلورنسا القرن الخامس عشر ضمن نموذج الفضيلة السياسية المدنية، أو بمعنى آخر، هي محاولة تبوأ جمهورية فلورنسا موقع الوريث الشرعي لأتينا وروما، وفي ضوء ذلك قد تمثل فلورنسا بهذا المعنى أول مجتمع مدني في التاريخ البشري"([5])وكما المحنا سابقا فإن دلالة المفهوم تثير عدة إلتباسات مرتبطة بعملية التبيئة([6]) التي يقوم بها كل مجتمع بما يتلاءم مع خصوصياته الثقافية والحضارية.في هذا السياق نجد أن المجتمع الصيني يستعمل كترجمة للمفهوم المجتمع المدني Citizen society gongmin shehui وهذا الأمر ذاته الذي حصل في التايوان، حيث استخدم الباحثون مصطلح مجتمع الشعب poyular society/minjian shehui ومنهم من استخدم مصطلح المجتمع المتحضر wenming shehui أو مصطلح المجتمع الحضريurbain society/shimin shehui ([7]).خلاصة القول نجد أن مفهوم المجتمع المدني يضرب في عمق التاريخ والثقافة الإنسانيتين، ابتداء من الثقافة اليونانية القديمة لينتقل عبر عمليات استلهام هذا التراث الغني إلى اللاتينية ومن ثم إلى اللغات الوطنية للدول الأوربية.حيث أن عملية الترجمة ليست عملية ميكانيكية ومعزولة عن السياق الحضاري الذي تتم فيه، ذلك أن التحولات التي بدأت تعرفها أوربا ابتداء من عصر النهضة قد كانت ذات دلالة عميقة في ترسيخ هذا المصطلح ليس كمفهوم فحسب بل كممارسة تعبر عن وجه أوربا الجديد.لكن قبل ذلك وبعده نتساءل ما المجتمع المدني؟ وما هي وظائفه؟يقدم مجموعة من المفكرين الباحثين تعريفات للمجتمع المدني تختلف وتتباين من خلال وجهة نظر كل مفكر على حدة، فمثلا Shils نجده يعرف المجتمع المدني بكونه مجموعة مؤسسات اجتماعية متميزة ومستقلة عن باقي دوائر الانتماء بما فيها: العائلة والطبقة والجهة والدولة. ـ يفعل المجتمع المدني شبكة من العلاقات، بما في ذلك العلاقة مع الدولة مع الاحتفاظ بدرجة من الاستقلال عنها وعن غيرها. ـ المجتمع المدني هو مجال التحضر، حيث تأخذ التقاليد والعادات موقعها. تعريف كارل ماركس”المجتمع المدني هو الفضاء الذي يتحرك فيه الإنسان، ذائدا عن مصالحه الشخصية، وعن عالمه الخاص، متحولا إلى مسرح تبرز فوقه التناقضات الطبقية بجلاء، ويضع مقابل ذلك الدولة التي لا تمثل في نظره إلا فضاء بيروقراطيا يتحول فيه الإنسان إلى عضو ضمن جماعة مسيرة يقف في حقيقة الأمر غريبا بينها“ تعريف غرامشي: ”المجتمع المدني مجموعة من البنى الفوقية مثل النقابات، والأحزاب، والصحافة، والمدارس والأدب والكنيسة، ومهماته مختلف عن وظائف الدولة وعن المجتمع السياسي“يتضح من خلال هذه التعاريف للمجتمع المدني، أنها تتفق على أن تشكيل فعاليات المجتمع المدني تتأسس من خلال مجموع إرادات الأفراد وسعيهم لتحقيق طموحاتهم وغاياتهم ومطالبهم التنموية.بعد تقديم هذه التعاريف ننتقل للحديث عن السياقات التاريخية والسوسيوسياسية التي أفرزت ميلادا جديدا للمجتمع المدني. ذلك ما سنسلط عليه الضوء في هذا المحور الثاني.II- السياق التاريخي والسوسيوسياسي لميلاد المجتمع المدني في أوربا:بالرجوع إلى أهم ما كتب حول موضوع المجتمع المدني في الفترة الأخيرة، نجد أن جل الباحثين ينطلقون من مرحلة النشأة الغربية للمفهوم، وهو أمر طبيعي نظرا لميلاد هذا المفهوم من هذه البيئة، وعليه وبكل ايجاز يمكن الوقوف عند أهم قضية تاريخية جسدت التبلور الحقيقي لهذا المفهوم فمثلا الباحث الحبيب الجنحاني في كتابه: " المجتمع المدني والتحول الديمقراطية في الوطن العربي " يتحدث أن المرحلة الأولى ابتدأت مع عصر الأنوار وهي المرحلة التي مهدت للثورات البورجوازية، وفي مقدمتها الثورة الفرنسية فناقش كبار المفكرين هوبس didro hobbes، ديدرو، ماندفل Mandeville، روسو rousseau، هيجل hegel، آدم سميت Adam smith، مفاهيم جديدة مثل الوطن والدولة، والمجتمع المدني لتبرز بعد ذلك في القرن التاسع عشر مدرستان شغل بين أنصارهما مفهوم " المجتمع المدني " حيزا بارزا، المدرسة الليبرالية، والمدرسة الماركسية، وتباينت الرؤية للمفهوم داخل كل مدرسة من آدم سميت إلى المفكر الفرنسي المعاصر ريمون أرون raymond aron في صفوف الليبراليين ومن هيجل وماركس إلى غرامسيسي gramsci ضمن التيار الماركسي([8] )وهكذا سيتم تكثيف النقاش حول هذا المصطلح بالنظر إلى التحولات العميقة التي شهدتها أوربا في القرن الثامن عشر لمجابهة التراث الاستبدادي للدولة الأوربية، بمعنى أنه ترجمة لمطلب اجتماعي من أجل استقلالية أكبر إزاء الدولة.وأيضا فالمجتمع المدني هو مطلب البورجوازية في مرحلة التحول الكبير لأوربا الذي كانت تدعمه الإيديولوجية الليبرالية، وهي كذلك مرحلة نشأة الدول القومية الأوربية الأولى: انجلترا وفرنسا.([9])وبعد مرحلة إنجاز الثورات البورجوازية، اقترن تطور المفهوم بتطور الرأسمالية، وخاصة بتطور حقوق البورجوازية السياسية والاقتصادية. وتعد أسا متينا من أسس إيديولوجية الليبرالية، وهي تميز تمييزا واضحا بين الحياة العامة، والحياة الخاصة، وبين عالم الشغل والانتاج، وعالم المؤسسات السياسية، وليس من الصدفة كذلك أن يبرز في النصف الثاني من القرن 19 تيار جديد يعطي للمفهوم أبعادا جديدة. وهكذا برز في خضم هذا الصراع مع التيار الليبرالي تيار جديد يعطي للمفهوم أبعادا جديدة، وهو ما حدث مع التيار الماركسي ([10])هذا عن التحولات التي شهدها النموذج الليبرالي. فما هي أهم التقلبات التي عاشها النموذج الماركسي، وسرعت بميلاد المجتمع المدني داخل كياناتها؟ في سنة 1973 كتب الفيلسوف lezekkolakowski عن أسطورة الهوية الذاتية الإنسانية في الأطروحة الاشتراكية، منطلقا من اقتراض يقول بوجود رابط تاريخي بين رؤية الماركسية للإنسان وبين الشيوعية الشمولية التي تنزع إلى اختزال كل مظاهر المجتمع المدني في أجهزة الدولة.ومع أن مفهوم المجتمع المدني حاضر عند ماركس، فقد تم اللجوء إلى استخدامه كمفهوم نقدي لتحليل أوضاع المجتمعات الخاضعة لنظام حكم ماركسي – لينيني، مع إعطاء تعريف مفاهيمي يتجاوز ذلك التداخل الذي توحي به تجربة الحكم في الاتحاد السوفياتي السابق بين الدولة والمجتمع كما هو الشأن لدى باقي الدول الشيوعية.وإجمالا يمكن القول أن الانسداد السياسي في مجتمعات أوربا الشرقية([11])، وما رافقه وتمخض عنه من إرادة جذرية في تخليص المجتمع من استبداد الحزب الواحد، عوامل أعادت لمفهوم المجتمع المدني توهجه، سواء من حيث اعتباره شعارا سياسيا أو من حيث اعتباره مقولة نظرية حيوية لتحليل التحولات السوسيوسياسية التي كانت نتائجها حاسمة في وضع الأساس الأول لمشروع مجتمعي خارج لتوه من قبضة الاستبداد([12]). ونحن بصدد الحديث عن تشكل المجتمع المدني داخل السياق الماركسي، لا بد من الوقوف عند أهم المنظرين الذين أعطوا دفعة قوية لتفسير وتحليل ظاهرة الاستبداد السياسي التي تخنق المجتمعات ذات التوجه الاشتراكي، حيث شهدت الأوساط الفكرية انتشارا واسعا لكتابات غرامتي gramsci وهي الكتابات التي كان لها دور أساسي في بلورة أفكار جديدة حول مفهوم المجتمع المدني، وقد امتد هذا التأثير ليشمل بشكل خاص أمريكا اللاتينية بما في ذلك ( الشيلي) وهو البلد الذي خرج حينها من حكم العسكر ( بينوتشيه) ليشرع في تأسيس نظامه الديمقراطي، ولقد مثل هذا الانتقال أهم تعبير عن التحول في علاقة الدولة بالمجتمع المدني.([13]) بعدما بسطنا بعضا من الشروط التاريخية والفكرية والسوسيوسياسية التي حدثت في أوربا على الخصوص وكذا البلدان ذات التوجه الشيوعي سابقا، والمتمثلة في التحولات العميقة سواء على المستوى السياسي أوعلى المستوى الفكري - في ظهور فئة من المثقفين والمفكرين الذين نظروا للمفهوم- وبالتالي ساهموا في تحذيره داخل الحياة العامة لهذه الشعوب. لكن ماذا عن السياق العربي الإسلامي؟ وكيف تفاعلت الشروط التاريخية والسوسيوسياسية والاجتماعية والثقافية لميلاد هذا المفهوم؟ وهل عرفت هذه المجتمعات تنظيمات غير مرتبطة بجهاز الدولة تحملت مشعل التنمية؟هذه الأسئلة وغيرها سنعمل على تفصيلها في هذا المحور الثالث.III- السياق التاريخي والسوسيوسياسي لميلاد المجتمع المدني في مجتمعات العالم العربي الإسلامي:أكد جل الباحثين المشتغلين بموضوع المجتمع المدني أن العالم العربي الإسلامي لم يعرف تداول المفهوم إلا في حدود الربع الأخير من القرن الماضي.ويشرح لنا الباحث الحبيب الجنحاني هذا الأمر عندما ذكر أن مفهوم المجتمع المدني مفهوم دخيل على تراث الفكر السياسي العربي الإسلامي، واتسم عند ظهوره بسمات خاصة جعلته يختلف عن مميزات المفهوم في بيئته الأولى، بحيث أن رواد الفكر الإصلاحي العربي الإسلامي في القرن 19 تأثروا بمفاهيم سياسية غربية جديدة مثل الوطن، والدستور، والانتخابات، والعدل السياسي، و " الحريات العامة " ولم يكن من ضمنها مفهوم المجتمع المدني.([14])وهذا لا يعني أن هذه النخبة المثقفة قد تجاهلت هذا المفهوم بالمرة بل نجد أن بعض الرواد الذين زاروا أوربا في هذا القرن أمثال أحمد فارس الشدياق (في كشف المخبأ في فنون أوربا)، والطهطاوي في رحلته: تخليص الأبريز في تلخيص باريز " قد تحدثوا عن بعض مظاهر المجتمع المدني " لكنهم لم يهتموا بفلسفة المفهوم ونشأته " أي من حيث التنظير والتعقيد له وهو ما ذكره أيضا الباحث محمد الغيلاني في مرجعه المشار إليه أنفا.لكن بالرغم من هذا الانحسار المعرفي في تجذير وتبيئة المفهوم داخل التربة العربية الإسلامية، فهناك عوامل وشروط تضافرت لميلاد واقعة المجتمع المدني ليس كمفهوم ولكن كمعطى سوسيولوجي لذلك سجل الباحث المقتدر محمد الغيلاني " أن المجتمع المدني ليس حقيقة ناجزة نتأكد تلقائيا من وجودها دون تحديد واضح للمقدمات بل هي فرضية ملأى بالمفارقات، ومرصد لتاريخ حافل بتجاذب الأفكار وتدافع التجارب. وذلك أنه لا تكمن أهمية المفهوم ووظيفته في بذل الجهد لإثبات وجوده من عدمه، وإنما تتجلى أهميته في التعاطي معه بحسبانية أداة تحليل وتفسير لمجمل التحولات والوقائع الاجتماعية التي تعتمل في النسيج المجتمعي "([15]) فما هي أهم الشروط التي تظافرت وترابطت فكتبت شهادة الميلاد لهذا المفهوم ؟. 1-1 إخفاق الدولة الوطنية في المجتمعات العربية الإسلامية في تحقيق التنمية بمضمونها الشامل. ما يميز التجربة في بلدان العالم العربي والإسلامي، هو تعرضها للاحتلال من طرف القوات الاستعمارية الشيء الذي خلق تحديا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا كان على الدولة الوطنية أن تتحمله، وهو ما سعت إليه، وبالفعل فقد تحققت إنجازات لكنها لم تكن في مستوى تطلعات هذه المجتمعات ، وذلك نظرا لمجموعة من العوامل:عدم بلورة مشروع مجتمعي شمولي، وسيادة الفساد في مختلف مناحي الحياة.بالإضافة إلى التعامل مع التنمية باختزالها في بعدها الاقتصادي، وإهمال الأبعاد الأخرى، مما سيفقر مضامين الطموحات التنموية الأخرى.ولعل من أهم الأسباب الأخرى أدت إلى الإخفاق في المشروع التنموي، هو عزلة الدولة عن المجتمع وبالتي عدم فسح المجال للفاعليين الاجتماعيين والقوى الحية التي تعبر عن نبض المجتمع، للمشاركة في تحمل المسؤولية. في هذا السياق يقدم لنا الأستاذ عبد الإله بلقزيز قراءة مركزة عن أهم العوامل التي ساهمت في ميلاد المجتمع المدني بالعالم العربي والإسلامي، حيث أكد أن النخب الوطنية الحاكمة لم تستطع تحقيق مطالب التنمية والتقدم ... و.. صيانة الاستقلال الوطني وإرساء أسس النظام الدستوري الديمقراطي وقد كان لهذا التراجع عن البرامج التنموية المستقلة (خصوصا مع بداية الثمانينات في القرن الماضي) الارتماء في تطبيق برامج صندوق النقد الدولي حول التصحيح الهيكلي، والخوصصة، وأيضا التراجع عن برامج توطيد العدالة في توزيع الثروة إلى برنامج اقتصاد السوق وتحريرالعملية الاقتصادية من سياسات التدخل الدولتي لدعم الطاقة الشرائية للمواطنين ...في ظل هذه الوضعية دخل الوعي العربي في سلسة التساؤلات عن المخرج من هذه الوضعية الكارثية، وقد كانت لحظة التساؤل الإيجابي عن مواطن الخلل في ماكينة التغيير، والنقد الحاد في فرضيات، ومفاهيم، ورهانات، وأدوات المرحلة الماضية ولقد نشأ مفهوم المجتمع المدني، وفرضيته في رحم هذه التموجات والتغيرات التي طرأت على المجتمع العربي والإسلامي .(16)1-2 انتشار الفكرة السلمية في الحياة السياسية بالوطن العربي الإسلامي.كما ألمحنا سابقا أنه بعد مرحلة الاستعمار، آلت أجهزة الدولة الوطنية مهمة بناء مشروعها السياسي القائم على مركزة القرار واستفراد نخبة بعملية التسيير والتدبير للشأن العام، مما ولد تيارا مناهضا لهذا التوجه تيار كان يؤمن بالعنف الثوري المستلهم لتراث عدة تجارب في العالم أجمع، وعليه فالتجربة السياسية الماضية برهنت على فشل الرهان على العنف سبيلا لتحصيل الحقوق وإشباع المطالب السياسية والاجتماعية. وقد تعرضت كل مؤسسات العنف التي أقامتها الحركات الوطنية للتصفية الموضوعية الكاملة. وبدأ تدرجيا التخلي عن العنف الثوري كخيار مما تطلب إعادة النظر في مفاهيم العمل السياسي (العنف كخيار أوحد ووحيد) وبرزت إلى الوجود أفكار جديدة تميل إلى فك الاتباط الماهوي المزعوم بين السياسة والعنف، وهكذا تراجع الشيوعيون واليسار الجديد عن عقيدة العنف الثوري (البلشفية) التي آمنوا بها إلى درجة التقديس، وقدم القوميون نقدا ذاتيا عن النزعة الانقلابية التي تبنوها، أو تعايشوا معها، أو سكتوا عنها، وتخلى قسم من التيار الإسلامي عن بعض من أفكاره الخوارجية العنيفة.. وكان الجامع بينهم جميعا الشعور بالحاجة إلى إعادة تقديم صورة جديدة عن السياسة والعمل السياسي، تتسم بالتنافس السلمي لكسب الرأي العام وتحصيل الشرعية . وليس من شك أن مفهوم المجتمع المدني فتح أمامهم هذه الإمكانية : نعني إمكانية بناء إقامة سياسية جديدة. (1 | |
|