تحية طيبة .....
في الدياليكتيك
جواد البشيتي
الدياليكتيك Dialectic هو المنهج الفلسفي في الفهم والتفسير الذي لا يَعْدِله منهجاً لجهة شيوعه وانتشاره، والذي بفضل الفكر الماركسي والأحزاب القائلة به تحوَّل إلى ما يشبه "الثقافة الفلسفية الشعبية ـ العالمية"، فليس المثقَّفون الماركسيون فحسب، وإنَّما العامَّة من الناس، أخذوا وقالوا به؛ ولكن من غير أن يتمثَّلوه كما يتمثَّل الجسم الغذاء.
لقد أخفقوا، في غالبيتهم العظمى، في جعله، أو اتِّخاذه، "أداةً معرفية"، مُسْتَنْفِدين جهدا عظيما في حِفْظ واستظهار "المُخْتَصَر (غير المفيد)" من "مبادئه وقوانينه ومفاهيمه"، فإذا تحدَّاهم هذا الواقع أو ذاك أن يَسْتَخْدموا الدياليكتيك، أو ما حفظوه منه، في البحث والتحليل أظهروا عجزا عن الإتيان بشيء جديد يُعْتَد به، مُذكِّرين فحسب بالأمثلة التي أوردتها مؤلَّفات فلسفية ماركسية، وكأنَّ استخدام المنهج الدياليكتيكي من الصعوبة بمكان!
إنَّ الدياليكتيك، في جوهره، ليس سوى النظر إلى الأشياء والظواهر، نشوءاً وتطوُّراً وزوالاً، على أنَّها "الأضداد في وحدتها وصراعها"، فـ "التطوُّر"، في كل شيء، إنَّما هو "صراع (أو ثمرة صراع) ضدين متَّحِدين اتِّحاداً لا انفصام فيه".
في وَصْفِكَ لـ "التطوُّر"، تقول، ولا بدَّ لكَ من أن تقول، إنَّ هذا الشيء "كان".. فـ "أصبح".. كان "حاراً"، فأصبح "بارداً". كان "متمدِّداً"، فأصبح "متقلِّصاً". كان "ساكناً"، فأصبح "متحرِّكاً". كان "مضيئاً"، فأصبح "مُظْلِماً". كان "سريعاً"، فأصبح "بطيئاً".
في وَصْفِكَ هذا إنَّما تصف "التغيير" الذي اعترى الشيء في "صفاته وخواصه". وأنتَ لو أمعنتَ النظر في الصفتين، أو الخاصيتين، اللتين تَذْكرهما بَعْد كلمتي "كان" و"أصبح" لما شقَّ عليكَ أن تستنتج أنَّ تطوُّر الشيء ليس سوى تحوُّله إلى نقيضه، وأنَّ التطوُّر في الشيء ذاته ليس سوى تحوُّل صفة من صفاته، أو خاصية من خواصه، إلى نقيضها، فهل تستطيع، مثلا، أن تَصِفَ "التطوَّر" إذا ما قُلْتَ إنَّ هذا الشيء كان "حاراً"، فأصبح "بطيئاً"؟!
في وعيْنا وثقافتنا ومعرفتنا، وفي لغتنا، نرى بعضا من الأضداد في وضوح، فـ "الحياة" و"الموت" ضدان؛ وكذلك "الحار" و"البارد"، "التمدُّد" و"التقلُّص"، "التجاذب" و"التنافر"، "النور" و"الظلمة"، .. إلخ. ولكن، غالبية الأضداد ليست بهذا الوضوح، فنضطَّر، بالتالي، إلى التعبير عنها لغويا بحرف "لا"، فنضعه في صدر الكلمة ليدلَّ على الفقد، أو الانقطاع، أو الكف، أو التلاشي. إننا نُدْخِل هذا الحرف في تركيب بعض الكلمات للتعبير عن الأضداد، فنقول، مثلا، "لا مركزي"، أو "لا نهائي"، أو "لا إنساني".. إلخ. نقول إنَّ "البارد" هو ضد "الحار"، ولا نقول إنَّ الـ "لا حار" هو ضد "الحار"، فهذان الضدان إنَّما هما من الأضداد الواضحة لدينا (وفي لغتنا). أمَّا الأضداد التي لا يمكننا التعبير عنها لغويا في وضوح مماثِل كمثل ضد "المركزي" فنضطَّر إلى التعبير عنها باستخدام حرف "لا"، فضد "المركزي" إنَّما هو الـ "لا مركزي".
الشيء قبل أن يتحوَّل، وحتى يتحوَّل، إلى "نقيضه" لا بدَّ له من أن يتغيَّر في بعضٍ من صفاته وخواصه.. لا بدَّ له، مثلا، من أن يتحوَّل من "حار" إلى "بارد"، ومن "متمدِّد" إلى "متقلَّص". أمَّا تحوُّله إلى "نقيضه" فلا معنى له سوى "الزوال ـ النشوء"، فهذا الشيء "يزول" لـ "ينشأ" عن زواله "شيء آخر"، فالشيء A يزول، فينشأ عن زواله الشيء B.
ولا معنى له، أيضا، إلا إذا امتلكَ الشيء B من الصفات والخواص ما يجعله مضاداً ونقيضاً للشيء A.
هذا "النجم" نشأ، فتطوَّر، ثمَّ زال. ولكن، ما معنى "زواله"؟ هل معناه أن لا شيء آخر، أو أشياء أُخرى، قد نشأ، أو نشأت، عن زواله؟ كلا، ليس "العدم" معنى زواله.
أمْعِن النظر الآن في الشيء الذي نشأ عن زوال هذا النجم. أمْعِن النظر في صفاته وخواصه. إنَّ هذا الشيء الجديد الذي نشأ عن زوال النجم لا بدَّ له من أن يملك من الصفات والخواص ما يؤكِّد أنَّ النجم في زواله قد تحوَّل إلى نقيضه، أي إلى شيء مضاد ومناقِض له في بعض الصفات والخواص.
قد يتحوَّل هذا النجم إلى "ثقب أسود" Black Hole. لو عَقَدتَّ مقارنة بين النجم و"الثقب الأسود"، أي لو بحثتَ عن أوجه التشابه والاختلاف بينهما، لتوصَّلْتَ أوَّلا إلى الصفات والخواص المشترَكة بينهما، ولتوصَّلْتَ، من ثمَّ، إلى الصفات والخواص المختلفة بينهما، والتي لو أمْعَنْتَّ النظر فيها لاكتشفْتَ "التضاد" في هذا "الاختلاف".
هل يمكن النظر إلى "الثقب الأسود" على أنه شيء لن يزول أبدا؟ كلا، ليس ممكنا، فهذا الشيء ("الثقب الأسود") لا بدَّ له من الزوال، فكل ما نشأ، وينشأ، ينبغي له الزوال. و"العدم" ليس معنى "زواله". زواله إنَّما معناه تحوُّله إلى "نقيضه"، أي إلى شيء مضاد ومناقِض له في بعض الصفات والخواص.
إنَّكَ، بفضل الدياليكتيك، تستطيع أن تقول، أولا، وكأنَّكَ تَعْلَم عِلْم اليقين، إنَّ هذا "الثقب الأسود" سيزول حتما، وسينشأ عن زواله شيء آخر، أو أشياء أُخرى. وتستطيع أن تقول، من ثمَّ، إنَّ المضاد والمناقِض لـ "الثقب الأسود"، في الصفات والخواص الجوهرية والتي تميِّزه من غيره، هو الذي سينشأ، حتما، عن زواله.
لقد انبثق "النجم" من "سحابة"، معظمها من غاز الهيدروجين. هذه "السحابة" زالت، فنشأ "النجم" عن زوالها. هذا "النشوء"، وذاك "الزوال"، إنَّما هما "الزمن ذاته"، فـ "النشوء" هو ذاته "زوال"، و"الزوال" هو ذاته "نشوء".
ولمزيدٍ من الوضوح والتوضيح، أقول إنَّ "نشوء" و"زوال" الشيء ليسا من "التغيير" الذي يعتري "الشيء"، فالشيء إنَّما "يتغيَّر"، و"يتطوَّر"، "بَعْد" نشوئه، و"قبل" زواله.
"السحابة" تلك تحوَّلت إلى "نجم"، أي تحوَّلت إلى شيء مضاد ومناقِض لها في الصفات والخواص الجوهرية. وحتى لا نفهم "الحتمية" فهما لا يتَّفِق مع "المنطق الدياليكتيكي"، نقول إنَّ كل نجم انبثق من "سحابة من الهيدروجين"؛ ولكن ليس كل "سحابة من الهيدروجين" تتحوَّل، حتما، إلى نجم، فـ "السحابة" التي استوفت شروط تحوُّلها إلى نجم هي فحسب التي تتحوَّل إلى نجم.
"هذه" السحابة هي التي يمكنها، وينبغي لها، أن تتحوَّل إلى نجم. "السحابة" التي لا تتحوَّل إلى "نجم" لا بدَّ لها من أن تتحوَّل إلى شيء آخر (أو أشياء أُخرى) هو، أيضا، مضاد ومناقِض لها في صفات وخواص جوهرية أُخرى.
"السحابة" المتحوِّلة إلى "نجم" إنَّما تحوَّلت إليه بـ "قوى تطورها الذاتي"، في المقام الأول، ومن حيث الأساس، فهذه السحابة الممتدة الواسعة، الرقيقة والضئيلة الكثافة، تتأثَّر دائما بقوة جاذبيتها الداخلية، فتتقلَّص وتنكمش، وتشتد كثافتها، ويُضْغَط باطنها، أو مركزها، في استمرار.
وهذا الضغط المتعاظم يؤدي في آخر المطاف إلى اشتعال باطنها، فنوى ذرَّات الهيدروجين في باطنها تندمج، متحوِّلة إلى نوى ذرَّات الهيليوم. وهذا الاندماج الهيدروجيني المُنْتِِج للهيليوم يَقْتَرِن بفَقْد جزء من الكتلة. وهذا الجزء المفقود هو المتحوِّل إلى طاقة (حرارة وضوء). إنَّ النجم يُوْلَد عندما يشتعل باطن "السحابة الهيدروجينية".
لقد تحوَّلت "السحابة" إلى نقيضها في كثير من صفاتها وخواصها الجوهرية. حياة "السحابة"، أي كل ما اعتراها من تغيير من لحظة نشوئها حتى لحظة زوالها، إنَّما هي "المكان" و"الزمان" اللذين فيهما أنْتَجَت "السحابة" واستَجْمَعَت ونمَّت أسباب وعوامل زوالها، أي أسباب وعوامل تحوُّلها إلى نقيضها، أي أسباب وعوامل نشوء "النجم"، فـ "تطوُّر (ونمو) الشيء" ليس سوى الإعداد والتهيئة لنشوء وظهور نقيضه.
"الشيء" في تفاعُل دائم مع بيئته.. مع كل شيء من حوله. يؤثِّر ويتأثَّر، دائما، بغيره. وبهذا التفاعُل، أو تبادُل التأثر، يتطوَّر (وينمو) الشيء. وهذا التطوُّر (أو النمو) إنَّما هو ذاته "المَطْبَخ" الذي فيه تُطْبَخ أسباب وعوامل تحوُّله إلى نقيضه.
لقد قُلْنا إنَّ "السحابة" تتحوَّل، حتما، إلى نقيضها بفضل قواها الذاتية، في المقام الأول، ومن حيث الأساس. أمَّا ما يقع في خارجها، أي في خارج "السحابة"، من أشياء (أي البيئة) فلا يؤثِّر في التطوُّر الذاتي لـ "السحابة" إلا "تسريعاً" أو "إبطاءً"، فـ "السحابة ذاتها" تتحوَّل سريعا إلى نجم إذا ما كانت بيئتها غنية بالأسباب والعوامل "الإيجابية"، وتتحوَّل إليه بطيئا إذا ما كانت بيئتها فقيرة بتلك الأسباب والعوامل.
"العامل الخارجي"، في التطوُّر، إنَّما هو كل ما يقع في خارج الشيء، ويؤثِّر فيه، فيتأثَّر. ولكن كيف يؤثِّر "العامل الخارجي" في الشيء؟ إنَّه لا يؤثِّر في الشيء إلا بما تسمح به طبيعة هذا الشيء المتأثِّر.
وهذا التأثير إنَّما يشبه تمثُّل جسم الكائن الحي للغذاء، فالإنسان الحي مثلا يأكل البطاطا؛ ولكنَّ هذا المأكول (البطاطا) ما أن يَدْخُل جسم الإنسان حتى يتحوَّل بما يسمح لهذا الجسم بالتأثُّر فيه. وهذا هو السبب الذي يجعل لـ "العامل الخارجي ذاته" تأثيرا يختلف باختلاف طبيعة الشيء المتأثِّر فيه.
ولو قارَّنا في الصفات والخواص بين "الشيء" و"نقيضه"، بين "السحابة" و"النجم" مثلا، لرَأيْنا الآتي: بعضٌ من صفات وخواص "السحابة" انتقل إلى "النجم"، أي أصبح جزءا من صفاته وخواصه. بعضٌ من صفات وخواص "السحابة" لم ينتقل، أي نُفيَ في "النجم". بعضٌ من صفات وخواص "النجم" كان "جديدا"، أي لم يكن له من وجود في "السحابة".
ولا شكَّ في أنَّ هذا التبويب لصفات وخواص الشيء الجديد هو خير طريقة نَدْرُس فيها تطوُّر الشيء.
في الطبيعة ليس لـ "الغاية" من وجود، فالشيء لا يُوْجَد، ولا يتطوَّر، لـ "غاية ما"؛ ولكننا، مجازا ليس إلا، نقول بـ "الغاية" في الطبيعة، فما هي هذه "الغاية"؟ إنَّها "الزوال"، أي استجماع الأسباب المؤدية، حتما، إلى تحوُّل الشيء إلى نقيضه.
إنَّ الشيء، ومُذْ نشوئه وولادته، يشرع، عَبْر تطوُّره ونموِّه.. عَبْر فِعْلِه وانفعاله.. عَبْر تفاعله وتبادله التأثير مع غيره، يُعِدُّ ويهيئ ويُنمِّي ويُنْضِج أسباب وعوامل زواله، أي تحوُّله إلى نقيضه، وكأنَّه لم يأتِ إلى الحياة إلا لـ "الغاية" هذه.
أُنْظُر إلى هذا الكائن الحي. إنَّه يُوْلَد من أجل أن يعيش.. من أجل أن يظل على قيد الحياة. إنَّه يَفْعَل ويَنْفَعِل.. يتفاعل ويتبادل التأثير مع غيره. إننا نراه، بالتالي، ينمو ويتطوَّر؛ ولكن هل في مقدوره أن يبقى على قيد الحياة، وأن ينمو ويتطوَّر، من غير أن يُنمِّي، في الوقت نفسه، كل ما يمكن ويجب أن يؤدي إلى موته وزواله؟!
هذا الكائن الحي لا يمكنه إلا أن يتفاعل مع غيره (مع بيئته بكل ما فيها) بما يبقيه على قيد الحياة، ويجعله ينمو ويتطوَّر؛ ولكنه، وهنا تكمن مصيبته، لا يستطيع أبدا أن يتفاعل إلا بما يؤدي، في الوقت نفسه، إلى إعداد وتهيئة كل الأسباب والعوامل المؤدية، حتما، إلى موته وزواله. إنَّه لا يحصل، وليس في مقدوره أن يحصل، على سبب البقاء والنمو والتطوُّر من غير أن يحصل، في الوقت نفسه، على سبب الزوال، فهذا وذاك (أي سبب الزوال وسبب البقاء) إنَّما هما شيء واحد لا يتجزأ.
اقْذِف حجرا في الهواء، فترى أنَّ الحجر ارتفع، ثمَّ توقَّف، ثم شرع يسقط. هذا الحجر لن يظل معلَّقاً في الهواء. لن يظل متوقِّفا حيث توقَّف إلى الأبد. قد تسأل عن السبب الذي أدى إلى ارتفاع الحجر. والجواب هو الآتي: لقد زوَّدتَ الحجر "طاقة حركية"، تمكَّن بها من التغلُّب على "الجاذبية"، وعلى غيرها من العوامل التي تُعَرْقِل وتُقاوِم ارتفاعه، فارتفع، وظل يرتفع حتى استنفد قدرته على الارتفاع.
ولكن، لِتَسْأل الآن عن سبب سقوطه. لو سألْتَ لما وَجَدتَ من سبب للسقوط غير الارتفاع ذاته، فارتفاع الحجر هو "المكان" و"الزمان" اللذين فيهما تهيأت أسباب وعوامل سقوطه.
الحجر هذا ما كان في مقدوره أن يرتفع، وأن يزداد ارتفاعا، من غير أن يُنْتِج، في الوقت نفسه، و"رغما عن أنفه"، أسباب وعوامل سقوطه.
أين، ومتى، تهيأت أسباب السقوط؟ لقد تهيأت "في سياق الارتفاع"، وفي "أثناء الارتفاع"، و"بالارتفاع"، وكأنَّ هذا الحجر لا يمكنه أن يرتفع من غير أن يُنْتِج، حتما، أسباب سقوطه.
لا تَعْتَرِض قائلا: لو زوَّدتُ الحجر مقدارا من "الطاقة الحركية" يكفي لِتَغَلُّبه على الجاذبية الأرضية لما سقط الحجر، ولظلَّ يرتفع حتى الفضاء الخارجي. لا تَعْتَرِض؛ لأنَّ لهذه الحال من ارتفاع الحجر نقيضا مختلفا لا بدَّ لها من التحوُّل إليه.
خُذْ شمعة مشتعلة، وضعها في إناء زجاجي مُحْكَم الإغلاق. ماذا ترى؟ ترى أنَّ الشمعة تظل مشتعلة؛ ولكن إلى حين. لقد انطفأت أخيرا، فما السبب؟ السبب هو أنَّ الشمعة لا يمكنها أن تشتعل، وأن تظل مشتعلة، من غير أن يؤدِّي اشتعالها إلى إنتاج أسباب وعوامل زواله، أي تحوُّله إلى نقيضه، أي انطفاء الشمعة. في داخل هذا الإناء الزجاجي المُحْكم الإغلاق كان "أوكسجين". الشمعة المشتعلة تحتاج إلى "الأوكسجين" حتى تظل مشتعلة. ولكنها، أي الشمعة المشتعلة، لا تملك أبدا خيار أن تأخذ "الأوكسجين" من غير أن تُنْتِج، في الوقت نفسه، العدو اللدود لاشتعالها وهو "ثاني أوكسيد الكربون". وكلَّما اشتعلت، وطال اشتعالها، أنتجت مزيدا من غاز ثاني أوكسيد الكربون. وتظل تُنْتِجه حتى يتسبب، أخيرا، في انطفائها. "اشتعالها" لا يمكن أن يبدأ، وأن يستمر، إذا لم يكن "الانطفاء" عاقبته النهائية الحتمية. قد تنطفئ بعد دقيقة واحدة من وضعها في ذلك الإناء إذا ما كان صغير الحجم، أي إذا ما كان مخزونه من الأوكسجين قليلا. وقد تنطفئ بعد 10 دقائق إذا ما كان الإناء كبير الحجم، ومخزونه من الأوكسجين، بالتالي، كبيرا. هذا "العامل البيئي الخارجي"، أي هذا الإناء لجهة حجمه، إنَّما "يسرِّع" أو "يبطِّئ" تحوُّل الشيء إلى نقيضه.. تحوُّل "اشتعال" الشمعة إلى "انطفاء". قد تعترض قائلا: سأضع الشمعة المشتعلة في إناء زجاجي مُحْكَم الإغلاق، على أن يكون هذا الإناء في حجم غرفة مثلا. في هذه الحال، ستنطفئ الشمعة، أخيرا، ولكن لن يكون غاز ثاني أوكسيد الكربون هو السبب في انطفائها؛ لأنَّ مقداره كان أقل كثيرا مما يحتاج إليه الانطفاء. وهذا الاعتراض إنَّما يؤكِّد أنَّ الشيء فيه من القوة الذاتية ما يجعل تحوُّله إلى نقيضه أمرا حتميا مهما كانت "العوامل البيئية الخارجية". في اعتراضِكَ هذا، لن نرى إلا ما يؤكِّد أنَّ "اشتعال" الشمعة لا بد له من أن يُنْتِج الأسباب والعوامل المؤدِّية إلى تحوله إلى نقيضه، وهو "الانطفاء". لماذا انطفأت هذه الشمعة؟ هذا سؤال فيزيائي، يمكن أن تجيب عنه الفيزياء، فثمة أسباب فيزيائية طبيعية أدَّت إلى انطفائها. أمَّا الفلسفة فتُخْبِركَ، من خلال الدياليكتيك، أنَّ "اشتعال" الشمعة هو الذي أنتج أسباب وعوامل انطفائها، فالشمعة ما كان لها أن تشتعل، وأن تستمر في الاشتعال (إلى حين) من غير أن تُنْتِج، في الوقت نفسه، أسباب وعوامل انطفائها.
لا تغيير (مهما كان صغيرا أو بطيئا) بلا "مقاومة"، فكل تغيير، قبل أن يَظْهَر، وحتى يَظْهَر، لا بدَّ له من أن يلقى "مقاومة"، ثمَّ لا بدَّ له من أن يتغلَّب عليها. إنَّ "المقاومة"، أو "الممانعة"، هي قانون كوني مُطْلَق.
لا تغيير، ولا تطوُّر، لا يصطدم بـ "مقاومة"، ولا تغيير، ولا تطوُّر، إذا لم تتغلَّب قواه على تلك "المقاومة"، فـ "المقاومة"، "وجوداً" ثمَّ "نفياً"، هي شرط التغيير والتطوُّر.
و"المقاومة" التي يبديها الشيء (كل شيء) قبل أن يتغيَّر، ومن أجل أن يتغيَّر، إنَّما تشبه "غريزة حب البقاء" في الكائنات الحيَّة، فالشيء ينطوي، دائما، على قوى "تحارِب" في سبيل الدفاع عن وجوده، والحفاظ على هويته، ودرء المخاطر عنه. كل شيء يميل إلى البقاء على ما هو عليه، مقاوِماً، بالتالي، كل قوة تسعى في تغيير هويته.
وليس "الزمن" الذي يستغرقه "التغيير" سوى الجهد المبذول لجعل الشيء يستنفد مقاومته الحتمية، فهو (أي الزمن) يطول أو يقصر بحسب شدَّة المقاومة، ومقدار ما يُبْذَل من جهد للتغلُّب عليها.
لو أردتَ تحريك شيء من مكانه فلن تتمكَّن من إحداث هذا التغيير قبل التغلُّب على مقاومة حتمية يبديها هذا الشيء. هذا الشيء قاوِم جهدكَ لتحريكه، ثمَّ تغلَّبتَ أنتَ على مقاومته، فتحرَّك، أي حدث التغيير.
قد تُفسِّر مقاومته على أنها نتيجة "الاحتكاك" بين سطحه وسطح الأرض. وقد تظن أنَّ المقاومة تلك لن تظهر أبدا لو كان هذا الشيء في الفضاء الخارجي. إنَّ ظنَّكَ ليس في محله، فالجسم، أي جسم، ولو كان في الفضاء الخارجي، سيُبدي مقاومة لتحريكه.
أُنْظُر إلى "النوم" و"الاستيقاظ". إنَّكَ قبل أن تنام، وحتى تنام، لا بدَّ لـ "قوة" في داخلكَ من أن تقاوِم النوم، ولا بدَّ لكَ، في الوقت نفسه، من أن تتغلَّب بـ "قوة أُخرى" في داخلكَ على تلك المقاومة.
النوم يُقاوَم، ثمَّ تُغْلَب المقاومة له، فيحدث "التغيير"، أي النوم. وبَعْد النوم، لن تتمكَّن من "الاستيقاظ" إلا بفضل تغلُّبكَ على "قوة" في داخلكَ تُقاوِم "الاستيقاظ".
والحجر الذي قذفته في الهواء لن يرتفع إلا بَعْدَ تغلُّبه على "قوة" في داخله (تسندها قوى في خارجه) تُقاوِم الارتفاع. وينبغي له في كل ارتفاع أن يفعل الشيء ذاته. وهو لن يسقط (بَعْد ارتفاع) إلا إذا تغلَّب على "قوة" تُقاوِم سقوطه. كل تغيير إنَّما تصنعه "قوة". إنَّها "قوة" تتغلَّب على "مقاومة" حتمية لـ "التغيير".
لقد ثَبُت، فيزيائياً، أنَّ "الجسيم الذي له كتلة" لا يتحرَّكَ قبل أن يقاوِم تحريكه، وقبل أن تُغْلَب وتُقهَر مقاومته تلك. وثَبُتَ أنَّ هذا الجسيم كلَّما حرَّكْتَهُ اشتدت صعوبة تحريكه. إنَّكَ لا تستطيع أن تحرِّكهُ، في استمرار، المسافة ذاتها، من غير أن تُضاعِف الجهد الذي تَبْذُل من أجل تحريكه؛ لأنَّ مقاومته للتحريك تتضاعف.
وهذا إنَّما يعني أنَّ "المقاومة الجديدة" يجب أن تكون أشد وأعنف من "المقاومة القديمة"، فأنتَ لا تتغلَّب على مقاومة إلا لتصطدم بمقاومة أشد وأعنف، فهَزْم المقاومة، أي التغلُّب عليها، لا يعني أبدا أنَّها قد زالت زوالا مُطْلَقاً، فكلَّما نُفِيَت ظَهَرَت.. وظَهَرَت أقوى من ذي قبل، ولا بد، بالتالي، من "قوة" أشد من ذي قبل للتغلُّب عليها.
"المقاومة" بتغلُّبكَ عليها إنَّما "تُرْفَع"، أي تُحْمَل وتُنْقَل. إنَّها لا تتلاشى في طور إلا لتظهر أشد قوة وبأسا في الطور الذي يليه.
"النجم"، في حياته وتطوُّره، يتمدَّد، أي يكبر حجمه؛ ولكنه كلَّما تمدَّد اشتدت صعوبة تمدُّده. وعندما يشرع يتقلَّص نرى الظاهرة ذاتها، فكلَّما تقلَّص اشتدت صعوبة تقلُّصه.
كل شيء إنَّما هو "نتيجة"، فليس من شيء يمكن أن ينشأ ويُوْجَد من غير "سبب"؛ ولكن كل شيء هو، في الوقت ذاته، "سبب"، فما معنى أن ننظر إلى الشيء، وأن نفهمه، على أنَّه "سبب"؟ الشيء في تفاعله مع غيره، في فعله وانفعاله، "يتسبب" بـ "تغييرات" كثيرة، وبنشوء أشياء وظواهر كثيرة، أي أنَّه، في وجوده وتطوُّره، يمكن ويجب أن يكون "قوة مُنْتِجة". إنَّكَ تقول إنَّ الشيء A قد أدَّى إلى.. وإلى.. وإلى..
ولكن، هل من قانون يكمن في كل ما يُنْتِجه الشيء.. في كل ما يؤدِّي إليه من تغيير؟ أجل، ثمَّة قانون. وهذا القانون الكوني المُطْلق هو: الشيء لا يؤدِّي إلا إلى ما يلغيه.
كل ما يُنْتِجه الشيء، في حياته وتطوُّره، وكل ما يؤدِّي إليه، ويتسبب به، إنَّما يفضي، حتماً، إلى هلاكه، فالشيء، في تفاعله مع غيره، في فعله وانفعاله، إنَّما يحفر قبره بيديه.
خُذْ سلكا من النحاس، وقُمْ بتسخينه. ماذا ترى؟ ترى أنَّ السلك قد تمدَّد. إنَّكَ، في وصفكَ الفيزيائي لِمَا حَدَثَ، تقول إنَّ "الحرارة"، في السلك، هي التي أنْتَجَت "التمدُّد"، أو تسببت به، أو أدَّت إليه.
ولكن هذا "التمدُّد" الذي حَدَثَ ليس بـ "الصديق"، أو "الحليف" لـ "سببه"، وهو "الحرارة"، فهذا "التمدُّد" ألغى ونفى "الحرارة"، فـ "الحرارة"، بتسببها بـ "التمدُّد"، ألغَت ونَفَت ذاتها، أي حفرت قبرها بيديها. "الحرارة (في السلك) أفضت إلى "تمدُّد"، أفضى إلى "فَقْد حراري".
قُمْ بـ "تسريع" جسيم (له كتلة) لترى الآتي: "السرعة" أدَّت إلى "زيادة كتلة" هذا الجسيم. "السرعة" هي "السبب"، و"زيادة الكتلة" هي "النتيجة". ولكن، "زيادة الكتلة" تلغي وتنفي "سببها"، وهو "السرعة"، فهي، أي "زيادة الكتلة"، تُنْتِج "البطء". لقد أدَّت "السرعة" إلى ما يلغيها وينفيها وهو "زيادة الكتلة".
"لماذا لا نرى الأشياء في الظلام؟". هذا "السؤال" ظل بلا جواب (محقَّق) زمنا طويلا، فما الذي أدَّى إليه هذا "السؤال"؟ أدَّى إلى أشياء كثيرة، كالبحث والاستقصاء والتجربة والجدل. لقد أدَّى، أخيرا، إلى ما يلغيه وينفيه، أي إلى ما ينهي الحاجة إليه. أدَّى إلى "الجواب العلمي المحقَّق".
الحجر الذي قذفته في الهواء أدَّى، وهو في حال الارتفاع، إلى أشياء كثيرة؛ ولكن كل هذا الذي أدَّى إليه، وأنْتَجه، وتسبب به، إنَّما ألغى، أخيرا، ونفى "حال الارتفاع"، أي حوَّلها إلى نقيضها وهو "حال السقوط".
فيزيائياً، نُفسِّر "ارتفاع الحجر" على أنَّه نتيجة "طاقة حركية" نَقَلْتُها إليه (من جسمي) عَبْر يدي، ونقول بالتالي: إنَّ "سبب" ارتفاع الحجر هو "وجود طاقة حركية فيه".
هذا القول الفيزيائي يحتاج إلى "تعميق فلسفي"، فالحجر لن يرتفع أبدا في حالٍ من حالين: في حال "احتفاظه" بـ "الطاقة الحركية"، التي أدْخَلْناها فيه، وفي حال "فَقْدِهِ" تلك الطاقة.
إنَّ الشرط الدياليكتيكي لـ "ارتفاع الحجر" هو "وجود" فـ "نفي" الطاقة الحركية. قبل أن يرتفع، وحتى يرتفع، ينبغي له، أولا، "امتلاك" الطاقة الحركية، وينبغي له، من ثمَّ، "فَقْدها"، فلو ظلَّ الحجر محتفظا بطاقته الحركية احتفاظا مُطْلَقاً لاستحال ارتفاعه، ولو ظلَّ فاقداً لها فَقْدا مُطْلَقاً لاستحال، أيضا، ارتفاعه. شرط الارتفاع أن "يملك (تلك الطاقة)" على أن يَفْقِدها.
في هذا "التعميق الفلسفي" للجواب الفيزيائي نقول إنَّ "السبب المنفي" هو سبب ارتفاع الحجر، فالحجر قبل أن يرتفع يجب أن يملك ما يكفي من "الطاقة الحركية"؛ ولكنه لن يرتفع إذا ما ظلَّ محتفظاً بها، فَمِن أجل أن يرتفع لا بدَّ له من أن يَفْقِد هذا الذي امتلك.
الحجر، بفَقْدِه لِمَا امتلك من طاقة حركية، يرتفع، ويزاد ارتفاعا؛ ولكنَّ ارتفاعه يؤدِّي، في آخر المطاف إلى ما يلغيه، أي إلى ما يحوِّله إلى سقوط. إنَّه يؤدِّي، حتما، إلى استنفاد طاقته الحركية، فيسقط.
الشيء لا يملك مَيْلاً من غير نقيضه، أي من غير مَيْلٍ مضاد. فهل من معدن، مثلا، يميل إلى "الكسب الحراري" فحسب، أو إلى "الفَقْد الحراري" فحسب؟ كلا، ليس من معدن كهذا، فكل معدن ينطوي، دائما، على هذين المَيْلين المتضادين. إنَّه يميل إلى "الكسب الحراري"؛ لأنَّه يميل، في الوقت عينه، إلى "الفَقْد الحراري"، ويميل إلى "الفَقْد الحراري"؛ لأنَّه يميل، في الوقت عينه، إلى "الكسب الحراري".
و"العامل الخارجي" إنَّما "يساعِد" في ترجيح كفة أحد الميْلين على كفة الآخر. المَيْلان مُتَّحِدان، متداخلان، ممتزجان، يستحيل وجود أحدهما من دون الآخر. وهما، في الوقت نفيه، متصارعان تصارعاً دائما، وكأنَّ كلاهما يسعى في بسط سيادته على الآخر.
لقد قُمْتَ بمساعدة صديق لكَ مساعَدة مالية. هذا العمل، أو الفعل، تمَّ وأُنْجِز. ولكنه قبل ذلك كان "مَيْلاً".. مَيْلاً إلى المساعَدة. وهذا "المَيْل" نما واشتد وقوي. إنَّه لم يَظْهَر ويتأكَّد ويسود فيكَ إلا عَبْر صراع مع "المَيْل المضاد".. المَيْل إلى الامتناع عن المساعَدة. ونحن نعبِّر عن هذا الصراع بكلمة "تَرَدُّد".
مَيْلُكَ إلى المساعَدة تغلَّب، أخيرا، على "مضاده". وثمَّة "عامل خارجي" ساعَد في الإسراع في تَغَلُّبكَ على "المَيْل المضاد"، فصديق آخر لكَ، مثلا، جاءكَ وأبلغ إليكَ أنَّ الصديق الذي تنوي مساعدته يُحبُّكَ كثيرا، وأنَّه يتخبَّط في ضائقة مالية.
أنتَ ساعدته الآن؛ لأنَّ مَيْلكَ إلى مساعدته قد تغلَّب على "مضاده"، أي على مَيْلكَ إلى الإحجام عن مساعدته. على أنَّ هذا المَيْل المضاد لم يُغْلَب إلا ليظهر أشد قوة من ذي قبل، فلو أنَّكَ أردتَ مساعدة صديقكَ ذاك مرة أُخرى فسوف تشعر أنَّ مَيْلَكَ إلى الإحجام عن مساعدته أصبح هذه المرة أقوى وأشد، فأنت كلَّما ساعدته أكثر اشتد مَيْلكَ إلى الامتناع عن مساعدته.
في عالَم السياسة، نرى أنَّ السياسة التي أفرطت في مرونتها واعتدالها هي التي تنطوي على أقوى وأشد مَيْل إلى التشدد والتطرف، ونرى أنَّ السياسة التي أفرطت في تشددها وتطرفها هي التي تنطوي على أقوى وأشد مَيْل إلى المرونة والاعتدال، فلماذا؟ لأنَّكَ لا تستطيع أن تعتدل سياسيا، وأن تمضي قُدُما في اعتدالكَ هذا، من غير أن تُنمِّي، في الوقت نفسه، مَيْلكَ إلى التطرف،؛ كما لا تستطيع أن تتطرف، وأن تمضي قُدُما في تطرفك السياسي، من غير أن تنمِّي، في الوقت نفسه، مَيْلكَ إلى الاعتدال.
إنَّ المَيْل الأقوى إلى "البرودة" نراه في الجسم الأشد سخونة، والمَيْل الأقوى إلى "السخونة" نراه في الجسم الأشد برودة. وإنَّ المَيْل الأقوى إلى "التقلُّص" نراه في الجسم الأكثر تمدُّدا، والمَيْل الأقوى إلى "التمدُّد" نراه في الجسم الأكثر تقلُّصا. وإنَّ المَيْل الأقوى إلى "التنافر" نراه في الجسم الذي بلغ "تجاذب" أجزائه منتهى الشدة، والمَيْل الأقوى إلى "التجاذب" نراه في الجسم الذي بلغ "تنافر" أجزائه منتهى الشدة.
لو أنَّ جسما في منتهى "التقلُّص" تأثَّر بـ "عامل خارجي" إيجابي بالنسبة إلى "تمدُّده"، ولو أنَّ هذا العامل الخارجي كان قليل الشأن والتأثير، فإنَّ الجسم سيشرع "يتمدَّد" بسرعة ويُسْر وسهولة؛ لأنَّ مَيْلِه إلى "التمدُّد" كان في منتهى الشدة.
إنَّكَ يكفي أن تتطرف في حبِّكَ لشخص حتى تملك أقوى مَيْل إلى كراهيته، أو أن تتطرف في كرهكَ له حتى تملكَ أقوى مَيْل إلى حُبِّه. إنَّ أقوى شعور بـ "الجهل" لا يشعر به إلا "العالِم العظيم"، وإنَّ أقوى شعور بـ "المعرفة" لا يشعر به إلا "الجاهل العظيم (في جهله)".
بالنسبة إلى أحد طرفي تناقض ما، يتألَّف العالَم كله من قوَّتين اثنتين فحسب، قوَّة تقف معه، وقوَّة تقف ضده، أي مع الطرف الآخر.
في الماء، مثلا، صراع دائم بين قوَّتين متضادتين ينطوي عليهما، هما: قوَّة تعمل لجعل جزيئاته أكثر تنافرا، وقوة تعمل لجعلها أكثر تجاذبا. وليس العالَم كله، بالنسبة إلى هذه القوَّة أو نلك، سوى قوَّتين اثنتين فحسب، قوة تقف معها، وقوَّة تقف ضدها.
الأضداد إنَّما هي "قوى" متصارعة دائما.. كلتا القوتين (في داخل الشيء) المتضادتين، المتَّحدتين، المتصارعتين دائما، تسعى في النمو وال***ُّق والسيادة. كلتاهما ليست بالقوة الخاملة، فهي تعمل دائما من أجل أن تهيئ في داخل الشيء الذي ينطوي عليها، وفي خارجه، أسباب نموِّها، ومن أجل إضعاف تأثير الأسباب المضادة، أي الأسباب التي تُضْعِف نموِّها. وفي عملها هذا وذاك، إنَّما هي تُصارِع القوة الأخرى المضادة لها.
في داخل الماء، كما قلنا، تتصارع دائما بين جزيئاته قوَّتين متضادتين هما القوة التي تدفع جزيئاته إلى التنافر، وإلى مزيد من التنافر، والقوة التي تدفعها، في الوقت نفسه، إلى التجاذب، وإلى مزيد من التجاذب.
قوة التنافر تعمل دائما، في داخل الماء، وفي خارجه، من أجل تهيئة الأسباب الإيجابية بالنسبة إلى التنافر بين جزيئات الماء، ومن أجل إضعاف الأسباب السلبية بالنسبة إلى هذا التنافر. وقوة التجاذب تعمل دائما، في داخل الماء، وفي خارجه، من أجل تهيئة الأسباب الإيجابية بالنسبة إلى التجاذب بين جزيئات الماء، ومن أجل إضعاف الأسباب السلبية بالنسبة إلى هذا التجاذب. وفي هذه الطريقة تُصارِع كلتاهما الأخرى، وتسعى في التغلُّب وال***ُّق عليها.
إذا تنافرت (أو تباعدت) جزيئات الماء أكثر فهذا إنَّما يعني أنَّ كفَّة قوة التنافر قد رجحت على كفَّة قوة التجاذب في الصراع الذي لا يتوقَّف بينهما. وإذا تجاذبت (أو تقاربت) أكثر فهذا إنَّما يعني أنَّ كفَّة قوة التجاذب قد رجحت على كفَّة قوة التنافر في هذا الصراع.
كل الأسباب والعوامل الداخلية (أي التي في داخل الماء) والخارجية (أي التي في خارجه) المؤدِّية إلى مزيد من التنافر (أو التجاذب) بين جزيئات الماء إنَّما هي "التجسيد" لـ "قوة التنافر"، أو لـ "قوة التجاذب"، في وجهيها الداخلي والخارجي.
ما معنى أنَّ هذا الشيء قد "تقلَّص"؟ معناه أنَّه كان في حال من "التمدُّد"، فالشيء الذي هو في مثل هذه الحال هو وحده الذي يمكنه أن "يتقلَّص". ومعناه أنَّ كل الأسباب والعوامل (الداخلية والخارجية) التي أدَّت إلى تقلُّصه هي "تجسيد" لـ "قوة التقلُّص" في وجهيها الداخلي والخارجي. ومعناه أنَّ الحال التي كان عليها قبل تقلُّصه، أي حال "التمدُّد"، هي التي هيَّأت له أسباب وعوامل تقلُّصه، فكلا الضدين يُنْتِج ويهيئ للآخر أسباب نشوئه وتطوُّره. وليس من تناقض في المنطق أن نقول إنَّ "التقلُّص" الذي تحقَّق قد حقَّقته القوى (الداخلية والخارجية) الإيجابية بالنسبة إلى "التقلُّص"، بالتعاون مع نقيضه، وهو حال "التمدُّد" التي كان عليها الشيء قبل تقلُّصه، فهذه الحال هي التي فيها، وبها، تهيَّأت أسباب وعوامل "التقلُّص".
ينبغي لنا أن نفهم نمو وتطور أحد طرفي التناقض على أنَّهما الحال التي فيها، وبها، تَنْضُج وتتهيَّأ أسباب الحياة للآخر.
الشيء الذي تقلَّص، ولو تقلُّصا في منتهى الضآلة، إنَّما هو الشيء الذي غُلِبَت (في داخله وفي خارجه) قوة، أو قوى، كانت تعمل في اتِّجاه دفعه إلى التمدُّد، وإلى مزيد من التمدُّد؛ والشيء الذي تمدَّد إنَّما هو الشيء الذي غُلِبَت (في داخله وفي خارجه) قوة، أو قوى، كانت تعمل في اتِّجاه دفعه إلى التقلُّص، وإلى مزيد من التقلُّص.
الدياليكتيك إنَّما هو البحث في "كيفية" إنتاج الشيء لنقيضه.. "كيف" تُنْتِج "الحياة" نقيضها وهو "الموت"، و"كيف" يُنْتِج "التمدُّد" نقيضه وهو "التقلُّص" .. إلخ.
أُنْظُروا إلى "هذه" البضاعة في "هذه" السوق. إنَّ سعرها ارتفع، ويزداد ارتفاعا. هذا هو "الغلاء"؛ أمَّا نقيضه فهو "الرخص". عندما ترى سعرها يرتفع، ويزداد ارتفاعا، قد تَظُن، أي تتوهم، أن لا نهاية لهذا المسار الصاعد لسعرها، كما ظَنَّ، أي توهم، فيزيائيون أن لا نهاية لهذا المسار الصاعد لـ "تمدُّد" كوننا. لقد رأوه يتمدَّد، ويزداد تمدُّدا، فتوهموا أنَّه سيظل يتمدَّد إلى الأبد.
تلك البضاعة التي يزداد سعرها ارتفاعا إنَّما هي جزء لا يتجزأ من بيئة (اقتصادية) تساعِد في تسريع وزيادة هذا الغلاء. ولكن "هذا" الغلاء ليس بالمسار الصاعِد إلى ما لا نهاية، أو إلى الأبد، فلا بد له، أي لهذا الغلاء، من أن يتحوَّل، في آخر المطاف، إلى نقيضه وهو "الرخص". ما الذي جعله يتحوَّل إلى "رخص"؟ إنَّه هو ذاته الذي أنْتَج أسباب وعوامل تحوُّله إلى "رخص"، فهذه البضاعة ليس في مقدورها أن تغلو، وأن تزداد غلوا، من غير أن تُنْتِج، في الوقت نفسه، أسباب وعوامل "رخصها". في غلائها، وبغلائها، إنَّما تتفاعل تلك البضاعة مع بيئتها، مُنْتِجةً (من خلال هذا التفاعل أو التأثير المتبادل) كل ما يؤدِّي إلى رخصها في آخر المطاف. غلاؤها إنَّما يؤدِّي، حتما، إلى التوسُّع في إنتاجها، وفي زيادة وجودها في السوق. وهذا سيؤدِّي، حتما، في آخر المطاف، إلى انتقال سعرها من مساره الصاعد إلى مسار هابط، فارتفاع سعرها ما أن يبلغ حدَّه الأقصى (الممكن واقعيا في ظرفيه الزماني والمكاني) حتى يشرع ينخفض. وهو لا يشرع ينخفض إلا وهو منطويا على "طاقة (انخفاض) كبيرة"، فإذا استنفدها، أي إذا بلغ رخص تلك البضاعة حدَّه الأقصى، شرع "الرخص" يتحوَّل إلى "غلاء". وهذا الرخص، في مساره الصاعد، أي في نموِّه، إنَّما أنتج الأسباب والعوامل المؤدِّية، حتما، في آخر المطاف، إلى تحوُّله إلى غلاء. لقد أدَّى إلى خفض إنتاجها، وتقليل وجودها في السوق، فارتفاع سعرها.
في التطوُّر، نرى دائما "مسارات كمِّيَّة"، بعضها "صاعد"، وبعضها "هابط". و"المسار الكمِّي"، في تطوُّر الشيء، إنَّما هو مسار نُعَبِّر عنه، أو يمكننا التعبير عنه، بـ "لغة الأرقام"، فوَصْف تطوُّر الشيء يمكن ويجب أن يكون، في آن، "وصفا كمِّيَّا"، و"وصفا كَيْفيَّا (أو نوعيا)". و"الوصف الكمِّي" إنَّما هو وصف الشيء في "نموِّه"، الذي في سياقه تتهيأ أسباب تحوُّل الشيء إلى نقيضه.
"المسار الكمِّي"، في صعوده أو في هبوطه، ليس بالمسار الذي لا نهاية له، فلكل مسارٍ نهايته التي هي ثمرة تفاعل الشيء مع بيئته، فما الموقف الفكري الذي يمكننا وينبغي لنا أن نقفه من كل "مسار كمِّي"؟ لا بد لنا، أولا، من نبذ "خرافة" أنَّ هذا المسار يمكن أن يكون "غير منتهٍ"، أي لا نهاية له. وينبغي لنا، من ثمَّ، أن نفهم "المسار الكمِّي" على أنَّه "الشيء في نموِّه"، وأن نفهم هذا النمو على أنَّه السياق الذي فيه تُنْتَج، حتما، أسباب وعوامل تحوَّل الشيء إلى نقيضه.
لو أخذنا بهذه المنهجية، التي ليس من منهجية ***قها علمية، لما قلنا بـ "تمدُّد أبدي" للكون، ولما تساءلنا في دهشة عن "الشيء" الذي كان قبل "البيضة الكونية"، وجاءت منه هذه "البيضة"، فـ "البيضة الكونية" إنَّما هي ما تحوَّل إليه "شيء" مضاد لها في الصفات والخواص الجوهرية. شيء كان في منتهى "الكِبَر" و"التمدُّد"، وفي منتهى الـ "لا كثافة"، وفي منتهى الـ "لا جاذبية"، وفي منتهى "البرودة"، .. إلخ.
ولو أخذنا بها لما تحدَّثنا عن قوة كونية تشدُّ كل جزء من الكون إلى سائر الأجزاء، ضاربين صفحا، في الوقت عينه، عن "نقيض" تلك القوة، الملازم لها دائما، فـ "الجاذبية الكونية" إنَّما هي قوة لا يمكنها أن تؤكِّد وجودها، وأن تُظْهِر تأثيرها، من غير صراع تخوضه دائما مع القوة الكونية المضادة لها، أي القوة التي تشدُّ كل جزء من الكون بعيدا عن سائر الأجزاء. لا يمكنها أن تؤكِّد وجودها، وأن تُظْهِر تأثيرها، من غير إحرازها الغلبة على تلك القوة.
لو أخذنا بها لقلنا إنَّ القوة التي دفعت الكون إلى التمدُّد، وتدفعه إلى مزيد من التمدُّد، لا يمكنها أن تفعل ذلك من غير أن تُنْتِج، وتنمِّي، في الوقت نفسه، القوة التي ستدفع الكون، حتما، وفي آخر المطاف، إلى التقلُّص، وإلى مزيد من التقلُّص.
بقي أن نقول إنَّ فَهْم الشيء فَهْماً علمياً يستلزم، أوَّلا، أن ننظر إليه، وأن نفهمه، على أنَّه "تاريخ"، أي على أنَّه شيء مختلِفٌ في ماضيه ومستقبله عمَّا هو عليه في حاضره. أُنْظُر إلى هذه الثمرة من ثمار هذه الشجرة. إذا نظرتَ إليها، ضاربا صفحا عن "التاريخ"، فقد تفهمها على أنَّها شيء كان في ماضيه مثلما هو في حاضره، ولن يكون في مستقبله إلا مثلما هو في حاضره.
هذه الثمرة التي تراها لم تصبح على ما هي عليه الآن إلا بَعْد، وبسبب، اجتيازها مراحل من التطوُّر. أُنْظُر إلى ماضيها. أُنْظُر إلى الموضع (في الغصن) الذي جاءت منه. أُنْظُر إلى هذا الموضع كيف كان قبل أن تَخْرُج منه الثمرة في الهيئة التي هي عليها الآن. أُنْظُر إلى ما خَرَجَ من هذا الموضع بدايةً، وإلى المراحل التي اجتازها في تطوُّره قبل، ومن أجل، أن يصبح الثمرة التي تراها الآن. وانْظُر إلى الحال التي ستصبح عليها هذه الثمرة مستقبلا.
يكفي أن تَنْظُر إلى الشيء في مجراه الزمني، أي في ماضيه وحاضره ومستقبله، حتى تكفي نفسكَ شرَّ الأسئلة والتساؤلات الميتافيزيقية. إنَّ الأشياء لا تُخْلَق خَلْقاً.. لا تُخْلَق بحسب طريقة الخَلْق التوراتية. لا تسأل عن خَلْق الشمس والقمر والأرض والنجوم والحيوان والنبات والبشر..
إنَّ الشمس التي تراها الآن (وتسأل بالتالي عن خَلْقها) ليست الشمس التي كانت قبل خمسة مليارات سنة، مثلا. والشمس التي تراها الآن إنَّما كانت في ماضيها "سحابة من غاز الهيدروجين". والشمس التي تراها لن تظل على ما هي عليه مستقبلا، فهذا النجم سينطفئ حتما، ولن يظل في الحجم الذي هو عليه الآن، ولا في الخواص والصفات التي يملكها الآن.