تحية طيبة .. 8-)
نحاول فى هذا الشريط التعامل مع قضية علمية فى منتهى الأهمية ألا وهى النسبية ..تكمن أهميتها فى مزيد
من الفهم الواعى للمادة وقوانينها , وهل هى فى حاجة إلى قوى ميتافزيقية لتفسير وجودها وحركتها .
قد يتصور البعض أن النسبية من الصعوبة بمكان لفهمها كما كنت أظن ...ولكن الإبحار مع الكاتب جواد البشيتى يجعل لنظرية النسبية مذاق خاص .
الجواب العلمي" لا تقوم له قائمة إذا لم يتضمَّن عبارة "بالنسبة إلى.."، فهذه العبارة هي في منزلة "الروح" بالنسبة إلى "الحقيقة العلمية". إنَّ مفاهيم مِثْل "الزمن" و"المكان (أو "الفراغ") و"الكتلة" تحتاج إلى تلك العبارة حتى تتمكَّن مِنْ أنْ تَضْرِبَ جذورها عميقاً في أرضية العِلْم، فـ "النسبية" هي "العِلْم"، على أنْ يُفْهَم "النسبي" و"المُطْلَق" فَهْماً دياليكتيكياً، وعلى أنْ تقوم "النسبية" على "الموضوعية"، وتَنْبُذ "الذاتيَّة"، فلـ "النسبية" مقاييسها ومعاييرها "الموضوعية" التي تنأى بها عن "الذاتية"، أو عن "المثالية الذاتية"، التي تَفْهَم الأشياء والظواهر في الطبيعة على أنَّها مُنْتَج لـ "الحسِّ الإنساني (الفردي)". "النسبية العِلْميَّة" إنَّما هي جزء لا يتجزأ مِنْ عالَم "الحقائق الموضوعية"، الذي لا مكان فيه إلا لـ "المقاييس الموضوعية الصرف".
كم الساعة الآن؟ إنَّها العاشرة صباحاً. هذا الجواب لم تكتمل عِلْميَّته بَعْد، فاكتمالها يستلزم أنْ نقول إنَّها العاشرة صباحاً "بالنسبة إلى" هذا المكان مِنَ الكرة الأرضية، فـ "جواب الزمان" يكتمل، علمياً، بـ "المكان".
أين يقع هذا الجسم في الفضاء؟ إنَّكَ لن تستطيع الإجابة إلا بحسب "النسبية"، فموضع هذا الجسم إنَّما هو موضعه "بالنسبة إلى " أجسام أُخرى (في الفضاء). أمَّا "انتقال" هذا الجسم في الفضاء فيعني تغييره لموضعه "بالنسبة إلى" أجسام أُخرى.
إرمِ حجراً مِنْ طائرة وهي تطير. بالنسبة إليكَ، يسقط الحجر في "خطٍّ مستقيم". أمَّا بالنسبة إلى "المُشاهِد"، أو "المُراقِبَ"، على سطح الأرض فالحجر يسقط في "خطٍّ منحنٍ"، فبحسب "مَوْضِع (محل، مكان) المُراقَبة"، نرى "الاستقامة"، أو "الانحناء"، في خطِّ سقوط الحجر. إنَّها لـ "حقيقة موضوعية خالصة" هي تلك التي تُرى في كلا "المَشْهدين"، فهل تنتفي "الحقيقة الموضوعية" إذا ما قُلْتُ، مثلاً، إنَّ هذا الجسم "بارد" مقارنةً بذاك، و"حارٌ" مقارنةً بذلك؟!
في الكون، ليس مِنْ جسم كبير أو صغير، سريع أو بطيء، فـ "الصفة المطلقة" لا وجود لها في أي جسم. إنَّ كل "صفة" مِنْ صفات الجسم (أي جسم أو جسيم) يجب أنْ تكون "نسبية"، فهذا الجسم ليس بـ "كبير"، وإنَّما "أكبر مِنْ ذاك"، وليس بـ "صغير"، وإنَّما "أصغر مِنْ ذاك"، وليس بـ "سريع"، وإنَّما "أسرع مِنْ ذاك"، وليس بـ "بطيء"، وإنَّما "أبطأ مِنْ ذاك". هذه التفَّاحة (حبَّة التفاح) كبيرة بالنسبة إلى حبَّة الفول، ولكنَّها صغيرة بالنسبة إلى البطيخة.
في السكون والحركة
ما معنى أنَّ هذا الجسم ينتقل في الفراغ، أو الفضاء؟ معناه أنَّ هذا الجسم قد غيَّر موضعه "بالنسبة إلى" أجسام أُخرى.
إذا راقَبْنا حركة جسم مِنْ "مواضِع مُراقَبَة" يتحرَّك بعضها بالنسبة إلى بعض فإنَّ حركة هذا الجسم ستبدو بأشكال مختلفة.
لو رَمَيْنا حجراً مِنْ طائرة وهي تطير لرأى راكِب الطائرة أنَّ الحجر يسقط في خطٍّ مستقيم. أمَّا بالنسبة إلى مُشاهِدٍ على سطح الأرض فالحجر يسقط في خطٍّ منحنٍ. كيف يتحرَّك هذا الحجر "في الحقيقة"؟ ليس لهذا السؤال مِنْ معنى، فحركة الحجر "نسبية".
أُنْظُر إلى كرة في حالة سكون على سطح طاولة. هذه الكرة ساكنة "بالنسبة إلى" سطح الطاولة، التي هي ساكنة "بالنسبة إلى" سطح الأرض، التي هي في حركة دائمة حَوْل محورها، وحَوْلَ الشمس، التي هي في حركة دائمة حَوْل محورها، والتي هي في حركة دائمة، مع كواكبها، حول مركز مجرَّتنا ("درب التبانة").
هذه الكرة ليس في مقدورها أنْ تتحرَّك على سطح الطاولة (أي بالنسبة إلى سطح الطاولة) مِنْ تلقاء نفسها، فلا بدَّ لي مِنْ أنْ أدفعها بيدي (ويدي هي "قوَّة خارجية") حتى تتحرَّك. عجز هذه الكرة عن التحرُّك على سطح الطاولة هو ما يسمَّى "القصور الذاتي" Inertia للكرة.
الآن، تحرَّكت، ولكن بَعْدَ مرور بعض الوقت تتوقَّف (بَعْدَ أنْ تتباطأ سرعتها) تماماً عن الحركة.
إذا أرَدْتُ جَعْلها تُعاوِد الحركة، أو منعها مِنَ التوقُّف، فلا بدَّ مِنْ أنْ أدْفعها ثانية، أو أستمر في دفعها، بيدي.
ولأنَّني أجهل وجود "قوَّة الاحتكاك" بين سطحي الطاولة والكرة، والتي أبطأت سرعة الكرة حتى أوْقَفَتْها تماماً عن الحركة، أقول مُسْتَنْتِجاً: "الكرة لن تتحرَّك، ولن تستمر في الحركة، إذا لم تخضع لتأثير "قوَّة خارجية"، تَنْقلها مِنْ حالة السكون إلى حالة الحركة، وتُبقيها في حركة دائمة.
وقياساً على ذلك قالوا بضرورة وجود "قوَّة خارجية" تَعْمَل، في استمرار، على بقاء الكواكب في حركة دائمة حَوْلَ الشمس.
يدي، بدفعها الكرة الساكنة، هي "القوَّة الخارجية" التي جَعَلَت الكرة تتحرَّك. ولو تَحَرَّيْتُ الدِّقة العلمية لَقُلْت إنَّ يدي هي "القوَّة الخارجية" التي تَغَلَّبت على "قوَّة الاحتكاك"، التي تَمْنَع، أو تُبطىء، حركة الكرة.
"القوى (الخارجية)" هي كل ما يؤثِّر في حركة الأجسام. هي ما يُحرِّكُ جسماً ساكناً. هي ما يزيد أو يقلِّل سرعة الجسم المتحرِّك. هي ما يَجْعَل الجسم المتحرِّك يُغيِّر اتِّجاه حركته، فيَخْرُج عن "الخطِّ المستقيم" في حركته إلى "خطِّ غير مستقيم".
الكرة كانت ساكنة على سطح الطاولة. ولأنَّها كانت ساكنة اسْتُنْتِجَ أنَّها بمنأى عن تأثير "قوَّة خارجية"، فالجسم الساكن إنَّما هو الجسم الذي لا تؤثِّر فيه "قوَّة خارجية".
الغرفة (في منزل) إنَّما هي "موضع مراقَبة" ساكن (بالنسبة إلى سطح الأرض). لو رَمَيْتُ حجراً في داخل الغرفة فسوف يتحرَّك في شكل معيَّن. لو نَقَلْتُ هذه الغرفة إلى الفضاء الخارجي، وجَعَلْتُها تسير بسرعة ثابتة منتظمَة في خطٍّ مستقيم، ثمَّ رَمَيْتُ الحجر الرمية ذاتها، لَرَأيْتُ الحجر يتحرَّك في شكل الحركة ذاتها، أي في شكل حركته في الغرفة (الساكنة) على سطح الأرض.
هذا يعني أنْ ليس مِنْ اختلاف في حركة الأجسام بين "الغرفتين"، فـ "حالة السكون" نراها، أيضاً، في الجسم الذي "يسير بسرعة ثابتة منتظَمة في خطِّ مستقيم".
أمَّا لو غَيَّرْنا سرعة الغرفة التي تسير في الفضاء، زيادةً أو نقصاناً، أو اتِّجاه حركتها، لاختلفت حركة الأجسام في داخلها.
الأجسام في قطارٍ يتحرَّك بسرعة منتظَمة (ثابتة) وفي خطِّ مستقيم لا تختلف، في سلوكها وتأثُّرِها، عن الأجسام في قطارٍ ساكن. الاختلاف يَظْهَر ما أنْ يُبْطئ، أو يُسْرِع، القطار في حركته، وما أنْ يُغيِّر اتِّجاه حركته، كأنْ ينعطف إلى اليمين أو اليسار. إذا أبطأ يندفع الراكب إلى الأمام، وإذا أسْرَعَ يندفع الراكب إلى الخَلْف. إذا انعطف إلى اليمين يُشَدُّ الراكب إلى اليسار، وإذا انعطف إلى اليسار يُشَدُّ الراكب إلى اليمين. لقد خَضَعَ الراكب لتأثير "قوى" شَدَّتْهُ إلى الأمام، وإلى الخَلْف، وإلى اليسار، وإلى اليمين.
إذا اختلفت خواص الحركة المُراقَبَة مِنْ "موضع مُراقَبة ما" عن خواصها المُراقَبَة مِنْ "موضع مُراقَبة ساكن" فهذا يعني، ويجب أنْ يعني، أنْ موضع المُراقَبة الآخر يتحرَّك.
وينبغي لنا أنْ نتذكَّر أنَّ "موضع المراقَبة الساكن" قد يكون جسماً يتحرَّك، ولكن بسرعة ثابتة منتظَمة، وفي خطِّ مستقيم.
موضع المراقَبة هذا قد يختلف عن ذاك في السرعة. ولكن يكفي أنَّ كلاهما ثابت ومُنْتَظَم في سرعته (المختلفة عن الآخر) وأنَّ كلاهما يسير في "خطٍّ مستقيم" حتى نعتبره موضع مُراقَبة ساكناً.
وبحسب مبدأ، أو قانون "نسبية الحركة"، تَخْضَع حركة الأجسام، في "مواضع المُراقَبة" التي يتحرَّك بعضها بالنسبة إلى بعض بسرعة ثابتة منتظَمة وفي خطٍّ مستقيم، لقوانين واحدة.
في مثال "الكرة الساكنة على سطح طاولة"، رأيْنا أنَّ هذه الكرة تظل في حالة سكون ما ظلَّت غير متأثِّرة بـ "قوَّة خارجية". وفي مثال "الجسم الذي يتحرَّك في الفضاء، أو الفراغ، بسرعة ثابتة منتظَمة وفي خطٍّ مستقيم"، رأيْنا أنَّه يظل في هذه الحال مِنَ الحركة (مقداراً واتِّجاهاً) ما ظلَّ غير متأثِّر بـ "قوَّة خارجية". إنَّنا في كلا المثالين نرى فِعْلَ وتأثير قانون "القصور الذاتي".
لو دَفَعْنا الكرة في الفضاء لظلَّت تسير إلى الأبد بالسرعة ذاتها وفي خطِّ مستقيم، فبفضل "قصورها الذاتي" لا تحتاج إلى "قوَّة خارجية" تبقيها في هذه الحال مِنَ الحركة، مقداراً واتِّجاهاً.
ولو أنَّ الاحتكاك (وهو "قوَّة" تؤثِّر في حركة الكرة) بين سطحي الطاولة والكرة قد انعدم لظلَّت الكرة تسير، إلى الأبد، على سطح الطاولة بالسرعة ذاتها وفي خطٍّ مستقيم.
إنَّ إلغاء تأثير "القوى الخارجية"، كمثل "قوَّة الاحتكاك"، في الجسم هو الشرط لظهور تأثير قانون "القصور الذاتي".
نَسْتَنْتِج مِنْ ذلك أنَّ كل زيادة أو نقصان في سرعة جسم يسير في الفضاء، أو خروجه في حركته عن "الخط المستقيم"، يجب فهمه والنظر إليه على أنَّه دليل على أنَّ هذا الجسم يخضع لتأثير "قوَّة خارجية".
إذا ظلَّ الجسم يتحرَّك (في الفراغ أو الفضاء) بسرعة منتظَمة (ثابتة لا تَسَارُع فيها ولا تباطؤ) وفي خطِّ مستقيم فهذا إنَّما يدلُّ على أنَّه، أي الجسم، لا يتأثَّر بـ "قوَّة خارجية"، فلو تأثَّر فيها لتسارعت أو تباطأت حركته، أو لتحوَّلت في "الاتِّجاه"، أي لتحوَّل خطُّها مِنَ "الاستقامة" إلى "الانحناء".
وهذا الجسم يظلُّ في هذه الحال مِنَ الحركة بسبب "قصوره الذاتي"، فهو، مِنْ تلقاء نفسه، لا يستطيع أنْ يغيِّر حركته، زيادةً أو نقصاناً، أو اتِّجاهاً.
ونرى تأثير قانون "القصور الذاتي"، أيضاً، في الجسم الساكن، فهذا الجسم لا يستطيع مِنْ تلقاء نفسه أنْ ينتقل مِنَ السكون إلى الحركة. إنَّه يحتاج إلى "قوَّة خارجية" تُحرِّكهُ. فإذا تحرَّكَ احتاج إلى "قوَّة خارجية"، كـ "قوَّة الاحتكاك"، تُوْقِفَ حركته، أي تنقله مِنَ الحركة إلى السكون. وينبغي لنا أنْ نفهم تحريك الجسم الساكن على أنَّه جهد يُبْذَل في سبيل التغلُّب على قوى السكون، أي القوى التي تمنعه مِنَ الحركة.
يتبع ..... :-x