سنتناول فى موضوعنا الوعى والدماغ والأفكار مختلف الجوانب التى تشكل الوعى لدى الإنسان ..محاولين إختراق حصون تعقيد الدماغ المنيعة و التى تشكل قمة فى تعقيد المادة وتطورها الهائل متربعة فى ذلك على عرش التطور المادى للكائنات الحية .
سنتكأ بشكل أساسى على إبداعات الكاتب نبيل حاجى نائف فى الغوص داخل الدماغ البشرى وسبر أغوار الوعى ..وأعتقد أنه تناولها بشكل أكثر من رائع .
لن يأخذ موضوعنا الشكل التقليدى فى الطرح بقدر ماهو بحث شامل لكل ما توصل له العلم فى مجال الوعى والأفكار .
الجزأ الأول .. لغز الوعى 1
وأخيراً شرع علماء الأعصاب في سبر أغوار واحد من أعمق أسرار الوجود . تعد الخبرة الواعية أكثر الأمور المألوفة في حياة كل منا وأكثرها غموضاً في أن معاً . فلا شيء نعرفه أكثر من الوعي معرفة مباشرة , ولكن من الصعب التوفيق بينه وبين أي شيء آخر نعرفه .
إننا نتساءل : لماذا يوجد الوعي ؟ وما وظيفته ؟ وكيف يتسنى له أن ينشأ عن عمليات عصبية في الدماغ ؟ وتعد هذه الأسئلة من أكثر الأسئلة أهمية في العلم .
لقد تجنب الباحثون الخوض في موضوع الوعي سنوات عديدة عند دراسة الدماغ والعقل , وبقي الوعي خارج إطار التناول , ولكن على مدى السنوات القليلة الماضية تزايد عدد علماء الأعصاب وعلماء النفس والمفكرين الرافضين لفكرة كون الوعي شأنا لا يمكن دراسته وحاولوا التنقيب عن أسراره وأسسه .
والمشكلة الصعبة الأساسية هي :كيف يمكن لسيرورات فيزيائية ( عصبية كهربائية ) تحدث في الدماغ أن تشكل الوعي الذي هو خبرة ذاتية .
لا يوجد دليل على وجود مركز محدد للوعي بالذات , والشيء المحتمل أن هذا النشاط , يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة المتلاحمة للاتصالات , بين النظام الشبكي واللحاء , فعندما يصل هذا البناء الكلي إلى درجة كافية من التعقيد , عندئذ فقط , يمكن للوعي أن ينشأ(ينبثق) , ويكون تفسيره وفقاً لتلك الرؤيا طبيعياً تماماً . إذ يزداد مستوى الوعي بازدياد تعقيد الجهاز العصبي .
وعند الكائنات الأكثر تعقيداً فقط – الإنسان و الشمبانزي والثدييات العليا – يستطيع اللحاء أن يحمل فكرتين في وقت واحد , الفكرة المعطاة , والفكرة عن تلك الفكرة . فإذا كانت المعالجة المتزامنة للمعلومات ممكنة , فالاحتمال الوارد , أن نشاطاً مخباً معيناً , يرتبط بفكرة معينة , يمكن أن يولد تفكيراً بشأنه , في نفس الوقت , ويكون ذلك تفسيراً فيزيقياً للوعي بالذات .
ويبدو أن ذلك يحدث بانتقال المعلومات , بين نصفي اللحاء , فعندما نقطع الجسر بين هذين النصفين , فإن كل نصف على حدة , يستطيع معالجة المعلومات المتباينة , عن ما يعالجه الآخر . وبذلك ينقطع التأثير المتبادل , وتتوقف هذه الدورة من التأثيرات المتبادلة , وهذا يؤدي إلى ضعف واختصار الوعي , و يقول البروفسور " ماجون " :
إن النظام الشبكي في علاقاته الصاعدة والنازلة باللحاء , يربط ارتباطاً وثيقاً , ويساهم مساهمة فعالة , في معظم فئات النشاط العصبي الراقي . ولسوف تزداد بلا شك على مر السنين , المعلومات عن المخ التي تمكننا , من السيطرة على مستويات الوعي والإدراك , ولكن النتيجة الأهم ستكون النمو في إدراك ما يعنيه ذلك التحكم . إن الوعي يخضع لسلطان المخ المادي بنفس القدر الذي تخضع به الانفعالات والأحاسيس له .
إن هناك عداء قوي للثورة العقلية , وينبع هذا العداء أساساً فيما نرى , من التحدي الذي تحمله الثورة العقلية لحرية وتميز الإنسان , التي يعتز بها ويقدسها . ولكن الثورة العقلية , لا تمثل ذلك الخطر على الوعي , إذ لن تضيع أبداً الطبيعة الذاتية له مهما فعلنا , أنما سيحدق الخطر بالحرية, حرية الإرادة, وهذا ما يرفضه ويتحاشاه جميع الناس .
يمكننا أن نعرف الوعي الذاتي , بأنه ما يحصل في الدماغ الفرد أثناء صحوه, أو أثناء الأحلام , من شعور وإحساس وإدراك . ويطلق على المنطقة التي يحدث فيها الوعي ساحة الشعور أو سبورة الوعي أو الذاكرة العاملة (أو النفس أو الروح, أو الأنا الواعية , أو الذات المدركة).
هناك فريق من المفكرين والعلماء يعتقدون أن الوعي لا يمكن إرجاعه إلى أسس مادية(فيزيائية) لأن له خصائص غير مادية وغير مرتبطة بالمادة , و هناك انقطاع وفرق كبير بين الفيزياء أو المادة وبين الوعي أو الروح , ويقولون أن صعوبة أو استحالة فهم الوعي هي نتيجة استحالة إرجاعه إلى مبدأ عام واستحالة صنعه بعناصر مادية , وهو دوماً وعي ذاتي ولا يعرف ويلاحظ مباشرة إلا من قبل فقط الإنسان الذي يعيه ويستحيل دراسته موضوعياً , وهو يربك تساؤلاتنا الموضوعية عنه , إن هذا هو المنتشر بين أغلب الناس وجزء لابأس به من العلماء.
وهناك فريق آخر يعتبر أن الوعي لا بد أن يكون أساسه ومنشأه مادي فيزيائي وإن كان في الوقت الحالي غير ظاهر هذا الأساس الفيزيائي بشكل واضح ودقيق , ولا يوجد في الوقت الحاضر ظواهر أو علاقات فيزيائية واضحة ودقيقة تظهر الاتصال بين الوعي وأسسه الفيزيائية , ولكن يمكن في المستقبل القريب اكتشاف هذه العلاقات وتوضيحها , ورأيهم هذا مبني على أن الوعي يحدث نتيجة عمل أجزاء معينة من الدماغ وبتوقفها عن العمل يتوقف الوعي , ولديهم براهينهم وإثباتاتهم التجريبية المادية الكثيرة , إن كان من ناحية عمل فزيولوجيا وكيمياء الدماغ أو من ناحية قياس التيارات الكهربائية الدماغية(مقاييس موجات الدماغ الكهربائية) , فالوعي مرتبط بمناطق معينة في الدماغ وهي التشكيل الشبكي واللحاء بشكل أساسي وبتوقف عمل التشكيل الشبكي يطفأ أو يتوقف الوعي الذاتي , ودليلهم على ذلك أن تلف التشكيل الشبكي يوقف الوعي نهائياً , وتثبيط أو كف عمل التشكيل الشبكي يوقف الوعي طالما الكف موجود(أثناء النوم العميق أو أثناء التخدير أو غير ذلك) , وكذلك تلف اللحاء أو بعض مناطقه يؤثر على الوعي .
أما أن الوعي ذاتي دوماً ولا يعرفه إلا صاحبه فهذا غير دقيق فالمشاعر والأحاسيس والأفكار(وهي ما تشكل الوعي) يمكن أن تنتقل وفي كثير من الأحيان من إنسان لآخر أو حتى من حيوان إلى إنسان , وهناك أمثلة كثيرة على ذلك فكل أشكال التعاطف وانتقال الانفعالات والأفكار والنوايا هي نتيجة انتقال الوعي من عقل لآخر , وهذا يحدث بوسائل متعددة , بصرية سمعية لغوية..., فالمفكر والأديب والفنان هما مثال على قدرة الإنسان على نقل وعيه إلى الآخرين .
أن التكوين الشبكي في ساق المخ يمكن اعتباره المركز المشرف على بث الوعي في المخ .ويوضح لنا مثل هذا التفسير النتائج التي تحدث عندما يقطع ساق المخ في أماكن مختلفة , وقد درس هذا الأمر بعناية في حالة القطط فعندما يفصل المخ عن النخاع الشوكي يظل الحيوان محتفظاً بمظاهر اليقظة مع وجود رسم كهربائي للمخ يدل على نشاط عال كما أن حدقتي العينين تكون مفتوحتين تماماً , إلا أنه عندما يفصل اللحاء والجزء الأعلى من ساق المخ عن الجزء الأسفل والنخاع الشوكي يبدو الحيوان نائماً والحدقتان شبه مغلقتان وتصبح موجات النشاط الكهربائي للمخ بطيئة , ويبدو أن فصل الجزء الأعلى من ساق المخ واللحاء عن الجزء الأسفل قد فصلهم عن النظام الشبكي للتنشيط فأصبح هذا الأخير غير قادر على إرسال الإشارات إلى اللحاء لكي يبقى يقظاً .
وبالقيام بعدة تجارب قطع فيها ساق المخ في مواقع مختلفة أمكن التوصل إلى تحديد أهم مناطق التكوين الشبكي التي تسيطر أكبر سيطرة على الوعي , ويبدو أنها تقع في منطقة القنطرة أوسط ساق المخ , وقد لوحظ أن تدمير التكوين الشبكي على مرحلتين تفصل بينهم 3 أسابيع يقلل من انخفاض مستوى الوعي , وأن استئصال جزء من التكوين الشبكي يمكن أن يضعف الوعي قليلاً ويستعاد هذا الضعف بعد مدة , أما تدمير كامل النظام الشبكي دفعة واحدة فإنه يقضي على الوعي تماماً ويسبب الموت بعد إغماءة طويلة , وهذا يعني أن وظيفة ذلك الجزء من التكوين الشبكي الذي استؤصل قد قامت بها أجزاء أخرى من ساق المخ في فترة قصيرة نسبياً وهذا أمر متوقع بالنسبة لوظيفة هامة جداً كاليقظة والانتباه التي لها قيمة هامة في استمرار الحياة.
ويبدو أن النظام الشبكي يتحكم في مستوى إدراك الواعي بأن يعمل كصمام يتحكم في الشدة , فيزيد أو ينقص من كمية التنبيهات المندفعة في الممرات الحسية وكذلك من التوجهات الصادرة عن اللحاء إلى العضلات , وهو يستطيع ذلك بسهولة حيث أن كافة الأنظمة الحسية الرئيسية والكثير من الممرات الحسية المتجهة إلى العضلات , إما أن تمر لصيقة به أو ترسل إشاراتها إليه , ويقوم النظام الشبكي التحكم بهذه الإشارات , والنظام الشبكي له أكثر من مئة موقع تتمركز فيها الخلايا العصبية وهو نظام شديد التعقيد والتلاحم , من مجموعة مراكز التحكم في الشدة , وبالتالي فإن سيطرته على الوعي ليست بالبساطة الناشئة عن وجود مركز واحد لتلك العملية .
ويبدو في الحقيقة أن هناك على الأقل مركزين أساسيين للاستيقاظ , أحدهم إلى الأسفل في وسط المخ , والآخر إلى الأعلى قرب اللحاء . وهذا المركز هام للغاية , إذ يبدو أن له تأثيراً سريعاً على اللحاء , إذ يظن أن الاستيقاظ السريع من النوم , أو التغيرات السريعة في الانتباه تحدث بواسطته , وهو يحقق تلك السرعة بواسطة شبكة عظيمة الكفاءة من الاتصالات باللحاء . وعندما تستثار فإنها تؤدي إلى خلق النشاط في اللحاء , وهو نشاط ينتشر بسرعة .
إن ما يحدث بالتفصيل في الخلايا العصبية داخل النظام الشبكي أثناء حدوث مثل تلك النشاطات , يكتشف ببطء شديد , وكذلك بصعوبة . فالمتوقع أن النشاط سيكون شديد التنوع في مثل ذلك النظام المعقد .
ولقد بينت الدراسات التي قام بها البروفسور هاتن لوكر أن الخلايا العصبية في مركز الوعي في المخ الأوسط , يكون نشاطها خلال نوم الأحلام ضعف النشاط الذي تقوم به خلال اليقظة , بينما يكون نشاطها متوسط في النوم العميق الخالي من الأحلام , ومما يزيد الصورة تعقيداً , هو أنه يبدو أن ذلك النظام يؤثر على اللحاء بطريقة كيميائية أيضاً , وكذلك يتأثر بالمواد الكيميائية.