abdo ثـــــــــــــــائر
الجنس : عدد المساهمات : 68 معدل التفوق : 176 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 28/01/2012
| | الزاوية والمجتمع القبلي والمخزن (الزاوية الدرقاوية نموذجا) | |
الزاوية والمجتمع القبلي والمخزن
(الزاوية الدرقاوية نموذجا) عبد الله استيتيتو تمهيد : يقال : "إذا كانت بلاد المشرق هي بلاد الرسل والأنبياء، فإن بلاد المغرب هي أرض الصالحين والأولياء". هذه المقولة لم تولد من فراغ وإنما لها مبرراتها وبراهينها الواقعية والموضوعية المتمثلة أساسا في أركيولوجيا الزوايا والرباطات والأضرحة والمشاهد والمزارات التي تؤرخ لأولياء الله الصالحين في المغرب الذين احتضنتهم الأراضي المغربية بكل طبقاتهم ومقاماتهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد الآخر، فغطوا بواديها وحواضرها، وملؤوا جبالها وسهولها، وعمروا شمالها وجنوبها وشرقها وغربها؛ وبذلك صارت الزوايا مدخلا من المداخل الرئيسة في حفريات ماضي المغرب بكل عناصره ومكوناته المادية والمثالية نظرا إلى تجذرها في أعماق المجتمع والدولة؛ بحيث لا يمكن فهم هذا الماضي دون استحضار هذا العنصر الذي ظل بمثابة نهر مسترسل يغذي باقي الحقول المعرفية الأخرى عبر روافد حية وقوية ساهمت في بلورة جزء كبير من مظاهره وقضاياه، وخاصة في بعض المناطق والجهات المغربية التي اعتبرت بمثابة مستنبت لشيوخ الزوايا ورجال التصوف وأهل المقامات والطرق، كما نلمس ذلك في جنوب شرق المغرب وخاصة بمنطقة تافيلالت.2- الزاوية وجغرافية المقدس في المغرب يعتبر استقصاء الزوايا المغربية حلقة من حلقات أركيولوجيا جغرافية المقدس في بلاد المغرب، سواء ما بعد التواجد العربي الإسلامي في بلاد الأطلس، أو ما قبله؛ لأن المزارات والمشاهد والأضرحة المتواجدة بالأراضي المغربية لا تقتصر فقط على الفترة الإسلامية؛ بل سبقتها بقرون مطولة؛ بحيث تسجل لنا الأعمال التي تؤرخ لهوية وذاكرة المجتمع المغربي ما قبل الفتح العربي الإسلامي، أن المجتمع الأمازيغي ظل دوما مرتبطا بعدد لا يستهان به من المزارات المقدسة، منها ما هو وثني، ومنها ما هو يهودي، وقليل ما هو يسوعي([1]). وما زالت بعض المناطق المغربية لحد الآن تؤرخ لجغرافية المقدس ما قبل الإسلام كما هو معلوم في منطقة أسجن بشمال المغرب قرب مدينة وزان، وأيضا في موكَادور (الصويرة) وفي مدينة سجلماسة التاريخية؛ حيث يتقاطر على هذه المناطق آلاف اليهود سنويا من أجل التبرك بمزاراتها ومشاهدها.الخلفيات التاريخية للزوايا في المغرب ما قبل درقاوةارتبط ظهور الزوايا في المغرب الإسلامي أساسا بظروف سياسية وتاريخية واجتماعية خاصة، كالفراغات السياسية التي كانت تنتج عن غياب السلطة المخزنية المركزية، أو تعرض البلاد إلى كوارث طبيعية مزلزلة كموجات القحط والجراد والفيضانات، أو تعرض المجتمع لتهديدات خارجية حقيقية مشرقية وأوربية؛ فاستغل أهل الطرق وشيوخ الزوايا مختلف هذه الأوضاع في المغرب، وتحركوا من أجل تعبئة المجتمع واستنهاضه ضد ما يحدق به من أخطار. فاعتبرت مؤسسة الزاوية خاصية من خصائص تاريخ المغرب الذي لا يمكن تناول أية فترة منه، أو أي حدث من أحداثه، دون أن نأخذ بعين الاعتبار حضور الزاوية والطرق في تشكيل جزء كبير منه، وهو ما جعل الكتابات التاريخية حول المغرب تبقى متفطنة ومدركة ما لهذا المعطى من أهمية في تفسير الكثير من الظواهر والقضايا التي يحفل بها التاريخ المغربي، معتبرة أن الطرقية تبقى منذ قرون الشكل الأكثر عمومية والأكثر شعبية والأكثر حيوية في المغرب الإسلامي([2])، منذ أن اختمر الفكر الطرقي في البلاد المغربية وتجذر في أوساطه الشعبية بواسطة الطريقة الشاذلية على يد مؤسسها الأول أبي الحسن علي الشاذلي في القرن 13م([3])، فازداد دور الزوايا أهمية في تاريخ المغرب بعد القرن 14م بفعل ضعف السلطة المركزية المخزنية المرينية والوطاسية من جهة، وبفعل الهجمات المسيحية الأيبيرية على الأراضي المغربية من جهة ثانية، وما كان لها من وقع في نفوس المغاربة الذين وجدوا في أهل الزوايا متنفسا لهم لقيادة عملياتهم الجهادية ضد الاحتلالات الأجنبية المتواصلة، ومن ثم بات من الصعب الفصل بين الديني والسياسي لدى هذه الزوايا وخاصة بعد ظهور الطريقة الجزولية التي أسسها زعيمها محمد بن عبد الرحمان بن أبي بكر الجزولي المتوفى عام 1465م/870هـ([4])، والذي ساند قيام الإمارة السعدية وكان من البدائل الهامة التي اعتمدها المغاربة للخروج من هول الصدمة الأيبيرية([5]) بعد احتلال العديد من المدن والمناطق المغربية كأﮔـادير(1405م) ومليلية(1509م) وسبتة (1415م) وغيرها([6]).ترك الشيخ الجزولي العديد من المريدين والأتباع؛ مثل عبد العزيز التباع الذي يعد كبير تلامذته، وهو من الرجال السبعة في مراكش(ت.1508م). كما ظهر في نفس الفترة الشيخ زروق الذي كان حيا إلى غاية 1519م، والذي أسس الطريقة الزروقية. ومن بعده ظهر الشيخ مولاي عبد الله الشريف مؤسس الزاوية الوزانية، وهو من أحفاد يملح بن مشيش، الذي صادف ظهوره قيام الدولة العلوية بتافيلالت، وتوفي عام 1678م([7])، والذي لم تكن طريقته سوى طريقة سلفه مولاي عبد السلام بن مشيش وتلميذه أبي الحسن علي الشاذلي. وفي العهد العلوي أيضا ظهرت بالمغرب" ثلاث طرق صوفية متتابعة اكتسحت الأرض كالأمواج المتوالية وغطت مجموع جهات المغرب، وهي: الناصرية والدرقاوية والتجانية"([8]).كان للزاوية أدوار كثيرة في المجتمعات المغربية؛ كتفقيه الناس في أمور دينهم من خلال دروس الوعظ والإرشاد، وتلقينهم مفاهيم الطريقة من حيث الأوراد والأذكار التي تميزها عن باقي الطرق الأخرى، بجانب هذه المهام الدينية كانت الزاوية تقدم دروسا في الآداب والحكمة. أما في المناطق التي بها تمثيل ضعيف للسلطة المخزنية أو غياب لهذه السلطة، فإن الزوايا كانت تقوم فيها بالأدوار التحكيمية في النزاعات والخلافات بين القبائل([9])، وكانت تملأ الفراغ السياسي الذي يخلفه غياب السلطة المخزنية وخاصة في المناطق الحدودية النائية؛ مثل مناطق الجنوب الشرقي؛ بحيث لعبت الزوايا هناك أدوارا طلائعية في تأطير السكان واستنهاضهم ضد الغزو الفرنسي للأراضي المغربية، كما كان للزاوية حضور هام في تحديد مجالات الرعي والانتجاع وتوزيع المياه في المناطق الصحراوية، وبذلك فالزاوية تم الاعتراف بها كمكان مقدس، له حرمة لا يمكن انتهاكها بأي حال من الأحوال، فظلت قبلة للملهوفين، وملجأ آمنا للهاربين والفارين من التسلط المخزني أو من العقوبات الثقيلة المفروضة عليهم، الشيء الذي جعل الزوايا ذات حساسية كبيرة بالنسبة إلى ممثلي المخزن؛ كالخلائف والعمال والقياد، الذين بدأوا يتقربون منها لاستغلالها في ضبط مجالاتهم القبلية، فظل شيخ الزاوية دوما آلية من آليات استمرار قياد المخزن في القيام بوظائفهم؛ لأنه يضفي عليهم نوعا من الشرعنة، ويزكيهم لدى السلطان وخليفته ما دام هؤلاء الصلحاء والمرابطون يتوافرون على تزكية دائمة من خلال ظهائر التوقير والاحترام التي كان يخصهم بها سلاطين وملوك الدولة المغربية من حين لآخر([10])، إدراكا منهم للأدوار الحيوية التي تلعبها هذه المؤسسات بالنسبة إلى دعم السلطة المركزية في المجالات القبلية، التي كان من الصعب على المخزن اقتحامها لولا هذه الزوايا التي أسهمت في تحقيق الوحدة السياسية للبلاد في ظل التواجد المخزني، وخاصة بعد التغلغل الأجنبي في المغرب([11])، إلى درجة أن بعض شيوخ الزوايا تحولوا إلى قياد مخزنيين؛ كما كان الحال مع شيخ زاوية تازروالت ابن الحسين بن هاشم، الذي عينه السلطان مولاي الحسن قائدا على منطقة تازروالت عام 1886م/ 1304هـ، وبذلك استطاع التحكم في مجال قبلي ضخم وصعب المراس، يتكون من عدة قبائل غاية في الخطورة؛ مثل قبائل ماسا، وقبائل آيت باعمران، وقبائل مجاط، وأهل الساحل، وإيدا وطيط، وقبائل أخصاص، وغيرها([12])، ونفس الشيء قام به السلطان المولى الحسن الأول تجاه الزاوية الناصرية عندما عين عليها الشيخ محمد الحنفي لمساعدته على ضبط الشؤون الدرعية([13]).الزاوية الدرقاوية: النشأة والتوسع تعود الجذور التاريخية للزاوية الدرقاوية إلى القرن 18م/12هـ، وذلك منذ تأسيسها في شمال المغرب بمنطقة أمجاط من قبل مؤسسها الأول، وهو مولاي العربي الدرقاوي، شريف من أصل بني زروال، عاش في الفترة ما بين1732م/1150هـ و1823م/1239هـ([14]). يطلق اسم درقاوة على كافة أتباع الزعيم الروحي للطريقة الدرقاوية أبي عبد الله محمد بن يوسف أحد شرفاء الآدارسة، والذي كان يعرف أيضا بـ"بودرقة"؛ أي صاحب الدَّرَّاقة، وهي واقية تقيه من السهام أثناء المعامع والحروب، فكان دوما ملازما لهذه الدراقة إلى أن توفي على ضفاف نهر أم الربيع بالشاوية في المنطقة المعروفة ببلاد تامسنا([15]).منذ أن تأسست هذه الزاوية في المغرب، انخرطت بقوة في الحقل الديني، قبل أن تمزج ما بين السياسي والاجتماعي والروحي على خلفية الأحداث التي عرفها المغرب والجزائر خلال النصف الأول من القرن 19م/13هـ، وخاصة التدخل الفرنسي في الجزائر 1830م/1246هـ، وتحرش السلطات الفرنسية بالبلاد المغربية، في وقت بدا فيه المخزن دون مستوى المرحلة، بعدما انهزم أمام القوات الفرنسية في معركة إيسلي (1844م) والتي كانت فيها الخسارة على كل الأصعدة، والتي أعطت، أيضا، الضوء الأخضر لباقي مكونات المجتمع لسد الفراغ المهول الذي بات يفرزه الضعف المخزني، سيما بعد التنازلات الخطيرة التي قدمتها السلطة المخزنية للمحتلين الأجانب من خلال اتفاقية للامغنية 1845م/1262هـ؛ مما جعل الزوايا تتعملق في المجتمع وتتجذر في أنسجته، فالتفّت العديد من الشرائح الاجتماعية حول المتصوفة وأهل الطرق والزوايا، وخاصة الزاوية الدرقاوية التي أعلن ممثلوها ( شيوخ، مريدون، أتباع، طلبة، متعاطفون...) عن رفضهم القاطع لتفويت أجزاء من بلاد الإسلام إلى السلطات المسيحية في الجزائر، وبهذا الموقف الراديكالي غير القابل للتململ تجاه النصارى صار مد الزاوية قويا، فوصل صيتها وإشعاعها إلى بلاد الجزائر نفسها؛ بل تعدى القطر الجزائري فتبناها أهالي تونس، ثم أهالي طرابلس وحتى المصريون، وأكثر من ذلك، صارت من بين الطرق الأكثر شعبية في بلاد الحجاز؛ وهو ما أكسب المقيمين عليها حرمة كبيرة وهيبة عظيمة في الأوساط الشعبية وداخل الدوائر السياسية العليا للسلطة المخزنية نفسها، التي باتت تأخذها على محمل الجد، وتعاملها كطرف له وزنه في الساحة السياسية، ويلعب دورا طلائعيا في تأطير الجماهير وضبطهم، ومن ثم بدأت السلطة المركزية تفكر في كيفية مهادنتها واحتوائها([16]). تعد الطريقة الدرقاوية مذهبا صوفيا سنيا لا يشترط الخلوة والانزواء في المغارات والكهوف، ولا يقر الانطواء على الذات في قمم الجبال وتخوم الفيافي، كما أنها طريقة لا تعول على الممارسة الماضوية، ولا تقبل بمظاهر الشعوذة والابتداع والمروق عن المذهب السني؛ بل هي طريقة واقعية تؤكد على عبادة الله بالشكل الصحيح، وخشيته سرا وعلانية، كما تلتزم بالتباع النبي محمد (ص) في أفعاله وأقواله وتقريراته، والتشبث بسنته، والتحلل من أمور الدنيا، والرضا بقدر الله وقضائه، والتوكل عليه وحده في السراء والضراء. أما كل من حاد عن هذا الخط، وخالف هذا النهج، فهو لا ينتسب إلى هذه الطريقة لا في الشكل ولا في الجوهر؛ وبذلك يظهر أن الدرقاوية استضمرت الملامح الكبرى للطريقة الشاذلية التي انتشرت في المغرب منذ القرن 13م على يد شيخها أبي الحسن علي الشاذلي، تلميذ مولاي عبد السلام بن مشيش([17])، والذي يعود إليه الفضل في تفريخ عدد هائل من الزوايا والطرق الصوفية في المغرب تسير على النهج الشاذلي. انتقال الفكر الدرقاوي إلى جنوب شرق المغرب: راهنت الزاوية الدرقاوية كثيرا على مفهوم الجهاد، والاعتزاز بالإسلام والموت من أجل حماية داره والحفاظ عليه، فانتقل ثقلها من المناطق الداخلية للمغرب إلى المجالات الحدودية؛ كما هو الحال في جنوب شرق المغرب، في ظرفية صعبة وعسيرة اتسمت بالتحولات الدولية التي أثرت بشكل واضح على المغرب، وخاصة المنافسة المسعورة بين الدول الأوربية حول المستعمرات في إفريقيا وآسيا، فبدأت الإيالة الشريفة تخضع لضغوط استعمارية على شتى الأصعدة، واتخذ المستعمر عدة وسائل وأساليب للتوغل في بلاد المغرب كالوسائل المالية والتجارية والدبلوماسية والدينية( التبشير) وحتى العسكرية، للضغط على السلطة المخزنية من أجل تقديم المزيد من التنازلات تجاهه والقبول بمخططاته وإملاءاته، وخاصة بعد احتلال الفرنسيين للجزائر عام 1830، وشروعهم في توسيع مستعمرتهم الجديدة غربا على حساب التراب المغربي. كان ذلك من بين العوامل الحاسمة في استقطاب الفكر الطرقي جنوب شرق المغرب، وتكتل القبائل حول شيوخ الزوايا وأهل الطرق هناك من أجل مجابهة الفرنسيين والتصدي لهم([18])؛ ومن أهم الطرق التي بات لها حضور وازن في تلك المجتمعات القبلية، نجد الطريقة الدرقاوية التي أصبح لها وجود وحضور مؤسساتي، وخاصة في منطقة مدغرة التي تعتبر صاحبة الفضل الأول في انتقال الفكر الدرقاوي من شمال المغرب(فاس) نحو الجنوب الشرقي وذلك عن طريق ابن القاضي المدغري الشهير، سيدي محمد بن الهاشمي. هذا الابن هو سيدي محمد بن العربي([19]) المزداد بقصر مدغرة عام 1801م/1216هـ، وينحدر من أسرة شريفة لها مكانتها المتميزة ضمن باقي أهالي منطقة مدغرة والرتب وقصر السوق وكل التجمعات السكانية على ضفتي زيز الأعلى والأوسط([20]). تفيد الروايات التاريخية أن سيدي محمد بلعربي توجه إلى جامع القرويين بفاس للتبحر في العلوم والاحتكاك بأهل الصنائع وفطاحل الشيوخ. وبعد دراسته في العاصمة العلمية لمدة طويلة عاد إلى بلاد مدغرة، على الضفة اليسرى لزيز الأوسط وهو يتحرق شوقا لنشر ما تيسر له من العلم والمعرفة بين أهاليه، سيما وأنه تأثر في فاس بالفكر الصوفي الدرقاوي، فأسس قرب مسقط رأسه زواية رحمة الله الدرقاوية، ثم أسس زاوية ثانية في تافيلالت جنوب السفالات وهي زاوية ﮔـاوز قرب قصر تينغراس التاريخي، فاتخذ سيدي محمد بلعربي زاوية رحمة الله مقرا له، وعُرف بـ"الرجل الصالح الناصح المخلص العابد الزاهد الداعي إلى ربه بقلبه وقالبه...وكان من التواضع وعدم الاستشراف للرياسة بالمكانة التي يغبط عليها...فقد كان هذا الشريف كله غيرة وشعلة نار في وجوه المستعمر وهو من عباد الله الصالحين"([21])، ولهذه المكانة العلمية والروحية والخصال العالية، صار لسيدي محمد بلعربي في المنطقة صيت قوي، جعل الطلبة والمريدين يتوافدون عليه من كل ضواحي الجنوب الشرقي المغربي، ومنهم من كان يتقاطر عليه من جنوب غرب الجزائر المحتلة؛ بل إن شهرة هذا المتصوف المدغري الدرقاوي سرعان ما طفقت الآفاق ووصلت إلى بلاد الكنانة وبلاد ما بين النهرين؛ إذ وفد عليه أهالي بغداد في زاوية رحمة الله للأخذ عنه والاغتراف من مناهله، فصار وحيد منطقته على مستوى الأتباع والشهرة، كما أضحى تلامذته يعدون بالآلاف([22]). أصبحت الزاوية الدرقاوية أهم مكون للحقل الصوفي والمشهد السياسي في جنوب شرق المغرب، وصارت مؤهلة للعب أدوار حاسمة في الدعوة إلى الجهاد ومكابرة الأعداء المسيحيين، إلى حد أن إشعاعها الروحي ونفوذها السياسي ألقيا بظلالهما على الأدوار المخزنية في مجتمعات الجنوب الشرقي؛ لذلك لم تتوان السلطة المخزنية بتافيلالت في مغازلة الزاوية الدرقاوية في ﮔـاوز([23])، وخاصة بعد ما انتقل ثقلها إلى داخل القصور الفيلالية، وبات لها العديد من الأتباع هناك، فلم يعد بالإمكان الفصل بين أدوارها السياسية والروحية([24]) بعد ما اتضحت النوايا السيئة للأوربيين تجاه المغرب غداة حربي إيسلي وتطوان، وما وازاهما من اتفاقيات ومعاهدات مذلة للسيادة المغربية؛ مثل معاهدة للا مغنية 1845م والاتفاقية المغربية الإنجليزية 1856م والاتفاقية المغربية الإسبانية 1860-1861م والاتفاقية المغربية الفرنسية 1863م وصولا إلى مؤتمر مدريد1880م الذي فرض الحمايات القنصلية على المخزن، وفوت جزءا من المجتمع المغربي لصالح الأجانب.الزاوية الدرقاوية والدعوة إلى الجهاد: أمام هذه الدسائس الخطيرة التي كانت تحاك ضد المغرب بهدف السيطرة عليه والتدخل في شؤونه، وبعد إقرار المخزن المغربي بالأمر الواقع تحت ذريعة عدم السباحة ضد التيار الجارف، قام سيدي محمد بلعربي الدرقاوي بدق ناقوس خطر الوضع السياسي في المغرب، منبها لمخاطر التواجد الأوربي على السواحل المغربية بدعوى القيام بالأنشطة الاقتصادية التجارية والفلاحية، مؤكدا أن الوضع يستدعي تأهب المجتمع لممانعة النصارى، ومحذرا الناس بأن "مقدمة البوار الأمن من عدو الدين وعدم المبالاة بما يفعله في أرض المسلمين، وترك التفطن إليه حتى يصير يأمر وينهى ويمتثل أمره في سواحل أهل الإيمان والدين، ولا يتفطن إليه وينتبه حتى يتفاقم الواقع ويتسع الخرق على الرقع"([25])؛ كما دعا إلى الجهاد ومحاربة النصارى وعدم الالتزام بالاتفاقات والمواثيق التي وقعها المخزن معهم، بعد ما اكتوى بنيرانها نظرا إلى قربه من الحدود الجزائرية، فشرع في مكاتبة قصور مدغرة، وتافيلالت، والرتب، والزوزفانة، والساورة، وﮔـير، وصولا إلى فـﮔـيگ، "مكاتب كلها حث وتحريض على الدفاع عن الإسلام وحماية الوطن"([26])، وبدأت رسائله الجهادية تقتحم مجالات قصية ومجتمعات نائية "كأهل سوس والصحراء وقبائل البربر كبني مـﮔـيلد ونحوهم [ يأمرهم ] بالتحريض على الجهاد والنهوض إليه"([27])، ودعا إلى مقاطعة البضائع الأجنبية وعدم المتاجرة مع النصارى، بعد ما لاحظ أن الفرنسيين يتخذون من التجارة سبيلا للتغلغل في الأراضي المغربية ومخالطة المغاربة وتعويدهم على معاشرتهم والتعامل معهم في انتظار السيطرة النهائية على البلاد المغربية، فأصدر في هذا الشأن عددا من الفتاوى يحرم فيها هذا التعامل ويحظر فيها هذه التجارة، حاثا كافة القبائل والحواضر على عدم تمكين العدو من سلع حيوية "من خيل وإبل وبارود وشياه وبهائم وثياب وصوف وغير ذلك، بعد ما بلغنا أنهم قطعوا الكبريت على المسلمين منذ زمان وكثرت علينا الأخبار والمراسلات بهذا الأمر، ولم يبالوا ولم يتنبهوا ولا تفطنوا لما أصابهم، وأحزننا ذلك غاية وأكربنا غاية...وخفنا على ما بقي من هذه الأمة أن يقع لها ما وقع لجزيرة الأندلس وغيرها من مدن الإسلام"([28])، ولم يفت هذا الشريف المدغري التنديد الشديد بكل من يعمل لدى الفرنسيين من أبناء تافيلالت وأهالي الجنوب الشرقي ضمن الأوراش الخاصة بمد السكك الحديدية شرق فـﮔـيگ، وتعبيد الطرق غرب الجزائر، فأصدر في هذا الصدد أيضا فتاوى تحرم ذاك العمل وتجعله باطلا ومغضبا لله ولرسوله، فكان يحذر القبائل الفيلالية وغيرها "من إعانة النصارى بأي خدمة كانت"([29])، فكان لنداءاته وقع كبير في نفوس السكان بالمناطق الحدودية، إلى درجة أن السلطات الفرنسية استشعرت مدى التجاوب الكبير الذي أبدته القبائل تجاه هذا المرابط، وخاصة عند ما بدأ ينشر بعض المناشير تدعو المجاهدين إلى التصدي للنصارى الفرنسيين ليس فوق التراب المغربي وحسب؛ بل داخل التراب الجزائري أيضا، باعتبارهم كفارا يهددون الإسلام في المغرب بعد ما اقتحموه في الجزائر([30])، مما جعل السلطة الفرنسية تتابع باهتمام زائد أنشطة الشيخ المدغري، وترصد حركاته وسكناته عبر عيونها المبثوثة في جنوب شرق المغرب؛ إذ أشار القنصل الفرنسي في طنجة يوم 12 أبريل 1888م أن لمولاي العربي الدرقاوي اتصالات ومكاتبات مكثفة مع القبائل الصحراوية من سوس إلى وادي نون، وأن مجمل القبائل استجابت لدعواته([31])، ناهيك عن اتصاله بقبائل آيت عطا وآيت يافلمان؛ بل كانت له مراسلات خارج الإمبراطورية الشريفة في اتجاه الجزائر، وتونس، وطرابلس، ومصر، وكانت مضامين هذه المراسلات تتمحور حول الدعوة إلى الجهاد والتنديد بالمخزن المغربي الذي وُصِف بالرعديد والجبان والمتردد في اتخاذ موقف حازم تجاه الفرنسيين الغزاة، وأن على السكان بكافة أطيافهم أن يأخذوا المبادرة بأنفسهم، ويهُبّوا للدفاع عن شرفهم دون انتظار أوامر من السلطة المركزية([32])؛ مما جعل المغرب يخضع لانتقادات خارجية لاذعة وخاصة من قبل الفرنسيين([33])، الذين مارسوا ضغوطات شديدة على السلطان مولاي الحسن(1873-1894م)، حاثين إياه على لجم الشيخ المدغري، الشيء الذي أحرج كثيرا الأجهزة المخزنية، التي بادرت إلى طمأنة الفرنسيين بأن القبائل الحدودية تحت سيطرة المخزن ولا تأبه بدعاوى الدرقاوي، وهي تحترم الهدنة الموقعة بين الطرفين([34])، كما أن بوعمامة الجزائري استغل هذه الأجواء الجديدة على خلفية مؤتمر مدريد واستطاع سنة 1881م/ 1299هـ أن يؤلب عددا هاما من القبائل المغربية ضد القوات الفرنسية في منطقتي الزوزفانة وفـﮔـيگ "خصوصا وأن صورته كزعيم لآخر مقاومة في الجزائر كانت لا تزال حية في أوساط القبائل المتعطشة لمثل تلك الزعامة"([35]). قام الثوار يهاجمون سلطات الاحتلال غرب وهران، فوجدها الفرنسيون فرصة من ذهب لفرض إملاءاتهم على المخزن وإخضاعه للأمر الواقع، من خلال بناء عدد من المراكز العسكرية المتقدمة بدعوى حماية المعمرين من هجمات الثوار الصحراويين؛ مثل مركز عين الصفراء، ومركز جنين بورزگ على بعد 50 كلم من فـﮔـيگ([36])، وبذلك ازدادت القبائل الحدودية تيقنا من النوايا الخطيرة للفرنسيين، فشرعت في استجماع قواها وتوحيد صفها عن طريق إحياء عهد "الخاوا" والقوانين العرفية المنظمة له([37])، وبدأت في شراء الأسلحة والبحث عنها بكافة الوسائل؛ كمهاجمة بعض المراكز الفرنسية والسطو على عتادها، فصارت الأجواء منذرة بانفجارات مهولة إذا لم يتم التصدي لها بنوع من الحزم والصرامة، سواء بالمناطق الحدودية في المجالات الخباشية والمنيعية، أو بالمناطق الداخلية كما هو الحال في مجالات اتحادية آيت يافلمان([38]).الزاوية الدرقاوية والسلطة المخزنية استغل الشيخ المدغري كل هذه الظروف التي كانت تصب في صالحه، وكثف من مراسلاته ودعواته الجهادية، منتقدا في نفس الوقت موقف المخزن من الأخطار المحدقة بالسيادة المغربية، فلقيت نداءاته تجاوبا كبيرا من قبل المجتمعات القبلية في الجنوب الشرقي شملت قصور تافيلالت، والرتب، ومدغرة، وقصور فركلة، وتودغة، وصولا إلى مناطق الساورة، وسوزفانا، وأعالي ﮔـير؛ وبذلك أضحت أهم التكتلات القبلية الممتدة من السفوح الجنوبية الشرقية للأطلس الكبير إلى غاية الحدود المغربية الجزائرية متعاطفة إلى حد كبير مع الفكر الدرقاوي، ومعادية للتصور المخزني، ولم يعد بإمكان مولاي رشيد، الخليفة السلطاني في تافيلالت، أن يتجاهل خطورة هذه التكتلات وانعكاساتها على السلطة المخزنية محليا ومركزيا، الشيء الذي جعله لا يتردد في إشعار أخيه السلطان مولاي الحسن بالوضع المرير والظرفية الدقيقة التي تمر بها المنطقة؛ لذا فإن السلطان لم يتوان عام 1882م/1300هـ في تنظيم حرْكة سلطانية قوية ضد المناطق المعنية، وخاصة ضد القبائل العطاوية وقبائل آيت يافلمان، لكبح جماحها وتطويعها([39])؛ كما حاول احتواء الفكر الدرقاوي ومحاصرته عبر بث التفرقة في صفوف أتباع ومؤيدي مولاي محمد بلعربي المدغري، من خلال التركيز على العناصر الشريفة وتقريبها من الأجهزة المخزنية، ناهيك عن إرساله لجملة من الرسائل السلطانية إلى أهالي تافيلالت يحثهم فيها على عدم إتباع الشيخ المدغري واصفا إياه بـ"الشخص الشرير الذي يقود المسلمين إلى الهلاك...وأنه عنصر للفتنة الذي لا يتبع طريق الشريعة"([40])؛ لكن المسألة كانت أعمق مما تصورته الأجهزة المخزنية؛ لأن جل فئات الصلحاء، والشرفاء، والعلماء، والفقهاء، كانت تسير في نفس الخط الذي سار عليه الشيخ المدغري فيما يتعلق باستنهاض الهمم والتحريض على الجهاد "فالتفَّت حولهم القبائل الأمازيغية والعربية لاعتقاد أبنائها الراسخ بصحة مواقفهم، باعتبارها مبنية على الكتاب والسنة، فلم يترددوا في الالتحاق بدعوة أي شريف، أو عالم، أو متصوف، رفع راية الجهاد"([41]). إن هذا الانتشار الكبير للفكر الدرقاوي في الجنوب الشرقي المغربي، جعل السلطة المخزنية تزاوج في تعاملها معه : تارة بالتقرب والمحاباة وتقديم التنازلات والامتيازات، وتارة أخرى بالتهديد والترهيب والوعيد، وهكذا حاول المخزن مقايضة مواقف مولاي العربي الدرقاوي عبر عطايا جزيلة مغرية؛ حيث خصص له السلطان مولاي الحسن منة حولية قدرها أربعون قنطارا من الحبوب، وكانت قيمة كل قنطار زهاء 1250 فرنكا فرنسيا؛ أي ما مجموعه خمسون ألف فرنكا فرنسيا في كل حول([42])، وبذلك حاولت الأجهزة المخزنية أن تحتوي زاويتي ﮔـاوز ورحمة الله الدرقاويتين كما احتوت الزاوية الزروالية في القنادسة([43]).لكن هذه المحاولات المخزنية لم تحقق النجاحات المنتظرة منها بسبب اعتبارات موضوعيات وواقعية، أهمها تزايد حدة التغلغل الفرنسي في الحدود الجنوبية الشرقية، وخاصة في واحة توات. فازدادت بذلك خيبة القبائل الحدودية، وارتفعت حدة درجة احتقانها تجاه الأجهزة المخزنية المحلية والمركزية؛ مما حدا بقائد توات إلى طلب العون من الخليفة السلطاني مولاي رشيد في تافيلالت، حاثا إياه على ضرورة التعجيل بالقضية التواتية قبل فوات الأوان؛ بيد أن الوضع في تافيلالت كان يغلي فوق صفيح ساخن من جراء الفيضان المهول الذي خلفه وادي زيز في نهاية عام1886م/ 1305هـ الذي غمر العديد من القصور، وجرف المقابر، والأسوار، والحصون، والدور"ولم تبق بقعة إلا غرقت، ولا ساكنة إلا تحركت"([44])؛ وتلاه في العام الموالي تعرض المنطقة لموجة جراد خطيرة لم تعرف نظيرا لها، أتت على الأخضر واليابس، ولم تترك للناس مزروعا ولا مغروسا إلا قضمته، فقلت المحاصيل وجاع الناس ووَبَأوا([45] )، مما جعل كثيرا من الفئات المتضرر تتململ ضد مولاي رشيد، مطالبة المخزن بإعادة بناء قصورها وترميم أسوارها وحصونها، وتوفير ما يلزم من المؤن والحبوب والثمور، فكادت الهيعة أن تقوم لولا أن السلطان مولاي الحسن طمأن أهالي تافيلالت أنه سيزورهم في القريب العاجل([46])، كما أعطى أوامره لخليفته مولاي رشيد بالعمل على البدء في ترميم ما دُمر، وإصلاح ما خُرب([47] ).كل هذه العوامل كانت تصب في صالح المسار الذي خطته الزاوية الدرقاوية لنفسها في علاقتها مع المجتمع القبلي والمخزن، فتقوى صفها، وانتشرت أفكارها وآراؤها، وعلت كلمتها، وباتت طريقتها تشكل تيارا سياسيا، وفكرا إيديولوجيا، يتعارض مع التصورات المخزنية فيما يتعلق بمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لسكان الجنوب الشرقي. هذه الأجواء المحتقنة في تافيلالت وضواحيها، لم يكن بمقدور الأجهزة المخزنية المحلية احتواؤها والسيطرة عليها، مما حتم على الجهاز المخزني التحرك بشكل مستعجل لتدارك الأمور قبل فوات الأوان؛ وبذلك نظم السلطان حركة عسكرية في اتجاه الديار الفيلالية، هدف من خلالها إلى تطييب الخواطر والتقليل من فورة السكان، وإرجاع المياه إلى مجاريها، وذلك إدراكا منه لمدى أهمية هذه المنطقة في ترسيخ دعائم حكمه؛ لذا زاوج في تعامله مع أهاليها -خلال هذه الزيارة وغيرها- بين أسلوبي الترهيب والترغيب؛ حيث ضرب خيام محلته أولا قرب قصري الريصاني وبوعام، وثانيا في المجال الممتد ما بين قصور الماطي، وتازكَزوت وزاوية سيدي الغازي. فأبدى للسكان حسن نيته في تعاطيه مع قضاياهم وشؤونهم؛ وذلك من خلال العطايا والهبات التي قدمها لهم والتي بلغت قيمتها مبالغ هامة جريا على عادة السلاطين العلويين الذين يبدلون سخاء كبيرا تجاه مهد دولتهم بتافيلالت([48])، ناهيك عن اهتمامه بترميم القصبات وتشييد القصور والمساجد، ومساعدة الأهالي على مد السواقي وحفر الترع، وحمايتهم من هجمات القبائل المجاورة([49]).لكن هذه الزيارة السلطانية للريصاني لم تحقق نتائجها المرجوة بخصوص القضايا الحدودية، وخاصة مسألة توات التي وصلت إلى عنق الزجاجة، فكانت هذه الزيارة بمثابة صب الزيت على الفتيل داخل المجتمعات القبلية التي تعنيها الأزمة بشكل مباشر، والتي لم يبق أمامها سوى خيار الاعتماد على النفس والاستعداد للجهاد ومكابرة العدو النصراني، في الوقت الذي طفا على الساحة السياسية المغربية نقاش ساخن بخصوص الإصلاحات الجبائية الجديدة التي يعتزم السلطان إحداثها، ولا سيما مشروع "ضريبة الترتيب" الذي تم إعداده عام 1886م/1304هـ، الهادف إلى تضريب كافة الفئات الاجتماعية بما فيها الشريف والمشروف، يسهر عليه الأمناء والعدول بدل القياد والعمال؛ لكن هذا الإصلاح الضريبي سمي بـ"الإصلاح المستحيل"؛ نظرا إلى رفضه من قبل الشرفاء، والخاصة، والقياد، والعمال، والخلائف([50])؛ كما أن المحميين والأجانب كان لهم النصيب الأوفى في إثناء السلطان عن هذا النظام بعد الضغط عليه من قبل الحكومات الأجنبية؛ كبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإسبانيا، وغيرها، التي كانت لها أطماع ومصالح كثيرة في الإمبراطورية الشريفة([51]). ازداد الوضع احتقانا في المغرب عامة وفي الجنوب الشرقي خاصة، وانعكس ذلك بشكل آلي على السلطة المخزنية في تافيلالت وضواحيها، ومنح الفئات المناوئة للمخزن فضاء أوسع وأرحب، وخاصة بالنسبة إلى الشيخ مولاي بلعربي الدرقاوي وأتباعه، وبعض القبائل الحدودية المتضررة من السياسة الفرنسية؛ مثل القبائل المنيعية والقبائل الخباشية، ناهيك عن الشيخ بوعمامة الذي ضيق عليه الفرنسيون كثيرا بالمناطق الحدودية المغربية-الجزائرية بعد بنائهم لسلسلة من المراكز العسكرية فوقها، مما دفع بوعمامة إلى التوجه نحو تافيلالت قادما إليها من تيكورارين، فحل ضيفا على الشيخ الدرقاوي بزاوية ﮔـاوز، هذا الأخير كانت رسائله تصل إلى بشار وفـﮔـيگ ووهران وغيرها من المناطق في المغرب وداخل الجزائر المحتلة، فطلب منه بوعمامة العون والمساعدة لحركته الجهادية ضد النصارى؛ لكن بوعمامة لم يفلح في تحقيق أهدافه من خلال هذه الزيارة نظرا إلى الشبهات التي كانت تدور حول حركته، وبفعل تقلبات مواقفه بين التعامل مع النصارى ومجاهدتهم، كما أن الضغط الذي مارسه الخليفة مولاي رشيد على الشيخ المدغري المعتل بزاويته، كان من العوامل التي أفشلت مساعي بوعمامة الذي عاد إلى تيكورارين خاوي الوفاض([52]).وفاة الشيخ الدرقاوي وقيادة تلامذته للمجتع القبلي جنوب شرق المغرب: في هذه الظرفية الصعبة جنوب شرق المغرب، ألمت فاجعة كبرى بالمجتمع القبلي وبكافة العناصر الدرقاوية، بسبب وفاة شيخهم القطب مولاي محمد بلعربي الدرقاوي المدغري عام 1892م/1310هـ، فأحدثت وفاته ارتباكا في أحد أنشط فروع الطريقة الدرقاوية في كافة أنحاء الإمبراطورية الشريفة([53])؛ لكن الذي زاد من هيعة أتباع الشيخ الدرقاوي هو ما وصى به أبناءه فيما يتعلق بقيادتهم للزاوية؛ حيث أمرهم بعدم تزعمها، كما ألح عليهم في التخلي عن قيادتها([54])، وهو الأمر الذي جعل كل مريديه وتلامذته وأتباعه والقبائل المتعاطفة معه، يصابون بنوع من الذهول لغرابة هذا القرار وعدم واقعيته من جهة، ولخطورته من جهة ثانية؛ لأنه جاء في ظرفية دقيقة للغاية كان المجتمع القبلي في الجنوب الشرقي أحوج ما يكون لأبناء الشيخ؛ بغية قيادتهم وجمع كلمتهم أمام الضغط الفرنسي والتهديد المخزني المتزايدين([55])، فساد كثير من الحزن والأسى كافة أتباع الطريقة الدرقاوية، سيما وأنها كانت قد تجذرت في عمق المجتمعات القبلية برمتها وذلك بتفريخها لما يربو عن ثلاث وأربعين زاوية انتشرت في دادس، وتودغة، وفركلة ومدغرة، والرتب، وبوذنيب، وفي أغلب القصور الفيلالية([56]). اعتقد المخزن المركزي والمحلي أن وفاة شيخ الزاوية الدرقاوية في تافيلالت سيهون عليه موقف القبائل في الجنوب الشرقي، فنظم السلطان مولاي الحسن زيارة لتافيلالت للمرة الثانية عام 1893([57])، حيث قام بمعاقبة الذين وردت عليه في شأنهم بعض المراسلات الخليفية؛ كالدرقاويين والمتعاطفين معهم، الذين باؤوا بسخطه وغضبه، فنكل بالكثير منهم، وانتقم منهم غاية الانتقام، إلى درجة أن مرافقه الطبيب الفرنسي ليناريس(Linares) وصف شيخ الزاوية الدرقاوية سيدي محمد بن أحمد أنه صار يعيش في حالة من العزلة والتهميش والمذلة في زاويته"مثل كلب في دار مهجورة"([58]). لكن السلطة المخزنية غاب عنها أن الفكر الدرقاوي الذي ثابر شيخ الزاوية الدرقاوية في تافيلالت على نشره، قد أثمر عددا هائلا من المريدين والأتباع المخلصين له غاية الإخلاص، والذين تمركزوا في الجنوب الشرقي، كل في مجال قبيلته، للعمل على استنهاض السكان على محاربة النصارى، ورفع راية الجهاد، وعدم الاعتراف بالسياسة المخزنية المهادنة للمستعمر؛ لذلك فرخ الجنوب الشرقي عددا لا يستهان به من رجال درقاوة الذين أسسوا جملة من الزوايا على الطريقة الدرقاوية، كزاوية دويرة السبع في المجال السغروشني التي أسسها زعيمها مولاي أحمد ولحسن السبعي السغروشني الذي يعتبر واحدا من التلامذة المخلصين للشيخ سيدي محمد بلعربي الدرقاوي([59])؛ حيث تتلمذ على يده لأيام طويلة في زاوية رحمة الله بمدغرة وزاوية كَاوز في تافيلالت، وكانت له به معرفة شخصية دقيقة، وكان يكن له احتراما ما بعده احترام. ثم هناك زاوية فركلة بقيادة الفقيه الشيخ سيدي علي الهواري الذي كان من الأتباع المخلصين للشيخ المدغري([60])، وزاوية تودغة التي كان يترأسها الفقيه أحمد المهدي الناصري([61])، ناهيك عن زوايا أخرى في كل من بومالن دادس، وقلعة مكَونة، وكَلميمة، وقصر السوق، والريش وغيرها من المناطق الأطلسية التي تشبعت بالفكر الدرقاوي، وتأثرت به منهجا وسلوكا، سيما وأن بداية القرن 20 امتازت باقتحام الفرنسين للجنوب الشرقي المغربي، فتحول هؤلاء الفقهاء وشيوخ الزوايا إلى زعماء قبليين ورجال بارود، وأصبحوا قادة للمجتمعات المغربية جنوب شرق المغرب، وخاضوا معارك مشهورة في الهوامش الصحراوية، كما هو الحال بالنسبة إلى مولاي أحمد ولحسن السبعي، الذي قاد معركة عديدة، مثل معركة المنابهة، والمنكَوب، و بوذنيب، وبوعنان، والجرف، وإفري، ومسكي الأولى والثانية، والمعاضيد([62] )، والذي استمر في قيادة المجاهدين ضد النصارى وكل من يسير في فلكهم إلى غاية 1917 عند ما سيطر الفرنسيون على الجنوب الشرقي المغربي بما في ذلك منطقة تافيلالت، قبل أن يتم طردهم منها في العام الموالي لتدخل الكثير من القبائل تحت سلطة متصوف آخر ذي نزوع سياسي، وهو مبارك بن الحيبن التوزونيني السوسي، ومن بعده خليفته بلقاسم النكَادي، وهما معا لم يخرجا عن الفكر الناصري والدرقاوي([63]). وبذلك يبدو أن الزاوية لعبت أدوارا حاسمة في تاريخ المغرب الحديث من خلال تأطيرها للمجتمع القبلي في الجنوب الشرقي المغربي لما يربو عن قرن من الزمن، واستطاعت أن تفرض نفسها على السلطة المخزنية محليا ومركزيا، كما أثرت بعمق على توجهات ومخططات السلطة الكلونيالية، التي اضطرت في كثير من الأحيان إلى تعديل استراتيجياتها وأهدافها بفعل الضغوط التي مارستها عليها مؤسسة الزوايا في مختلف المجتمعات القبلية. | |
|