منذ الحضارات البدائية الاولى، ظهرت الاديان ****يلة لتشريع التغيرات، ومنذ ذلك الوقت بقيت جزء لايتجزء من ثقافة الانسان. قدرة الاديان على البقاء، على الرغم من تطلبها الوقت والمال والتضحيات، ادى الى تغيير في نظرة بيلوجيين التطور، ليرتفع تساؤلهم عن مواطن الافضلية التي تحققها. كيف يمكن للمرء تفسير اسباب قبول المؤمنين بالتضحية بوقتهم وطاقتهم من اجل اجراء طقوس، في ظاهرها لاتضر ولاتنفع وليس فيها ربح منظور لبقاء النوع. الابحاث الاخيرة تعطينا جواب محتمل على هذه المعضلة، وعلى اسباب قبول الانسان بالايمان والسعي اليه، على الرغم من افتقاده للبراهين الصلبة او المنطق.
يجلس المؤمنين في ارتخاء وطمأنينة في مساجد ضخمة ومرتفعة، مزخرفة بالنقوشات المنحوتة على الاحجار بطريقة فنية بارعة، تخلق مشاعر الرهبة والعظمة، ليس اقلها بسبب الاختلاف عن الحياة الفقيرة والرتيبة خارج المسجد، يضاف اليها مشاعر الانضواء تحت جماعة تتحرك بنمط واحد كالاوركسترا الكبيرة، وتعلوا اصواتها في نغمة واحدة تخلق الرضى والشعور بالذوبان في جمع كبير. ذات الغلو نجده في الكنائس والمعابد الاخرى، من اجل خلق الانطباع المطلوب بالصغر والضعة في نفس المؤمنين. مثل هذه المعابد نجدها منتشرة في كل البقاع. منذ نشوء الحضارات القديمة الاولى، نشأت الاديان واحاطت بالانسان من كل الجهات، لتصبح جزء من حياته اليومية.
لماذا يسعى الانسان الى خلق الاديان ومن ثم الايمان بما خلقه، مضحيا في سبيل ذلك بالمال والوقت وحتى بحياته، من اجل فكرة عن آلهة لم يتمكن احد من البرهنة على وجودها؟ عند التفكير بهذا الثمن الذي يرضى الانسان بدفعه للقيام بالطقوس المرافقة للاوهام الدينية، يظهر وكانه لايوجد تفسير بيلوجي ومنطقي للربح الذي يحصل عليه الانسان ويدفعه لابتداعها، ولماذا تبقى هذه الاديان مستقرة وتحظى بشعبية طويلة الامد قبل ان تختفي، ليحل مكانها دين جديد؟
في هذا العام يحتفل العالم الاكاديمي بالذكرى 150 لنظرية داروين، التي حصلت على اعتراف واسع في كل الاوساط العلمية، وتأسس على قاعدتها فرع " بيلوجيا التطور". هذه النظرية تؤكد ان الانسان هو كائن بيلوجي، تنطبق عليه ذات القوانين التي تنطبق على بقية الكائنات البيلوجية. هذا الامر يترتب عليه انه من الضروري ان يوجد تفسير منطقي وبيلوجي لسلوكنا، ولكن كيف يمكن تفسير قبول الرهبان والراهبات الكاثوليك والهندوس بالامتناع عن العلاقة الجنسية بصورة خيارية؟ كيف يرضى الانسان بالتضحية بالتناسل، وهو الغريزة الرئيسية للكائن الحي؟ المجتمع الذي يتعاطى الرهبنة يفترض به ان ينقرض، ولكن ذلك لايحصل عمليا، وتوجد العديد من الامثلة عن هذه السلوكيات الدينية والتي، من الزاوية البيلوجية، يفترض انها تجلب الضرر للفرد.
عبر العصور حاول العديدين تفسير اسباب ظهور الاديان وبقاءها على قيد الحياة: لتقوم بتفسير مالايمكن تفسيره، مثلا التساؤلات عن الكون او لجلب الطمأنينة للنفس والجماعة واعطاء هدف، كالقول ان علينا ان نحارب او نبني. الاديان، يمكنها ايضا ان تخفف من المعاناة عند العزاء او المرض، وتجعلنا نستكين وننام مطمئنين، او تخدر قلقنا عند الحاجة للخروج الى الحرب، مجازفين بأرواحنا.
في السنوات الاخيرة قدم العديد من العلماء من مختلف الفروع العلمية، (الاعصاب، الاجتماع، الكيمياء البيلوجية) معطيات محددة ساعدت بيلوجيين التطور في تقديم مجموعة من الاقتراحات، تفسر الافضليات التي تقدمها الطقوس الدينية، من الناحية البيلوجية. حسب هذه النظرة، يظهر الدين كنوع من السمنت الثقافي يقوم بلصق افراد المجتمع الى بعضهم البعض، ليحولهم الى كتلة واحدة. الدين يجري تصميمه على اساس سلوك " مكارم الاخلاق" ، ولكن جوهره هو خلق أطر تجعله يعمل كمنظومة الاستشعار المبكر من اجل اظهار من يمكن الوثوق به ومن يجب الحذر منه.
الملاحظات اظهرت ان من الاهمية بمكان ان تتطلب الطقوس تضحيات كبيرة من اتباعها، إذ لو كانت الطقوس من النوع السهل ولايحتاج الى تضحيات ليجري تحديد من يمكن الوثوق به، فسيكون من السهل تمرير الخداع. كلما زادت كلفة البرهنة على الثقة، كلما اصبح من غير المربح خداع المنظومة. بمعنى اخر، فإن الطقوس الدينية كانت تعمل كفيلتر من اجل كشف العناصر الغير ملائمة وعزلها. بشكل رئيسي، اظهرت الدراسات ان الناس ينظرون الى الشخص المؤمن على انه اكثر صدقا ومدعاة للثقة من المتوسط العام، والله الاخلاقي الموجود في الاسلام والمسيحية واليهودية يلعبون دور ضامن إضافي لصحة نوعية المؤمنين التي يقدمون انفسهم بها. وهذا الامر يوضح اسباب موت الاديان القديمة الاكثر بساطة، مع تطور المجتمعات وانتقالها الى مراحل اعقد، إذ يصبح هناك ضرورة لطقوس اكثر تعقيدا، الامر الذي يؤدي الى تخلي الناس عن معتقداتهم القديمة للدخول في معتقد جديد اكثر تطورا، كما يوضح اسباب سرعة تخلي الاديان البسيطة عن معتقداتهم القديمة، في حين تصمد الاديان المعقدة امام الاديان الاخرى بنفس مستوى التعقيد.
المختصين في بيلوجيا التطور Azim F Shariff & Ara Norenzayan, من جامعة كولومبيا البريطانية في كندا يوضحان ان " وجود وعي بوجود إله قادر على الرؤية ويرانا، له تأثير قوي على المؤمنين بهذا الإله، تماما كتأثير الامتلاك الفعلي للقدرة على الرؤية عند غير المؤمنين والمؤمنين، على السواء.
على الخلاف مما هو لدى بقية البشر، فإن وجود قوى المراقبة الفوق طبيعية في وعي المؤمنين، يجعل المؤمن يعتقد ان سلوكه تحت مراقبة دائمة، وبالتالي سيكأفئون او يعاقبون حتى في ظل إنعدام وجود شهود من البشر.
Richard Sosis, من جامعة كنكتوت الامريكية، قام بدراسة بضعة تجمعات (كيبوتزات) في اسرائيل، واكتشف ان التدين يتوقع منه ومطالب بسلوك التضامن والتعاون بين افراد الجماعة اكبر من غيره.
الكيبوتزات هي جماعات تعاونية منظمة لها بنية اجتماعية واقتصادية مستقلة، بغض النظر عما إذا كان اعضائها لادينيين او مؤمنين. الباحث قام بإختيار عضوين من الكيبوتز نفسه للمشاركة بلعبة ذكاء اقتصادي، جرى تصميمها لاختبار القدرة على التعاون ومستوى التضامن. وبدون ان يعلم المشاركين شخصية الشخص الاخر الذي يلعبون معه ، يجري اعلامهم بوجود ظرف مشترك يحتوي على مئة شيكل، وعليهم تقرير حجم المبلغ الذي سيأخذونه بدون ان يعلموا مقدار المبلغ الذي قرر الاخر اخذه. إذا تجاوز مايأخذونه مع بعض مبلغ المئة شيكل ، لايأخذ احد منهم شئ، وتنتهي اللعبة. على العكس، إذا كان المبلغ اقل من المئة شيكل، يحق لهم الاحتفاظ بالمبلغ ويضاف الى الظرف 50% من الباقي فيه، ليتقاسموه مجددا. هذا يعني انه طالما اقتصر المشاركين على سحب مبالغ صغيرة سيزداد الاصل المشترك ويربحون، غير ان المشكلة ان لااحد منهم يعلم فيما إذا كان الاخر يتعاون ام يخدع.
النتائج اظهرت ان اعضاء الكيبتوتزات المتدينة يسحبون مبالغ اقل بشكل واضح بالمقارنة مع اعضاء الكيبوتزات الغير متدينة. والمثير ان الدراسة اظهرت وجود اختلاف بين سلوك النساء وبين سلوك الرجال من الكيبوتزات المتدينة، يعكس ان هذه الرؤية الاخلاقية تخص الرجال وحدهم، وهذا له اساس في الطقوس ذاتها. في الطقوس اليومية نجد ان من واجب الرجال المشاركة ثلاثة مرات في اليوم في صلاة الدعوات في الكنيس، بمعدل 1،5-2 ساعات يوميا، في حين ان النساء ليسوا ملزمين بهذا الطقس. لذلك نرى ان الرجال الذين يواظبون على حضور الصلاة يسحبون مبالغ اقل بالمقارنة مع الغير متدينيين والنساء. وحتى المؤمنين الذي لايواظبون على الصلاة نجد ان سلوكهم لايختلف عن الغير متدينين والنساء من الكيبوتزات المتدينة.
هذا الامر يبرهن على ان الوقت المصروف على الطقوس الطويلة يقدم عائد على شكل تحفيز التضامن والتلاحم والتعاون، وبذلك يقدم افضلية للجماعات المتدينة لت***ق على الجماعات الغير دينية، من حيث انها تجعلهم جماعات متماسكة في الصراع على البقاء.
دراسات اقدم جرت في الولايات المتحدة، تؤكد ان الطقوس بذاتها اداة تحسن قدرة الجماعة على البقاء. عند دراسة ومقارنة طول فترة بقاء الجماعات الدينية بالجماعات الغير دينية، ظهر ان الجماعات الدينية تصمد فترة اطول. إضافة الى ذلك تُظهر الدراسة ان الجماعات الدينية تملك قواعد سلوكية تصل الى ضعف ماتملكه الجماعات الغير دينية، مثلا طقوس الصيام الجماعية والالتزام بترك الخمور. والملاحظ انه كلما تعددت القواعد والطقوس كلما ساعد ذلك على امتداد فترة تماسك وبقاء الجماعة.
كيف يكون ذللك ممكنا؟ المشكلة الاكبر التي تواجهها التجمعات المبنية على الثقة هي مشكلة الطفيليين والماكرين المتلفعين بثياب التقية، الذين يشكلون تهديدا حقيقيا لقواعد وجود الجماعة. النصوص المقدسة التي تطالب بطقوس اكثر وقواعد اصعب، يمكن ان تكون بذاتها طريقة ناجحة لتنظيف الجماعة من المتطفلين والكسالى، الذين لايضيفون شيئا للجماعة. في ذات الوقت تخلق القواعد والطقوس الثقة بين ابناء الجماعة، عندما يرون ان الجميع يراعون القواعد نفسها بدون تمييز.
في المضمون تقدم لنا الطقوس، التي في ظاهرها مضيعة للوقت، اداة لقراءة الاخرين ومعرفة مدى صدق الاشارات السلوكية الصادرة عنهم. إذا نظرنا الى تيس جبلي مثلا نجد انه احيانا يقفز في الهواء عاليا مستعرضاً عضلاته بدون سبب مباشر. وعلى الرغم من ان حركته في ظاهرها لامعنى لها، الاانه يوجد مغزى. انه يخبر الحيوانات المفترسة المحتمل وجودها انه حيوان يملك طاقة فائضة، وان التفكير بمهاجمته مضيعة للوقت. بمعنى اخر فإن قفزة التيس تقول للحيوان المفترس:"ابحث عن طريدة اخرى".
لنعيد من جديد قراءة المثال السابق. ان التيس الذي يقفز لايعلم انه يقفز من اجل اخبار الحيوان المفترس بأنه قوي، إنه يقفز بدوافع داخلية، ولكن هذه الدوافع صدف انها اعطت اشارة للقوة التي تقوم بعملية " الاصطفاء" مما جعل هذه الصفة تبقى في القطيع وتنتشر، في حين يجري تصفية من لايملك هذه الصفة، او من فقدها لضعفه. بهذا الشكل اصبحت هذه القفزة تخرج عن القلب، حقيقية، ولهذا السبب انقذت حياة التيس، واستحقت ان تبقى على الرغم من انها قفزة بلهاء وتستهلك الموارد.
هذا النوع من السلوك يمكن بكل وضوح ان يكون قد نشأ من خلال الانتقاء الطبيعي، الذي اشار اليه داروين، بدون ان يكون التيس قد فهم لماذا كان يقفز، ولكن يكفي وجود حيوان مفترس يرى الحركة ويفهمها على انها دليل قوة. في الحقيقة ، ومن اجل مصداقية عالية للاشارة الصادرة عن التيس، يجب ان لايكون التيس على وعي بالنتائج التي ترتبت على قفزته. الحيوان المفترس يجب ان يكون واثق من انه عثر على اشارة صادقة تعطيه القدرة على تقدير الوضع، والقفز عاليا في ظروف قطيع يعيش في منطقة محدودة الموارد هو تبذير بالطاقة. بمعنى اخر، كلما كان السلوك مكلفا كلما كان اكثر مصداقية، وهذا الامر ينطبق ايضا على الطقوس الدينية والسلوك الديني. هنا ايضا يجب ان يكون السلوك صادر من القلب، حتى يمكن تلقي افضل الاشارات للتعرف على درجة مصداقيته وتثمين صاحبه.
وجود اهمية عملية عالية لوجود الطقوس والكتب المقدسة يتاكد ايضا من خلال المقارنة بين الاديان والثقافات. كلما كبرت المجموعة السكانية كلما زاد سعيها وقابليتها للايمان بإله اخلاقي، تحوم تعاليمه بنشاط على الوصاية والتحكم بالسلوك الاخلاقي للفرد، كما هو الحال في ابيهودية والاسلام.
اذا نظرنا الى العصور القديمة، قبل 11 الف سنة، عندما تحول الانسان لاول مرة من الرعي الى السكن الحضري الزراعي، نجد ان هذا التحول جلب معه تحول في حجم المجموعة ايضا لتنشأ اول المدن الكبيرة ، مدينة Catal Höyük في تركيا الحالية، والتي وصل عدد سكانها الى 10 الف نسمة. في مثل هذه المدينة يمكن للدين ان يلعب دورا هاما لتثبيت التلاحم بين السكان. في نمط الحياة السابقة، كان الجميع يعرفون بعضهم البعض، ويرتبطون برابط القرابة مع بعض، ويشعرون بالطمأنينة والانتماء، في حين ان المدينة الجديدة اصبحت تمتلئ بالغرباء، وعلى الاخص في السوق، حيث يجري اختبار الثقة، وهنا تظهر الحاجة من اجل تطوير اداة لكشف الغش والخداع. هذا الامر نستمر اليوم برؤيته في الاسواق الشرقية التي تستخدم الرموز الدينية بكثرة من اجل اجراء الصفقة. اغلب الباحثين متفقين على ان ظروف المدن هي التي حولت القناعات الفردية القديمة ومنظومة الشامان الى ديانة منظمة وتملك طقوسها ورموزها، من اجل التلائم مع ظروف الحياة في المدينة.